وفي هذه القصة القصيرة، يصور لنا القاص في مكان واحد ضيق مكانة الآنية، وما تجلبه من أموال، لكن الغاطس الأعمق جدا في القصة، هو الصراع الوحشي بين الانسان والانسان، صراع وحشي تارة، وصراع ناعم تارة أخرى، لكننا لا نعلم من المنتصر!!!

الآنيــــة

عـلي مـوسى

 

أجبته بابتسامة منهكة، كورقة غمست بالزيت لا تقبل التدوين، وتناثرت أفكاري فوضويا، تُبعثرُ بها جغرافية المكان، ويركلها رقاص الزمن، وتشظيت في فراغاتي التي تآكلت شواطئها من اهتزازات القدر، وارتدادات الصمت، دون انتباه لنفسي، كيف أستطيع أن ألملم مكوناتي؟ أن أردت احتواءها أو ترميمها، لأرجع بكامل أفكاري، فوق أمواج تسكعي في مياه غربتي، التي خاصمها العقل، وأقدر أن أنطلق من هنا برؤى ناضجة، وأرفع يدي معارضا الأوهام التي مازالت تعبث بي، لكن انشطاراتي لم تتجمع، واندماجاتي لم تتعشق في خارطة واضحة الحدود والاتجاهات. فنفضت أصابعي، كمن أعياه الملل، وحركت رأسي كمن يرمي القلم على ورقة امتحان دون جدوى، أو كفلاح يكسر منجله خائبا فوق أجنحة الجراد.

نهض صديقي منزعجا مني، كخيبة بائع من جيوب فارغة، وصرخ بوجهي، كأم أثكلها النهر:

ـ أريد أن أهرب من أفكارك، التي صارت تحاصرني، وتخنقني، قبل أن أنفجر عليك، وألحق الضرر بالجالسين.

أمواج أفكاري كانت تبعد يديه عني، وتمزق كلماته المتوعكة، فتتساقط من فوق لسانه، كهذيان أخرس، لتزيدني علامات تعجب واستفهام فوق ما أحمل، لأصرخ به:

ـ دعني من كلامك هذا، فصفير جيبي يمنعني من الانتباه لضجيجك.

أغمضت عيني لحظات... لحظات لكنها عبئت بأثقال، أمالت رأسي على يدي، لعلّ قسما منها يتسرب إلى الكرسي الذي أجلس عليه، والذي هو أشد بؤسا مني. ثم أكملت بعد أن حركني هذا الإيعاز، ويدي تشير الى أسفل:

ـ ضع ورقة نقدية في هذه الآنية، ثمن الشاي...

آنية صغيرة من المعدن، اشتريتها لشرب الماء، فالأقداح الزجاجية الأربعة التي في بيتي، جميعها تكسرت، ولا طاقة لي أن أشتري مثلها.

لقد أثقل أجفاني نعاس صار يجثم فوقها، كثقل الليل على غريب أعياه السهر، وأنهكته المسافات، وغلّقت الأبواب بنهاياتها، لكن انسكبت من جانبيها رزمة رؤى، انفتحت أحزمتها، تسللت من سمّ خياط، فصراع الأيام وتقاطعها فوق رأسي، لم يترك للأحلام إلاّ هذه المساحة أكسبني تفكيرا، حاولت أن أغمسه بسكر الأمل، لكنه كان يتعكر داخل جيبي. والأشياء كلّها تصفو بصفاء الفضاء، لكنها تتعكر بصفاء الجيوب الفارغة، لتتراكب أطرافه على دواخله، كما تتكسر سفينة قديمة عندما يغضب البحر، وقد مجّ بما تشبع به جسمي، من ركام أيام خلت، لانغرس كسولا في باطن الكرسي الهزيل، ولم أنتبه لصرصرة أضلاعه المترهلة، أو لدويّ الأقدام الصدئة، أو صراع الفراغات، التي ترفعها أيادي الجالسين، لتتعبأ بحشود الدخان المملوء برئات المدخنين، بل حتى ببطونهم، فذهبت برهة عن حديث المقهى وزبائنه. انقطعت كليا، لأترك أجزائي تتساقط عليها نفايات الدخان، وما تحمل من صرخات ساخنة، ولكن ما أن انفتحت عيناي، إلاّ ورأيت أربعة أوراق نقدية...

ـ أربعة أوراق نقدية؟؟!!

ـ هل في جيب صاحبي هذا الرقم ورماها دون دراية؟ أنا متأكد، أنه لو تذكر هذا، لعاد مهرولا.

مازِلتُ في حيرة، والعجب من مصدرها يملؤني...

ـ نعم تذكرت، أن الإناء ما كان يحتوي إلاّ الورقة اليتيمة، التي وضعها صاحبي.

لم ينته تساؤلي، إلاّ ويد تسقط ورقة أخرى... فثانية، وثالثة... ورابعة، حتى كاد الإناء يمتلئ.

لم تكن لي الجرأة أن أبحث عن السبب رغم إني كنت قبل قليل أعلق الأشياء بأسبابها، لأهرب من إتكالي على حملها، فالنقود التي وضعت أمامي أدهشتني، وامتصت ماء خجلي، الذي كان يتصبب من فراغ جيبي، وأنا موظف بسيط أتمنى أن يستقر مثلها قليلا في جيبي، قبل أن تغزوها جيوش الدائنين.

أفرغت ما في الإناء لأعده، وكأن رشدي قد ضاع مني، بل أصابني خدر لذيذ لم أعرفه، قد مرّ عليّ سابقا، بصري، وإحساسي، وتفكيري، جذبه هذا المال الذي وضع أمامي، والمسافات بيني وبين الآخرين قد تمددت، وجيبي وان مازال فارغا قد تراخت خيوطه وانتفخت ثناياه، بل ارتقى ليضرب على أنفي، ويرفعه قليلا، وقد ضاعت مني الاحتمالات التي تعطيني الإجابة، حول سبب المال وغايته، ولم أنتبه من عَدِّهِ، حتى امتلأت الآنية نصفها...

كنت خائفا، وكأنني قد سرقته، وأنا أتلفت وأمد يدي لأتحسسه، وإذا بضربة يد رجل على متني. لم أستطع أن أترجمها الى لغتها الحقيقية، لأقرأها بعبارتها التي كتبت بها، فما كان عليّ إلاّ أن أنتبه إليه، رأيته بهندام مهمل، وشكل مدمج بأوساخ من الممكن أن تزال ببساطة. ارتجفت كفارس يكبو جواده، في مسافاته الأخيرة، وأنا مازلت لم أدفع المال إلى جيبي، قمت واحتمالات التوجس قد غزاها الهذيان داخل جيبي، وحمى الدائنين عادت تهرس ظهري. لكن يدي نزلت، لا تريد أن تعطي المال، هوت خائفة بحرقة وارتباك، فجاءت ضربتها قوية على الطاولة، التي تحمل الإناء وما نزل فيه. فتوقع بأنني تجاهلته، أو إنني أعظم قوة منه. من المعتقد أنه تسلم هذه الرسالة بهذه اللغة فإنها تكون نافعة مع أناس كثيرين. لكن أي أيادٍ ناضجة تجيد هذا الفن، وهذه السياسة، فعرج بتحريك متني بهدوء، كمن تجرأ ليدغدغ متن سيده. وقال لي:

ـ  كم بيدك؟

أجبته، وأنا مازلت متعلقا، ومتسائلا عن هذه المبالغ التي تراكمت أمامي. وقد تساقط عقلي كله ليتجمد فوقها، ويتخلى عن طاقات تفكيره الكامنة:

ـ بقدر نصف مرتبي..

فقال: إذن أنت موظف؟

لم أكن أتصور أن هذا المال حقيقة أمامي، أو أصدق أنه صار ملكي. فالذي يتراءى في عيني: أنه نسج من الخيال، ورد فعل على أنين جيبي وجيب صاحبي، لكن إجابتي كانت تنزل مسترسلة، بعد أن ضاعت مقدمات الرجل في تلك الشجاعة، التي حسبها عندي، وأنا لم أعترض على معنى السؤال، وشخصية السائل. رغم انسيابية الخوف الذي يهرس برجلي، ويصعد في عروقي.

قلت: نعم.

فقال: سأضاعف لك هذا المبلغ.. وتذهب من هنا..  

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قاص وروائي من سوق الشيوخ، الناصرية، يعمل حاليا مشرف اختصاصي في المديرية العامة للتربية في محافظة ذي قار، تخصص كيمياء.

صدرت له: من الروايات (أربع ساعات ، البيان الأخير  ، شاطئ الحداد ، مشهد من الجنّة ، ثلاث نسخ)

له رواية ومجموعة قصصية مخطوطة

كتبت عنه دراسة ماجستير من جامعة ذي قار بعنوان (سيمياء المكان في روايات علي موسى)