مسرح هى الحياة، وأنواع هم البشر، فمن عرض على المسرح "روميو وجولييت"، ومن عرض "قيس وليلى". لكن الكاتبة المصرية ترى أن روميو وقيس كانا فى زمن مضى، ويمكن أن يوجد أمثالهما الآن. فقط إن وجدت المرأة التى تعيش الآن الرومانسية، تعشق الوردة، وتطرب للنغمات، وتتوه عن العالم المادى من حولها

عازفة المثلث

عـزّة بـدر

 

هل كان عليّ أن أنتظر أكثر من ربع قرن لأعـﺒﱢر عن حنيني لذلك المثلث؟، الآلة الإيقاعية الوحيدة التي كان مسموحا لى بأن أعزف عليها ثلاث نقرات بعصا معدنية خفيفة، عندما أتلقى إشارة خاطفة من يد مدرس الموسيقى قائد

فرقة العزف في حفلات المدرسة .

هل كان علىّ أن أنتظر أكثر من ربع قرن لأعـﺒﱢر عن أشواقي العارمة تجاه البيانو في ركنه البعيد في زاوية ما من حجرة الموسيقى، أتمسح به مثل قطة شريدة وأحلم بتحريك أصابعي على أصابعه البيضاء والسوداء ليندفع في الحجرة هذا النغم الساحر الذي ينقلني إلى عالم مسحور.

كنت أرقب زميلاتي العازفات على أصابعه وأخريات يعزفن على «الأكورديون»، و «الإكسلفون»، وحتى على «الكلارنيت» ولا أملك إلا دقاتي الثلاث على المثلث بعد أن اختار الجميع آلاتهم الموسيقية، وتمكنوا من العزف، ولم تتح لي فرصة التدريب، وإن كانت قد أتيحت لى فرصة المشاركة في الكورال المدرسي. ومع ذلك كان مدرس الموسيقى عاشقا لها، مخلصا في تدريسها، وإن لم يتوفر لديه الوقت لتدريبنا على الآلات، وآثر من يتقنون العزف عليها المشاركة في حفلات المدرسة لكنه كان يتيح لنا الفرصة للغناء، وأعجب لأنه اختار لنا موشحا أندلسيا جميلا، كان متعلقا به يبدأ به حصة الموسيقى، كانت عيناه تغيمان بدمع رائق وهو يغني: «يا غصن نقا مكللا بالذهب / أفديك من الردى بأمى وأبى / إن كنت أسأت في هواكم أدبى / فالعصمة لا تكون إلا لنبي»

وكان ذلك فاتنا أن تستمع لشاعر يعتذر لحبيبته، كان ذلك رائعا في وجدان فتيات صغيرات، تلميذات بشرائط حمراء، ومرايل تیل «نادية»، يسبحن في إحساس غامض بسحر الحب والموسيقى، وكان المدرس يتكئ أحيانا على أبيات أخرى من الموشح نفسه، وكأنه يذكرها "أيا من سألت عن الهوى كن عادل/ احذر أن تُبلى وخلّى عقلك عاقل/ واسمع مثلا من منتبه لا غافل/ الحب أذى والعشق سُم قاتل".

وكنت أرتجف بسبب هذه الأبيات، فهذا هو المدرس يصف الحب بالأذى وبالسم القاتل !، ومع ذلك كانت قلوبنا تخفق بالحب، وتحلم به، وكنا ننتظر عينيه الغائمتين، وهما تترقرقان بالدمع للغصن النقا، والآن بعد أن كبرنا، وأتيحت لنا الفرصة لسماع الموشح نفسه بصوت فيروز، وصباح فخرى، وفرقة الموسيقى العربية، بأصوات جماعية، أصبحت لنا وجهات نظر أخرى فى الحب، وفى الموشح نفسه، وفيما أغفله المدرس من سطور الموشح مما قاله الشاعر صاحب الموشح وهو أبو بكر زهر شاعر من أشبيلية بالأندلس، وهو يصوﱢر الحب والأحباب، ويحذﱢر من تعذيب العاشق فيقول : " تالله لقد سمعت في الأسحار / عن جارية تدق بالأوتار / تالله لقد سمعت من منطقها من عَذَّب عاشقا جُزى بالنار".

ومع الزمن دخلت بعض التعديلات على الأبيات التي حملت المعاني نفسها، فعندما تسمع فيروز وهي تغنيه فهي تشدو بهذه الأبيات كالتالي: "والله لقد سمعتُ في الأسفار/عن ساحرة تهيم بالأوتار/ والله لقد سمعت من مبسمها/ طيب الغَزَّل ورقة الأشعار". ولا أدرى من الشاعر الذى أجرى التعديل، وهل الأصل في كلمات الموشح أن من عَذَّب عاشقا جُزى بالنار؟، أم أن الساحرة الهائمة بالأوتار أسمعته طيب الغزَّل ورقة الأشعار"؟

لكن الارتباط كان وثيقا بين الأوتار ورقة الأشعار فطَّيب الله ثرى الشاعر أبى بكر بن زهر، وأثاب مدرس الموسيقي الذي عَرَفَنا على هذا الموشح في صبانا، لكن ظلت غيمات دمعه تؤرقنا، كنا نريد أن نعرف ما قصته مع الحب الذي حذرنا منه، وماذا لو عرض له في الطريق غصن نقا؟

اتفقنا على أن نختار أجملنا فاختلفنا فكل واحدة ترى أنها الأجمل ثم تفكرنا.. ماذا لو ظهرت له إحدانا ؟ ..

- لعرفها ! .. قلنا معا وضحكنا كان مُعذﱢبا أن نعرف طبيعة الغصن النقا الذي يمكن أن يلفت انتباهه، وتغيم له عيناه، فانصرفنا عن الفكرة، وقررنا مراقبته بدقة، وهل هو فعلا يرى أن الحب سُم زعاف ؟!

وبينما كنا نسير ذات يوم على كورنيش النيل وجدنا أستاذ الموسيقى وقد أمال رأسه على صدر الكَمَان، واتكأ بذقنه على سطحها مغمضا عينيه، وهو يعزف، وعصا الكَمَان ترتفع وتنخفض كخيط من حرير، وكانت بجواره حسناء تتأمله، وتستمع مليا إلى موسيقاه، وهو شبه نائم على نغماته، تَحَّول جسده كله إلى كَمَان، اختصر معانى الحياة في هذه الغفوة التي بدت كما لو كانت سِنة من نعاس أو حلما ناعما جميلا يخشى إن فتح عينيه أن يزول، هزته الحسناء بلطف فلم يستفق، رشت قليلا من عطرها حول أذنيها لعله ينتبه فلم يشعر بشئ، لوحت له بمنديلها الحرير فما فتح عينيه، فمضت غاضبة، وكان يواصل لحنه في غياب كامل عن الوجود فاخترنا من بيننا واحدة، هي أكثرنا دُلا، وأجملنا صوتا فغنت بصوت هامس: "أفديك من الردى بأمى وأبى" فوجدناه بين اليقظة والحلم، لم يفتح فمه، ولم يتكلم، فقط اهتز بدنه كله كأنه كما قالت زميلتنا "عيوشة " ملبوس، ضحكنا وكان على صاحبتنا أن تُزيد له العيار عيارين، فتنهدت لصمته، ومست يده، وكأن قد لدغه ثعبان فوجدناه ينتفض كديك، ويهتز من رجفة الغضب لكنه أيضا لم يفتح عينيه، اهتزت الكمان في يده، ورفع ذقنه عن صندوقها الخشبي، وهمست أهدابه لعينيه فتبصرت وأبصرتنا، كاد يعدو وراءنا بعصا الكَمَان المعدنية، وكنا نضحك من الأعماق، سادرين فى غِـﻴﱢنا، مضينا، هن إلى شارع جانبي، وأنا إلى الشارع الرئيسي، وهناك عند كوبرى قصر النيل، وعلى باب كازينو صغير كان يقف، كان يعزف ويعزف بينما يضع إلى جواره صحنا معدنيا يلقى إليه العابرون والداخلون إلى الكازينو ببعض النقود، وعندما حَدَّقتُ في ملابسه لأول مرة، وجدت البابيون الذي وضعه على ياقة البذلة كان ربع منديل محلاوی مربعات، عقده على عنقه مثل الفيونكة، وكان بنطلونه قصيرا " باندکور "، وحاول إخفاء ذلك بارتداء شراب غامق بلون البنطلون، وكان حريصا على وردة حمراء وضعها في عروة الجاكت الذي بدا متهدلا، وكأنه ليس له، وعلى باب الكازينو وجدناه مرتجفا، ينتظر، مبتهلا إلى المجهول، و أنفاسه تتهدج كلما طال الانتظار، ظللت في مكاني جامدة، وكأن بیدى لايزال ذلك المثلث، ومعى عصاتي الصغيرة فى يدي الأخرى، وخطر ببالى أن دقات المسرح ثلاث، وأن الدنيا مشاهد تترى، وأنني أقف الآن على خشبة المسرح، وأن علىّ أن أعزف دقاتى الثلاث، في هذه اللحظة بالذات اندفعت سيارة، مرقت بجواري كالسهم، ثم تمهل سائقها، وأنزلت امرأة زجاج نافذة السيارة من الداخل، نظرت إليه بغضب: "انت ثانی"، فقال لها :

- " تانی و تالت ورابع" !

تعجبتُ لموقفه، انحنى قليلا

- عودى لبيتنا، عودى للبيت، البنتان انفطرا من العياط، عودى لبيتك ، لبيتنا"

أشارت المرأة للسائق الذي نزل من السيارة مفتول الذراعين، بادره: "قالت لك اللي فيها، هَوﱢينا، أحسن ما أمد يدى عليك، وأروح فيك في داهية"

حانت منها نظرة عابرة، لمحت فيها الكَمَان فابتسمت هازئة، وضع ذقنه على صندوقها ومَسَّت يده عصاه الساحرة فتحركت أوتارها سحبة وراء سحبة كان قلبى يخفق، وسحابة وراء سحابة كان قلبي يُمطر، وكانت في عينى غيوم كُثر لاتريد أن تهمي، نظرتُ إلى المرأة فإذ بها تُعايره بفقره، وموهبته التى لا تؤكل أحدا العيش الحاف كما قالت، وهي تهز رأسها :

- موسيقى .. إبقى انفعيه يا موسيقى

كمنجة إبقى انفعيه يا كمنجة

كان لايزال منحنيا، وبدا صوته منكسرا وهو يغنى :

- "إن كنت أسأتُ في هواكم أدبى فالعصمة لا تكون إلا لنبي "

رفعت حاجبيها، وشمخت بأنفها وما فكرت أن تسأله عن بنتيها، مد يده إلى عروة الجاكت البالى، وأخرج الوردة الحمراء من مكمنها، مد يده بها إليها فإذ بها تردها بيدها بعيدا وهي تقول :

- " ورد أعمل إيه أنا بالورد ؟، لو كان الورد يجيب فايدة، كان كل اثنين زرعوا جنينة"!

تأملها، وكأنه يشعر نحوها بحنين غامض، بنتاهما يشبهانها بل قطعة منها، جميلتان مثلها، بدأت معه رحلة الزواج فدخل بها الدنيا، والآن لا تريد أن تعود، انكسر انكسارا مفاجئا مثل طائر سِمَّان طار آلاف الأميال بحثا عن الدفء، وأنهكه التعب، وأوشك أن يستسلم لأول قنص، فقد أمله في النجاة للحظة فوقع في الأسر طوال العمر، حانت منها نظرة إليه فحدَّق في عينيها، وكأنه يريد أن يُلقى بنفسه في بحيرة من الثلج، تنبهت إلى المثلث فى يدى، ويدى الأخرى ممسكة بالعصا، الدنيا كلها ثلاث دقات مسرحية، وعلىَّ أن أسهم في صنع المشهد، كاد أن يتبع سيارتها، ولعله مائة مرة فعل ذلك، فوقفت أمامه، وقد خفق قلبى، بيدى المثلث، أُوﻘﱢـع بالعصا دقاتى الثلاث، انتبه، وإذا بمسرح كبير يمتد أمامنا وكانت هناك خشبة وقفت عليها، وأنا أسمعه صوت دقاتى الثلاث، استوقفته معزوفتی البسيطة المختصرة، اعتدل، وذابت انحناءاته تماما، ووجدته يمد يده إلى عروة الجاكت، ينتزع الوردة من مكانها انتزاعا، ويقدمها لى بينما كانت يدى تعيد الدقات مرة واثنتين وثلاثا، سرنا معا، وكان يسألني دقاتى الثلاث فأعزفها من جديد، وطال الطريق بنا، وكانت مسارح من حولنا تُفتح، وخشبات يقف عليها آخرون، وستائر قطيفة حمراء تُرفع، وأدوار أكثر رحابة متاحة أمامنا، ومصائر تتغير، ونحن نكتشف لحنا جديدا لنغمات المثلث.