بلا سببٍ، فَقدتُ نصفَ الكلمات التي تسكنني، وأصبحتُ أخافُ النومَ، أغفو قليلًا، وأصحو مفزوعًا بلا كوابيسَ، أصبحتُ مُكتفيًا بجسدي الذي يخونني كثيرًا، اكتفيتُ بالإشارات والإيماءات، أتفرجُ على الأجسادِ التي تترنحُ في الشوارع، وكأنني غير موجود بينها، قلبي موجوع، وهذا سبب غير كافٍ للبكاء، أسيرُ في الطريق إلى الأمام دون أن أتقدم، أتوقف قليلًا لأريح جسدي المنهك، لكنني لم أشعر بالراحة أبدًا، نفسي مقطوع، والسجائر الرخيصة التي أدخنها تتبخر في الهواء، وفي تجويف رأسي، هذه أشياء عادية جدًا تحدث يوميًّا، وتتكرر دون أن أشعرَ بالملل، أتناولها مثلما أمضغُ الطعامَ، أو أشربُ الماءَ، أو أذهب إلى العمل، كل ما في الأمر أنني فقدتُ القدرة على التجاوب مع جسدي، أعاندُ النومَ حتى يسقط رأسي على الوسادة، وأغيبُ عن نَفْسي، أصحو مفزوعًا، أبحثُ عن أشباحٍ تتحرك على جدرانِ الغرفة، أطاردُ خيالاتٍ مدفونةً في رأسي، جسدي مهزوم، وعقلي يطارد الذكريات، كل ما أتذكره أنني نمتُ قليلًا، انتظمتُ في العمل، أديْتُ واجباتٍ عائلية، لم أهتم بتنظيف حذائي، ربما لأنني أبحث عن الألفة بين الأشياء، ترابِ الشارع، الغُبارِ العالقِ في الهواءِ، الضَّجيجِ، صوتِ القطارات التي تغادرُ وتبدأ رحلتها بحماس زائد، ثم تنتظم كأنها منسحبة من فاصلة، السيارات التي تجري بعشوائية، أحاول أن أمحو الحدود الفاصلة بيني وبين أحلامٍ انسحبتْ من حياتي في غفلةٍ مني، وتركتني لكوابيسَ تهاجمني بلا رحمة، تمنيتُ - ذات ليلة - أن أكون قطارًا أقطع المسافات ملتزمًا بطريقي الإجباري، أصرخ في المحطات التي لا أتوقف بها أبدًا، أتوقف قليلًا في المحطات المهمة، وأغادر قبل أن أستريح، شغلتني الفكرة لفترة طويلة من حياتي، وبدأتُ أراقبُ القطاراتِ من بعيد، لكنني تخليت عن الفكرة كلها بسهولة غير عادية، وأنا أشرب قهوتي وأتفحص أصابعي وأراقب - بطرف عيني - السيدة العجوز التي تعبر الطريق ببطء شديد، غير مبالية بالسيارات التي تزاحمت في الاتجاهين، أبواق السيارات تزعق، وهي تزحف قاصدة صندوق القمامة، تفحصتُ إصبعي المُعوَجَّ، وأنا أحاول أن أجربَ صوتي، أبحثُ عن الكلمات التي فقدتُها دون الانتصار في معارك مجانية، أحاولُ بإخلاص، سأطلقها قوية عنيفة تخترق المدى، (الحزن)، اندفعتْ الكلمة، قطعتْ مسافة شبه معقولة، وانزلقتْ فوق حنجرتي، حرَّكتُ أحبالي الصوتية غاضبًا، راوغتْني والتصقتْ بسقف حلقي، شربتُ قدرًا كافيًا من الماء، تلعثمتُ، ابتلعتُ الكلمة وتجشأتُ قبل أن أهضمَها، أقضمُ أظافري محاولًا الهروب من السيدة العجوز التي تستند على صندوق القمامة، أهربُ من وجه أمي، والذي أفتقده كثيرًا، كنتُ أستجدي الأحلام أن تمنحَني فرصة اللقاء بها، ولو للحظات، رغم أن الدماء السوداء التي تقيأتْها على ملابسي لم تفارق فتحتي أنفي، لم تكن تشكو، كانت تعتصرُ ألمها، تبتلعُه في صمت وتستبدله بابتسامةٍ مريضةٍ، وحين انفجرتْ من داخلها، خرجتْ الكتلُ السوداءُ دفعةً واحدةً فوق ملابسي، تجمدتُ رغم أنني كنت أتلمَّسُ أولي خُطوَاتي للطيران، استأجرتُ سيارةً، وقصدتُ المستشفي العام، هرولتُ بين الطرقات، دفعتُ كل طاقتي متوسلًا للأطباء من أجل فحصها، لم يفارق رأسها حضني إلا عندما رفعتُها مساعدًا ممرضةً بدينةً لننقلها إلى سرير مُصْطَفًّ بمحاذاةِ أسَرَّةٍ كثيرةٍ، لا يفصلها عن بعضها سوي ستائرَ مفتوحةٍ على مِصرَعَيْهَا، كأنها تتعمَّدُ فضحَ الأجسادِ المتراصَّةِ والمرافقين، انفجرتْ من داخلها مرة ثانية، طلبتْ مني ممرضةٌ نحيفةٌ أن أجلبَ شيئًا وأنظفَ البلاطَ المتسخَ، أكد الطبيبُ الصغيرُ لزميله الذي كان يراقبني من تحت نظارته الطبية بلا هدف:
ـ في الغالب انفجار في دوالي المريء.
طلبَ مني إحضار تذكرة دخول ببيانات المريضة، وانصرف وهو يطلب من زميله أن يشتري له علبة كشري صلصة زيادة معه، متجاهلًا الرجل العجوز الذي يبكي ويستجدي كل الموجودين بإقناع الطبيب بالكشف على ابنته التي أتي بها مريضة وغابت عن الوعي، تَعثَّرتْ خطواتي، وانزلقتُ على السُّلم، فسقطتُ على وجهي، كنت صاعدًا إلى عنبر الباطنة، أبحث عن سرير فارغ، تركتُ أمي متكوِّرةً على سريرٍ مكسوٍّ بجلدٍ أسودَ مهترئٍ، تئِنُّ من ثِقلِ الأيامِ، ومن وجعٍ نجحتْ في إخفائه عني لسنوات، كانت تُداري بيدها حزنَها وتَمنحني رُوحَها، تَدفعُنِي نحوَ النجوم العالية، تُهديني الأمانَ عندما تتركني أتوسد فخذها، وتَربُتُ على كتفي كتعويض مجاني عن يُتم مرتبك، حين حملتْني في حضنها وأنا لم أتجاوز شهري السادسَ، وخرجتْ حافيةً قاصدًة بيت جدي، العتيقَ، متخليَةً عن لقب زوجة لرجلٍ ظللتُ ثمانية عشر عامًا لا أعرف عنه شيئًا غير اسمه، الوجعُ يتنقل بين ضلوعي، وأنا أراقب السيدة العجوز التي تستند على صندوق القمامة، لا أعلم لماذا أراقبها باهتمام مبالغ فيه؟! ما زال نصفُ الكلمات سجينًا بداخلي، ورغم أن هذه السيدة - دون قصد منها - تحاولُ محوَ المسافة القصيرة التي بيني وبينها، ياااااه! المسافاتُ تنكمشُ وتتشكلُ لتصبحَ أيقونةُ للذكري، هذه السيدة التي لا تشبه أمي، حمستني لتنفيذ قرارٍ أجلتُه كثيرًا، أن أشقَّ صدري وأطلقَ المسافاتِ دفعةً واحدةً، لأتحرر من قيودٍ فرضتُهَا على نفسي، وأشربُ فنجانَ قهوةٍ على الريحة، لأتطهرَ من بقايا ذكرياتٍ فشلتُ كثيرًا في قَتلِها عمدًا، ربما تنسابُ دموعي بلا توقف، وبكل حريةٍ وبالغزارة ذاتها التي انهمرتْ بها على جثة أمي حين كانت فوق خشبة الغُسل، تلقيتُ العزاء ويدِي تتحسَّسُ صدري، كنت أحاولُ أن أعرقلَ الوجعَ، اندفعتُ إلى الحياة بوجعٍ ثقيلٍ ونصف حذِر، دفعتُ - دون أن أدري - المقابلَ من الكلمات التي تسكنُنِي، أفتشُ جسدي باحثًا عن مصدرٍ للنزيف الذي أشعر به، أتَّبِعُ تعليماتِ المرور، وأسَدِّدُ مخالفاتٍ لم أرتكبْها، أهتمُّ بعملي دون ملل، أجلسُ وحيدًا، أخطط لحياتي القادمة، منحتُ الحياةَ ولدين وبنتًا، وزَيَّنتِ الحياةُ شعر رأسي ولحيتي باللون الأبيض، علمتني كيف أراوغُ الصغارَ متحايلًا على طلباتهم، أراوغ نفسي مُدَّعيًا الاستغناء عما أشتهيه، سحبتْ مني نصفَ الأصدقاء، وأهدتني - عِوضًا عنهم - كرسيًّا ثابتًا في مقهى متواضع، أصبحتُ بارعًا في فن التلصص، أبحث في الشوارع المزدحمة عن ولد يشبهني، زهدتُ مطاردة الفراشات الملونة والعصافير التي تسعي بلا كلل، غافلني الصمتُ، وتمكَّنَ مني حين كنت نائمًا محتضنًا وسادتي، صحوتُ مفزوعًا أبحث بين جدران غرفتي عن شيء أتذكر بعضًا منه، تمكن القلق مني عندما غفوت، كنت جالسًا، ساندًا رأسي على قائم السرير، حاولتُ أن أتحدثَ، أن أطلبَ من زوجتي الطعام لأنني شعرتُ بجوعٍ مفاجئ، لم تهاودني الكلمات، اكتشفت أنني فقدت الكلمة، أشرت إليها بحركاتٍ وإشاراتٍ تعني أنني جائع، هزت رأسها نافيةً فهمَ الإشارة، رغم أننا تناقشنا كثيرًا عن بطون الأطفال الخاوية، وأن الراتب أصبح لا يكفي، تركتُها تتابعُ حلقاتِ مسلسلٍ مجهولٍ، وانفردتُ بغرفتي، جربتُ أن أنطقها بصوت مرتفع، لم تتجاوز الكلمات حدود حلقي، جربتُ كلماتٍ أخري، الأمان ـ المستقبل ـ الحرية ـ العدل ـ الضمير ـ الحق ـ الحقيقة ـ الغش...
خرجتْ كلمةُ "الوطن" قويةً من فمي، وظلت تترددُ بين جدران الغرفة المغلقة بإحكام، كانت قوية تتأرجح مثل كرة تنس مسرعة، لكنها لم تصطدم بجسدي المرتعش.