جاء هذا الكتاب فى وقته تمامًا، فقد شغلتنى منذ فترة أغنيات الراب فى مصر التى تطاردنا اليوم فى كل مكان، وكنت قد شاهدت أفلامًا عن أغانى الراب، سواء فى أمريكا، أو فى بعض الدول العربية كالمغرب مثلًا، وتمنيت أن أجد كتابًا مصريا عن هؤلاء الذين يمتلكون أسماء، لا تقل غموضًا عن كلمات أغنياتهم.
لم أتجاوب مع نجوم الراب المصرى، ولم أفهم بالضبط ما يقولونه، إلا أننى لم أجادل فى أنهم تعبير عن جيل وحالة لا يمكن تجاهلها، مثلما كان نجوم الهيب هوب الأمريكيون، رواد هذا الشكل الذى انتقل إلى العالم كله، تعبيرًا عن رد الهامش على المتن.
لذلك، سعدتُ بصدور كتاب «فن الشارع» الصادر عن دار صفصافة، للكاتب والباحث سيد عبدالحميد، لأنه يجيب عن كثيرٍ من الأسئلة حول كتابة الراب وموسيقاه فى مصر، متتبعا موجاته وأبرز نجومه، الذين انتقلوا من الهامش إلى المتن، بعد أن تصدرت أغنيات الراب الساحة، وكانت قد نافست لفترة موجتين ما زالتا فى الصورة: الأولى يسمونها «الأغنية الشعبية الجديدة»، والثانية هى «أغانى المهرجانات، وكل موجة لها جمهورها، وهذه الموجات تعرضت لمشكلات مستمرة مع نقابة الموسيقيين، بشأن تصاريح الغناء والحفلات».
يتميز كتاب سيد بتقديم تعريفاتٍ هامة تفرق بين أساليب أغانى الراب، كما أن منهج الكتاب لا يركز على الموسيقى والكلمات وحدهما، ولكنه يضع «الظاهرة» فى سياقها الثقافى والسياسى والاجتماعى، ويركز على سيرة ومسيرة أشهر «الرابرز» ليس من باب التوثيق والتأريخ فحسب، ولكن أيضًا وبالأساس، باعتبار الراب غناء شخصيا حميمًا، يقوم فيه المغنى بالتعبير مباشرة عن تجربته وحياته، بالكلمات والموسيقى والغناء والأداء، أى أن تراك الراب هو «حكاية المغنى نفسه»، ويكاد يصبح ترجمة موسيقية لحياته، وبالتالى فنحن أمام أحد أكثر أشكال الغناء فردية وحضورًا للذات، أو كأنها «الأنا المعبّرة» بشكل مباشر، وبكل صراحة، وبطريقة متجاوزة وصادمة أحيانًا، ولكنها حقيقية وصادقة فى كل الأحوال.
يقدم الكتاب تفرقة أساسية بين المصطلحات، فالهيب هوب هو الشكل الأساسى أو «الأم»، التى خرج منها الراب، ثم التراب، والفارق بين المصطلحين الأخيرين، أن التراب يستخدم المؤثرات الصوتية، ويقدم عبارات أكثر بساطة، وقوافى أكثر جاذبية.
ويمكن القول إن الراب هو «المدرسة القديمة»، والتراب هو «المدرسة الحديثة»، ولكن كل أشكال «الهيب هوب» تعتمد على هذه العبارات المرصوصة المتتالية، التى تعبر مباشرة عن المغّنى، بمصاحبة إيقاعات رتيبة متكررة، سريعة أو بطيئة، فالـ beat إذن عنصر أساسى وواضح، وكلمة «أغنية» تحل محلها كلمة «تراك»، والكلام مرسل «منثور» ولكنه ينتهى بقافية، ويتميز بالتلاعب بالألفاظ، ويستوعب كل شىء تقريبًا، من مفردات وشتائم الشارع، إلى المزج بين العامية والمفردات الإنجليزية، بل وقد تظهر فيه مصطلحات الكيمياء والفيزياء!
يرصد المؤلف موجاتٍ ثلاثًا لأغنيات الراب المصرية: الأولى من 2003 إلى 2007، عندما ظهر الجيل الأول بتراكات، سجّلت بإمكانيات موسيقية محدودة، وحققت أغنياتهم نجاحًا خافتًا، والموجة الثانية من 2009 إلى 2014، والتى شهدت انتعاشة وعودة للراب مع ثورات الربيع العربى، والموجة الثالثة بداية من 2017 حتى اليوم، حيث تصدر الساحة نجوم الراب والتراب، وانتشرت أغنياتهم فى المنصات والأفلام، وفى الإعلانات، وظهر نجومهم فى افتتاح المناسبات الرياضية المهمة.
بجانب توثيق وتحليل مسيرة أبرز نجوم الراب مثل أبيوسف، الأب الروحي للمجال كله، وأحمد ناصر (الجوكر)، وشاهين، ومراون موسى، ومروان بابلو، وويجز، فإن كلمات أغنيات الرابرز تعمل كفواصل أساسية بين فقرات الكتاب، لتؤكد على ارتباط ما يغنونه بحياتهم الشخصية من ناحية، ولكى تؤكد على وجود سمات عامة تجمعهم من ناحية أخرى.
فالرابرز يحكون عن تجاربهم مباشرة، ولكنهم جميعا يهتمون دائمًا بالفخر بالذات، وبهجاء الذين يقللون من شأنهم، بل إن هناك نوعًا من الراب يسمى الـ diss، يقوم على فكرة هجاء المنافسين، والرد عليهم، وهناك معارك ومنازلات مشهورة بين نجوم الراب، تذكرنا بمعارك جرير والفرزدق فى الشعر العربى القديم!
هى إذن من جديد ردود الهامش على المتن، يؤكد ذلك ما يلاحظه المؤلف بذكاء من وجود عددٍ من مشاهير الراب، جاءوا من الإسكندرية إلى القاهرة، ليكونوا فى قلب الصورة، بعضهم تعثر دراسيًا، وعاش الوحدة والاكتئاب والفشل فى الحب، بل إن فكرة مصارعة الاكتئاب محورية فى تجربة «أبيوسف»، وكلهم وجدوا فى الراب وسيلةً للتعبير الذاتى الحر، وللفضفضة الجريئة، وللشهرة، والنجاح وتحقيق الذات، وللحصول على المكانة.
حلاوة الصوت لم تعد مهمة، ولكن حضور البصمة الشخصية والحالة هما الأساس، مع التلاعب بالكلمات، وتعدد الوجوه والأقنعة أحيانًا، كما يفعل أبيوسف. الاسم الأصلى ليس مهمًا، بل الاسم الجديد الذى اختاره صاحبه، وهناك دور أساسى لمنتج الموسيقى، وللشكل وللطريقة، مع سهولة الوصول والانتشار عبر المنصات والإعلانات، واكتشاف فئات من الشباب، أن تجارب هؤلاء الرابرز، تعبر عن الجيل وإحباطاته، بأسهل وأبسط كلمات ممكنة.
الكتاب نفسه استمد عنوانه من تراك لويجز يقول فيه: «بصوتى باعمل فن شارع/ إنت بتعمل مش سامع»، والحقيقة أن كثيرًا من معانى كلمات نجوم الراب والتراب مدهشة، رغم ركاكة صياغة بعضها، بحيث استفزني أحيانًا إهدار معنى بديع بصياغة مضطربة، ولكنهم لا يعنيهم سوى التعبير الحر، بطريقتهم الخاصة.
أعجبتنى مثلًا هذه المعانى فى أغنياتهم: «اللي فات اندفن/ وماحضرتش المراسم»، «وبكره أستيكتكُو تخلصْ ويتبقّى حبرى»، و«لو كانت الدنيا بخير/ عمرى ما كنت أغنى راب»، و«قادرين نحسّ بدفا الشمس من ورا الغيوم»، و«بنموت من الخوف/ ونخاف م الموت»، و«رميت الطوبة على الشمس ما جاتش»، و«اللاب بتاع الشغل/ بس الفن مستقلّ»، و«القبر مستنّى بس حافضل أغنّى»، و«بقيت علبة جوة علبة جوة علبة».
أحببتُ الكتاب، ولم أحب الراب، ولكنى أصبحتُ أكثر تفهما للتجربة، ولصنّاعها، وللجيل كله.
شكرًا سيد عبدالحميد.
جريدة الشروق المصرية