عندما تتحول الأحلام إلى كوابيس، والحدائق إلى صحراء، والفضاء إلى سجن مسور بعيدان الحديد. تنقبض النفس، ويتوه الإنسان، فلا يعود يدرى الماضى من المستقبل، ويصير الحاضر ضباب يحجب الرؤيا. وهكذا يعبر القاص والروائى عن تحول الحلم إلى كابوس يعيشه الإنسان بعد حلم الخامس والعشرين من يناير، فى قصته:

قصر يحيطه الفراغ

حاتم رضوان

 

شباك صغير مسلح بقضبان حديدية لا يوجد غيره، أعلى الجدار الخلفي  لصندوق سيارة نصف نقل، تتشبث به يدان، يتفادى صاحبها السقوط، إثر اهتزازات قوية ومباغتة، تلتقط منه العينان الطريق المسفلت المعلق على حافة الجبل، تُهدئ السيارة من سرعتها، لتتبع انحناءاته الحادة، صاعدة لا يدري إلى أي نقطة فيه، يقف وحيدًا ومعزولًا تمامًا عمن يقودها في الأمام، لا يراهم، فقط  تصله همهماتهم، تتردد بلغة غريبة، يحار في تفسير مفرداتها أو فهم معانيها، يتساءل، كيف أتى إلى داخل هذا السجن المتحرك؟ ومن ألقى به في قاعها فاقدًا للوعي؟ مثل فأر في مصيدة، يبحث عن مخرج، ليجد نفسه تائهًا، تسلمه المتاهات إلى بعضها، يصيبه الدوار، يهوى مكانه كتلة واحدة، يحلق عاليًا، عَبَرَ عوالم وأنهارًا وبحارًا ومحيطات، كان يتنقل فيها بين الأحلام، تكِر أمامه الصور متباينة وعشوائية، أحداث غير مترابطة، تتداخل فيها الأزمان والأماكن، آخر ما وعاه ليس متأكدًا إن كان هو أم شخص آخر يشبهه، حقيقة أم خيالات توهمها، كان محشورًا وسط حشد غفير من رجال ونساء وبعض الأطفال، لا يرى على مد البصر غير الرؤوس، تتحرك في موجات هادرة، يستعيد دوي أصواتهم، تزلزل الأرض تحت قدميه، هل كان في ميدان فسيح أم شارع جانبي؟ تحيطه من الجانبين مباني عتيقة. أمطرت السماء، ولفحتهم تيارات هواء بارد، زاد التصاقهم، يستمدون الدفء من بعضهم. من هم؟ وأين كان؟ وأي عبارات كانوا يهتفون بها؟ وأي مطالب أرادوا تحقيقها؟ كانوا يتدافعون ويجرفونه في طريقهم. يتقدمون أم يهربون؟ يسبح معهم في سحابات من الدخان الأبيض، نافذ الرائحة، ويسدون أنوفهم بقطع من القماش المبلل. هل سقط مع من سقط مغشيًا عليه تحت الأقدام؟ كان نائمًا فوق سرير أبيض في مستشفى حكومي فقير في عنبر كبير تسكنه آهات وأنات، وأجساد غربلتها الشظايا، يفوح هواءه برائحة دماء، وقيء، وبول، ومطهرات رخيصة، واثناء ما اعتقد أنه حلم رأى نفسه يرتدي شورت وتي شيرت وحذاء رياضي، ويمسك بمضرب تنس، يلعب مع ابنه الصغير، ينهزم أمامه ويضحكان، يضحكان عاليًا، حتى دمعت أعينهما، بينما كانا يجلسان متجاورين على كرسيين من القطيفة، تتردد الضحكات في أرجاء المسرح الكبير على حركات ممثل كوميدي، يعشقه ابنه، ويراه هو فاشلًا. تحسس رأسه، شيء ما يؤلمه، يطبق عليه، أظلمت الدنيا، وغاب، وعندما فتَّحَ جفنيه الثقلين بصعوبة، وجد نفسه وحيدًا ومحاطًا بجدران حديدية، يهتز مع صوت هدير محرك السيارة ورجرجتها، جاهد محاولًا الوقوف، والتشبث بقضبان الشباك، واستكشاف العالم بالخارج، طالعه طريق ملتوي يتراجع للخلف، وجبل مكسو بخضرة كثيفة، لم يعهدها في الجبال التي ارتادها أثناء رحلاته، كانت القمة مختبئة وسط السحاب، وبدا له أن الطريق غير مأهول، هجرته السيارات والأقدام، سعل بصوت عالٍ، كلم نفسه، ثم أطلق نداءات استغاثة، لعل أحدًا يسمعه، جاوبه الصمت، صرخ لم يتعدَ صوته المكتوم حدود ما حوله، دق الجدار الفاصل بينه وبين كابينة القيادة آلمته قبضة يده، ولم يتلقَ أي رد. تسلل إليه ضوء شفقي من الشباك الضيق، أخذ يذبل ويتلاشى شيئًا فشيئا، معلنًا قدوم الليل، وانعدام الرؤية، وتراكم طبقات السكون والترقب، فشل في تحديد الزمن الذي مرَّ، وتخمين ما تبقى لكي تصل السيارة إلى ما يجهله، نهشته الخيالات والوساوس، ونشب الخوف أنيابه في روحه المعذبة، كان يتوقع لحظة تنزلق فيها العجلات من حافة الجبل، ليهوي مع السيارة ومن بداخلها إلى مصير محتوم، كانت السيارة تتقدم ببطء وكأن قوة ما تشدها لأسفل، تعيق حركتها، وترفض صعودها. يجلس في ركن من هذا الصندوق المظلم، تتقافزه أفكار مرعبة ومجنونة، يغمض عينيه عليها، يغلبه النعاس، ليفيق مرة أخرى على أزيز الباب الحديدي المغلق للصندوق الخلفي، يكتشف أن يديه وقدميه مكبلتان بسلاسل غير مرئية، فقط يشعر بثقلها، تشده بقوة نحو الأرض، تكبل حريته، وتعيق حركته. تُمتد إليه أيدي لأشخاص مقنعين تدفعه ليمضي أمامهم، يستجيب لها، ويسير معهم يجرجر قدميه دون مقاومة أو اعتراض.

قصر كبير فوق قمة الجبل، يحيطه الفراغ، وكأنه بُني علي حافة الدنيا، على بابه ينتصب رجال فارعي الطول ومدرعون، أصابعهم لا تفارق زناد بنادقهم الآلية، افسحوا له ولمرافقيه طريق الدخول، البهو الواسع يتكدس ببشر من مختلف الأعمار والألوان رجالًا ونساء تعلو وجههم صفرة غريبة، لو كانت أمامه مرآة الآن لرأى شحوب واصفرار وجهه هو الآخر، الكل صامت، فقط  نظرات عيون متبادلة، مندهشة ومتسائلة، لو أغمض عينيه لحسب أنه بمفرده في هذا العالم، ما المصير الذي ينتظرهم أو ينتظرونه؟ تعبوا من التفكير، وتعبوا من الوقوف ومن الجلوس، ومن الرقود، من اول يوم دخلوا فيه إلى القصر، لم يعرفوا للنوم طعمًا، لم تغفل جفونهم، وخاصمتهم الأحلام، لا يملكون ما يفعلونه، تسليتهم الوحيدة مراقبة الأبواب المغلقة من حولهم، فقدوا إيقاع الزمن وإحساسهم بمروره، تجمد عند لحظة صفق بوابة القصر خلفهم، وتوديعهم لعالمهم الذي خلَّفوه بعيدًا في الخارج، يطول انتظارهم وترقبهم إلى حين، يُفتح أحد أبواب البهو فجأة، وتمتد يد لتخطف أحدهم، دون معيار أو ترتيب يعرفونه، إن كان عشوائيًا أم وراءه سبب وحكمة ما، ينتظرون من فيهم سوف يصيبه الدور، ويقع عليه الاختيار، من يتركهم ويبتلعه أي باب لا يعود إليهم مرة أخرى، هل هناك طريق آخر للخروج؟ يتساءلون ويتعجبون، لم يتناولوا أي طعام أو شراب منذ  جاءوا إلى هنا، أنساهم الخوف قرصات الجوع  وآلام العطش.

ألقت به الأيدي وسطهم، تركوه واختفوا، تخيلهم، ينحدرون مع الجبل عائدين لينفذوا مهمة جديدة، صدرت إليهم تعليمات بها. هل مكث يومًا أم عامًا أم أكثر حين امتدت يد وجذبته بقوة من أحد هذه الأبواب الذي فُتح وأُغلق في لمح البصر مثل عين كاميرا أثناء التقاط صورة، صدمت عينيه الأضواء المبهرة المسلطة إليها من كشافات عملاقة، توهجت ثم انطفأت فجأة. حل ظلام مميت، أم أصابه العمى؟ حرك يده، تتحسس أجزاء جسده، رأسه، عضلات ساقيه المتقلصة، برودة قدميه، شعر أنه يقبض على هلام، لبث زمنًا غير معلوم، حتى ومضت أمامه بطول الحائط وعرضه شاشة عملاقة، شاهد عليها شخصًا كأنه هو، يتحرك في فضاء مجسم، كل ما فيه حقيقي، يستطيع لمسه وتحسسه، يعرض عليه كل ما جاهد أن يخفيه عمن حوله، حتى أقرب الناس إليه، أسراره، وأفكاره التي كانت تدور برأسه، وكل ما كانت توسوس به نفسه، كيف تثنى لهم الوصول إليها وتسجيلها على هذا الشريط المعروض عليه، إن كانوا يراقبونه ويصورونه بكاميراتهم الخفية، فكيف لهم رصد ما أغلق عليه صدره من نوايا، تلك الفتاة التي عبرت أمامه يوما، حدقت فيه بجرأة عيناها الواسعتان، ومضت، لتترك صورتها، تملأ خيالاته، كانت على هيئتها التي كان يستدعيها في أحلامه، ويطفئ فيها فوراته، تلك الفتاة التي عاش معها قصة حب مجنونة، لم يخبر بها أحدًا، يوم احتضنها لأول مرة في بئر السلم المظلم وغرق معها في أول قبلة تذوقها في حياته، لم تفارق حلاوتها شفتيه، يستشعرها وكأنها حدثت للتو، هذا الطالب يجلس في لجنة الامتحان يُخرج شرائط طولية من الأوراق، خط عليها إجابات الأسئلة المتوقعة، يدون منها في ورقة الإجابة، طفل صغير خبأ ممحاة برائحة الفراولة التي يحبها، وأخذ يبحث عنها مع زميله الذي فقدها، ويشاركه الجلوس على الدكة نفسها في الفصل، علا بكاء زميله على ضياعها خوفًا من أمه وعقابها له على إهماله، رجل تبدو عليه كل مظاهر التقوى والورع يمسك بمسبحة طويلة، تدور حباتها بين أصابعه، يرتدي بذلة أنيقة ورابطة عنق حريرية، يجلس في ركن منزوٍ وبعيد في كافتيريا بوسط البلد، يلتفت نحو الباب بتوتر بين لحظة وأخرى، يتنظر شخصًا ما، يشير إليه من مكانه، يقابله بابتسامة مقتضبة، يجلس أمامه، يناوله ظرفًا مغلقًا، يفتحه ويتأكد من شيء ما  داخله، يُوقّع له على أوراق، يدسها الرجل في جيبه ويمضي،  تستعيد الشاشة مواقف ومشاهد عبرت به لا يعلمها غير أصحابها، حتى وساوس النفس وكل ما كان يخطر بباله، نظراته المختلسة للعابرات - والتي كان يسرقها رغم وجود زوجته إلى جواره – مرصودة، يرى نفسه مكشوفًا وعاريًا، لم يواجها من قبل، دائمًا ما كان يلتمس لها الأعذار.

انقطعت الصورة على الشاشة بينما كان يسير في ميدان التحرير الممتلئ عن آخره بجموع الشعب، يلتقطون لبعضهم الصور، أراد أن يوثق لنفسه دورًا في الثورة، بينما يلتصق بامرأة أمامه، يتحسس تفاصيل جسدها، ويختبر ليونته، ومدى تجاوبها مع أصابع يده، لفه السواد، وتحسس رأسه، ثم غاب عن الوعي، أظلمت الغرفة من جديد، وسقط منهكًا، كمن أنهي سباقًا لتسلق هذا الجبل حتى قمته، هل هو إنسان سيء بحق، كيف وكل من حوله يُجمعون على حبه، يتغنون بأخلاقه النبيلة ورقيه في التعامل، وعطفه وحنوه، كيف يرى صورته الآن عكس ما يرون، وصوليًا ومنافقًا وسارقًا ومرتشٍ ومتحرشًا، وربما كان قاتلًا في زمن ما، وفجأة أدركت عيناه ضياء حل من كل اتجاه، كان ممدًا على الأرض في غرفة فسيحة جدرانها الزجاجية، تشف عن فراغ لا نهائي، يلحظ شباكًا في جدارها المقابل، يقفز نحوه، يبحث عن مخرج للنجاة، يفتحه، ينظر أسفله، اختفى الجبل والطريق، ولم يرَ غير ضباب كثيف، بلا قاع، ويدٌ تختطفه خارج الشباك، تقبض عليه بقوة ثم تفلته، وتتركه للفراغ.