عندما تقترب القصة القصيرة، من الشعر، فى تكثيفها، وفى منبعها، تتحول إلى قصيدة شعر، يبث فيها الشاعر/ القاص أحاسيسه ولواعج نفسه. وكم هى اللحظات التى يشعر فيها الشاعر/ القاص بأنه ذرة رمل فى بحر من الرمال، أو نملة فى محيط الحياة الضاجة، والصاخبة، فتخرج أناته، ويخرج إحساسه الذى يصل حد الغموض- أحيانا.

قوس

ابتهال الشايب

 

"خذ هذه الحقنة واغرزها في ذراعك، نصفها معبأ بمائي الأزرق وبدرجاته المختلفة، والنصف الآخر منها معبأ بهوائي ورائحتي التي ستأتي دومًا مع كل موجة ستلامسك".. هكذا قال البحر .

كانت أول مرة أراه، كنت بمفردي، اقترب من الشاطئ ببطء وبمجرد أن شاهدته، أفرغت الحقنة بداخل جسدي، تحديداً حين تنزاح أول موجه أمامي، وبعدما تصطدم بملمس قدمي المدفونة في رمال الشاطئ بجمود، في البداية شعرت بشيء رقيق ينبعث داخلي، ارتجفت، عدة ثوان وتوقف كل شيء من حولي، أترك تفاصيل كل المكان الذي فيه ولا أرى في المشهد أمامي سوي خط الأفق الدائري الذي يحيط بنهاية البحر، أول مرة أشاهد خطا مثله، شيء ما، فني، دقيق، مرسوم في رقة، تحدّبه طبيعي دون أية خدوش أو اعوجاج; ليس هناك فراغ يفصل البحر عن السماء، ربما البحر صعد إلى أعلى كي يلتصق بها، أو ربما السماء أرادت أن تندمج في الأزرق الذي يقع أسفل منها، وجهت نظري في منتصفه، تحديدا في النقطة التي تقع في مواجهتي، هذا هو مكان اختفائي، حواف الحاجز دائرية من يقف عليها يتبدد ويختفي أيضا.

تهتز يداي دون أن أشعر.. أرتبك، تزداد ضربات قلبي، في البداية أشعر وكأني أقف علي حافة خط الأفق الدائري، في نفس المكان المحدد، بدأت في الاختفاء، يقل فجأة تدفق الأوكسجين والجلوكوز إلى أعصابي فأسقط دون أن أدرى.

توقظني من السقوط موجة غير مكتملة، تصطدم بوجهي فأفتح عيني، البحر يحيطني من كل أتجاه، المياه تجذبني دون إرادة الي التوغل داخل البحر والاقتراب من الأفق، أصارع الأمواج والبحر الذي يحاول في نفس الوقت أن يجذبني إلى أسفل بقوة، يضغطني بشدة، أدفعه بقدمي ويدي، وترفض رأسي تكومات الأمواج فأكتشف أن ليس لدي أطراف أو رأس ولا أفعل سوي أنني أقترب أكثر من خط الأفق لأن هيئتي أضحت جزءا مائيا من البحر، أدور مع كل موجة تمر بداخلي، أحارب بقية الكتل المائية التي تدور حولي وتلعب علي موسيقي تيارات الهواء، أستسلم كأني أذوب بداخله.

أشعر فجأة بطرطشة رمال تلامسني، وبعض الأمواج تصطدم بوجهي غير الموجود، بالتأكيد تحولت إلى موجة اقتحمت الشاطئ. أفتح عيني، ما زلت علي الشاطئ وكأنني مدفون تحت رماله، أنظر إلى نفسي فلا أجد أطرافي، يتقافز أحد الأطفال علي جسدي فأشعر بالألم فأصيح ولا أحد يسمعني، لقد أمسيت حبة رمل صغيرة ولا أحد يراني أو يشعر بي، لقد ذبت داخل الرمال، تستمر الأمواج في مداهمتي وتحاول في كل مرة أن تأخذني إلى داخل البحر لكي أصل إلى الأفق وأختفي . تزداد ضربات قلبي الذي لا أشعر بوجوده داخل جسدي الصغير، وأحاول مع كل موجة أن أتشبت بحبات الرمال التي من حولي،  وأن ألتصق بهم لكي لا تسحبني الأمواج. أحاول أن أستعيد بقايا وعيي غير مصدق لما أراه، يبتعد الجلوكوز والأكسجين عن عقلي رويداً فيختفي وعيي.

أفتح عيني، عادت هيئتي من جديد ولكنني بداخل البحر وفي خلفي خط الأفق، لا يبعد عني سوي مترا، أنظر أمامي، أجد ممرا خشبيا ضيقا لا يسع إلا بمرور نصف شخص، يقع أمامي مباشرة فوق البحر، به فتحة في نهايته يبرز منها الشاطئ، وجودي يقف خلف هذا الممر، كيف لي أن أمر بداخله؟ كيف سيتسع لي؟ أحاول الولوج فيه، أحاول أن ألملم جسدي كي أدخل، تصطدم أصابع قدمي بحوافة الخشبية الحادة،  يوخزني الألم فأتململ وأشعر أن البحر يخنقني، يضغط علي رقبتي بشدة، أكاد أسمع طرقعة مفاصل رقبتي من ضغط يديه، أحاول أن أبعده عني أو أن أعبر الممر... أريد أن أصل إلى الشاطئ، تتوقف قدماي عن الحركة فجأة ولا تتحرك كأنها التصقت بالبحر، أحاول أن أستنجد بأحد لكن صوتي غير موجود والبحر فارغ من البشر .

ما زلت علي الشاطئ، تحول البحر إلى بقعة مائية زرقاء صغيرة وخط الأفق أمامي مباشرة لا يفصله عني سوي بضعة سنتيمترات، كما لو أنني أري المشهد بأكمله من خلال عدسة مكبرة. إذا تقدمت قدمي إلى الأمام ستختفي، تخترق الصورة طائرة ورقية زرقاء تسبح في السماء، وبالرغم من أنها في مثل زرقة كل ما بداخل الصورة فإنها باتت واضحة أمامي، بمجرد أن نظرت إليها برز باب شقتي فوق البحر، لا أعتقد أن خلفه شقتي بل خلفه فراغ، كلا.. خلفه مكان اختفائي، قدمي تغوص داخل البحر!.. إذن فيما وراء الباب يقع الشاطئ. أنظر مرتجفاً إلي الخلف، أجد خط الأفق يقف خلفي مباشرة، كادت رأسي أن تختفي حين التفت إليه، أحاول أن ألمس الباب، أحرك مقبضه سريعاً لكي أفتحه وأصل إلي الشاطئ، لكنه موصد، أحاول أن أدفعه بكتفي لكي يفتح فلا أستطيع، تبدأ أمواج البحر تغمرني وتغطي الباب، أستمر في الضغط على الباب مقاوما الأمواج فتسقطني إلي أسفل البحر.

أشعر بالهواء يلفح قدمي، وشيء خشبي أقف عليه، يصدر صوت احتكاك، ويهتز قليلاً بي، أحاول النظر، عيناي لا تريان سوى الظلام، أين أنا؟ أحاول أن أتحسس أي شيء في الأعلى فلا أجد سوي الفراغ، أنهض، أضع يدي إلي أسفل، أجد مياه البحر، يفصلني عنها شيء خشبي، ربما قارب، يستمر صوت الاحتكاك ويعلو.. وتجذب الأمواج والرياح الشيء الخشبي الذي يحويني فأشعر بالخوف، وأخشي أن يصل بي إلي خط الأفق، يتزايد الهلع بداخلي وأنا غير قادر علي رؤية ما أنا فيه، تتزايد حركه القارب وتأخذني إلي حيث لا أرى، ويتزايد أحساسي بأني سأقترب من الاختفاء، الفزع يغمرني مع تزايد هزات القارب، يجتاح جفوني نصف المغلقة دوار، فأفقد وعيي وأنا ما زلت مستيقظاً.

أفتح عيني، أجد نفسي فوق خط الأفق دون أن أعبره، ويظهر على الجانب الأخر خط الشاطئ الأصفر موازيا خط الأفق الدائري، وكأني أول مرة أشاهد مثيله، شيء ما، فني، دقيق، مرسوم في رقة، تحدبه طبيعي دون أية خدوش أو اعوجاج؛ يبدو وكأن ليس لديه فراغ يفصله عن السماء، فيبدو من بعيد خطان، أصفر وأزرق معاً، وجهت نظري في منتصفه، تحديداً في النقطة التي تقع في مواجهتي، هذا كان مكان اختفائي، حواف الخط من يراها من بعيد مثلي يجدها دائرية، من يقف عليها يذوب أيضاً. أهرب من خط الأفق وأسبح إلي المنتصف سريعاً لكي أستقر فيه، تبدأ الأمواج تسحبني إلى الخط الأصفر وعمق البحر يجذبني إلي أسفل، وآثار حقنه البحر بداخلي تشدني إلى الخط الأزرق، تصارع أطرافي البحر ويبدو الخطّ الأصفر والأزرق بوضوح من حولي، ورغبتي تحثني على الصمود في المنتصف، أضطرب ويعلو صوت دقات قلبي، يفتت البرد أطرافي وينتثر علي بقية جسدي بدقة، فأغفو وتختفي كل الخطوط .

تنتصر آثار الحقنة، فيبتلعني خط الأفق بداخله دون أن أشعر، لم أختف كما اعتقدت، أنظر أمامي باحثاً عن الخط الأصفر فأري خطا أزرق يشبه تماماً الخط الذي اخترقته، تضج فجأة في أذني أصوات سيارات تسرع علي طريق الكورنيش، تسحبني للحظة، أنصت إليها، كأني لم أسمعها من قبل، تبحث عيناي عن البحر.. أجده خلفي بأكمله.