تسعى »الكلمة» إلى إضاءة بعض الأعمال المنشورة، ليتجاور النص الإبداعي، مع القراءة النقدية له. فتقدم المجلة نص رواية «مدينة اللذة» للمبدع عزت القمحاوي، إلى جانب إلقاء الضوء ليس عليه وعلى العالم الذى يتناوله المبدع، وموقفه من الإبداع عامة، فضلا عن العناصر التي استخدمها الكاتب لتظهر جماليات الإبداع فيه.

القمحاوى يصطحب القارئ إلى «مدينة اللذة»

شوقي عبدالحميد يحيى

 

المتأمل فى مسيرة عزت القمحاوى الكتابية، سيلحظ أن من بين كتاباته، "مدينة اللذة"، "الأيك فى المباهج والأحزان"، "كتاب الغواية". غربة المنازل"، "غرفة المسافرين"،"غرفة ترى النيل"، "يكفى أننا معا". ورغم تنوع الأعمال حاملة هذه العناوين، إلا انها تعتبر العتبة التى يخطو عليها القارئ فى رحلتة مع ما تحتويه تلك العناوين من مضامين، يستطيع القارئ أن يُحدس، ما يمكن أن تقوله تلك الأعمال، العابرة للنوع الأدبى، وهو ما يعكس رؤية معينة لفكر الكاتب، أو اهتماماته. فإذا كان القمحاوى قد قدم للحياة الأدبية والثقافية أولى أعماله فى العام 1992، ثم تلاه فى العام 1997. الأمر الذى يعنى أننا إذا ما أردنا أن ننظر إليه، فلابد أن ننظر من خلال ذلك الجيل الذى خرجت فيه هذه الأعمال، وكانت قاعدة الانطلاق لأعماله فيما بعد، اى أنها الأساس الذى قام عليه البنيان. وقد عُرف ذلك الجيل المسمى بجيل التسعينيات، فسنجد أن أهم ما يميز تلك الفترة، او هذا الجيل، أنها شُغفت بالتناول الحسى، حتى ظهر ما سمى-خاصة عند كتابات المرأة- بـ"كتابة الجسد". وهو ما قد يتوارد على الذهن عند الوهلة الأولى من قراءة عناوين "مدينة اللذة"، "الأيك فى المباهج والأحزان"، "كتاب الغواية". ويساعد ذلك –عند القارئ العربى والمصرى- ما يعانيه من شغف البحث وراء ذلك، ورغبته فى التلصص عما يدور فى الغرف المغلقة. وإن كان بذلك يسئ إلى الكُتَّاب الذين لهم رؤية، أبعد من تلك الرؤية السطحية، والتى بلا شك يندرج عزت القمحاوى، فيها، خاصة إذا ما بحثنا عن المعنى الحقيقى للألفاظ والكلمات. مثلما نجد مثلا أن الأيك هو التشابك ولنجدها فى المعاجم (الشَّجر الكثير الملتفّ فلانٌ فرع من أيكة المجد: ذو حسب ونسب). واللذة هى كل مضاد للألم، وفق ما يقول الشيرازى {فكل علم بما هو غير مضاد لوجود العالم به، فهو خير له، وذلك الخير لا محالة لذة}[1].

وهى تلك المعاني التي أسس عليها القمحاوى رؤيته التى ضمنها، أعماله الروائية، مستخدما المعانى المستهلكة، وصولا –بقارئه- إلى السمو بذلك الفهم، ولتلعب الرواية دورها التثقيفى، الذى كان قد بدأت بوادره فى تلك الفترة. كما لايفوتنا أن تلك الفترة –التسعينيات وما بعدها- كانت تموج بالكثير من الفوران السياسي، لظهور فكرة التوريث التي انتواها مبارك لابنه، بعد حكم دام واستطال كثيرا، دون أن يقدم جديدا على ما قدمه سابقيه- اتفقنا معهما أو اختلفنا- فقد قدما ما أثار الكثير من الأمواج المتراطمة، والمتعالية، شعر الإنسان معها بتهميشه، وتعددت أسباب الزج فى السجون للكثيرين، خاصة المثقفين، وغياب الحرية، فشعر الإنسان المصرى وكأنه محبوس فى حجرة أو حتى بلد.

فكانت عناوين القمحاوى " غربة المنازل"، "غرفة المسافرين" –والتى توحى أيضا بعدم الاستقرار فى المكان-،"غرفة ترى النيل"، "يكفى أننا معا". وهو ما يوحى بالسجن، والغربة، وعدم التواصل، حتى الاكتفاء بالتجاور، وكانه أضعف الإيمان (يكفى أننا معا). فكان الإحساس الميسطر على المبدع المصرى، الذى راح يعبر عنها بطرقه الإبداعية، ليؤرخ لتلك الفترة، دون -حتى- أن يعى بأنه يفعل ذلك. حيث أن الإنسان حينما ينشا فى بيئة محددة، تصبغه وتُعَمِده بصبغتها، فيكون أسيرا لها، فى الكثير من مناحى حياته، خاصة فى العملية الإبداعية. وقد نلحظ ذلك فى المسيرة الروائية تحديدا- والتى تبدأ بـ"مدينة اللذة"[2] ليصل قطارها إلى "يكفى أننا معا"[3]. وكأنه اتخذ الحياة مسارا لللإبداع. حيث يبدأ الإنسان علاقته بالحياة، بالوجود عن طريق التواصل الجسدى، بالأم، وبنفسه، كما حدد "سيجموند فرويد" مراحل نمو الإنسان بانها (المرحلة: الفمية، والشرجية، والقضيبية، والكامنة، والأعضاء التناسلية). وحتى عملية الموت، او مفارقة الحياة، يتم اختبارها –أيضا- بالحواس، حيث يصبح الإنسان كالجماد، فلا رؤية ولا سمع ولا إحساس. أى أن وجود الإنسان على الأرض مرتبط بتواجد تلك الحواس (الحسية)، فضلا عن استخدام تلك الحواس –وفق الظروف- فى الكثير من الحالات، كفقد البصر أو فقد السمع مثلا-. وفضلا عن أن ما يسميه فرويد بـ(مرحلة الكمون) وهى المرحلة التى ينشغل فيها الطفل بمن حوله، أى أنه يبدأ فى التعامل مع الآخر، بل تصبح هذه التعاملات هى أساس الحياة السوية. فعليها قامت المجتمعات، بما بينها وبعضها البعض. إلا ان وجود (الإنسان) الفرد، مرتبط – شاء أم لم يشأ- بوجود النوع الآخر. فإذا ما رجعنا إلى خلق الإنسان، سنجد أن الله سبحانه فى قرآنه يقول فى سورة الحجرات [يا ايها الناس، إنا خلقناكم من ذكر وأنثى. وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفو][4]. ونجد أن النداء هنا جاء (للناس) عامة.

فإذا ما نظرنا إلى المسيرة الروائية عند عزت القمحاوى، والمحصورة بين البداية (مدينة اللذة). إلى (يكفى أننا معا) سنجد وكأنه يتمثل تلك الآية التى تخاطب الناس جميعا، منذ خلقهم [إنا خلقناكم]، ومسيرته على الأرض [وجعلناكم شعوبا وقبائل]. ففى الأولى "مدينة اللذة" التى فتحت له الأبواب على مصراعيها، ليدخل مبدعا يعرف إلى اين وصلت الرواية – وقد تعددت رؤي التجريب فى ذلك الجيل، فضلا عن تغييب الرؤية الأساسية فى حالة من الضبابية- متخليا عن تلك الصيغة التى ترسخت طويلا فى الأذهان، بانها تسعى لاستنامة الإنسان، وليعيش عالم الأحلام والخيال، وإن لم يتخلص منها كلية، ولكنه سعى للتزاوج بين القديم منها والحديث، فكان الخيال والمتعة، وكان الفكر والإفادة.

إلى جانب التوفيق الكبير، والجرأة المحسوبة فى إختيار العنوان، الذى جاء مدخلا (عتبة) حقيقيا للرواية، حيث يثير العنوان شهية القارئ، ويدعوه للتخيل، والبناء عليه، بما يحقق التواصل بين الكاتب والقارئ الذى يصبح مشاركا فى خلق الإبداع، خاصة بما يحمله –العنوان- من رؤية سمعية أو دارجة- تتلخص فى الرؤية الجمعية، فى مجتمع قد جعل من الحس المادى، شيئا مخبوءاً، رغم وجوده الأساسى فى حياته. فخلق الكائن الحى –عموما- فضلا عن الإنسان، يبدأ باللذة، ويبدأ بالتواصل. لكن الإنسان العربى، تحت وطأة الموروث الثقافى، والدينى، جعل منها شيئا مسكوتا عنه. فسعى القمحاوى، ليخرج به للنور. إلى جانب أن هذا الأحساس –الحسى- هو أول ما يشعر به الطفل، حين تتفتح مداركه على الحياة، فيبدأ التعرف على الحياة، عامة، ويبدأ السؤال منه. وإلى جانب ذلك –أيضا- هو ما يُسَيِرُ حياة البشر، ليصبح أحد أمرين يُسَيران حياته فى الدنيا، فكيف للإنسان أن يتجاهله، ويكرس حياته للموت، وكأنه محطة السفر إلى ذلك العالم غير الملموس؟

فإذا كان المجتمع العربى، والمصرى خاصة، يعيش مرحلة العاطفة، والغيبي، فى وجدانه ووجوده، فيسعى إلى عالم ما بعد الموت، طمعا فيما بها من نعيم، فيزهد الدنيا، التى زُرع فيها الإنسان مدفوعا بغريزتين، هما المحرك لكل حياته، المال والنساء. فقد (صنع) القمحاوى روايته "مدينة اللذة" ليصل إلى جوهر الحياة من ذلك المنظور. فيأخذنا إلى ذلك العالم الذى يتفق وتلك الرؤية الغيبية، التى يستمد منها الإنسان العربى والمصرى، قناعته، فيمكن أن نتصور- فى مدينة اللذة- أننا نسمع ونرى صرخة مدوية، وانبعاث دخان كثيف منع الرؤية فى الحجرة، أصاب كل من بها بإغماءة ... ورويدا رويديا، خرج الدخان من الحجرة، وتوقع الجميع أن يخرج العفريت الذى احدث كل تلك الأدخنة من القمقم، فإذا به، وقد انقشع كل الدخان، رجل سبعينى يستند على عصاه، وقد تخلعت كل أسنانه، يُحَدث نفسه، عما كان، وكيف كان، على هذه الأرض التى تبخر فيها كل ما كان يمتعه، ويستمتع به عليها { ثم یجهش في تأثر لن تملك معه إلا أن تحتضنه كطفلك، وسیسألك ناشجًا عن الطریق إلى المتاهة: "إنها الملاذ الأخیر" وسیشد على یدك طویلًا ویجذبك أكثر لیقبِّلك إذ يتأهب للانصراف فاحترس، لأنه في تلك اللحظة لن یعرف أیكما هو}ص31، تصديقا للأية الكريمة [ومن نُعَمِرهُ نُنَكِسْهُ فى الخلق][5] .

 فتلك هى الحالة التى اصطحب فيها عزت القمحاوى قارئه، عبر روايته "مدينة اللذة" والتى لم تكن سوى الحياة التى عاشها الإنسان، تحت سطوة  المال والمرأة. فالقمحاوى، لم يقدم فى هذه التجربة الروائية، ذلك النمط الكلاسيكى، القائم على التصاعد ب(الحكاية) من البداية إلى النهاية، وإنما قدم حالة روائية، تستدعى كل عناصر الصورة، والصوت، أو الفن التشكيلى، والموسيقى، وكأننا نستمع إلى سيمفونية القدر لبيتهوفن، التى نستطيع فيها سماع دقات القدر، غير أن "مدينة اللذة" تقوم على حركتين إثنتين، لا أربع مثلما فعل بيتهوفن. فتبدأ الرواية بما يشبه الحركة السريعة، التى ينغمس فيها الإنسان فى عالم الملذات، المال والنساء (مرحلة الحركة)، ولتأتى الحركة الثانية، بطيئة (مرحلة التأمل). ليتدبر فيها الإنسان ضياع كل تلك الملذات، ويقف على محطة السفر.

وكما يمكن أن نلحظ من تاريخ الإبداع –عامة- أن الموضوعات التى تشغل المبدع ليس فيها جديدا،، فنفس الروح واحدة منذ الأزل، غير أن الشكل هو ما يتغير، وهو ما يؤكد إبداعية المبدع، أو مستواه الإبداعى. وكما قال الجاحظ "إن المعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي، البدوي والقروي، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخيّر اللفظ ".وتلك هى المسألة. كيف استطاع القمحاوى، أن يمسك بتلابيب قارئه، ويثير فيه الرغبة فى الاستزادة، ليُفيقَه من غفلته، على ما يعرفه جيدا، لكنه فى نداهة الحياة التى تمسك بتلاليبه، كى يصبح عبدا لها. وبالطبع لم يسع الكاتب لأن يقدم درسا متكررا للحياة والآخرة، ولكنه يقدم عملا إبداعيا، يسعى فيه للوصول إلى الجوهر، الذى يراه فى {ستستمع الى كل هذه الحكایات، وسوف تضطر لتصديقها جمیعا، لأن أحدا لم یرجع من المتاهة لیحكى بالضبط ماحدث.}ص20. ولا أظن الأمر يحتاج توضيحا، أو تعريفا لتلك (المتاهة)، التى حَمّْلَها –الكاتب- عبئ الإضاءة عن ذلك العالم الخيالى، والغيبى، الذى لايملك المرء إلا أن يصدقه.

كما استغل الكاتب التناص ، ليعَبُر إلى تلك الرؤية الجوهرية التى تحكم الإنسان – العربى والمصرى-. فنجد أن الرقم سبعة، ومضاعفاته، قد تكرر كثيرا فى الرواية، مثلما تكرر كثيرا فى القرآن، الذى هو دستور الحياة (الآخرة)، والتى قال عنها ابن القيم في زاد المعاد: {وأما خاصية السبع فإنها قد وقعت قدراً وشرعاً فخلق الله عز وجل السماوات سبعاً والأراضين سبعاً والأيام سبعاً...}. وكأن الكاتب يحيل القارئ إلى ذلك الأساس، وهو ما نراه على وجه الخصوص فى {كائن غریب لا یثبت علي ملامح السادة أو العبید أو الظلال، ولا أحد یمتلك مشاعر محددة تجاهه، ولا أحد یعرف أكثر من أنه القربان الذي تختاره المدینة من بین القادمین إليها على رأس كل سبعة أیام أو سبعة أشهر، أو سبع سنین، أو سبعین أو سبعة آلاف أو سبعین ألف سنة لیجدد السلام بین عناصرها الثلاثة؛ السادة والعبید والظلال}ص25. وحيث تنضح الفقرة بالمعانى التى تفجر ذلك العالم الواسع، والضاج بالبشر، بين السادة والعبيد والظلال.

وهو ما يقودنا إلى الرؤية المستترة وراء الظاهر من الأحداث، فإن اخذت الرواية خلق الإنسان وحياته، التى منها الفعل السياسى، إن لم يكن فى الجوهر منها- طبقا للمنظور الأفلاطونى-. فنجد أن المدينة تقوم على سادة وعبيد، ومنهم الظلال. حين يرفع الكاتب عنهم صفة البشرية، فى الوقت الذى يظن السيد أنه ملك الدنيا وما فيها ف{هو في الصباح سید حقیقي، یمشي كمارد في طيلسانه محروساً بموكب الرائحة الذي یحف به مثیراً الرهبة في قلوب الظلال، لا ینقص من هيبته تشعث شعر لحيته ورأسه، أو رثاثة ثيابه. صولجان الرائحة في إحدى يديه، وفي الأخرى سوطه یسوط به الظلال في سعيها إلى الثروة وحلمها باللذة، فتنتظم الأعمال وتستقیم الأخلاق طوال النهار حتى یتفجر تعب الظلال دماً وتبدأ في الانسحاب إلى مناماتها}ص25.

ثم يكشف الكاتب عن مدى تاثير تلك الغريزة الحسية، وأهميتها فى حياة الكائن الحى عموما، حتى أنه عندما تعجز آلته، يفكر فى البديل، وكأنه يشعر بالنهاية، بدونها، فذبول قدرة الإنسان على الفعل، هى الموت له، وقد جُبل على حب الحياة، وحب المُتع {كم مضى لك من الوقت هنا؟.. یاه!! وتتحدث معي؟! عندما یصیر لك مثل عمري ستدرك كل شيء. وفجأة یرسل بصره إلى البعید، ويتهلل وجهه المتغضن، یصیح:  أخیراً!  یفتح ذراعيه ویحتضن الهواء، یترك العصا المعلقة في الهواء تسقط، یمد یده إلى جيبه،  یُخرج علبة سوداء، یضغط قفلها فینطلق منها سلاح صناعي منتصب وقد زُین رأسه بشرائط ملونة، يرقصه في الهواء ویضرب الأرض بساقيه المقوستین، ويهتز بعنف یتصاعد ثم یخمد، یضغط السلاح فیتقوس ویدور لیختفي مرة أخرى في العلبة المستدیرة. يدسها في جيبه، ویخرج مندیلاً یجفف به عرقه، ثم ینحني لیلتقط العصا، يثبتها في الأرض ویرتكز عليها بكلتا يديه} ص29. وتصل تعاسته قمتها، عندما يفقد القدرة، ويصبح بلا أهمية: {تدخل قصر امرأة شبقة، ولكن سیلقى بك في الیوم الأول من شیخوختك، عاریاً، تعاني بؤس الوحدة.} ص31.

بل نجد أن الكاتب راح يصك المصطلح، "الظعبيد"  يصف به الحاكم و(الظل) وليجمع به بين المتعاظم وبين العبيد. ويبين ذلك من وصول ذلك المخلوق إلى نهايات عمره، على الجانب الإنسانى، ويصف به الحاكم -من الجانب المجتمعى-. ذلك الحاكم الذى فك كيسه، ليبعث لأمه بعضا من المال، عوضا عن غيابه الطويل عنها، لكنه يتراجع، خشية أن تتناقص تلك الأموال، فسوف يأتى غيرها. فيجمع القمحاوى، فى فقرة واحدة، ما يمكن قراءته على المستوى الإنسانى، وما يمكن فى ذات الوقت قراءته على المستوى الجمعى، أو السياسى: {وفي التوقیت ذاته یكون "الظعبید" قد بدأ في التقاصر. ومع اكتمال الغروب تقترب لحيته من الأرض، ویتحول فرق الطول إلى حدبة كبیرة، والصولجان إلى عصا خشنة یتوكأ عليها العبد المتخلق من هيئة السید، ویتحول السوط إلى ثعبان يداعبه كحاو محترف في سعيه على أبواب الظلال بطیلسان تناوشته الرقع. عندما يتوسط القمر السماء يعود إلى كهفه الذي تنمو بین أحجاره الطحالب، یرفع حشیة القش التي یستلقي عليها، یخرج ثروته المحروسة بهيبة الرائحة، لیفك الكیس ويُفرغه في حجره ویشرع في العد، ثم یفرغ جيوبه ویعود لیعد من جدید، وعندما ينتهى، يتأملها بزهو ثم يعيدها إلى الكیس، ويربطه، ويودعه مكمنه، ثم یسوى فرشته ویتناول شیئا مما جادت به الظلال ولیستلقي على ظهره مغمض العینین}ص25. ويلاحظ هنا أستخدام حاسة (الشم) التى تعطى للشئ فوق قيمته –عند الفرد، فأن يشم الفرد الأموال (حيث يصبح لها رائحة عنده) فهو إحاسا خاص يمنح المتعة، ويمنح (اللذة).

وإذا كانت "مدينة اللذة" قد تناولت بداية حياة الإنسان، ومسيرته على الأرض. وإذا كان فكر الإنسان، العربى والمصرى، قد دعا إلى تكريس الحياة للموت، أملا فيما بعده، فهو على الجانب الآخر، كرس الإنسان حياته للحياة، والاستمتاع بها، فقد سار القمحاوى، فى مسيرته الروائية، إلى وضع الجانبين فى المواجهة، فكانت روايته "يكفى أننا معا"، وكأنه يدعو لضرورة التزاوج بين الحياة وما بعدها، فى تزاوج يبد أنه ليس يسيرا بالظروف الحلية-وفقما تقول الرواية. فنتعرف على "جمال" ذلك المحامى، الناجح فى عمله، والتى ضغطت عليه الظروف الاجتماعية، ان يعيش وحيدا، بعد أن توقفت حياته على خدمة إخوته، فلم يستمتع بالحياة، رغم ما يتحصل عليه من علاقات –مادية- مع بعض من موكلاته، غير أنه لم يشعر بميل روحى لأى منهن. وكأنه يؤكد لنا، ان من يعيش الحياة المادية وحدها، فكأنما لم يعش، ومن يعيش الحياة الروحية وحدها-أيضا- لم يعش. فى ذات الوقت الذى يؤكد فيه على تلك الإزدواجية التى يعيشها الإنسان الشرقى، الذى يُظهر الحياة الروحية، ويُمضمر الحياة المادية، فاختل الميزان الذى وضعه الله للإنسان على الأرض. ويتجلى هذا التزاوج – الذى يمكن أن نقرأه على الجانبين، الإنسانى والسياسى، فى تلك الزيارة الأولى للشابة رائعة الجمال "خديجة"، التى تزوره فى مكتبه، سعيد منها بعد أن أُجَبَتْ به، وكأن كل منهما يسعى للآخر، غير أن الدوافع مختلفة فى الحالين- لا لاستشارته فى مهمة قانونية، ولكن للتحدث معه فى شأن رسالة الدكتوراه التى تُعدُها حول علاقة مبانى المحكمة، وطبيعة الأحكام. لتكشف لنا منذ البداية عن المقابلة، والرمزية، بين هنا، وهناك، بين المصرى، والأجنبية، بين الحضارة الفرعونية، القائمة على العمارة، والحضارة الأوربية القائمة على صنع الجمال، والاستمتاع به، بين النص وروح النص، وهو ما يكشف عنه الكاتب حين يفرق بين من يطبق النصوص بحرفيتها، ومن يقتنع، بعد تفكير وتدبر، ليفعل ما يوافق عقله، بين من يحفظ ومن يتدبر:

{من ديستوفيسكى إلى فلوبير ونجيب محفوظ، كلهم يروون حكايات أبطالهم بشكل رائع، لكنهم يترافعون عنهم بشكل سئ، لا يطلبون لهم البراءة بل يلتمسون العطف. فى أعماقهم يدينونهم، وأسوأ محمام هو من يبدو غير مؤمن ببراءة موكله } ص35. وكم كان الكاتب موفقا فى إختيار الشخصية الرئيسية فى العمل "جمال" برمزيته، فضلا عن إنسانيته، فهو رجل كبير السن –نسبيا-، تجاوز مرحلة الحب، او القدرة على إقامة العلاقة الإنسانية. إلى جانب كونه محاميا، أى يمتهن حرفة نظرية، قائمة على (الكلام)، الذى يحتمل التأويل- وهو ما برع فيه الإنسان العربى والمصرى- فاستطاع أن يُحَورَ النص، ويبحث عن الثغرات، لينجح فى وجوده (المهنى)، إلى جانب تكبيله بالمشاكل العائلية، التى تعيق حياته العادية مثل كل البشر، فكان هو الإنسان المصرى تحديدا، والعربى عامة. حيث تتفاعل بداخله الصراعات بين الواقع والمفروض، وليخرج ذلك الصراع المتحكم فى شخصيته، وما يعكس تركيبة تلك الشخصية: { يُؤمن بأن ثلاثة أرباع كرامة الإنسان يكمن فى الحرية، فهى وحدها التى تضمن احترامه لمجرد أنه إنسان. وليس لسلطته أو اسم عائلته أو اى شئ آخر. ولأنه لم يتنفس  هواء الحرية منذ فتح عينيه على الدنيا، فهو يدرك تماما أنه يستيقظ  من نومه فاقدا ثلاثة أرباع كرامته، هكذا قبل أن يغادر عتبة بيته ويبدأ حربه اليومية دفاعا عن الربع الذى يملكه. يجتهد ليحقق مكانة مهنية مرموقة. يتصف بما لايعيبه. لايسكت عن إهانة طفيفة يوجهها إليه أحدهم، ويرد بشكل مبالغ فيه على أية بادرة اعتداء}ص41. وكم هى الفقرة موفقة فى وصف الإنسان فى هذه المنطقة من الأرض.

فإذا كانت "مدينة اللذة" قد احتفت بالموت، وكأن الناس يعيشون للموت لا للحياة، فكانت تلك الرحلة التى دبرتها "خديجة" لاصطحاب "جمال" إلى ذلك العالم الغربى، الذى يعيش للحياة، رغم أن الموت موجود ..هنا وهناك" (فى روايته"يكفى أننا معا"). حيث فى تلك الرحلة حين يداهم "جمال" ألم مؤخرته ويقررا الذهاب للطبيب، فيسال "جمال"الطبيب : هل يوجد موت فى كابرى؟ ليجيبه الطبيب بعدم الخوف، فما من أحد يموت من مؤخرته. فيرد جمال {لست خائفا، مجرد سؤال لأنى درت حتى التهبت مؤخرتى، دون أن أرى مقابر}ص176.

وليكشف كيف أن هؤلاء البشر يعيشون للحياة وليس للموت مثلما فى بلادنا حيث نجد المقابر فى كل مكان، ولها قدسيتها. على الرغم من أن هؤلاء بشر، يموتون أيضا، حيث تجيب "خديجة" {حبيبى .. المقابر مررنا بها فى الطريق إلى "فيلا ليسيس"} ويعقب الطبيب {الموت موجود لكن السياح لا يتوقعونه فى كابرى} ويرد جمال {لم أرَ موكب دفن، منذ وصلنا إلى هنا}.

كما تشير الرواية إلى عنصر جوهرى فى نظرة الإنسان (العربى) عامة، المادية، رغم ما يشاع بانه إنسان (روحانى). الأمر الذى يكشف عن الإزدواجية، التى تكتنف كل مناحى حياته، ولتكشف عن جوهر ذلك (العربى). ذلك الذى لا يهمه لباس المرأة، بقدر ما يهمه جسمها، ربما لحرمانه منه، تحت تأثير(الوازع الدينى). وهو ما تعبر عنه الرواية، حينما {تتذكر عتابها له ذات مرة على عدم إطرائه لفستانها، وقتها أضحكها رده الفورى "الفستان الجيد هو الفستان المخلوع"ص188. ومن الأمور التى ترددت كثيرا فى الرواية، لتلقى بحمولتها الدلالية، إنتباه "جمال" للكثير من السمينات، بينما مرشدته، وصديقته تتميز بالنحافة، وهو ما أثار الكثير من الغضب الداخلى عندها-كغيرة نسائية- وللإمعان فى الرؤية الإنسانية. غير أن الرؤية المجتمعية، تقودنا للنظر إلى الفوارق فى (الذوق). حيث ينظر "جمال" برمزيته إلى المادة، إلى الكتلة، بينما "خديجة" برمزيتها –أيضا- تنظر للجمال فى التناسق والتناغم فيما يمكن أن يكون مادة. أى فى تحويل المادى إلى معنوى. وليتضح –على عكس الظاهر- أن هنا يعيش المادى، وهناك يعيش المعنوى، على غير المشاع، أو ما استقر فى وجدان الإنسان –هنا-.

وفى "كابرى" يصطحب "ألدو" ذلك العجوز "خديجة" ويحكى لها بعضا من سيرته، حيث يشير إلى أنه قضى كل عمره فى المكان، وأن مصنع العطور الذى يمتلكه خلف الكنيسة{وكنت منذ طفولتى أقيم مع السيدات.. الدير مختلط، أعنى يضم جناحا للراهبات وآخر للرهبان. ابتسمت لاستدراكه وسألت: إذن .. لماذا كنت فى دير النساء ؟

أجاب متجاوبا مع دعابتها: لأننى عربى!

أومأ بابتسامة رسمها بصعوبة. وفى لحظة غمر الأسى وجهه سألته: وكيف أصابتك العروبة؟

  • أنا ابن لقاء عابر بين شاب من جدة ومراهقة من قرية زراعية قريبة من سورنتو، تعرفين سورنتو، هنا فى مواجهة كابرى؟} ص191.

وتظل تلك الضغوط تفرض سطوتها عليه، لتلازمه طوال رحلته، الحياتية، والحالية.. ففى "أنا كابرى"، كانت تلك الضغوط حاضرة، ف{المحامى الذى رأى زيجات كثيرة تتقوض بسبب الحاجة إلى ألف جنيه، أى ثمن سمكة واحدة أكلها فى مطعم مدع. لم يشأ أن يُعكر على "خديجة" انطلاقها أو يشعرها بالذنب بينما ينبغى أن يكون ممتنا. أخفى عنها اضطراب روحه...... وهاجس فارق عمريهما الذى تتجاهله "خديجة" ويتحسسه كندبة}ص164. ويجب أن نُدرك رمزية فارق العمر. وما يمكن أن نقرأه على أنه فارق القدرة، وفارق الإمكانية، وفارق الحضارة، والرؤى.

وإلى جانب ذلك الشعور الضاغط بفقدان الحرية، أو بتكبيل حركته، كان فى ذات الوقت يحلم بالخروج خارج هذا القفص، فكثيرا ما كان يحلم بالطيران الذى نسيه منذ سنوات طويلة(هرب من تأملاته باستعادة حلمه (متلذذا) بلحظات التحليق فى الحلم الذى لازمه كل سنوات شبابه}ص49.

فهذا هو "جمال الذى فُتن بتلك الفتاة الشابة، بجمالها وأناقتها، ولباقتها، غير انه لايستطيع مجاراتها، تلك الفتاة التى أعجبت به، وتحديدا لقدرته على أن يكون ناجحا فى مضماره، وقبلت التحدى فى الارتباط به، رغم فقدان تلك الثقة لدى صديقتها، فضلا عن ارستقراطيتها وأسرتها وامتلاكها للمال، وللرغبة، واسرتها، وإعتيادها على الرحلات المنتظمة، لأماكن المتعة والجمال، والتى يمكن أن نهتدى بسهولة لرمزيتها التى تُشير إلى الغرب عامة. ولا يفوتنا ملاحظة، ان "خديجة" تقوم بدور القائد أو المرشد الذى يقود "جمال" للتمتع بسحر الطبيعة. على الرغم من مرض (مؤخرة) جمال، وقعوده عن المواصلة، والاستمتاع. وفضلا-كذلك- عن أنهما لم يتزوجا، بل إن العلاقة بينهما ظلت خارجية، فلم يصل الاستمتاع كماله، إلا انه تذوق طعم الجمال، واقترب من الاستمتاع، غير أن كبر سنه، وما يتكبل به من أعباء عائلية، حال دون الاستمتاع الكامل، رغم محاولتها أن يبدوا طبيعيين، إلا ان إحساسه بفارق السن، وسطوته عليه، وتعليقات الكثير ممن قابلوهما، بأنه والدها أكثر من مرة، صنع عائقا، وكأنى بالكاتب يقول أن على الشرق كى يستمتع بالحية، ويلحق بركب الحضارة الحديثة، ان يتخلص من عبئ الموروث الذى يرزح تحته. ولا أطن الرمزية هنا تحتاج لتأويل. ولا أن جمال الذى ينتمى لعالم يعيش على الماضى، على الموتى، وللموت، وكبت الحرية، فى مواجهة مع الغرب بإحتفائه بالحياة، وبالجمال.   

وإذا كان القمحاوى قد عاد فى هذه الرواية، إلى النمط الكلاسيكى فى السرد، فجاء تصاعديا متراتبا، فإن ذلك يعنى أولا إرتباط الشكل الروائى بالحالة المجتمعية- كما بينا ذلك فى فى دراسات خاصة- حيث جاءت أولى ابداعاته فى العام 1997" مدينة اللذة" على الشكل الذى يعتمد على الإيحاء والتورية، فى حين أن أحدث الروايات جاءت فى العام 2017 حيث كانت الحالة المجتمعية قد عادت إلى سيرتها المستقرة- أو على الأقل كان ذلك هو التصور- فجاء الشكل تراتبيا ومنطقيا. وفى الحالتين لم يفقد القدرة على الإمساك بقارئه، الذى عليه أن يستمتع  بتلك الرحلات التى يستخدمها الكاتب لاضفاء روح المعلوماتية، التى يكتشف بها القارئ تلك العوالم التى لم يرها، والتى ربما لم يقرا عنها، ولتصبح الرواية – الحديثة- مصدرا للتثقيف، وليست فقط للاستنامة والتسلية. فضلا عن استخدامها لأحِداث المفارقة، أو المقابلة، بين هنا وهناك، خاصة فيما يخص الرؤية الجوهرية لـ(هنا) وهى الموت.

وفى الرحلة لابد أن تحدث المقارنة وحينها،لابد، دون أن يدرى أو يتعمد، تثور بداخله المقارنة بين هنا وهناك. فلا تغيب المقارنة المنعقدة بداخله، فبستحضر بلاده كلما رأى ما يسمو عليها. فيلتقيا شخصا فى نابول.. يتعرفان على أنه كان فى الأسكندرية وعاد إلى إطاليا، فسأله جمال متى ولماذا؟ فيجيبه {منذ عشر سنوات جئت لأقابل الموت، لكننى لم أعثر عليه، يبدو أنه يبحث عنى فى مصر) ص122. وفى روما، عندما وصلا إليها وخرج من المطار {انطلقت السيارة على الطريق الملتوى بين منشآت المطار، وسرعان ما استوت على الطريق السريع، على الجانبين تتناوب الهضاب التى تغطيها أكمات الأشجار، مع سهول ممتدة مغطاة بالحشائش}ص90.

ويخرج جمال عن صمته وكأنه لم يعد يستطيع إخفاء ما بداخله. فأثناء سفرهما بالقطار إلى نابولى و{بين وقت وآخر يظهر قطيع أغنام وأبقار وخيول ويختفى كالبرق ، بينما تسطع الشمس فى سماء زرقاء صافية. استغرقه المشهد وهتف: هذه الهضاب الراكضة بعشبها واشجارها وحيواناتها لن تصطف بهذه الطريقة إلا لإسعاد ركاب القطارات }ص119. وكأن كل شئ –هناك- قد أُعد لمتعة (الإنسان)، ولذته فى الحياة.

وفى رحلة القطار، وبعد أن تقرأ له "خديجة" قصة، تدمع عيناه، فتسأله: أإلى هذا الحد أعجبتك القصة؟ فيجيبها: لا أعرف. القصة. أم بهجة الخضرة، أم الخوف من انتهاء الرحلة، ربما كان كل هذا معا... لعله الحسد. ومن بين ما يحتم المقارنة، أن نرى ذات الشئ ,,هنا وهناك، لكن التعامل معه يختلف، فلا تغيب المقارنة، حيث يوجد أبو الهول هناك {حيث أسقط عنه نصف غربته، لشعوره بالحنين إلى ارضه} بينما حددت "خديجة" الفارق بقولها {عرف السويدى المتوحد كيف يترك الطبيعة تعبر عن نفسها). كما يستحضر حارات خان الخليلى، عندما يمرا معا منها، فتسارعه "خديجة" {تشبه حارات خان الخليلى .. لو استحمت} ص137.

ولابد أن الحاضر يفرض نفسه ليتأمل كيف التعامل مع الطبيعة هنا {صاحب الفيلا طبيب سويدى، بناها بقصد الاسترخاء، ليس فيها استعراضية العاشق التى تبدو فى فيلا لسيس.

رد جمال متسائلا: كأن في عمارته شيئا من عمارة البيت العربى؟}ص168. فى محاولة لأيجاد شئ من التشابه.

وتصل المقارنة إلى جوهرها المحرك، والفعال، حين يهمس جمال بعد الخروج من الكنيسة التى تعرض الأوبرا{ "الحرية جميلة" يعرف أن الاحتضان والتقبيل فى الشارع من الأمور العادية فى أوروبا، لكن المعرفة لا تعنى شيئا دون أن يختبرها المرء بنفسه}ص102، حيث يفرض المجتمع –هنا- سطوته، بمعتقداته وموروثه على الفرد، وحريته، بينما هناك، لا قيود على حرية الفرد واستمتاعه.

والتعامل مع الفن، ومع الفن التشكيلى تحديدا، وكيف يُنظر إليه –هنا- على أنه شِرْك ورجس من عمل الشيطان. بينما –هناك- يُنظر إليه بشكل عكسى تماما{أمام تمثال برنيتى "اغتصاب بيرسفونى" شهق لمرأى أصابع أبولو المرمر، وقد غاصت فى فخد ابنة جوبتر. همس:

-كيف احتفظ الكاردينال بإيمانه بعد أن اقتنى هذا التمثال؟

-ولماذا لا نفترض أن إيمانه تعزز؟}ص108.

وتنضح المقارنة، حين يشعر "جمال" وكأنه غريق خرج لتوه من الماء، فشعر كأن الحياة تعود إليه من جديد، وحين يشعر انه استمتع بالحياة –هناك- ف{أحس أنه لم يكن فى أى وقت من الأوقات ممتنا لكونه حيا، مثلما هو الآن}110.

      إلا أن الكاتب لم يشأ أن يُلقى باللائمة كلها على كاهل السلطة الحكومية، وإنما على الفرد دور، غير منكور فيها- وإن لم يغب دور الدولة فى توفير السبل له. وهو ما يمكن رؤيته أن –هناك- على الجانب الآخر، يعيش لنفسه، أو يعيش فردا، بينما الواقع والتجربة، ان هذا لا ينفى كونه يعيش فى مجتمع، وهو جزء منه، فكيف اثر المجموع هناك، وإلى اين كان تأثيره –هنا-. ففى "كابرى" يتأمل {هذه الجزيرة هى أجمل نص فى التاريخ.. وشرع يتأمل ما حوله  يفكر كيف ساهم كل صاحب بيت، كل صاحب مطعم أو محل، فى كتابة جملته الخاصة فى هذا النص العبقرى الذى يسمى "كابرى"}ص148.

وإذا كنا قد راينا "جمال" مُكبل بالأعباء الاجتماعية- التى لاشك فى دور الدولة فيها- والتى لم تدع له فرصة الحب، ذلك الذى عاشه مع "خديجة" بشخصها وبرمزيتها، حيث عاشا الحب، وعاد لطفولته، البريئة، بما فيها من حرية وانطلاق، وحنين للثورة، بما تمثله أغانى الشباب، وكأنه (حسرة) على تلك الفترات التى لم يتمكن من الاستمتاع بها.

فبعد أن بدأ دبيب الحب فى حياته، بمراسلاته مع خديجة، تحولت كل المناظر التى كانت تثير أعصابه، ويعتبرها إهانة لسكان القاهرة، تحولت إلى الجمال وإلى الحب. {تمرد على المسار الذى اعتاده منذ سنوات طويلة بين البيت والمحكمة فالبيت ثم المحكمة. حل بوجدانه وراء خديجة، وترك لرسائلها أن تقوده.عاش تفاصيل أيامها.}ص51.

ويخشى القمحاوى أن تستهلك المشاهد والمقارنة، ومتعة الحب بين الحبيبن، فتغيب الرؤية الثانية، أو الرؤية المجتمعية، والتى هى الأساس فى كتابة الرواية، وما قصة الحب والرحلة إلا وسيلة روائية، للوصول إليها. فنراه-هناك- وقد استحضر –هنا- بأعماقه، وكأنه يعيش ما فاته أن يعيشه، حين ذهبا -بعد أن قد غرقا فى الحب- إلى حديقة الأزهر لحضور حفل  لشباب يرددون أغانى الشيخ إمام، وانهمك مع الشباب المتنوع الهيئة، متناسيا كل ما، ومن حوله، وأخذ يردد مع المنشدين: { "مين اللى يقدر ساعة يسجن مصر؟" أو "شيّد قصورك ع المزارع". جرفته الحماسة، وتشبثت ذراعاه ب"خديجة"، وأخذ يهتف مع الشباب دون تحفظ، وأحس أنه جزء من جسد شاب عملاق ، وتذكر بشجن ما فاته أن يعيشه فى الجامعة، وفى طريق العودة، جلس أمام المقود صامتا يتساءل: إلى متى تمتد صلاحية هذه الأغنيات؟} ص81.

ثم .. يكتشف "جمال" .فى روما، حين يفاجئ حبيبته، وجدتها لتجيبه، ماذا وجدت يا دُبى الحبيب؟

  • طفولتى.

تلك التى لم يشعر يوما أنه عاشها. حيث أعاده المطر إلى طفولته ، عندما كان يجرى فرحا بالمطر، وامه تجرى وراءه لتدفئه، مخافة أن يصيبه البرد {تلك اللقطة التى كانت فيها مفعمة بالشباب والحيوية، وظلت أيقونة للأمومة فى ذاكرته، رغم أنها عاشت حتى اكتهلت وذوت بفعل فشل كلوى برى عظامها حتى صارت  بحجم طفلة خفيفة هشة عند موتها} ص90.

على أنه لايمكن تجاهل حرفية الكاتب فى إسلوب الكتابة، وكيف يتعامل مع قارئه، الذى يسعى للوصول إلى الراحة المبتغاه، فنجده لم يلجأ للكثير من التفاصيل غير الضرورية، وإنما يعبرها مباشرة، حتى يستطيع القارئ استمرار تتبعه، خاصة إذا كانت البداية فى نهاية فصل، والبداية-أيضا فى الفصلا التالى. فنجد على سبيل المثال، فى محاولة لإخراج "جمال" من حالة الشعور الداخلى عنده، بتفاوت العمر بينها وبينه، تدعوه لرحلة إلى روما، وفى نهاية الفصل رقم 13 يكتب { "روما يجب أن تكون مجرد منطلق لمكان اصطياف"... ثم هتفت "ما لن تُصلحه كابرى... لن ينصلح أبدا} ص87.

ويبأ الفصل 14، دون أن يدخلنا فى عملية الإقناع أو الاستعدادات الواجبة، بل يبدأ الفصل مباشرة {فى مطار روما، استقبلهما السائق الذى أرسله الفندق. اتجها نحوه. عرفهما بنفسهه} ص89، متجاوزا كل التفاصيل التي لا تهم القارئ.

عندما أعتبر السودانى "الطيب صالح" فى روايته "موسم الهجرة إلى الشمال"، أن بطله "مصطفى"اعتلى البريطانية، فإنه بذاك قد انتقم من الإنجليزى المحتل لأرضه، فكان استخدام الفكرة المسيطرة على عقل ووجدان الإنسان العربى، وهى الذكورة، فإن عزت القمحاوى، قد سار فى عكس الاتجاه، ليكشف تلك العيوب المعطِلة للإنطلاق، المتمثلة فى المتعة الحقيقية للاستمتاع بالحياة. عبر رحلة روائية، تكشف عن كاتب له رؤيته الخاصة، ويقلق راحته، أن تظل بلاده رازحة تحت وطأة موروث، آن له أن يسعى لغربلته، كى يلحق بالحياة، قبل أن يجرفه الموت، نحو عالم، لازال فى علم الغيب، وعالم المجهول. وليأخذ بقارئه نحو العمل فى النور، أن يصبح ما يفكر فيه، هو ما يفعله، دون خوف، ودون مسكوت عنه، ليذهبا معا إلى عالم اللذة.

 

[1]  - الشيخ الدكتور شبر الفقيه – الأخلاق بين جدلية الدين والفلسفة عند صدر الدين الشيرازى.

[2]  - عزت القمحاوى – مدينة اللذة – الهيئة العامة لقصور الثقافة-  ط1  1997 .

[3]  - عزت القمحاوى- يكفى أننا معا – الدار المصرية اللبنانية -  ط1   2017.

[4] - سورة الحجرات الآية 13.

[5] -  سورة يس الآية 68.