يستخدم الكاتب نفس منهجا مركبا، لا يقدم فقط سيرة المخرج، والمؤثرات الخاصة والعامة التي صنعته، ولا يتوقف فقط عند أبرز أفلامه، ومكانتها في تاريخ السينما، ولكنه يربط بين كل ذلك، وأفكاره ورؤيته، فالأفلام هنا ليست مجرد حكايات درامية، بها تكنيك مبتكر، ولكنها تحمل خطا فكريا، ورؤية إنسانية وفلسفية.

«وودي آلن».. أسئلة وجودية على أجنحة الكوميديا

محمود عبد الشكور

 

يواصل الناقد السينمائى أمير العمرى مشروعه المهم والمعتبر فى تقديم كتب بمثابة مراجع ضخمة عن كبار مخرجى السينما العالمية، فيهدينا كتابا جديدا ممتعا عن أحد كبار كتاب ومخرجى وممثلى الكوميديا عبر العصور، وهو الفنان الأمريكى وودى آلن، يحلل من خلال أفلامه ملامح عالمه الفريد، ويحدد قيمته بين صناع ومبدعى الكوميديا السينمائية على وجه الخصوص، ويرصد أفكاره وفلسفته، ذلك أن آلن ليس مجرد مضحكاتى، ولكنه، مثل المخرجين الكبار، له أسلوب وطريقة، ولديه أفكار ملحة تؤرقه، يكتبها، ونكتشفها معه، عبر حكايات أفلامه، وكأنه يصنع نفس الفيلم، ولكن بتنويعات مختلفة.

الكتاب الصادر ضمن السلسلة المعرفية لمهرجان أفلام السعودية بعنوان «وودى آلن.. ضحك وفلسفة»، هو الرابع فى مشروع العمرى سالف الذكر عن كبار المخرجين العالميين، بعد ثلاثة كتب قام بتأليفها عن المخرج الإيطالى «فيدريكو فيللينى»، والمخرج الإيطالى «سيرجيو ليونى»، والمخرج الأمريكى «مارتن سكورسيزى»، ولديه أيضا كتاب مترجم عن سينما أوليفر ستون.

مع وودى آلن يستخدم العمرى نفس منهج كتابيه السابقين، وهو منهج مركب، لا يقدم فقط سيرة المخرج، والمؤثرات الخاصة والعامة التى صنعته، ولا يتوقف فقط عند أبرز أفلامه، ومكانتها فى تاريخ السينما، ولكنه يربط بين كل ذلك، وأفكاره ورؤيته، فالأفلام هنا ليست مجرد حكايات درامية، بها تكنيك مبتكر، ولكنها تحمل خطا فكريا، ورؤية إنسانية وفلسفية، وموقفا من الحياة، وتطرح أسئلة تؤرق مخرجها، ومن خلال هذا المضمون، يظهر الشكل السينمائى الذى يعبر عنه.

يميل هذا المنهج ــ إذن ــ إلى الانحياز لسينما المؤلف، وهو مصطلح لا يعنى، كما يعتقد البعض، ضرورة أن يكتب المخرج كل أفلامه، ولكنه يعنى أن يكون المخرج هو صاحب الرؤية الفكرية والفنية للفيلم، إليه ينسب العمل، ويعرف أنه صاحب الفيلم، بتلك البصمة الأسلوبية والفكرية، حتى لو لم يكتب اسمه عليه، دون أن يقلل ذلك من شأن المبدعين المشاركين معه.

وودى آلن مثلا، الذى احتفل منذ أيام بعيد ميلاده الثامن والثمانين، هو ابن مدينة نيويورك، ولد فى حى بروكلين فى العام 1935، لأسرة يهودية هاجرت من النمسا وليتوانيا، كان والده ساقيا فى حانة، ونقاشا للمصوغات الذهبية، وعملت أمه فى تسجيل الحسابات، عشق السينما منذ كان فى الخامسة من عمره، شاهد عشرات الأفلام، ثم اكتشف فى نفسه موهبة كتابة النكات، قدم اسكتشات فكاهية قصيرة فى الملاهى الليلية، ثم انتقل إلى التلفزيون، وكان عازفا للساكس، دخل الجامعة، ثم تركها، ولكنه ثقف نفسه، ولم يتوقف عن عمل الأفلام كاتبا وممثلا ومخرجا.

كان يمكن أن تتوقف موهبته عند صناعة الإيفيهات والنكات، ولكنه شاهد وهضم الكوميديا السينمائية الأمريكية العظيمة، وكبار صناعها من الممثلين، مثل مارك سينيت، وماكس ليندر، ولوريل وهاردى، وباستر كيتون، وشابلن، والأخوة ماركس، مثلما تأثر بأفلام كبار مخرجى السينما الأوروبية، من برجمان وجودار، إلى فيللينى وأنطونيونى، بل إنه استلهم الكثير من أدب «دويستوفيسكى»، وفلسفة «سارتر» الوجودية.

لكن هذه المشاهدة، وهذا التأثر، لا يعنى شيئا، بدون موهبة آلن نفسه، وبدون عقله اليقظ الذى يطرح الأسئلة الصعبة المحيرة التى تشغله، بنفس الدرجة التى يعثر فيها على حكايات مليئة بالمواقف الكوميدية الساخرة، وحافلة بالطرق السردية المبتكرة.

إنه يسكب قلقه ومخاوفه وربما تناقضاته الخاصة فى أفلامه، وينقل الخاص إلى العام، بأسلوب وبصمة متفردة، يتأثر بالكثيرين، بل ويعيد استلهام أفكار وتيمات شهيرة، ولكنه يقدمها من خلال ذاته، وبطرق مختلفة، مع أسئلة وهواجس تتكرر عبر 50 فيلما سينمائيا روائيا طويلا حتى الآن، اختار معهد الفيلم الأمريكى 5 أفلام منها فى قائمته لأفضل 100 فيلم كوميدى، وأفلام آلن المختارة؛ هى: «آنى هول»، و«مانهاتن»، و«خذ الفلوس واجرى»، و«الموز»، و«النائم».

كتاب العمرى لا يحلل كل أفلام آلن، ولكنه يحلل الأفلام التى توضح فلسفته، والأفكار والأسئلة الصعبة التى حملتها حكاياته المرحة، ويشرح الكتاب علاقة هذه الأسئلة بشخصية آلن، وبمدينة نيويورك، وبتناقضاته الشخصية، وبفشله فى حياته الزوجية، وبرؤيته للموت والحياة والحب، ورؤيته للعلاقة مع الله، ومع الآخر، ونظرته المتكررة لعبثية الوجود، ولغياب العدالة، بل إنه يتحدث أحيانا عن شكه فى قيمة الفن، وتراجعه فى زمن الاستهلاك والتفاهة، كل ذلك يتم سرده عبر حكايات مضحكة وبسيطة، بل من خلال تحليل المشكلات الزوجية العادية، التى كنا نظن أن التليفزيون قد احتكرها عبر مسلسلاته الطويلة.

فى أفلام آلن تنعكس ذاته القلقة، وثقافته، وقراءاته فى الفلسفة، وتأثره الكبير بالفلسفة الوجودية، وبعلم النفس، وفيها أشواقه للحب، مع عدم فهمه للمرأة على الإطلاق.

فى كثير من الأفلام التى يذكرها الكتاب ثنائية الحب والجنس، وتمرد آلن على هويته الدينية اليهودية، بل إنه دائم السخرية من الطقوس اليهودية، ومن العزلة التى فرضتها الطائفة على أعضائها، بالإضافة إلى مخاوفه من فناء العالم، واعترافه بالفشل فى الحفاظ على حياة زوجية وعائلية مستقرة.

ورغم أن آلن ينفى أن حياته الشخصية قد انعكست على أفلامه، فإن العمرى ممن يميلون إلى أن حياة آلن، قد انعكست ــ بشكل كبير ــ على تلك الحبكات، بالذات فى أفلامه مع اثنتين من الممثلات، ارتبط بهما شخصيا وفنيا، وهما دايان كيتون، وميا فارو، والاثنتان فى الحقيقة من أهم بطلاته، ومن أبرز المشاركات فى عدد من أعظم أفلامه.

هذا كتاب يغير نظرتك تماما لأفلام آلن، يجعلك تتأملها بشكل أعمق وأفضل، ويرد الاعتبار للكوميديا باعتبارها فنا عظيما، يمكن أن تنقل من خلاله أصعب الأفكار، بشرط أن يكون صناعها من الموهوبين أصحاب الرؤية.

من ناحية أخرى، يؤكد الكتاب أنه لا يوجد تعارض أبدا بين الفكر والفن، بين أن تمتع وتضحك، وبين أن تطرح همومك وأسئلتك، ولكن بطريقة فنية خلاقة ومبدعة. هكذا فعل وودى آلن، وهكذا يجب أن يتعلم منه صناع الكوميديا.

 

جريدة الشروق