الرمز، هو أحد أهم الحيل التى يلجأ إليها الكاتب، عندما يصبح البوح محفوفا بالمخاطر. كما أنه أحد أساليب الإبداع، والتى تخرج بالحكاية إلى القصة، لتحفيز القارئ أن يكون مشاركا فى صنعها. وذلك هو ما كان حاضرا عندما كتب الكاتب قصته (الحصان).

الحصان

زكـريا صبـح

 

الوخزة التى تلقاها فى خاصرته نبهته الى ان قصورا ما قد حدث فرفع عنقه ونظر الى السماء يستمد من صاحب الملكوت المدد والعون، شد جسده  وحشد قوته فازدادت سرعة العربة التى يشدها، عاد ينظر الى الأرض والى ظله الذى يؤنسه ولا يعبأ بالغبار الذى يزكم انفه، اصبح  يعلم موعد الوخزة  وحدتها  من عصا غليظ  تلمس سطح  فخذه العلوى، قبل غياب الشمس  بقليل عند  الطريق الصاعدة نحو البيت، الطريق طويل من السوق الى البيت لكنه قصير من البيت الى السوق حيث يخرجون فى غبشة الفجر قبل ان تصحو العصافير، يضعون اجولة الخضار والفاكهة التى يبيعونها فى سوق المدينة، يركبون جميعا بعد ان يعلقوا (العريش ) فى حلقتين دائريتين معلقتين فى سرجه الذى  يمتطى ظهره، يعرف الطريق، لذا قد ينامون مطمئنين الى مهارته، فى الصباح لا يحتاج لوخزة، الطريق ممهدة، منحدرة، لم يزل بعد فى اوج نشاطه، يصلون بسلام  فيطلقون سراحه، لانهم فى الواقع  يربطونه فى عمود الانارة  الذى يقف شاهدا على افعالهم، يلقون اليه بعض الطعام وينشغلون بتجارتهم، يرقد احيانا، يقف احيانا، يقضى حاجته فى مكانه ممتعضا متأففا، يصهل احيانا معترضا، لكنه سرعان ما يصمت، لانه يعرف ان صاحب الملكوت، ملكهم امره ، ولانه اصيل لم يعترض وسلم لهم فى سكون، ينتهى اليوم بسلام  ويدخل العريش بقدميه راضيا قانعا بمصيره، يعرف متى يبدأ الرحلة، يسير نحو المنزل، لكن الشمس التى ضربت رأسه  اصابته باعياء،  فمضى على مهل، لكنهم لايرضون عن العجلة بديلا، يكفون قليلا عن صخبهم ويزجرونه بكلمات تلتقطها اذناه وتبعثرها  شفتاه رذاذا متناثرا، يصبون عليه اللعنات، فيلكزه صاحبه بالعصا الغليظة فى مؤخرته، هنا ينتبه الى ان قصورا ما  قد حدث، يحاول استعادة نشاطه لانه يرفض ان ينصاع لامر العصا، وهم على ظهر العربة يمرحون ويضحكون ويستلقون على اقفيتهم من الضحك، فكر كثيرا ان يلتفت نحوهم، ان يبادلهم الضحك، لكنه يعاود النظر الى الارض المتربة، ويسعى جاهدا ان يصل بهم، تمر الايام تترى  يلاحق بعضها بعضا، العمر يمضى والصحة تذوى، والجسد يخذله، لم يعد الحصان  الذى كان يسير مرفوع الهامة متسع الصدر ثابت الخطو، اصبح كهلا، يلتقط انفاسه بصعوبة، وبدل ان يحنو احدهم عليه استبدلوا العصا بالسوط الذى اصبح يلهب ظهره عله يسرع الخطى، فكر ان ينحرف الى الترعة التى تحاذى الطريق فيسقط بهم الى قاعها  فيغرقون جميعا، لكن اصله الاصيل منعه عن ذلك، ظل يمضى فى طريقه حتى وصل  قبل ان تغيب الشمس فى الافق البعيد، يعرف مكان بياته، يدخل مطأطئ الرأس منهك القوى الى زريبة مظلمة، يطل بعنقه من كوة صغيرة ، فيرى النهار وهو يختبئ خلف الابنية، ويرى الظلام وهو يتسلل الى روحه، يظل قلقا، يلقون اليه ببقايا طعام لا يتذوقه، حدثته نفسه كثيرا وحلم فى لحظات نومه الخاطفة انهم دعوه لمائدة العشاء العامرة، صهل صهلة  كأنه يبتسم لنفسه، وتسأل ولما لا اتسلل  اليهم  واجلس الى جوارهم فأاتنس بأنفاسهم واسعد بضحكهم، والتذ  بطعامهم؟ لكنه ذرف الدمع عندما تذكر السوط الذى ينتظره ان هو غادر المكان فى الصباح، يذهب طائعا  راضيا، يشد العربة بما عليها، ويعاود الكرة، غير ان العودة هذه المرة كانت مختلفة، الطريق اصبحت صاعدة حادة او هكذا شعر، الحمولة زائدة او هكذا تخيل، لم يعد قادرا على تحمل الوخز، ولم يستطع صبرا على السوط، ارتعشت ساقاه، سقط من الاعياء، اخيرا غادروا العربة، نظر اليهم ينتظر لمسة حانية، او همسة مشجعة،او يدا تمتد له، ود لو حملوه حملا فأوقفوه داخل العريش، ود لو منحه صاحب الملكوت قوة من جديد، تراقص المنزل امام عينيه، وداعبته رائحة مبيته، لكنهم رأوه يلفظ انفاسه الاخيرة  فاجتمعوا له، رقص قلبه فرحا ان انتبهوا له، فكوا عنه العريش، سحبوه بما استطاعوا من قوة ، جعلوه على حافة الترعة، ومضوا  نظر الى نفسه على سطح الماء الجارى فرأى وجها اصابه الكبر، عيناه كانتا ذابلتين، وانفه ينز مخاطا، وفمه يلفظ رغاء، اغمض عينيه ورأى الموت يحوم فوق رأسه، حاول ان ينهض لكنه سقط ، ضحك الموت ساخرا منه، هل نطق الحصان قائلا للموت : لن تنال منى، سيأتون كى يحملونى الى البيت، سأشفى واعاود الحياة فانتظر، هل سمع الموت مقالته فابتعد قليلا كأنه يقول ننتظر لنرى فى الصباح  عند اكتمال شروق الشمس، رأى اهله فوق العربة يصخبون، يجرهم حصان فتى، اغمض عينيه وراح فى سبات عميق قبل الغروب كان السوط يلهب ظهر الحصان الجديد، لما وقعت عيناه على الحصان الراقد على حافة الترعة استشاط غضبا وانتبابته حالة هياج، انطلق بالعربة ومن عليها نحو الترعة، سقطوا جميعا، وحلقت روح الاصيل فوقهم.