بعد الطواف طويلا في المدن والقصبات والنواحي حط به الرحال أخيرا عند أحد الازقة القديمة التي تستند فيها البيوت الواحد على الاخر بشيء من الحميمية، وقد شّيدت ابانْ الحرب الضروس بين العراق وإيران لشريحة من المكاريد.
كان هو أحد ضحاياها التي حّولت النفوس الى حجر من الصوان، لتغدو روحهم وروحه شديدة القسوة، جافة، زحف عليها التصحر وغابت عنها الخضرة، وحين رفع راسه للسماء رآها رمادية اللون ملبدة بغيوم ليس فيها مطر تنتظر مزنة تبلل وجوهها المتشققة التي تتلقى صفعات من ريح صفراء بثت في الفضاء سم أفعى تلتف بعنف على فريستها، بات الجسد النحيل الذي يطل من نافذة غرفته في الطابق الثاني ذابلاً، ينتظر زقزقة عصفور أو تغريدة بلبل بنى عشه عند شجرة الزيتون الوحيدة في مدخل بيته، ولم يعد يسمع صوت شجارهم أو خفق اجنحتهم .
إزاء كل ذلك، اتخذ قرارا صارما منذ اليوم الأول لإقامته في هذا الطرف الشعبي، الذي يفرش البؤس جناحه على كل جدران بيوته، في عدم نسج أية علاقة تعارف أو تقارب مع الجيران في الجهات الأربعة.
كان يضع لنفسه حدودا للتعامل، وان تكون بينه والاخرين مسافة لا يسمح بتجاوزها، ألغي من قاموسه عبارة (الجار قبل الدار) واستبدلها (يا جار انت بدارك وانا في داري) تلك سياسة اشترط على عائلته الالتزام بها!
مع ذلك يجد نفسه في أحيان معينة محصورا في خانة ضيقه لا مجال فيها للاختيار، في ذات الوقت يرى الامر ليس بهذه الدرجة من التعقيد فمن السهل رفع يده اليمنى للسلام عند ملاقاة أحدهم عند مفترق الطريق أو قرب البقال أو عند فرن الفران، يبادلهم التحية كواجب أخلاقي دون الدخول في سؤال او حوار قد يتطور الى مديات ابعد هو في غنى منه، حتى تناهى لسمعه أكثر من مرة من يقول عنه:
- (حيل شائف نفسه) أو (شائل خشمه)
1. الجهة الأولى- المنتفض
وجدته اللجنة الطبية العليا غير صالح للخدمة العسكرية لأسباب نفسية حادة فوجب احالته على المعاش على الرغم من صغر سنه وهو برتبة رئيس عرفاء صنف المشاة. عانى طوال خدمته في الجبهة من اضطرابات عقلية تدفعه في كثير من الأحيان الى أفعال متهورة، كالسير فوق الساتر الترابي، أو على حافته، رافضا كل المناشدات عن النزول، يبقى غير مبالٍ من استهدافه ربما من قناص متربص، او هدفا لنيران مدافع الهاون لتنهي حياته.
لكن الأكثر غضاضة تلك اللحظة التي فتح فيها نار بندقيته على رفاقه في الموضع لحظة اعلان خبر وقف التمتع بالإجازة الدورية على شمول الوحدة بأمر الانذار ج! كان تصرفا جنونيا أهوجا تطلب ارساله فورا الى مستشفى الامراض العقلية.
كل صباح، يراه وهو في طريقه إلى مقر عمله مرتديا سرولا عسكريا فوقها كنزة من الصوف ينظف الزقاق بمكنسة من جريد النخل مثيرا الغبار، يحاول تجنبه وحاثا الخطى قدر المستطاع.
في العام 1991م وتحديدا مطلع شهر اذار فوجئ بوجهه المنفعل حين تأخر عن فتح الباب بعد طرقها بعنف من دون اية مقدمات:
قال له – أستاذ الم تشارك معنا في دعم الانتفاضة؟
- إنها فخ!
لم يعجبه الرد.
نظر اليه والحيرة تملء كل حواسه، ترى هل هذا هو المجنون؟
بعد عشرة أيام دخلت للمدينة قوات الحرس الجمهوري لتقمع بكل ما اوتيت من قوة وبطش مستخدمة مختلف أنواع الأسلحة لبسط سيطرتها على المدينة التي سقطت بيد الثوار رافقت ذلك شن حملة اعتقالات واسعة حيث شوهد في الزقاق وجود ثلاث سيارات نوع لاندكروز مظللة النوافذ ترجل منها ثلة من الملثمين سحلوا المنتفض بعد ان وضع راسه في كيس تراب.
بعد عدة أيام من اعتقاله سال الجيران زوجته عن حاله؟
قالت - انه معتقل في سجن الرضوانية ويواجه عقوبة الموت بتهمة المشاركة في اقتحام مبنى المحافظة وإعلان رغبته بان يكون المحافظ.
2. الجهة الثانية – رجل أمن
كان طويلا ونحيفا تبرز من أعلى كتفه حدبه ليست كبيرة كالتي نراها عند أحدب نوتردام، كانت سببا لتسريحه من الخدمة العسكرية المسلحة إضافة الى تسطح قدميه التي يطلق عليها بالإنكليزية (فلات فوت) وجب نقل خدماته الى موظف في مديرية امن البلدة بصفة كاتب طابعة؛ لأنه (سلاح سز) هكذا يقال لغير المسلح بالتركية، الأمر الذي يسمح له بعمل إضافي بعد الدوام الرسمي في محل صغير قبالة مبنى البلدية لبيع القرطاسية والاستنساخ.
كان الوحيد في الزقاق الذي يمتلك سيارة خصوصي نوع لادا، فكم من مرة حاول دعوة ايصاله، يأتيه الرد دائما:
- شكرا جزيلا، أفضل المشي!
في اليوم الأول لانتفاضة اذار، كان الرجل اول الفاتحين مع اللصوص الذين كسروا أبواب المخازن التي تقع قرب مقبرة وادي السلام بسيارته التي رفع مقاعدها الخلفية لتستوعب أكبر قدر من المواد الثمينة، وحده يعرف قيمة الحبر الخاص بأجهزة الطباعة والورق بأنواعه، الارت، والاسمر، وورق الخرائط، حملها بخفة المحترف إلى الباحة الخلفية وأغلق باب داره الذي لم يغادره حتى يوم دخول الجيش الى الزقاق، خرج معهم ببدلته الزيتوني يتبختر وهو يمشي بينهم، يقدم لهم معلومات شافية عن كل بيت!
هو الوحيد الذي لم يقل عنه شيء!
وبعد استتاب الوضع استحق الاحدب الترقية وذهب في اول دفعة. مع زوجته للعمرة.
3. الجهة الثالثة - مجند
كان على يمينه، يعمل مدرسا، للتاريخ سيق للخدمة العسكرية، برتبة ضابط مجند خلال الحرب له صفة حزبية رفيعة يعتمد عليه في الملمات، وله صولات وجولات في مطاردة الشباب الذين لا يرغبون في الذهاب الى الجبهة هم يطلقون عليهم بالعامية (الفرارية) الهاربين من الخدمة العسكرية عرف في الزقاق انه بنى داره من دون ان يدفع فلسا واحدا عبر استغلال الجنود بـ (السخرة).
تسرح من الخدمة قبل انتهاء الحرب بسبب اصابته بجلطة دماغية ادخلته العناية المركزة في المستشفى الجمهوري وعند اندلاع الانتفاضة كان اسمه في قائمة الحزبيين الذين ينفذ بحقهم حكم الإعدام.
ترك لأنه كان ميتا سريريا.
4. الجهة الرابعة - المكرود
كان شخصا فكها يسمونه محبوبا من الجميع، أحيل على المعاش عند بلوغه السن القانونية كان برتبة نائب ضابط طباخ، يشاركه البيت أربعة اخوة مع زوجاتهم، وجيش من الصبية إذ لا يخلو يوم من الشجار للحد الذي يصل الصدام فيما بينهم بالسلاح الأبيض.
كان يراه يدخل مستشفى النسائية والتوليد اول كل شهر يلتقي أحد العاملين في وحدة العقم التي توزع فيها حصة حبوب مانع الحمل التي يحذر من تداولها في الصيدليات الخاصة قد وجد فيها مجالا للكسب حيث يتبنى جلب الحصة لزوجته وزوجات اخوته بالنيابة عنهم ليستل شريطا من كل علبة يبيعها في السوق السوداء تمنحه مبالغا ماليا يضاف لراتبه التقاعدي.
في أول أيام الانتفاضة سقطت مراكز الشرطة والمقرات الحزبية بيد المنتفضين واستولوا على السلاح لتشتعل السماء بالرصاص. طلب من ابناءه عدم مغادرة البيت، لكنهم اعتلوا سطح الدار لتصطاد طلقة طائشة رقبة أحد ابناءه دون ان يدرك اسعافه فقد لفظ أنفاسه الأخيرة وسط بركة من الدم.
كربلاء
4 كانون ثان 2024
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاص وصحفي
عضو اتحاد الادباء والكتاب العراقيين، عضو النقابة الوطنية للصحفيين العراقيين، صدرت ـله اربعة مجاميع قصصية وراويتين قصيرتين. وله في المقالات (في ذاكرتي، نادي الكتاب في كتاب)
ـ أعد كتاب (مقالات الدكتور هاشم الطعان، منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب، 2023)
وله أيضا ثلاثة كتب عن التعليم الطبي المستمر.
حاصل على شهادة البكللوريوس في الاحياء المجهرية / جامعة البصرة عام ١٩٧٨ م
وشهادة استحقاق في علوم المختبرات / ١٩٨٩ م بغداد معهد باستور .
عمل مديرا للمختبرات الطبية لغاية العام ٢٠٠٨ م ثم مديرا لبرنامج الايزو العالمي لغاية ٢٠١٦ م سنة تقاعده.