الزوجة .. هى السكن.. مثلما وقر فى ذهن العامة.. والشيوخ على وجه التحديد.. فإذا لم يكن الحب هو الجامع.. فلا ضمان.. وعم القلق. وساد (الخوف)، ذلك الذى يعبر عنه الكاتب، باختياره لصيغة تداعى المعانى، والذى يُظهر التشتت والقلق، ويضمر الرمز المختبئ خلف السطور، والذى تقف مصر ....فى الخلفية تنتظر الخلاص. بعد أن تبخر الحلم الذى كان.. بعد 25 يناير 2011.

منمنمات الخوف

سمير الفيل

 

انتهيت منذ أيام قليلة من قراءة الصفحات الأولى من مخطوط وضع في طريقي عنوة. مخطوط مختومة أوراقه بالشمع الأحمر، داخل مطوية من جلد غزال رقيق.

كنت أعيش وقتها وحيدا، بعد افتراقي عن زوجتي الأولى حيث أعيش في مصحة نفسية، بلا نوافذ، كل ما يوجد بها طاقات دائرية بألواح زجاج، تسرب الضوء من السقف.

كان أبي الشيخ قد اصطاد ذئبا، ذبحه وأخرج قلبه، جعان. بعد أن هربت مراته من أمامه ـ أمضغ قطعة من الكبد النيئ للذئب.

قطعت شوطا في قراءة المخطوط، وتفسير المثلثات والمربعات التي تحتل جزءا من الرقعة في نهاية كل صفحة.

حين صارت الغيوم تغطي السماء قلت لنفسي: هذا وقت مناسب لمواصلة القراءة بعد أن أصرت بهيرة على الانفصال، واصطحاب الطفل معها -طفلنا معا على فراش الزوجية-.

أصبح الجو مهيأً لبسط الرقعة، وتمرير إصبع السبابة على الحبر، وتلمس طريق للخروج من المصيدة.

ما الدنيا إلا مصيدة كبيرة جدا، تضم المضروبين بالعشق، والكهنة، والغوغاء، والأمراء، والملوك، والعسس، والجنود.

لم يُضبط مخطوط مع واحد من الغوغاء لسببين: الأول أن الغوغاء لا يقرأون. السبب الثاني أنهم لو قرأوا فلن يفهموا.

 ما أنا فيه تخليص حقوق، فبعد اقتراني بعايدة، راقصة الأوبرا الشهيرة، جمعت حوائجها في ثلاث حقائب، وتركت لي فتاة معاقة، جثوت على ركبتي، كي تقبل أخذها معها، فجَبْتها بقوة، وأودعتها ملجأ للمعاقين، وأصحاب العاهات.

تلاصقت ورقتان. بمنتهى الحرفية جئت بسكين ذي نصل حاد، فصلت بينهما. قال لي أبي الشيخ وهو يرى انهياري بعد فشل زواجي الثاني: عايدة فنانة صاحبة خيال جامح، وأنت واقعي قح. لن تسير الحياة بهذا الشكل، فلا تفاهم بينكما. اتركها وشأنها يا بني .

زورت منون اسمها في شهادة الميلاد. منى. في الملجأ، كانت تتطلع  نحوي بدهشة، ربما تراجع نفسها أنها رأتني يوما ما.

اقتربت منها، أعطيتها قطعة شيكولاتة ذات غلاف ذهبي، فرحت بالهدية، وأسرتني بابتسامتها الساحرة.

عناقيد عنب لامستها بكفي، وأنا انصرف متجها لأبي الشيخ : جربت حظك مع ابتسام، الطبيبة الذكية، وبسبب أفعالك اللامعقولة هربت هي الأخرى، هربت من أفعالك.

 قلت له بتأكيد واضح : هي لم تهرب، ربما صدمتها سيارة أو دهسها قطار فحتي آخر يوم كانت تحبني، وتقبلني في فمي، وتغسل جواربي، وتنشرها في المنور.

رشا، فتاة السيرك المطاطية التي كانت تمتلك من الليونة ما يجعلها أقرب للمطاط في تحولاته المدهشة، عوضتني عن الهاربات جميعا.

 قال أبي الشيخ: أخبرتني عيناها أنها تبغضك. أنت اشتريت لها فستانا جميلا في العيد. لماذا لم تلبسه؟

 قلت على الفور: وقتها، كان بيننا خصام، وقد صالحتها ونسيت الفستان في مكان ما برف داخل دولابي، ولم أتذكره؟. ضحك بمرارة ، وهو يعدني بأن صلاح الحال من المحال، والاقتران بزوجة جديدة  معناه خطأ مركب مع سبق الإصرار والترصد.

ناعسة، فتاة الميدان، بعد ثورة 25 يناير 2011 ، كانت هي الزوجة الحبيبة التي اختارتها رياح الثورة، ومعها عشت أجمل أيامي. استنشقت معها الغاز المسيل للدموع، احتضنتها حين تم ضربها بالهراوات.

ـوالآن. أين هي ؟

 لم أرد على سؤال أبي الشيخ، ورأيت أن استمر في تصفح المخطوط، ربما أفك بعض الرموز الغامضة. هذا الأمر يحتاج إلى صفاء روحي مبين، وقدر من سماحة النفس، وإعمال العقل.

لقد تطهرت من رجس الظنون: الشك، والريبة، والهوان. صرت متأكدا من خضوع البشرية كلها لناموس محكم، لا انتظار للحظة واحدة، يشيع العبث فيها.