خصص المترجم والروائي فلاح رحيم هذا الفصل من القسم الثاني لروايته (صوتُ الطبول من بعيد) للنشر في مجلة )الكلمة(، وقد حققت حضورا نقديا لافتا في المشهد الأدبي العراقي؛ لأنها في تصويرها للحرب، غير خاضعة لأيّة أيديولوجية، حكومية أو معارضةٍ!! وفي هذا القسم، يصور الروائي أجواء الحرب العراقية الإيرانية، بمفرداتها العسكرية، ورتبها، وأسلحتها المختلفة، كما عايشها عيانا في الجبهة ملايين الجنود العراقيين، فهل نستطيع القول إنّ هذه الرّواية تؤسس لنوع الرّواية الحربية في الأدب العراقي!؟ الأدب المستقل عن السلطات!

فصل من رواية

(صوتُ الطبول من بعيد)

القسم الثاني

فلاح رحيم

 

أيامٌ تتطايرُ كالغبار

1

الاثنين 1/6/1981

منذ وصلنا هذا المكان قبل أكثر من أسبوع ونحن نحاول دخول نمطه الخاص. يميل الإنسان إلى خلق روتين يوفر لحواسه وتركيبه الوظيفي رتابة تساعده على العيش والبقاء؛ يفعل هذا دائماً حتى في أشد درجات الاستثناء والطوارئ. هنا في الخطوط الأمامية من جبهة ديزفول حيث لا يبعد خط التماس عنا أكثر من كيلومتر واحد نجهد أنفسنا لتأسيس مثل هذه الرتابة حتى إن كانت مشوهة. وصلنا إلى هنا من قاطع الشوش يحيط حركتنا الحذر والتوجس، فالمكان الذي سنصله أقل خطراً من الطريق المؤدي إليه. سبق للبطرية الثالثة من كتيبتنا أن تعرضت أثناء انسحابها منه لهجوم من بعض المتسللين الإيرانيين أدى إلى خسائر في الأرواح والمعدات. لكن خضير جلوب ظل طوال الطريق منشغلاً عن مخاطر الطرق المحتملة بالراديو، يضغط الترانزستور على أذنه وسط قرقعة حديد الإيفا يتسمع آخر نتائج جهود لجنة المساعي الحميدة لإنهاء الحرب. أعدت عليه زاعقاً ليسمعني جيداً نكتة سمعتها من عريف عبد (عبودي) عن عضو اللجنة الذي وشم ذراعه بعبارة "لجنة المساعي الحميدة" وعندما لامه زميله لأن إزالة الوشم ستتعذر بعد انتهاء الحرب ردً عليه "مو مشكلة، سأقطع ذراعي إن توقفت هذه الحرب." خضير متشبث بحلم أن تحدث المفاجأة السارة في أية لحظة، ولحظة التوجه إلى الخطوط الأمامية جديرة بمفاجأة كهذه لتدخل التاريخ، قال باقتضاب وهو يكاد يحشر الراديو في أذنه: "لو أن المفاجآت أمر معقول لما سُميّت كذلك." هكذا ظل يتفلسف دائماً.

  صادفنا بعض القصف المدفعي العشوائي قرب منطقة إمام زاده الإيرانية. كان يوماً صافياً وعصره هادئاً. لاحظت أن لون الحشائش الأخضر على جانبي الطريق قد تحول إلى صفرة شاسعة وأن الحشائش وقد أصفرت وجفت صارت تقف بمكابرة صفراء هذه المرة، تعلم أنها توشك على الاندثار. الأيام الأولى بعد وصولنا الموقع الجديد حفلت بالقصف بالرغم من أن موقعنا يلوذ بالتلال تحيط به من كل الجهات وتوفر لنا ساتراً مناسباً. وصلنا تحذير من آمر بطريتنا رائد صبحي أن لا نكثر من الحركة خارج المواضع. موقعنا يقع ضمن مدى المدفعية الإيرانية، بل الهاون وحتى السلاح الخفيف والقنص. مواقع مدافعنا، 57 ملم، مرصودة من الإيرانيين لكونها تنتصب على التلال ذاتها التي نحتمي بها. علمنا أن القصف أحرق أحد مدافع البطرية الثالثة التي سبقتنا إلى هذا المكان ثم صدر الأمر بأن نُستبدل بها.

  أول ما تبادر إلى أذهاننا ونحن ننظر إلى المواضع التي تركتها البطرية الثالثة سؤال جزع: كيف سنعيش في مثل هذه القبور؟ إنها ضيقة مظلمة منحوتة في جدار التل كأنها مسارب سرّية مجهولة لا تقدم للقوارض الضئيلة التي تسكنها شيئاً سوى الأمان. تداولنا مطولاً في الليلة الأولى عن المكان الأمثل لمنامنا، أيكون داخل المواضع الخانقة لنتقي القصف والشظايا أم في الهواء الطلق مكشوفين لتهديدها؟ وصيّة جنود البطرية الثالثة لا لبس فيها، أن نتجنب النوم في الخارج. قُتل اثنان وجُرح ثالث منهم بسبب الرغبة في الهواء الطلق! لكن الحر والبعوض والحاجة إلى نومة مريحة أجبرنا على اختيار هواء الخارج بالرغم من كل مخاطره. لم يكن قراراً موفقاً، بقينا نقفز دون وعي من أعمق أغوار النوم إلى حفر المواضع ما أن يبدأ القصف، وقد حدث ذلك مراراً. الغريب أننا بقينا نعود إلى يطغاتنا الممدودة تحت سماء صافية في برودة الليل بعناد أحمق ما أن يهدأ القصف!

 

الثلاثاء 2/6/1981

 الموضع الذي اختير لموقع المخابرة له شكل هندسي متناسب بالرغم من ضيقه وكآبته. الدقة الهندسية والكآبة المجنونة متلازمان هنا. بالمناسبة لم أر منذ التحاقي بخدمة الاحتياط جهاز رادار يعيدني إلى صنفي الأصلي في الجيش لأن مدافع 57 ملم ستشاغل الطائرات السمتية يدوياً في موضع متقدم كهذا ولن تحتاج إلى تشغيل طوعي يتحكم به الرادار. سيكون الرادار بهوائيه المشرع كالفضيحة في مكان متكتم كهذا هدفاً سهلاً للقصف. يتكون الموضع الذي أكتب فيه من شق في جانب التل يمتد مترين تقريباً نُحتت على طرفيه باتجاه عمق التل حفرتان طويلتان. أما وسطه فقد نحت في حائطه على ارتفاع مناسب رف ترابي للراكال والتنوي والنضيدة. وهو يقع مقابل المدخل مباشرة. وغالباً ما يجلس المخابر الخفر في المدخل أمام هذه الأجهزة يستلم الأوامر ويردّ عليها. أما الحفرتان الجانبيتان في عمق التل فهما للراحة والنوم.

  أنا أجلس الآن في الحفرة اليسرى التي اخترتها منذ البداية وهي بمستوى سطح أرض الموضع، محفورة في التل إلى عمق متر وبضع سنتمترات إضافية على أحسن التقديرات ولا منفذ للهواء سوى باب الموضع نفسه. طولي لا يناسب المكان، لذلك فأنا أنام على وتر المستطيل لا بموازاة طوله. أما عندما ينحشر معي أحد في الموضع فإنني أضطر إلى ثني ركبتي طوال الوقت أثناء المنام أو أدفعهما نحو الحائط فإذا استيقظت شعرت بألم مزعج فيهما. في الحفرة اليمنى ينام عريف المخابرة هاشم، شاب وسيم يزيد هدوؤه وتهذيبه من وسامته. له وجه وضاح وعينان بنيتان صافيتان وأسنان منتظمة ينم بياضها عن عناية خاصة. لكن فيه مفارقة مؤسفة. يدرك من يكلمه أو ينام إلى جواره أن في فمه رائحة كريهة لا تطاق. وهي الحقيقة التي ربما كانت السبب في إزعاج آخر، أنه يكثر من البصاق كأنه يسعى إلى التخلص من تلك الرائحة. حفرته اليمنى تقع تحت مستوى أرض الموضع بمقدار 15 سم تقريباً وفيها فتحة صغيرة قرب السقف. أما السقف فإنه مصنوع من أعمدة خشب سميك وصفائح جينكو يتكوم فوقها نحو متر ونصف من التراب والصخر.

 المكان حولي خانق، يضيق بنفسه وبنا. وتبدو فكرة العيش فيه مرعبة ومنفرة بالفعل للوهلة الأولى. غير أن لمرور الوقت أثراً سحرياً كما يبدو. بدأنا نتعود المكان بالرغم من غرابته وضيقه. لا بل اكتشفنا فيه بعض المزايا. الظل الدائم فيه ليل نهار يجعله معتدل الحرارة قياساً بالخارج الملتهب ظهراً فإذا استعملت قطعة كارتون لتحريك الهواء صار الهواء بارداً والنوم ممكناً تماماً. في الليل يخفق الموضع في استبقاء برودة الخارج ويتحول إلى ركود مغلق خانق، ينقلب الحال تماماً فيصبح الابتعاد عنه خياراً لا مفر منه.

 ما زال القصف منذ انتهاء عملية دهلران في 29/5 أقل شدة كما قيل لنا، بالرغم من استئنافه ثلاث أو أربع مرات في اليوم الواحد. تعطل جهاز الراكال اليوم فساد المكان هدوء متوعد أشبه بوجه عابس لا يفصح.

 

الأربعاء 3/6/1981

نحن في خط التماس إذن. عرفت من الآمر أمس أن المسافة التي تفصلنا عن الإيرانيين لا تتعدى 300 متر فقط وليس معنا غير سرية عجلات مدرعة. ليس للنهوض الصباحي هنا وقت محدد. ذلك أن آمر البطرية رائد صبحي يحرص اشد الحرص على أن يخرج من هذا المكان سالماً، وهو ما دعاه إلى دفن ملجئه بأكوام إضافية من التراب بعد أن استلم شفلاً لهذا الغرض ثم عززه بنحو 500 طابوقة لا أدري من أين جاؤوا له بها، فضلاً عن الكتل الكونكريتية لتصد الضربة المتوقعة. موضعه فضلاً عن كل هذه التحوطات يقع في أخدود أسفل موضعنا بمترين تقريباً. أرصد حركاته خارج الموضع فلا أجد فيها أثراً للفزع الذي تشي به التحوطات. يتبختر لا تعوزه إلا العصا. أما القداحون على المدافع فيتوزعون على ثلاث قمم على التلال المجاورة مع مدافعهم الثلاثة، وهم أكثرنا انكشافاً للخطر وميلاً إلى التنكيت والمشاجرات. آمرنا لا يغادر ملجأه الحصين لأي سبب، يصدر أوامره من الداخل ولا يأبه بالخروج بعد ذلك لمتابعة تنفيذها. وهكذا صار لا ينهض مع الفجر كما كان يفعل في المواقع الخلفية التي جئنا منها، ونحن بدورنا لا ننهض هنا قبل الثامنة أو التاسعة صباحاً، حسب المزاج!

  يبدأ يومنا بأن أذهب مع عريف هاشم إلى الموضع الثاني لتناول الفطور، وهو موضع مجاور كبير نسبياً مشكلته الوحيدة بالمقارنة مع موضعنا الدائم أنه يستقبل الكثير من الشظايا يومياً لقربه من مصدر القصف، أي أن سعته هي عيبه. نعود بعد تناول الفطور إلى موضعنا الضيق الآمن، ينام كل منا في غاره المنحوت يتسمع الراديو يلهث خلف خياله الجوال في المدن الآهلة يستعيد ما ترك خلفه من عالم مختلف، وقد يقوده انقطاع الأنفاس إلى إطلاق بعض التعليقات أو سرد بعض الحكايات بين حين وآخر. أكثر ما يشغل عريف هاشم رغبته في إكمال دراسته الثانوية. يتحدث عن هذا الهدف كما لو كان يجلس في أمان إحدى مقاهي مدينته العزيزية في الكوت لا يشغله إلا استكمال نواقص وسامته وقوة شخصيته وفرص ترقيته العسكرية. له الحق. يعجب من يستمع إليه أنه لا يحمل إلا الشهادة الابتدائية فهو ثاقب النظرات في تعليقاته يعي ما يدور حوله بوضوح ولا يكف عن التهكم المرير على طريقة المتعلمين. أما عني فلا سبيل أمامي للتخفف من ضيق المكان ومخاطره إلا استعادة بغداد ومنها أتسلل إلى الأنبار لأستحضر أشباحاً لا داعي إلى تسميتها هنا. القراءة ملاذ آخر. جئت معي بروايات إنجليزية تؤنسني وكلما غرقت في واحدة منها صرت أقرب إلى حياتي المدنية وعالم (ب) الضائع فكأني أتقرب بهذه الروايات إليها.

  أمرّ بعد الانتهاء من قراءة رواية بفترة راحة وتأمل. الأوراق الصغيرة التي أكتب عليها هذه اليوميات لا تسمح لي بالتوسع في تسجيل انطباعاتي عما أقرأ. نحصل على هذه الأوراق لكتابة الجفرة عليها. لكن راحتي بعد القراءة حقيقية وتأملاتي لذيذة إن صح استخدام مثل هذه الكلمة هنا.

  حياتنا بعد تناول طعام الغداء استلقاء جديد في ضيق المواضع وانتظار لوقت العصر حيث نخرج منها بوجوه مخنوقة شاحبة أرهقها سوء التهوية والحر. وغالباً ما يشتد القصف عصراً في توقيت لئيم فنضطر إلى العودة إلى ملاجئنا الخانقة غير مصدقين سوء الطالع. مع حلول الظلام تصل سيارة الأرزاق، في السابعة مساء عادة. يبدأ حينها التزاحم على الماء وينفضح تعب الأعصاب فتكثر المشاجرات. نستلم القصعة باردة فنأكلها مع ما جمعت من غبار الطريق المتطاير حول إيفا الأرزاق دون رغبة. نستلقي بعد ضوضاء الأرزاق والحانوت والماء على يطغاتنا خارج حرّ المواضع، ننتظر الضربات القريبة لنهرع إلى جحورنا من جديد أو نغفو لشدة الحاجة إلى النوم ونحن نعلم أن نومنا سيكون مضطرباً. هكذا يمر اليوم هنا ... إنه فخ لا ينجو منه أحد.

 

الخميس 4/6/1981

منذ يومين والقصف يبلغ أثناء الليل درجات هستيرية من الجانبين. ولأن موقعنا يتقدم على فصيل الهاونات والمدفعية الثقيلة خلفنا فإن إطلاقاتها تمر فوقنا في طريقها إلى الخصم، بينما تسقط إطلاقات الخصم بالقرب منا. وهكذا نعيش صخباً مجنوناً متواصلاً طوال الليل. كنت في الأيام الأولى أراقب النائمين أثناء القصف عندما أكون مستيقظاً أثناء خفارتي (هل يراقبني أحد حين أنام؟) فأرى أن مدافعنا القريبة تجعلهم لفرط شدة صوتها ينتفضون فوق يطغاتهم بحركات عصبية عنيفة لكنهم لا يستيقظون بالرغم من ذلك! يبقى شخيرهم عالياً كأن لاوعيهم يعرف مصدرها بالرغم من شدة الصوت، بينما يصر وعيهم على الامتناع عن مشاهدة هذه الدراما المكررة المملة. أما هذه الأيام فقد اختفت هذه الانتفاضات وأصبح النوم أكثر عمقاً، لقد ترسب في اللاوعي أن ضرباتنا لا تستهدفهم والضربات المقابلة لا تقترب منهم وإنما تستهدف مدافع الميدان خلفنا، تبحث عنها وتنبش الأرض شبراً شبراً ليل نهار بحثاً عنها.

  من عروض الليل المكررة مشاعل التنوير التي يطلقها الجانبان؛ مشاعلنا تكون أقرب إلى الأصفر الفاتح، أما مشاعلهم فهي ذات لون أصفر محمر. كلاهما يؤدي المهمة ويضيء ما تحته بسطوع. أحياناً تنطلق بعض الرصاصات المذنبة تستهدف هذه المشاعل فيكون بريقها المتخاطف حول المشعل عرضاً طريفاً لا يخلو من تسلية مشوهة. في الليل أيضاً تئز فوق رؤوسنا طلقات القنص، تبرق بنشاط يذكر بهمّة الموت في التهام ضحاياه هنا. إنها تطيش من فوق الساتر الترابي الذي نعيش وننام خلفه لتمر فوقنا في عداوة متنمرة مربكة. نسمع بوضوح أصوات الاشتباكات بين قطعاتنا وقطعاتهم بالمدافع الرشاشة والدوشكات التي يعلو صخبها أحياناً فيمنع أي احتمال للنوم. تبدو الحاجة إلى النوم هنا رغبة ناشزة يستنكرها المكان ويشاكسها على الدوام. وهكذا ينشغل الجيشان في يقظة تامة طوال الليل أحدهما بالآخر. بالنسبة لي أحسم محنة امتناع فرصة النوم طويلاً بدخول حرّ الموضع الخانق حيث يخف الصوت قليلاً، حتى أن الطيف البعيد يأنس أحياناً ويقترب مني.

  الساعة الآن هي الخامسة والنصف عصراً. بعد قليل، عندما تنكسر أشعة الشمس ويهب الهواء أقل حرارة، يخرج الجنود من مواضعهم الضيقة حيث قضوا النهار كله داخل ظلها السميك الذي يكاد يكون ظلاماً، بين النوم والثرثرة والكدر الذي يفاقم مرارة المشادات ويزيد من عددها. أحصى نائب ضابط ماجد (المضمد الأنيق) ست مشادات في يوم واحد قبل ثلاثة أيام. حتى أن المشادة الأخيرة كان لها وقع نكتة تكررت حتى صارت سمجة. بعد قليل ستخرج الوجوه شاحبة مختنقة تلتهم الهواء الطري وتحاول الاسترخاء. اللحى كثة هنا إذ لا حساب على الحلاقة اليومية. أنا لم أحلق لحيتي منذ أربعة أيام مما يجعل وجهي يبدو في مرآة الحلاقة الصغيرة الكالحة صورة للكبت والعزلة. بدأت أميز منذ أيام أن وقت العصر هذا بالذات هو الوقت المفضل لدى الإيرانيين لبداية قصفهم المكثف، وهو ما يجعل القفز إلى الموضع مرة أخرى شديد الاحتمال (هل يمكن أنْ لا أكرر نفسي؟)

  اليوم بدأت بقراءة رواية مارك توين "توم سوير". استغرقت في روحها الطفولية المشاغبة الوثابة وحمدت الله أني أخترت أعمال توين دون سواه لهذا المكان. قصصت على جندي أول مطوع مشتاق (وهو مراسل الآمر الوسيم الفريد في قدرته على الحفاظ على مزاج رائق) بعضاً من طرف الرواية فاستمتع بها وظل يحثني على مواصلة القراءة لكي أقص عليه ما أقرأ.

  اليوم تدخل الحرب شهرها العاشر بحسب إذاعتنا. أنهى المذيع قبل قليل تعليقاً سعيداً عن المناسبة كأنه أبٌ يراقب وليده ينمو ويربو. في صوته فرح واحتفاء وهمة تجعل احتمال نهاية الحرب خبراً مؤسفاً لأمثاله. رأسي يدور في اتجاهات متداخلة، تضطرب البوصلة ولا يردها إلى مركز معلوم تسترد فيه الجهات إلا العودة إلى وجه (ب). يغيب الوجه فزعاً من المكث طويلاً في هذا المكان، لكن البوصلة تستقر بفضله لحين ويكون الصمت أفضل.

 

 الجمعة 5/6/1981

ليالي الخميس معروفة بصخبها بسبب مكبرات صوت الأعراس في البياع. ليلة أمس كانت طريفة هنا أيضاً. بعد قصعة الدجاج وأخبار صوت أميركا وبعض الدردشات، استيقظت في الحادية عشرة ليلاً على أصوات متداخلة وتراكض. قالوا إن هنالك متسللين إيرانيين وصلوا منطقة الفوج القريبة منا وأحرقوا ناقلة أشخاص لا تبعد عنا أكثر من مئة متر على التل المجاور. هرعنا جميعاً إلى بنادقنا تملأ آذاننا أصوات الاشتباك الصاخب بالأسلحة الرشاشة. كانت مدفعية الميدان وقتها خارج الحلبة! ارتدى عريف عبد خوذته وجاء ينقّل خطوه بحذر كوميدي مبالغ فيه محدودب الظهر داعياً الجميع أن يفعلوا مثله. ضحكت كثيراً لعرضه الكوميدي في تلك اللحظة الحرجة، فهو شخص ساخر ضاحك تتحول معه كل حركة مهما كانت جادة مزحة ساخرة. سحب الكثير منا أقسام بنادقهم، لكن قذيفة هاون خفيف سقطت على مبعدة ستة أمتار منا ردّت الجميع إلى مواضعهم، ولو كانت ضربة ميدان لهدمت الموضع فوق رؤوسنا. لا مكان للعنتريات هنا. أصر عريف عبد وقد صرنا داخل الموضع على تقليد لقاء مفترض يجريه معنا مندوب إذاعة طهران بعد الأسر. اسمك وعنوانك؟ اسمي عبد علي لازم من أهالي مدينة الثورة. أسلم على أمي ومرتي وجهالي، ورسالتي لأم الجهال أن تتوقف مؤقتاً عن تخثير اللبن لعمل الجاجيك لأني سأتأخر قليلاً هذه المرة. وصيتي لها أن تخزن المشروب في مكان ساخن ليتخمر جيداً، وأن لا تنسى تجفيف الباميا بكميات كافية! خرجنا حين هدأ القصف وكان عريف شمخي، وهو نقيض عريف عبد في طباعه، فهو ميال دائماً إلى الصمت والوجوم، يلح على أنه رأى الإيرانيين يهرولون على التل المجاور وهمّ بإطلاق النار عليهم. قال لي عريف عبد هامساً إنه مستعد للقسم بأغلظ الأيمان أنهم لم يكونوا إلا جنودنا من أعداد الناقلات يهرولون إلى ناقلاتهم وإن شمخي كاد يرتكب جريمة.

  ارتباك آمرنا رائد صبحي فاق كل ارتباك. دعانا جميعاً عبر جهاز التنوي إلى اليقظة والاستعداد، لكنه وجّه دعوته تلك من داخل ملجئه الحصين. ظل يحاول الاتصال بالفوج ليفهم ما يجري دون جدوى حتى شاط غضبه فصبه علينا نحن المخابرين فكأننا نحن من يمنع آمر الفوج من الرد على اتصالاته.

 في اليوم التالي (أي صباح هذا اليوم!) لم يهدأ الضرب. سقطت بعض القذائف هنا وهناك حولنا، لكنها ابتعدت تدريجياً عنا. وقد علم آمرنا من مساعد آمر الفوج نقيب مهند أن ليلة أمس الخميس شهدت غارة إيرانية على مواضعنا قُتل فيها ثلاثة من الإيرانيين، وقد سحبت جثثهم إلى الجانب العراقي من الميدان. همس لي عريف هاشم أنه كان يتنصت على الاتصال وأن خمسة من العراقيين قتلوا وجرح ثلاثة في هذا الهجوم لكن الآمر يتطير من الحقائق. لم يكن عريف هاشم يطيق الآمر أو يتردد في تسمية حرصة على النجاة جبناً لا أكثر ولا أقل مع وابل من الشتائم المقذعة. بانتظار ليلة أخرى.

 

السبت 6/6/1981

توصل الآمر أمس بعد تأملات مطولة في غاره الحصين إلى أن احتفال الإيرانيين بالخامس من فرداد الموافق للخامس من حزيران عام 1963 عندما أعتقل الخميني وقتل آلاف الإيرانيين المحتجين على اعتقاله هو ما دفع الإيرانيين إلى الهجوم، وقد يدفعهم إلى إدامة زخم الهجوم. لذلك قسم الواجبات إلى دوريتين فقط على أن يبقى في كل واحدة منها نصف الأعداد دون استثناء في وضع صحو وتأهب لمدة أربع ساعات من الليل. تبدأ خفارة النصف الأول في العاشرة ليلاً وتنتهي في الثانية صباحاً حيث تبدأ خفارة النصف الثاني حتى السادسة. وسيطبق هذا النظام يومياً دون تغيير عدا التناوب على الخفارتين.

  كنت في المجموعة الأولى التي تهيأت بملابس كاملة، بما فيها جعبة العتاد، منذ التاسعة مساءً. كالعادة استمر القصف طوال الليل، وقد سقطت إحدى القذائف على مبعدة أمتار من ملجأ الآمر الحديد. المشكلة أن هذا الابتكار الذي أوحى به يوم فرداد سيبقى ساري المفعول كل يوم، وهو مصدر إرهاق يفاقم مشكلة النوم القائمة فعلاً. خصوصاً بالنسبة لنا نحن المخابرين لأننا نبقى طوال النهار في يقظة تامة نستلم الأوامر ونبثها. لم يُجدِ اعتراضنا الذي نقله عريف هاشم للآمر، ردّ عليه أن عدد الموجودين في رعيل المقر لا يسمح بإعفاء المخابرين بالرغم من علمه أن الآخرين يمضون النهار دون عمل. قال هاشم إن علينا انتظار عودة آمر حضيرتنا نائب ضابط قاسم من الإجازة لعله يتمكن بقوة منصبه مسؤولاً حزبياً عن البطرية من إقناع الآمر بإعفائنا. قال إن رفيق قاسم قد يكون أقدر منا على انتزاع هذا الحق من فكي الجرذ المحتجب. أعجب لصراحة هاشم وألزم الصمت. بقيت طوال هذا اليوم أشعر بإرهاق شديد نتيجة ساعات الخفارة أمس، وقد نمت ساعتين قبل قليل داخل الموضع.

 

الأحد 7/6/1981

 الساعة الآن هي الحادية عشرة ليلاً. اضطرني القصف الميداني المكثف قبل قليل إلى دخول الموضع. يجلس خلفي عريف عبد الذي يشاركني الدورية. أحاول على الفانوس تسجيل بعض الكلمات التي فاتتني فرصة تدوينها لانهماكي بقراءة "توم سوير" طوال النهار حتى أتيت عليها كلها. سألني عبد عن ما أكتب فقلت إني أشخبط فنام دون أن يعلق. صنف عريف عبد مثبت معلومات، وهو مثل صنفي الرادار، لا مكان له على الخطوط الأمامية. يميل إلى القصر، له شعر أسود فاحم ناعم وعينان ضيقتان ثعلبيتان ووجه يغلب عليه شحوب شمعي. تاريخه العسكري مضطرب على غير عادة المطوعين، هرب عدة مرات وسُجن في كل مرة. أحد تلك الهروبات استغرق ثلاث سنوات، يقول ذلك بفخر كأنه كسر رقماً قياسياً. عندما وصلتُ البطرية وجدته مراسلاً لدى الآمر ـ والأخير مولع بالمراسلين ـ وقد قدم نفسه لي بجدية كاملة على أنه عريف "بريج" ثم بدأ يحدثني عن سخافة حياته كلما انفردنا. يدرك أن عمله كمراسل، وهو عريف مطوع، إهدار لكرامته لكنه يضيف أنه مضطر إلى ذلك "صاحب عائلة استاد، ما عندي أحد." موضوعه الأثير الذي يشغله ليل نهار اصطياد إجازة. له قدرة خارقة على تقليد شخص يشكو وسط دموع ساخنة، ينكسر صوته فجأة بعد انشراح ويدخل مستوى التأسي والنواح. طرده الآمر من عمله كمراسل لكثرة إلحاحه على المساعدات. لا يمل منذ عاد من إجازته الأخيرة من الحديث عن المبردة الجديدة التي اشتراها بداية هذا الصيف. اللبن الرائب والشربت المثلج بعد "بُطُل" عرق كامل ثم غارة على أم الجهال هو أقصى ما يحلم به. كلما رآني ردد عبارة لا تتغير "شتسوي استاد!" موحياً أن أحوالنا كما تراها ولا حيلة لنا في تغييرها.

  لكن عبد أبعدني عن ما كنت أريد تسجيله اليوم. أمس جاءوا بأحد مغاوير رصد الفوج متسربلاً بالدماء بعد أن أصيب بعدة شظايا. وقيل إن رصد الجانبين العراقي والإيراني متقاربان بحيث أنهما يتبادلان الأحاديث وغالباً ما يدعو الإيرانيون ضابط الرصد للتفضل بزيارتهم لشرب زجاجة بارد. نقل ذلك شمخي بجدية تامة بينما ابتسم عبد ليشكك في ما يسمع.

 آخر مبتكرات الآمر أنه خرج علينا من مخبئه بفكرة جديدة هي تحويل مكان المرافق المخصصة له إلى واد يقع إلى اليسار من موضعه لقناعته أن مكانها الحالي مرتفع قليلاً ويعرضه للإصابة. انهمك بعض جنود المقر وبعض القداحين ببناء المرافق الجديدة طوال النهار فنقلوا مئات أكياس الرمل لإقامة حيطان المرافق. قال عريف هاشم متأملاً: "له الحق. مو حلوه إذا الواحد استشهد في وضع التغوط!"

  عاد نائب ضابط قاسم آمر حضيرتنا من إجازته اليوم وأخبرني أنه أودع رسالتي إلى الأهل في بريد الكاظمية. بذلك تكون قد وصلت الآن. جاء معه بمجلتي "ألف باء" و"الوطن العربي". وهما نافذتان تطلان على الحياة المدنية بالرغم من ضيقهما. بدا قاسم مرتبكاً للوهلة الأولى يجد صعوبة في قبول غرابة المكان الجديد ومخاطره. قال إنه أخبر أهله بخطورة مكانه في الجبهة رداً على قولي إني أطمئنهم دائماً وأدعي أن مكاني آمن في الخطوط الخلفية. لا بد أن يتوقعوا كل شيء وإن كان هذا يعني توديعاً بالدموع والقلق، قال بنبرة لا تخلو من لوم. وهو ما فعله آمرنا رائد صبحي الذي وصف خطورة موقعه لأهله وصفاً جعلهم ينخرطون في وداعه ببكاء جماعي كما ذكر مراسله مشتاق الذي كان معه في ذلك الموقف، حتى أن أحد أخوة الآمر قال لمشتاق راجياً "دير بالك عليه، ما أوصيك." شخصياً لا أرى أي نفع في إثارة مخاوف الأهل وقلقهم. ربما كانت حالتي هذه خاصة...

 

 الثلاثاء 9/6/1981

انشغلنا عصر أمس بانتظار بيان مجلس قيادة الثورة عن الغارة الإسرائيلية على المفاعل النووي في بغداد. عندما انقطعت الأغاني الحماسية وشرع المذيع يقرأ البيان المنتظر بدأ الإيرانيون بقصفنا مما اضطرنا إلى تخفيض حدة الصوت وتوزيع انتباهنا بين الراديو والقذائف. سماع مثل هذه الأنباء وسط هذا الاضطراب أمر دراماتيكي فعلاً. كل شيء، من أخبار قادمة من بعيد ووقائع مباشرة ضاغطة، يدعو إلى أقصى درجات الانتباه حتى يصل العقل حالة من الذهول والعطل. ما الذي يحدث بحق الشياطين والملائكة؟ في الليل انهمكت معظم الإذاعات في تفصيل الغارة الإسرائيلية ومدى الأثر الذي تركته على المفاعل. تأخرت بسبب متابعة الأخبار عن متابعة النوم حتى غلبني في الحادية عشرة بالرغم من أن عليّ خفارة الثانية صباحاً حتى السادسة.

  تستحق الطريقة التي ننتبه بها إلى الإطلاقات المختلفة وقفة. يبدو أن الإنسان يدرس أحواله بحواس إضافية خفية بالغة الدقة تتفاوت قوتها من شخص لآخر. صرنا نميز ضرباتنا من ضرباتهم بفضل التنبه لأصوات خافتة تعجز أذن من يصل حديثاً إلى موقعنا عن التقاطها. وقد ظل ن. ض. قاسم يعجب لقدرتنا على التقاط مثل هذه الهمسات البعيدة، لكنه سيتعلم دون شك. هي مهارة لا تكتسب في يوم وليلة. الضربة الإيرانية لا يسبقها إلا أزيز بعيد خافت يقترب ويعلو بتسارع كبير حتى يعقبه انفجار مدو ما أن تسقط القذيفة على الأرض وتنفلق. في مثل هذه الأحوال يكون لزاماً علينا الإسراع إلى الانبطاح أو اللجوء إلى الموضع أثناء مرحلة الأزيز الخافت لأن الصوت غالباً ما يتأخر كثيراً عن الضربة الحقيقية. أما إطلاقاتنا فتبدأ بانفجار هائل عند إطلاقها ثم يعقبه أزيزها المبتعد باتجاه الإيرانيين. قد نسمع لها صوتاً ضعيفاً أو لا نسمع شيئاً على الإطلاق عندما تنفجر على الأرض. وقد تطورت خبرتنا فأصبحنا نميز ضربة الهاون ذات الصوت الجاف التي تفتح ثقباً مفاجئاً في الصمت عن ضربة الميدان الثقيلة المتجهمة ذات التردد الواطئ المتسع. أما ضربة الدبابة التي تستخدمها قطعاتنا أحياناً لتنوب عن مدافع الميدان فيكون صوتها أشد الأصوات قوة وقرباً منا. وهو مركّب من صوتين، للأول إيقاع يبلغ علوه أنه كفيل برفع سامعه إن كان متمدداً على يطغه مترين أو ثلاثة ثم يلقيه محطم الأعصاب، قد أكون أبالغ ولكن هذا ما أشعر به. أما الصوت الثاني فيبدو كأنه صدى للأول. إطلاقات القناصة والأسلحة الخفيفة ذات أزيز رفيع ينبثق قربك كالمفاجأة، يعقبها صوت يهمس داخل الجمجمة وقد نجت: حمداً لله، بالريش...

 

الأربعاء 10/6/1981

قد تكون مستغرقاً في حديث ينسيك ما حولك مع مستمع منقطع إليك، ثم تراه فجأة يشحذ انتباهه وتتسع عيناه وتنفر أذناه. تعلم حينها أنه التقط صوتاً خافتاً لقذيفة تقترب وأن عليك في هذه الحالة أن تصمت وتستعد معه للقفز بأسرع وقت إلى الموضع. طالما تكرر مثل هذا المشهد حتى أن عريف هاشم بصق على الأرض ودعا الجميع إلى تجنب الخوض في مواضيع طويلة تدفع المقابل إلى الاستغراق بها ونسيان مشكلة القذائف. تكفيكم العبارات القصيرة والموضوعات المقتضبة، تجنبوا الثرثرة قدر الإمكان. لم يقل ذلك مازحاً، كان في لهجته غضب ولوم. ألاحظ الآن أن هاشماً يميل إلى الصمت عموماً ولا يمنحك كل انتباهه مهما بلغ اهتمامه بما تقول. ينقط صمته بالتفاتة يبصق بها جانبياً بين حين وآخر. وهو غالباً ما يخطئ صوت نسمة نشطة أو طنين أجنحة ذبابة حول رأسه فيعتقد أنها فحيح قذيفة مقتربة، يقفز ثم يتضح ما يصيبه بالحرج. وقد دفعني مراراً إلى مراجعة فكرة الموت من أجل الوطن. آمرنا رائد صبحي وعريفنا هاشم كلاهما يبالغان في الرغبة في تجنب الموت من أجل الوطن، والسبب دون شك أنهما خارج الوطن وما يفعلان عدوان لا دفاع عن النفس.

 واجب الساعات الأربع الليلية يشق نومة الليل نصفين فيفسدهما معاً. لم أعد قادراً على القراءة في النهار بسبب السهر الطويل. رواية توين الثانية "هكلبري فن" مطروحة قربي كالحلوى قرب مصاب بالسكر. لحيتي طويلة وأنا مضطر إلى الاكتفاء بغسل رأسي منذ عشرين يوماً بين فترة وأخرى حتى اختنق جسدي داخل طبقات من العرق والغبار وصار يستغيث طلباً للماء والصابون. صممت اليوم على غسل جسدي مهما حدث. ملأت طست المراسلين بالماء من المقطورة التي تأتي مع الأرزاق والحانوت، وانتظرت حتى هدأت ضجة الأرزاق فقصدت الموضع القصي وأخرجت كرسي المخابرة المتروك منذ وصلنا (لا أحد يجلس على كرسي هنا!) كان الوقت ليلاً، حوالى الثامنة، الظلام حالك وفي الجو نسمات هواء باردة منعشة. جلست على الكرسي وبدأت أصب الماء على جسدي لأول مرة منذ أسابيع فأحس برودة تصل حد القشعريرة يتسلل معها استرخاء تدريجي إلى مفاصلي كأني أزيح عن كاهلي على غير توقع ثقلاً رازحاً. وقد سقطت بالفعل في أثناء حمامي بعض القذائف في أماكن بعيدة بعض الشيء وفتحت الدبابات نيرانها رداً عليها. سألت وأنا أستمتع بالماء وأقلق من القصف عن حكم من يموت وهو يغتسل: أيكون شهيد الوطن أم النظافة؟ تمنيت أن أسأل الملا رافع عن هذه القضية الفقهية العويصة، وهو يلقب ملا لأنه خريج كلية الشريعة في سامراء. قداح على المدافع يتبرك الآمر باستضافته عندما يختنق في محبسه الحصين. لكن رافع لن يقبل مني مثل هذه الأسئلة، سيدرك في الحال ما تخفي من سخرية وتهكم. أعجب لهذا، لأن الملا حدثنا ذات يوم في الشوش، عندما عملت في حضيرته على المدفع قبل أن أستدعى إلى المخابرة عن مغامراته مع طالب شريعة آخر في زيارة طبيبة فاتنة يسألانها عن أدق قضايا الحيض والجنس والنفاس بحجة أنها جزء من المقررات الدراسية! كان يومها في مزاج مختلف. لقد اختزل الخطر المحيط بنا هنا ميله إلى الدعابة وجعله أقرب إلى صفة الملا التي يحملها.

  ولكن لأعد إلى مغامرة الاستحمام الأول في موقعنا الجديد. عندما انتهيت منه وجدت ن. ض. قاسم ينتظرني على القصعة فأكلت وانطرحت على فراشي في بحبوحة لا توصف. شعرت كأن جسدي مخدة ريش قديمة لم تندف منذ عقود ثم نثرت فجأة وتطاير ريشها في فضاء واسع ليس يدري ما به كما تقول فيروز. المشكلة أن واجبي يبدأ في العاشرة ويمتد حتى الثانية صباحاً. بذل ن. ض. قاسم محاولته المنتظرة وراجع الآمر بكل عدته من المداهنة والتملق وبكل ثقل منصبه الحزبي في البطرية لإعفاء المخابرين من واجبات الليل كونهم يقضون النهار أمام البدالة والجهاز، لكن الآمر رفض بحسم قيادي منقطع النظير وعدّ الواجب الليلي خفيفاً!

 بالرغم من أن الساعة كانت تقترب من التاسعة والنصف قررت أن أغفو بعد ذلك الحمام السحري والقصعة الدسمة. سأنام حتى العاشرة لمجرد تحقيق رغبتي المستميتة في النوم. سرعان ما غفوت فلم أصح إلا بانفجار قذيفة في مكان قريب من مواضعنا وثلاث شظايا تتساقط قربي. قفزت لا أعلم كيف ووجدت نفسي داخل الموضع. عقارب الساعة الفسفورية تقول إنها الثانية إلا ثلثاً. علمت أن ن. ض. قاسم وهو آمر الدورية قد جاء ليوقظني في العاشرة فوجد أني أستغرق في نوم عميق بعد الحمام يكون إيقاظي معه جريمة نكراء كما قال، وهكذا قرر في ساعة رحمانية أن يتركني لأستريح تلك الليلة. شكرته بامتنان وتأثر على حسن صنيعه وعدت لأنام ملء جفوني. إنها أول ليلة منذ أسابيع أغسل فيها جسدي من أدرانه وأنامها كلها، وكم أنعشتني وذكرتني بفضائل النوم!

  صباح اليوم حلقت ذقني وقد استقر مزاجي بعد نوم طويل ثم نمت مرة أخرى في العاشرة صباحاً فكأن جسدي وقد ذاق حلاوة النوم لا يريد أن ينقطع عنها. منذ أن قرر رائد صبحي نقل هوائي جهاز الراكال إلى منخفض الوادي لئلا يكشف الرصد الإيراني ذبذبته ويتعرف على موقعنا ومكالماتنا مع المقر الرئيس أصبحت مكالماتنا أشد صعوبة حتى لتبدو مستحيلة أحياناً. إن حواراً من النوع أدناه يتكرر يومياً كلما اشتد القصف:

ـ ألو 4ـ1 إلى 7ـ1 كيف تسمعني أجب؟

ـ 7ـ1 إلى 4ـ1 جيد أجب.

ـ 4ـ1 إلى 7ـ1 رمّان، رمّان أجب.

ـ 7ـ1 إلى 4ـ1 استُلمت. انتهى.

 

الخميس 11/6/1981

كم يحتاج الإنسان من المشي يومياً؟ أعتقد أن هذا سؤال علمي لا تتوفر إجابته الدقيقة إلا لجهينة الذي أتابع أخباره العلمية من إذاعة الكويت يومياً (أبي مولع به أيضاً!) أو لأمثال جهينة من البطرين في واحة الطرائف والعلوم. لكن ما أنا متأكد منه أن المشي ضرورة ماسة للإنسان منذ الأزل، ليس ضرورة جسدية فحسب بل عقلية ونفسية أيضاً كما يعلم المشاؤون اليونان. أمضينا اليوم وقتاً طويلاً أنا ون. ض. قاسم وعريف عبد (أصغى إلينا عريف هاشم بامتعاض بأذن واحدة بينما الأخرى تترصد احتمالات القصف المفاجئ) نحاول قياس المسافة التي نقطعها سيراً على الأقدام هنا في موقعنا المطوق بالمصائب. أحصيت المسافة بين موقع إعداد الطعام وخزن مواد المخابرة الذي نتردد عليه يومياً وموضعنا الذي نقيم ونعمل فيه فوجدت أنها تبلغ 45 خطوة، أي بحدود أربعين متراً. وقد أخذت بنظر الاعتبار الانعطافة التي نتخذها لنتجنب السير على مرتفع مكشوف للقناصين، وهي تزيد المسافة بضعة أمتار. ثم افترضت أننا نقطع الموضع ونعود منه نحو عشر مرات يومياً أي ما يعادل 900 متر من السير ثم أضفت إلى ذلك المسافة بين مكان المقطورة وموضعنا عند ملء الأواني بالماء فوجدت أننا نسير كمعدل عام حوالى كيلومتر واحد يومياً. أما بقية اليوم فنقضيه إما جالسين أمام الأجهزة أو متمددين في ظل الملجأ أو حتى نائمين دون أدنى حركة.

  لمثل هذا الخمود أثره المدمر على طاقة الجسد وحيويته وسكينته. لي ساعة ستيزن أتوماتيكية تعتمد في شحنها بالطاقة على حركة الجسم. إذا جمدت الحركة توقفت الساعة. هنا صرت أضطر إلى خضها بيدي بين حين وآخر لكي أشحنها بالطاقة المطلوبة وهو أمر لم أفعله قط خلال شهور تسريحي القليلة من الخدمة. هذا الخمود يحوّل الجسد إلى كتلة متعبة متهاوية من أعصاب مشدودة أفرغت طاقتها الخصبة في تأملات عقيمة مخنوقة تجتر نفسها. عندما أفكر في حالة آمرنا صبحي الذي ذهب أمس في إجازة وأخذ معه مراسله مشتاق أجد الأمر أسوأ. فهو لم يغادر موضعه الحصين إلا مرتين أو ثلاثاً خلال ثلاثة أسابيع زار فيها ضباط الفوج القريب منا. يقال إنه عقد صداقة حميمة مع النقيب جميل في الفوج لكنها لم تصل حداً يدفعه إلى التردد كثيراً على صديقه هذا. أما بقية يومه فيقضيه في قفصه الحديد مع الهواء المحتبس الفاسد والفئران الماكرة الناشطة. قال لي مشتاق إن فأراً عض إبهام الآمر وأجرى دمه وعلق ضاحكاً كانت إصابة تستحق استبسالاً! لكن أثر هذه العزلة الخانقة واضح على وجه الآمر. كيف لا وهو يصر على النوم داخل الموضع ليلاً مؤثراً السلامة على التهوية الجيدة. وجهه مصفر شاحب مختنق العينين، لا تخطئ العين ما يكتنفه من تعب وقلق وحسرة. طالما فكرت في وضعه الصعب فخطر لي أن السجناء أفضل حالاً منه بكثير إذ هم يُعرّضون لضوء الشمس يومياً ويستنشقون هواءً حراً. يا لها من حياة غريبة وضيقة هذه التي لا يتجاوز نطاقها مئة متر مربع فقط!

 

الجمعة 12/6/1981

أمس ذهب مشتاق مع الآمر في إجازة حاملاً رسالة مني إلى الأهل، وقد تعهد أن يوصلها باليد ويعود بردّ منهم. كانت ليلة أمس كابوساً لا ينسى ... أو ربما أنستنا إياه كوابيس أشد. بدأ واجبي في العاشرة ولم أكن قد نمت طوال النهار. تجولت مع الراديو لسماع آخر الأخبار المسائية عن مؤتمر وزراء الخارجية العرب المخصص لمناقشة ضرب المفاعل النووي العراقي، وعن الزلزال المدمر الذي ضرب مدينة كرمان الإيرانية، وعن خصوم أبي الحسن بني صدر وغير هذا من ضوضاء العالم حتى لفني النعاس وكاد يطيح بي. نهضت لأرى الوقت على ضوء الموضع الخافت فإذا هو الثانية عشرة والنصف لا غير، أي أن أمامي ساعة ونصف الساعة لأتم الواجب وأتمكن من النوم. ماذا سأفعل بهذا النعاس الثقيل؟ في أثناء ذلك وصلتني ضربات قنص قريبة جداً شق أزيزها الصمت المطبق على رأسي.

  كان نقيب خالد الذي حل محل الآمر المجاز قد صعد إلينا في بداية الليل وحدثنا عن ضابط في الفوج القريب سقطت قنبلة على موضعه بالرغم من أن الموضع في سفح التل شديد التحكيم فدمرت الموضع وقتلته وقطعت ساقي جندي كان معه وأصابت آخر بجروح بليغة. وبينما هو يتكلم عن هذه الفواجع اشتد القصف فهرول إلى موضعه الحصين ليمكث فيه حتى الصباح. تبقى ليلة أمس فريدة لأنها كشفت لي لأول مرة حقيقة أن الامتناع عن النوم مع الحاجة الشديدة إليه من أصعب المحن التي يواجهها جسد الإنسان. كان صراعي مع النوم صعباً ومرهقاً، ثم بدأ البعوض يحلق حولي في أسراب متزاحمة لا أدري من أين خرج أو كيف جاء. يبدو أن الماء المتجمع تحت ترمز الماء على كيس الرمل في مدخل الموضع هو ما اجتذبه. بدأت أتحسس بيدي أورام العض على وجهي وعلى قدمي، ثم غسلتها بالماء وغطّيتها بمنديل لأتلافى البعوض. دون جدوى فأنا دورية ولا يصح أن أغطي وجهي، ذاك عمل يرقى إلى مستوى جريمة النوم في الواجب، ونقيب خالد فضلاً عن آمر الدورية ليلتها ن. ض. خيري قد يقفزان إلينا في أية لحظة للتفتيش. كان صراعاً حقيقياً لا مع عدو من البشر بل مع أسراب من البعوض الجائع اضطرني في الواحدة ليلاً إلى دخول الموضع بالرغم من حرارته بعد ما اشتد القصف بصورة استثنائية لأستسلم على وقع القصف المتبادل لنوم يمزقه صداع مزعج.

 

السبت 13/6/ 1981

بداية الأسبوع. ولكن أليس غريباً أن يكتشف الإنسان هنا أن أيام الأسبوع جميعاً متشابهة ينسخ بعضها البعض من حيث المحتوى والامتداد والإيقاع. هذا التشابه حقيقة علمية موضوعية لا جدال فيها، لكننا ننساها في خضم تنوع حياتنا في المدن الآهلة في الغالب فنضفي على كل يوم من أيام الأسبوع نكهة خاصة وإيقاعاً مميزاً وحتى امتداداً مختلفاً عن سواه. السبوت القديمة مثلاً، استحضر معها حيوية استقبال أسبوع جديد وذلك الإحساس الغامض ببداية متجددة. الحال مختلف هنا تماماً، تكتشف هنا بفضل الحرب وما يترتب عليها من عيش في البراري كعيش الخارجين على القانون أو الرعاة أو البدو الرحل أن الأيام مادة رتيبة متكررة، ورتابتها مشوهة مرهقة لأنها رتابة التعرض الدائم لخطر الموت. لكن تدرك بالمقابل عظمة الإنسان وغزارة حضارته وهو يضفي على كل يوم خصوصية وبهاء وتجدداً أبدياً. وهي أمور لا يعيها من يعيش في المدن حياة السلم. هنا يفاجئني التقويم كل يوم، فوجئت أمس بأنه كان يوم جمعة، لا شيء فيه يدل على ذلك. وقبله فاجأني أن تكون الليلة ليلة خميس، كانت أكثر نثرية ورتابة من ليلة ثلاثاء!

 لا يفقد الزمن وحده خصوصيته وطعمه هنا، الأرض حولنا تتعرض للخطر ذاته. لا بد من تأكيد أن الطبيعة حولنا ليست قبيحة، بل أستطيع أن أجازف فأقر أنها جميلة لمن يزورها سائحاً لا فأراً محارباً. إنها تتكون من مجموعة تلال متقاربة تتخللها وديان ضيقة تبلغ أقصى مسافة بين قعر الوادي وقمة التل نحو 15 متراً، بعضها لا يتجاوز المترين فقط. والتلال مغطاة بنبات بري ذي لون أخضر أساء إليه الصيف كثيراً لكنه لم يفقده خضرته أو شموخه الساعي إلى دعابة نسمة. ومن المناظر الجميلة حقاً أن يقترب أحد الجنود في الوادي المقابل لموضعنا فلا أرى سوى رأسه يقترب بين هذه النباتات المتراقصة. هنالك أصحاب طيبون هنا أيضاً. لكنك في المحصلة النهائية تكره كل ذلك ولا تجد له طعماً، لأن جمال الطبيعة يتربص بك ويضمر لك الموت، وطيبة الأصحاب مشوبة بتوتر أعصابهم كما أنها لا تمت بصلة لسحر الأنوثة المفتقد.

 

الأحد 14/6/1981

لا أكاد أصدق. حين وصلنا إلى هذا الموقع المتقدم في ديزفول وجدنا البطرية الثالثة بانتظارنا لتبدأ حركتها نحو المكان الذي جئنا منه في الشوش. كان وصولنا في السابعة والنصف مساءً والظلام قد حاك أكثر خيوطه قتامة. تناهى إلى أسماعي أن أحد جنود البطرية الثالثة قد أضاع بندقيته الكلاشنكوف وأنه يبحث عنها بذعر دون جدوى. فكرت حينها أن هذه البطرية يلازمها النحس أينما ذهبت، إذ سبق أن تعرضت لهجوم متسللين أودى بحياة بعض أفرادها وجرح آخرين. الفتى الذي أضاع بندقيته زارنا بعد بضعة أيام باحثاً عنها، ويبدو أن ضباط بطريته أعطوه فرصة أخيرة ليجدها. بدا خائفاً متردداً شاحباً يستحوذ عليه إحساس بأنه اقترف عملاً إجرامياً لا يغتفر. علمت أنه كردي من السليمانية، مكلف. قال الكثيرون أن بطريته تتميز بدناءة ضباط الصف فيها وحتى ضباطها. ويبدو أنهم هوّلوا الأمر عليه ولوّحوا بعقوبات صارمة أدخلته في حالة رعب تفوق قدرة عقله وجسده على التحمل. أمس وصلنا الخبر مع الأرزاق مساءً، لقد أطلق الفتى رصاصة على قلبه ومات منتحراً في موضعه!

  لم نصدق الخبر فالعقوبة التي تنتظره لن تصل حد الإعدام كما أوحى له المحيطون به. منذ ليلة أمس وانتحار هذا الشاب النكد يشغلني دون انقطاع؛ أحاول أن أحدد المسؤول عن موته؛ أهم العراقيون الذين جاءوا به إلى هذه البقعة الغريبة من الأرض؟ أم الإيرانيون الذين يصرون على رفض التفاوض؟ أم أن قرار الانتحار لا يتحمل مسؤوليته أحد سوى المنتحر نفسه؟ لا أدري. كل ما توصلت إليه أن حياة الإنسان هنا أرخص من ثمن بندقية قديمة وأنه يقتنع وهو يرى رخص حياته إلى هذا الحد وابتذالها في المواضع بأنها رخيصة فعلاً لا تستحق البقاء. لم تكن البندقية إلا القشة التي قصمت ظهر البعير. لقد سمعت الكثيرين ممن أعلنوا في بعض الأوقات العصيبة رغبتهم في الموت، ويبدو أن هذا الفتى كان أكثرهم جرأة على اقتحام مملكة السكون.

 

الاثنين 15/6/1981

علمت أن الفتى المنتحر يدعى عبد الله وهو معلم. انشغالي بموته المأساوي قادني إلى أفكار عديدة عن الموت والحياة والشجاعة والخوف ابتعدت بي عن عبد الله نفسه. تساءلت من أين يأتي الإنسان في أرض المعركة بالشجاعة في مواجهة الموت؟ كيف يصمد في جبهة القتال بالرغم من علمه أن الموت يمكن أن يفاجئه في أيّة لحظة؟ خطر لي أن العديد من الصحفيين الذين يحتفلون في بغداد هذه الأيام بعيدهم سيؤكدون أن عمق الإيمان بالقضية هو الدافع إلى التفاني والبسالة. لكن من يعش في الجبهة كنفر ضائع لا صحفي موفد لتسجيل انطباعات سريعة يدرك كذب هذا التفسير. ربما وجد مثل هؤلاء الجنود المتحمسين للحرب وعقيدتها ـ لم أصادف أحداً منهم حتى الآن! ـ لكن الثابت أن كل من صادفتهم يودون بشدة لو أنهم عادوا إلى الخطوط الخلفية وتخلصوا من القصف اليومي والقلق المتصل كسهاد أبدي. بالرغم من ذلك هم صامدون جميعاً لا يهابون القصف ولا يحيون حياة الخوف من الموت في كل لحظة. لقد طبّعت رتابة الخطر وحضوره الشامل الحالة بأسرها.

  أتذكر أنني رأيت في أول يوم أصل فيه الجبهة وأسمع صوت القصف أمراً أثار دهشتي. كانت بطريتي قد أمضت ستة أشهر في القطاعات المختلفة من الجبهة الأمامية حتى ألف أفرادها الموت. رأيت يومها نائب ضابط هادي ومعه اثنان من الجنود يصوبون حجارة إلى كعب زمزمية، وقد حفّزهم رهان الفوز ببعض النقود. ظلوا منهمكين في لعبتهم بينما القصف يشتد حول موقع البطرية. هل هم شجعان؟ يومها ظننت ذلك. لكني أدرك الآن أن الدافع إلى فعلهم ذاك معايشتهم الخوف مدة طويلة. الخوف يرهق الأعصاب ويبث فيها توتراً لا يطاق. لا يمكن أن تتحمل أعصاب الإنسان كل هذا التوتر والإرهاق لوقت طويل. قد تتحمله لأيام لكن الجسد يضطر إلى الاسترخاء بالرغم من استمرار الحالة الموجبة للخوف والحذر الشديد، يسعى إلى حياة طبيعية مهما كانت المخاطر لأنه سيهلك إن لم يحصل عليها. يشبه الحال ما يحدث في المدن المهددة بالزلازل، يعلم الناس أن الخطر يكمن متربصاً بهم وأن الموت قد يكون على مبعدة ثوان عنهم، لكنهم يألفون الفكرة ويواصلون حياتهم معها دون أن يصفهم أحد بالشجاعة. بهذا المعنى لا تعدو الشجاعة ميلنا الطبيعي نحو الاسترخاء وسط المخاطر، وأصلها فسيولوجي بحت. كفٌّ ذاتي تتوقف فيه دفاعاتنا تلقائياً.

  القذائف تقترب مني، لا بد لي من الابتعاد!

 

الأربعاء 17/6/1981

كل شيء يمضي في رتابته اليومية العجيبة. وحصيلة ما جرى خلال الأربع والعشرين ساعة الماضية بعيدة في حقائقها عن عجائب البيانات العسكرية. جاءت سيارة الأرزاق في حوالى الثامنة مساءً، وكان ن. ض. قاسم قد غسل جسده وارتدى بدلة جديدة ولمّع بسطاله استعداداً للعودة على متنها إلى مقر الكتيبة لتسليم اشتراكات البطرية كونه مسؤولها الحزبي، وليحاول كما قال الحصول على بعض الأغذية الجافة من نائب ضابط الإعاشة وهو من أصدقائه المقربين. كانت الرحلة بعيداً عن الفخ على قصرها مناسبة فريدة يستعد لها قاسم كأنها انعتاق نهائي! جاءتنا سيارة الأرزاق بخبر جديد: آمر كتيبتنا مقدم عبد الحميد الرابض في المقر الخلفي ولم أره منذ التحقت بالوحدة أصيب بشلل الوجه النصفي والتفاصيل سيعود بها قاسم.

  تعشيت وحدي. ن. ض. قاسم سيبيت في مقر الكتيبة وعريف هاشم مجاز حالياً. حاولت أن أنام دون جدوى. الهواء ساكن والقمر ساطع والبعوض في أوج نشاطه وحمى قصف ورميٌ بالأسلحة كافة أصابت بمسها الجانبين. أخيراً نمت في حوالى الحادية عشرة ليلاً وهذا يعني أن أمامي ثلاث ساعات نوم إذ أن واجبي يبدأ في الثانية صباحاً. قفزت خلال الساعات الثلاث أكثر من ثلاث مرات إلى موضعي بسبب الضربات القريبة التي كانت شظاياها تئز فوق رأسي. أمضيت ساعات واجبي الثقيلة بمشقة وغلبني النوم في السادسة صباحاً فلم أستيقظ إلا في الثامنة لأجد أن نضيدة الجهاز قد هبطت تماماً. حملتها لاستبدل بها واحدة جديدة من الموضع الثاني، وبعد أن استلمت الأوامر نمت من جديد في حوالى التاسعة لأستيقظ في الحادية عشرة وأجد نقيب خالد يجلس أمام الجهاز في مدخل الموضع يتصفح مجلة "الوطن العربي". حييته وتحدثت معه لبعض الوقت. بدا مدركاً تعبي وأن حالي كخافر ليل نهار (الدورية والمخابرة) يبرر نومي فلم يشأ أن يسألني عن غفوتي ولكنه لم يشأ أن يعفي المخابرين من الدورية في الوقت نفسه. لا بد أن رائد صبحي أوصاه بعدم التساهل وهو يسلمه القيادة. انسحب وبقيت مستيقظاً أتسمع الإذاعة. جرحتني المقدمة الموسيقية لأغنية ليلى مراد "أنا أحبك وأفضل أحبك" فنهضت وقصدت الموضع الثاني لأعدّ قدحاً من الشاي بالحليب وأعود به إلى المذياع. لم أفكر بالقراءة بالرغم من حاجتي الماسة لالتهام الصفحات العشر الأخيرة من رواية توين "هكلبري فن". السهر أرهق عيني ولا أريد أن أتمادى في الملذات. لم أستطع النوم ظهراً. عدت إلى الموضع الثاني مرة أخرى وأعددت بعض البيض والطماطم وقدح شاي آخر لأعود إلى موضع الراكال من جديد. في الثامنة والنصف مساءً عدت إلى الموضع الثاني مرة أخرى لأغسل جسدي وقد صفا لي الجو بفائض من الماء، وأشرب قدح شاي آخر. وها أنا ذا أمام الجهاز من جديد. هكذا يمر اليوم بأسره، ليس فيه ما يستحق الذكر في البيانات العسكرية.

 

الخميس 18/6/1981

كان سرّ الليل أمس غريباً. أو هكذا بدا للوهلة الأولى، فهل يمكن أن يوجد "زلزال مريح"؟ هكذا كان. عندما نقلته لحضائر القداحين المعلقين في رؤوس التلال مع مدافعهم استغربوا، ثم اتصل بي على التلفون نائب ضابط صالح مطرود آمر رعيل القداحين. وهو رجل وقور بكل معاني الكلمة، يتسم بهدوء دائم ويفرض رزانته على أسوأ حالات الفوضى. قال لي بعد التحيات وكلمات المجاملة إن سر الليل هذا إشارة إلى الزلزال الإيراني الذي هزّ مدينة كرمان وقتل حسب آخر الإحصاءات خمسة آلاف مواطن إيراني. لم أعلق وامتنع هو عن التعليق. دعوته إلى تناول الشاي معي مساءً فقال إنه سيحاول ذلك وإن كان "الحبربش" على التلال بحاجة إليه دائماً.

  فكرت وأنا أضع التلفون هل يمكن أن يكون مقتل هؤلاء الآلاف من الناس الأبرياء حتى لو كانوا في جانب العدو أمراً "مريحاً"؟ خطر لي السؤال نفسه وأنا أتصفح جريدة "الجمهورية" التي عاد بها ن. ض. قاسم، فقد نشرت يوم الاثنين الماضي صوراً عن معركة في قاطع عبادان تظهر فيها جثث الجنود الإيرانيين متناثرة على الأرض. مثل هذه المشاهد صارت خبز الصحف العراقية. "القادسية" نشرت الشيء نفسه قبل أيام، جثثاً بملابس الجيش الحائلة وقد انطوت على نفسها تصارع الألم قبل الموت. ما استوقفني في صور "الجمهورية" لقطة يظهر فيها فردان من الجيش العراقي ـ أحدهما ضابط برتبة ملازم أول له شارب أشقر كما يبدوـ يجلسان في وضع تأهب مركزين أعينهما على الكاميرا باعتزاز وعلى الأرض أمامهما جثة جندي إيراني قتيل. أجل، إنهما يأخذان صورة للذكرى كما يفعل الناس قرب النصب العريقة والأشجار والشلالات. وهما متأهبان كلاعبي كرة القدم عندما تُؤخذ لهم صور تذكارية قبل بدء المباراة. هكذا يحوّل الإعلام الموت إلى خبز يومي عادي مسموم، أو يحاول ذلك. هكذا يصبح مقتل خمسة آلاف إنسان أمراً مريحاً، والجثة التي تجمدت فيها الأحلام والرغبات والنبض الإنساني الفريد موضوعاً لصور تذكارية طريفة. لا يعني هذا تعاطفي مع تعنت الجانب الإيراني وإصراره على مواصلة المذابح المدمرة للبلدين، خصوصاً في ضوء الأخبار عن تعرض رئيس الجمهورية أبو الحسن بني صدر، وهو كما يبدو من رموز التنوير والاتجاه العلماني التقدمي، لهجوم كاسح من رجال الدين المتشددين. يبقى الموت أمراً رهيباً، ويبقى القتل فعلاً قذراً مهما قيل في تبريره. إذا كان لا بد من معايشة الموت فيجب أن يبقى قوياً في النفوس احترام الحياة وتقديسها. لا بد أن يتذكر العراقيون أن الموت مفروض عليهم ... ولكن من فرضه عليهم؟

 

السبت 20/6/1981

  بعيداً عن الحصون التي أحاطت بها الحضارة الإنسان لتحميه من بدائية العالم الطبيعي ومخاطره، نراه وقد تهاوت أسوار الحضارة من حوله في هذا التيه يتهاوى أمام أتفه الحشرات. هكذا أدركت بفعل حشرة غريبة ـ لا بد أنها عنكبوت صحراوي، وربما عقرب، لم أرها جيداً لأن الأمر وقع في الظلام ـ تمكنت من أن تتسلق ملابسي بلونها الصحراوي الكالح وتقف على الجيب الأيمن من سترتي. ما أن رفعت يدي حتى أنشبت أظافرها في ظاهر كفي بسرعة خاطفة مذهلة وشبّ بالسرعة نفسها ألم ممض في يدي. نفضتها جانباً وحاولت اللحاق بها لأسحقها أو على الأقل أتعرف عليها، ولكن هيهات ... ظل الألم يتضاءل بعد مرهم وحبة مسكنة من المضمد المرافق لنا ن. ض. ماجد. حدث هذا أول أمس.

  وأمس عاد عريف هاشم من إجازته. لم يجلب معه أياً من المجلات التي لم نترك وسيلة لم نتحايل بها لإقناعه بحاجتنا إليها. وكانت تلك صدمة. زارنا أمس رائد من الدفاع الجوي مع ضابط التوجيه السياسي في كتيبتنا ملازم أول عدنان. بدا عليهما التوثب والفخر بقدرتهما البطولية على الوصول إلى هذه النقطة الخطرة من الجبهة الأمامية. جمعا البطرية في الوادي المقابل لملجأ الآمر الحديد برفقة نقيب خالد وسألا عن الأحوال والمشاكل. كالعادة في الجيش لم يُعلن عن أية مشكلة. رفع عريف عبد يده وطالب باستبسال ينفع عائلته بالرغم من أنه أمضى معظم خدمته الحربية مراسلاً للآمر. سألنا الرائد الزائر بنبرة شدّ المعنويات "شلونها المعنويات؟" فلم يتلق الإجابة التي تصدح أمام كاميرات التلفزيون مما اضطره إلى السؤال: "ها؟ شبيها المعنويات؟" وهنا اضطر بعض الحاضرين إلى تأكيد أنها بخير بصوت كسير. بادر ن. ض. قاسم بوصفه المسؤول الحزبي للبطرية إلى جبر الكسر والتأكيد بعزيمة قاطعة أنها عال العال. توصل الزائر أخيراً إلى أننا مرتاحون بدون مشاكل، وأعتقد أن الاستبدال سيتأخر بسبب هذا الاكتشاف الغريب.

 

الأحد 21/6/1981

  أمس واليوم تجاوزت أرقامي القياسية في النوم. نمت في الخامسة صباحاً بعد واجب امتد من الثانية صباحاً تجنبت فيه سماع الراديو لحاجتي الماسة إلى الهدوء بعد يوم صاخب بالقصف القريب والتوتر العصبي. استيقظت في العاشرة صباحاً معتمداً على يقظة ع. هاشم ومراقبته الجهاز. منذ عاد من الإجازة ومزاجه منبسط وقدرته على التحمل في أعلى مستوياتها، لكن هذا لم يدفعه إلى الحديث عن وقائع إجازته وفعالياتها. أراه يعزل حياته المدنية عن العسكرية بجدار من القرف والانكماش. اكتشفت أني أستطيع بسبب جوعي المعتق إلى النوم أن أغفو وقت أشاء. ظهراً نمت بعد الغداء في الثالثة واستيقظت في الخامسة فسألني هاشم "شنو قصتك ويه النوم اليوم؟" قلت له إنه نوم العواهر اللواتي يعملن طوال الليل ويقضين النهار نائمات، فابتسم وقد راقت له المقارنة.

  الساعة الآن حوالى السادسة والنصف عصراً. الجهاز يئز دون توقف والجو خانق داخل الموضع والروح مختنقة وهدى سلطان تغني من إذاعة الكويت "لاموني وارتضيت اللوم" فتجرح الروح بمدية حادة. وأنا يجب أن أخرج من الموضع بأسرع وقت وإلا ...

 

الاثنين 22/6/1981

أخذني رئيس عرفاء الوحدة ويّس شناوة اليوم مذنباً إلى نقيب خالد. بدا منتشياً جاداً متوثباً وقد وجد ما يفعله في هذه البقعة الملعونة حيث انهارت صغائر النظام العسكري التي تتيح له ولأمثاله عادةً ممارسة خبثهم وخستهم. السبب مشادة كلامية مريرة بيني وبين ن. ض. ماجد مضمد الوحدة على مقطورة الماء. قاطع ماجد الطابور المنتظر لسقاية الماء وأراد أن يفرض علينا رتبته البائسة، وحين اعترضت زجرني وتصايحنا فما كان منه إلا أن يشكوني إلى آمر الرعيل.

  طلب مني ويّس أن أرتدي قيافتي العسكرية كاملة (والأهم أن أرتدي البسطال الذي تركناه هنا منذ زمن حتى بدأت كعوب أقدامنا تتشقق) على أن أنزع النطاق وأوافيه عند موضع الآمر. وجدته هناك يقف منتصباً كالديك (الذي يصرّ على الصياح حتى عندما تكون ساقاه مغروستين في الغائط). اتجهنا إلى الآمر بعد أن ذكرني ويس أن التقاليد العسكرية لا تسمح للمذنب بأداء التحية، وهو أمر لم أفهم معناه يوماً.

 لاحظت أن نقيب خالد كان يبتسم وعلى وجهه حرج منزعج لأن علاقتي به طيبة. طالما قصدني أمام البدالة ليدردش معي أو، وهو الأهم، يعرض عليّ بعض الكراسات الملونة عن سيارة المستقبل فيطلب مني ترجمة ما فيها. ولابد أن المعلومات التي ترجمتها له صعدت بخيالاته إلى فراديس لم تكن لتفتح أبوابها لولا هذه المعلومات في هذا المكان. كان يجلس على كرسي خارج موضعه الحديدي تحوم بين ساقيه قطة فارسية ملونة صغيرة بملل. طلب مني توضيح ما حدث. شرعت أشرح له أسباب الشجار وأنكر نيتي إهانة رتبة المضمد، وعندما اشتد القصف الإيراني على حين غرة قفز الآمر من كرسي سلطته ومعه رئيس العرفاء الباسل إلى داخل الملجأ الحديدي، بالمقابل اكتفيت أنا بالانحناء ووقفت مع القطة الفارسية ننتظر عودة القادة الكبار. خرج الآمر مبتسماً وقد أضيف سبب جديد إلى حرجه وقال لي مازحاً إن عقوبتي كانت ستصل إلى شظية في الرأس. صمت قليلاً وقال لابد أن أعاقبك. هذا قانون في الجيش لا يتعلق بالحق والعدالة، الشجار يعني عقوبة. فكرت أن الأصح يعني عقوبة الأدنى رتبة دائماً. وهكذا عوقبت يومين قطع راتب، أي ما يقارب عشرة دنانير لأن مرتبي أعلى من الآخرين بفضل عملي السابق في سيمودكس. كانت تلك أول مرة أعاقب فيها خلال خدمتي العسكرية منذ التحقت بالخدمة الإلزامية. وقد غاصت العقوبة بمعنوياتي ـ إن كان قد بقي منها شيء ـ إلى الحضيض. لا للخسارة المادية ولا لأن سجلي العسكري قد أسودّ لأول مرة، لكن ما حدث علامة أكيدة على أن قدرتي على التحمل قد بدأت تتهاوى وصرت أتوقع ما هو أسوأ. وعدني ن. ض. قاسم أن يتوسط لدى رائد صبحي لحذف العقوبة لأنها مدبرة ضد حضيرة المخابرة. نبرته تدل على أني كنت ضحية خلاف أهم بينه وبين ن. ض. ماجد.

  بعد نصف ساعة من هذا الحدث التعيس اقتربت ضوضاء سيارة الأرزاق وسط الغبار، لكنها هذه المرة حملت معها جندي أول مشتاق المراسل. أرسله أمر البطرية رائد صبحي إلى الخط الأمامي وبقي هو في مقر الكتيبة يتعالج من تعب لم أفهم كنهه. سعيت إلى مشتاق وبي شوق لا يوصف، لا دواء لتدهور أعصابي إلا رسالة يحملها مشتاق من الأهل. وقد رأفت بي الأقدار. سلمني رسالة ثقيلة مزدوجة قلبت يومي رأساً على عقب. هنالك في الظرف السميك رسالة من الأهل كتبتها إنعام بتوقيع أبي، قصيرة حريصة على تكرار الدعاء لي بالسلامة تطمئنني على أخبار الجميع: كريم ومحسن وفوزي. معها ظرف مغلق لم يفتح وصل من الأنبار، وقد وجدت فيه رسالة بالإنجليزية منها. سأترجمها هنا لأنقل كل معانيها إلى لغة وجودي المتوترة علّها تستريح:

"أيها الحبيب،

بعد لقائنا الأخير وجولة الساعتين بالسيارة، انتظرت منك اتصالاً تلفونياً قبل أن تسافر من جديد. وعندما مرّ اليوم الأخير دون سماع كلمة "هلو" العذبة منك استولى عليّ حزن عميق. لقاء ساعتين بعد غياب شهر طويل لا يكفي بالتأكيد وأنا أعلم أن اتصالك بي تلفونياً يزداد صعوبة بعد أن باشرت عملي في مكتب الشركة. أفضل وقت للاتصال هو السادسة والنصف صباحاً لكن هذا وقت صعب بالنسبة لك كما أعلم. لا أدري كيف نستطيع حلّ هذه المشكلة.

  بدونك تمرّ الأيام خاوية، كم أتمنى لو أنك قادر على الاتصال في أية لحظة. إذن لهان الأمر. لكني أنظر إلى صمت التلفون وأدرك أن السبل مقطوعة بيننا. أحياناً أطيل الحديث مع رجل غريب يتصل بين حين وآخر لمجرد الدردشة. أضطر إلى ذلك لأنه يذكرني بك؛ إنجليزيته جيدة وهو رجل عربي أيضاً.

قبل أسبوع عادت اثنتان من صديقاتي هنا إلى بلدي. شعرت وأنا أودعهما برغبة جارفة لرؤية بلدي لأول مرة منذ جئت إلى العراق. هذا الموسم هو أجمل المواسم هناك، الألوان والوهج والروائح العذبة والغابات تغني مع طيورها. الصيف في بارك واشنكي في شارع الملوك في قلب وارشو هو موسم عزف مقطوعات من بيانو شوبان على جمهور يحتشد في الحديقة مع طوفان الزهور. موسم كنت أحرص على التمتع به أسبوعياً. ثم هنالك قوس القزح البولندي بألوانه العجيبة. هل رأيت قوس قزح من قبل؟ لم أره هنا في الأنبار منذ وصلت. أتمنى لو استطعت السفر لأسبوع أو أسبوعين إلى وارشو، لكن مديرك يشترط أن نسافر معاً. وهو ما يزعجني ويجعلني أشعر أني أسيرة هنا لأسباب أعرفها جيداً. لا منفذ لي إلى فرحة أتصبر بها إلا انتظارك.

أحضر لي أحد الأصدقاء الهدية التي طلبتها لك. كتاب وأربع أسطوانات لتعلم لغتي. الشرح والتعليمات كلها بالإنجليزية لذلك لن تجد صعوبة في متابعتها.  السبب؟ لقد رأيتك في حلم كرنفالي جميل تحدثني بلغتي الأم بطلاقة وقررت أن أبذل كل ما أستطيع من جهد لتحقيق هذا الحلم. حلمي هذا يتعلق بي وبك أولاً وأخيراً. هنالك أحلام تتجاوزنا وتذهب بعيداً حتى يصبح العمل على تحقيقها مصدر ألم وعذاب، لكن هذا ليس منها. اسمح لي أن أستخدم هديتك هذه لسببين، الأول أنها تشعرني بأننا نتقاسم مادة واحدة والثاني أني أريد أن أشحذ إنجليزيتي لتليق بإنجليزيتك، أي بلغتك التي أفهمها.

  شوقي لك كبير وأحلامي بلقائك لا تتوقف. حتى نلتقي أبعث إليك أحلى القبلات. ب"

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الروائي فلاح رحيم: ولد في العراق، محافظة بابل، عام 1956. حصل على شهادة البكالوريوس في اللغة الإنكليزية من كلية الآداب، جامعة بغداد، عام 1978، وعلى الماجستير في الأدب الإنكليزي من كلية الآداب، جامعة بغداد، عام 1989 عن رسالته " اللغة موضوعاً وتقنية في قصائد ديلان توماس". درّس الأدب الإنكليزي واللغة الإنكليزية في كلية التراث الجامعة في بغداد- العراق، وجامعة الفاتح في طرابلس- ليبيا، وترجم إلى العربية عددا من الكتب والروايات منها: - ماريو والساحر، رواية، توماس مان. كتاب الأقلام، عدد 5، 1987. تحت غابة الحليب، مسرحية شعرية، ديلان توماس. كتاب الثقافة الأجنبية، 1989.  فضيحة، رواية، شوساكو أندو، دار المأمون، بغداد- العراق، 1991. - الزمان والسرد، بول ريكور (بالاشتراك مع سعيد الغانمي)، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2006.  محاضرات في الأيديولوجيا واليوتوبيا، بول ريكور، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2010. وغيرها من الكتب والمقالات.