لهناء خليف غني تجربة سابقة في ترجمة نصوص لحالات تمثل الأفراد من ذوي الاحتياجات الخاصة والمعاقين، وفي هذه القصة الجميلة نلمس مدى قدرة المترجمة في نقل مشاعر بطلة القصة، وكأنها تتحدث لنا بلغتنا.

لَستُ بشرتي

نـيـما كـومـبا

ترجمة: هناء خليف غني

 

ما الَّذي يفعلهُ هذا (الزَّيروزيرو )* ذو الَّذراع الواحدة في مقابلة الحراس الأمنيّين؟ بوسعي الإحساس بذهولهم. لكني لم أدع نظرتهم المُحدقة تُثنيني عما عزمت عليه. قطعتُ مسافةً طويلةً من أجلِ هذه الوظيفة، فأنا في حاجةٍ ماسةٍ إليها.

اِرتديت أفضل ما عندي- قميص بولو قصير الأكمام ذا لون داكن الزُّرقة مطويًا تحت بنطالٍ طويلٍ خاكيّ اللّون، وعَدلت قبعتي الشَّمسيَّة، وانتظرت دوري في الطَّابور.

نادى موظف الِاستقبال: "يونا كازادي."

دخلت غرفة المقابلة يتنازعني شعوران: اِضطراب تجلى في ضربات القلب المُتسارعة، وثقة جعلتني أرفع رأسي عاليًا. جلس رجلان إلى جانب امرأةٍ خلف طاولةٍ خشبيَّةٍ كبيرةٍ تنتثر أمامهم أكداسٍ من الأوراق. مددت يدي إليهم لِمصافحتهم، وطلبت مني المرأة الجلوس. خلعت نظارتي وقبعتي الشمسيَّتين، وجلست إلى الكُرسيّ الخشبيّ قبالتهم. وفيما خلا طنين المروحة الخَشبيَّة الَّتي كانت زعانفها تخترق حرارة الجو، كانت الغرفةُ هادئةً. 

قالت المرأة، الَّتي كانت ترتدي حِجاب رأس أصفر، ورداءً أزرق داكنًا طويل الأكمام، إنَّ اسمها مريم، وإنَّها مديرة الموارد البَشريَّة. ومن الطَّريقة الَّتي كان فيها مساعداها ينظران فيها إلي، شعرت أنَّهما كانا يُريدان معرفة شيء واحدٍ فحسب: ما الَّذي، بحق الجَحيم، جعلني- أنا الرَّجُل ذو الذَّراع الواحدة- أرغب في أن أكون حَارسًا أمنيَّا؟

قالت المرأة: "أخبرنا عن نفسك؟"

وهكذا، جلست قبالتهم، وبدأت بسرد قصتي لهم.

قلت: كان الوقت منتصف اللّيل، وكنت يقظًا مُستلقيًا على حصيرة دودما إسفنجية غير سميكة، ومُصغيًا إلى أصوات الجرذان وهي تتقافز على السَّقف الخشبيّ فوقي. حاولت النَّوم عبثًا، ورست عيناي في بحر السُّهاد مذ أخبرني بابا جوزيف بأنَّ الوقت قد حان لمغادرة الملجأ. كنت في الثَّامنة عشرة تقريبًا، بالغ من وجهة نظر القانون، وكبيرٌ بما يكفي للبقاء على قيد الحياة في الشَّوارع. لكنّني لم أكن مُستعدًا ولا داريًا بما سأفعله كي أتدبر أمري في مدينة سيرما الصغيرة الفائرة التي تمور بالكراهية لمن هم مثلي. اخترق أفكاري الصَّرير الواهن للمفاصل الصَّدئة في باب الملجأ الأمامي. ربما كان عقلي يلعب بعض الحيل، إذ من الصَّعب ألّا تُصاب بالهَوس الهذياني عندما تكون مُطاردًا طوال حياتك. سمعت وقع خطوات خارج نافذتي، فحبست أنفاسي، وأرغمت نفسي على التزام الهدوء، وسال العرق أدنى جبهتي، وبدأ ذهني يرتج بصور مذبحة الأطفال الثَّلاثين الذين لقوا حتفهم نيامًا في غُرف هذا الملجأ- وأنا، يونا كازادي، عاجزٌ عن حمايتهم. حاولت الصَّلاة لكن الرَّب كان بعيدًا عني على الدّوام مع أنّ جدّتي، وبابا جوزيف، وليّنا، يُصران على أنَّه حقيقي.

كانوا يسمونني طفل الشَّيطان مذ كُنت طفلًا. قالوا: إنَّ والدتي نامت مع الشَّيطان، وإنَّ هذا هو السَّبب في شحوب لون بشرتي وعينيّ، وشعري الذي هو بلون الذَّرة. يشيرُ النَّاس لي عند مروري أمامهم، ويسمونّني زيروزيرو، ويَبصقون بثيابهم عندما أكون قريبًا لحماية أنفسهم من الشَّر الَّذي يظنون أني أحمله في داخلي. إنَّهم يخشون من عينيّ الوامضتين، ومن ترنح رأسي. لكني في تلك الليلة مسكت بيدي بالمَسبحة التي أعطتها جدتي لي، وقلت: "يا رب، إذا كُنت موجودًا، إذا كُنت تُصغي لي، اِحمني."

يبدو الأمر أشبه بهزيمةٍ- وتقبلٍ لضعفي واستكانتي- لكني كُنت راغبًا في تصديق أنَّ هناك شخصًا أقوى من الشَّر في قلوب البشر. أين كان الرَّب كُل تلك السَّنوات التي تعرضنا فيها للقتل والازدراء؟ أين كان جبروته عندما كانت السَّواطيرُ تُقطع أطرافنا؟ وعندما خلقنا، هل نفدت عنده صبغة الميلانين؟

بدأت عمليات الخطف والقتل بالأشخاص المعروفين بالمُهق. إذ أخبرهم الأطباء السَّحرة أنَّ الأشربة المعمولة بعظام المُهق قد تجلب الثَّراء لهم، وكلما كان الزيروزيرو أصغر، كان مفعول العصيدة أقوى. كُنت أعيش مع بيبي غاسيا، جدتي، في سيواندا عندما بدأت الألسن تتناقل هذه الشَّائعة. وسيواندا هي قريةٌ في السُّهول المُمتدة حتَّى عنان السَّماء، فيها بضع أشجار وأكواخ طينيَّة حَمراء اللَّون بسقوفٍ من القش.         

كُنا نعيش فوق أحد التِّلال، نُربي الدَّجاج ونَزرع نبات المنيهوت و الذَّرة البيضاء في قطعةٍ صغيرةٍ من الأرض أمام الكوخ. في الوادي الأجرد أسفلنا انتثرت الحفر المهجورة لمناجم الذَّهب القديمة. بوسعنا أن نرى، على مسافةٍ بعيدةٍ، سقوف الألمنيوم اللَّامعة لفكتوريا غولد- منجم مزونغو، الذَّي لم يكن مسموحًا للناس الاقتراب منه. مع ذلك، كان بعض السُّكان المحليَّين يقتحمونه بين الحين والآخر، لسرقة الذَّهب. كُنت قد بدأت توًا دراستي الابتدائيَّة عندما شاعت الأخبار عن اختطاف المُهق. توسل رئيس الوزراء بالنّاس أن يكفوا عن عمليات القتل، لكن توسله وقع على آذان صماء.

كانت مدرستي على مبعدة خمسة كيلومترات من منزلنا في الجانب الآخر من الوادي حيث مقر البعثة المسيحيَّة والكنيسة. اعتادت جدتي مرافقتي إلى المدرسة صباح كل يوم، كنت أضع قطعة قماش فوق رأسي تقيني حر الشَّمس، وكانت جدتي طاعنةً في السَّن، لكنها قويَّة، لم تكن تخرج قط من دون البانغا- أيّ السَّاطور المُثبت إلى خصرها بقطعة قماشٍ متينةٍ، وكانت تُحيط عنقها بمسبحة حمراء اللَّون. لطالما شعرت بالأمان معها مع خشية النَّاس منها، إذ كانوا يسمونها السَّاحرة. لكنها أخبرتني بأن أتجاهلهم لأنَّهم يومًا ما سيشعرون بالتَّعب من جهلهم. ولم يمضِ وقتٍ طويل حتَّى وصلت الخرافات عن المُهق منطقة سيواندا حيث بدأ عمال المناجم المعوزين في مطاردة عظامنا.

كُنا أنا وجدتي في طريقنا إلى المدرسة في أحد الأصباح عندما قذف اثنان من العمال المُتسلحين بالسَّواطير بأنفسهم علينا من سياجٍ. ما زالت الصَّرخة الَّتي ندت من جدتي عندما أمسكا بي ترّن في أذناي. أتذكرها وهي تنقض بساطورها عليهم، ومحاولتها إفلاتي من بين أيديهم. أتذكر طقطقة العظام بعد أن مزق السَّاطور الكليل جسدي. أتذكر الدَّم، والألم المُبرح المُسبب للدوار، وجسد جدتي المرتجف قبالتي. أتذكر صمت رَّبها.

عثر عليّ فيما بعد أحد عمال البعثة- إذ وافت المنية جدتي وهي تحاول الذَّود عني. قالوا إنَّ بقائي على قيد الحياة معجزةٌ. كان ساعدي بالكاد ملتصقًا بمرفقي. أخذوني إلى مستشفى لابوندو حيث قالوا لي إنَّ عليهم بتر ذراعي. ثم أودعت في ملجأ كيـﭬوليني الَّذي يقع في أطراف سيرما. ومعنى كيـﭬوليني هو ’تحت الظَّل.‘ كُنت في التَّاسعة من عمري عندما أخذوني للعيش هناك.

ثمة جدارٌ من الطوب الأحمر، غُرزت في أعلاه، قطعًا صغيرة من الزُّجاج المُكسر يُحيط بمجموعةٍ من المباني الممتدة على مساحة نصف فدان، من بينها مهجع كبير للأطفال، وعددٌ قليلٌ من الصُّفوف الدِّراسيَّة، وقن للدجاج وحظيرة خنازير وحديقة نباتيَّة صغيرة. فتح الأب جوزيف أبواب هذا المكان في 2007 بعد مقتل زوجته وابنه على يد عصابة من الرِّجال. لم يتحدث عما حدث، إلَّا أنَّي قرأت عنه في الصُّحف. لدينا جميعًا قصصٌ متشابهةٌ:  فارون من  صيَّادي البشر- وبعضهم حتَّى من أبويهم. نهضت عن الحصيرة، إذ ليس بوسعي الاكتفاء بالاستلقاء عليها في انتظار أن يحدث شيءٌ ما.

قال لنا الأب جوزيف: "إنَّ الشَّجاعة لا تعني غياب الخوفَ، يا أطفالي. أعلم أنَّكم خائفون، لكن عليكم أن تتعلموا العيش حتَّى مع شعوركم بالخوف." مشيت على أطراف أصابعي إلى زاوية الغرفة، وأخرجت حَربةً من مخبأ الأسلحة الَّذي احتفظ به هناك. السَّاطور سيجعلني أكثر شبهًا بهم، وأنا أرفض أن أكون مثلهم. ثم مشيت على أطراف أصابعي إلى الباب، وبيدٍ مرتجفةٍ، أدرت المفتاح في قُفل علامة سوليكس. يؤدي الباب إلى الغرفة حيث ينام جميع الأولاد. كان مهجع الفتيات في الجانب الآخر من الجدار، لكنَّهن غادرن ودخلنَّ من بابٍ مختلفٍ. كانت صوفيا، المرأة البالغة الوحيدة، تعتني بالفتيات، وتساعد في أعمال المَطبخ.

فكرت في تنبيه الأطفال والأب جوزيف- الَّذي يقع كوخه قريبًا من حائط الملجأ- بالنَّفخ في الصّفارة الَّتي أحملها حول عنقي. لكنّني فكرت أنَّ هذه هي فرصتي لإثبات أني رجلٌ بما يكفي لأتدبر الأمر بمفردي. تسللت إلى موقع الحارس- وهو شرفة مراقبة مسقوفة بالقش قرب البوابة المعدنيَّة- لكن سيموني، الحارس، لم يكن هناك. كان البوابة مواربةً، والقُفل والمفتاح معلقين في المزلاج المفتوح. من الواضح أنَّه سمح للمُتطفل بالدُّخول.  

كان قلبي يكاد أن ينخلع من الخوف لكني وطَّدت العزم على ألَّا أكون الشَّخص الَّذي سيلقى حتفه هذا المساء. أغلقت البوابة بحذرٍ وهدوءٍ، ووضعت المزلاج والقُفل في مكانهما، وخبأت المفتاح في جيبي. ثم بدأت في المشي برفقٍ حول المبنى. لم يكن هناك أحدٌ في الجوار، وألقى ضوء القمر المشع بظلال الأشجار الكثيفة على الأرض. درت حول صفوف الطُّلاب، كانت كلها مُقفلة. ونظرت في داخل المطبخ وحظيرة الخنازير الَّتي بدت فيه الحيوانات هادئةً. ولم أُلاحظ أحدًا عند مرمى القمامة أو في حديقة النَّباتات. المكان الوحيد المتبقي هو المقبرة!.  

توفيت لينا، الفتاة  الصَّغيرة، بالملاريا قبل أسبوعٍ، وقد وارينا جسدها الثَّرى في الطرف الجنوبي من المبنى، خلف المطبخ وتحت شجرة اللَّوز البجلي الضَّخمة. فالصَّيادون ينبشون أجساد موتانا أيضًا، ويسرقون أعضاءهم. كانت والدة لينا قد جلبتها إلى الملجأ وهي بعمر الشَّهرين، وكانت من بين الأطفال القلائل الَّذين ينعمون بأطرافٍ كاملةٍ. حافظ عليها الملجأ من المُتطفلين في الخارج، لكنه لم يستطع حمايتها من البعوض.

كانت أمها تبكي بحرقةٍ ومرارةٍ في أثناء دفنها، فهي، مثل أمي، قد تخلت عن أطفالها، ولم تزرها ولو مرةً واحدةً في السَّنوات الأربع من عمر وجودها معنا. صوفيا هي من كانت تُحمم لينا العليلة، وحاولت جهدها رعايتها حتَّى استردادها عافيتها، وهي من حملتها – برغم المخاطر- إلى مستشفى سيريما ولازمتها حتى النَّفس الأخير.

بكى الأطفال الآخرون حُزنًا على لينا، بعضهم كان صغيرًا للغاية على فهم ما الموت، وبعضهم الآخر حزن عليها حزنًا عابرًا ومضى في دروب الحياة. حزنت لأجلها، لكني شعرت، في الوقت نفسه، بالرَّاحة لأنَّها ماتت ميتةً طبيعيَّةً. تمنيت أن تكون لي الميتة ذاتها- ذلك النَّوع من الميتات الَّذي لن يحدث لي بسبب لون بشرتي. وتخيَّل سيموني والمتطفل وهما يستخرجان رفات لينا أصابني بالغثيان.

كان المُتطفل امرأة، شاهدتها تتمايل في حركتها كما لو أنَّها تُهدهد طفلًا بينما انهمك سيموني في الحفر، لم يعرفا بأمري لأنَّهما كانا يُديران ظهريّهما لي. كان بوسعي سماع المرأة وهي تنتحب بهدوء، وكان صوت أنينها يُثير سخطي. لم يكن سهلًا عليّ أن أُقرر من أقتل أوّلًا: الحارس أم المرأة!. وقفت هناك إلى ما بدا أنَّه آخر الزَّمان حتى لم تعد ساقاي تقويان على حملي. اتخذت وضع التَّصويب، وقذفت بالسَّاطور الَّذي مسَّ سيموني في ظهره، فسقط من فوره على الأرض، وصرخ، ووقعت المجرفة من يده، وهو يتلوى من الألم. لم تقدم له المرأة أيَّة مساعدة، بل بقيت متسمرةً في مكانها تنتحب، وفي يدها شيءٌ ملفوفٌ بقطعة قماشٍ.

كُنت قد تخيَّلت ردّة فعل أُخرى- ربما الشُّعور بالذَّنب أو العار، أو حتَّى الغضب. لكنَّ الحارس، الَّذي كان يُصارع للوقوف ثانيةً على قدميه، بدا مذهولًا وخائفًا في حين اكتفت المرأة بالتَّحديق. استعدت السَّاطور المُلطخ بالدَّم، وصوبته ثانيةً نحوه. لكن، لم يكن بوسعي قتله. عدوت سريعًا نحو المبنى، وأنا أنفخ في الصَّافرة. ركض الأطفال حول المهجع، وهم يبكون، فالعديد منهم قد تعرض للهجوم في الماضي، فعادت إلى أذهانهم صور الشَّياطين القديمة. أمرتهم بالتجمع في غرفة الطَّعام حيث تولت صوفيا والفتيات الأكبر سنًا مراقبتهم في حين  انشغل الفتيان في جمع الأسلحة وحراسة البوابة. جاء الأب جوزيف راكضًا مع بعض الجيران، وحاملًا لبندقيةٍ في يده. سمحت لهم بالدُّخول وأغلقت البوابة ثانيةً. أخبرتهم وأنا متقطع الأنفاس، عن سيموني والمرأة، فأتصل الأب بالشّرطة.

عثرنا على الاثنين حيث شاهدتهما أوَل مرة. كان سيموني جاثيًا على ركبتيه، وقسمات وجهه ملتوية ألمًا. صرخ عاليًا: "أرجوك، لا تقتلني؛ يُمكنني توضيح الأمر لك." تراجع الأب خطوةً، والبندقية في يده على أهبة الاستعداد، وسمح له بالحديث.  قال لنا إنَّ المرأة قطعت عشرين كيلومترًا من قرية كانزيرا إلى الملجأ حاملةً وليدها المتوفي الَّذي لم يُكمل الشَّهر من عمره. ولأنَّه موسم انتخابات، كان الطَّلب عاليًا على أعضاء الصَّغير، وكان زوجها يُريد بيع جثته. وقد أخبرتها القابلة عن ملجأ كيـﭬوليني، فحملت وليدها وغادرت منزلها عند حلول الظَّلام، ولم يفعل هو شيئًا سوى مساعدتها في دفنه. وبعد أن وصلت الشَّرطة، أَتمّوا دفن الصَّغير، وأخذوا سيموني إلى المستشفى، وغادروا للقبض على الزَّوج والطَّبيب السَّاحر.

كان الوقت حوالي الرَّابعة فجرًا عندما أعدنا الأطفال إلى أَسِرتهم. وبعد أن غطوا في النَّوم، جلست عند موقع الحراسة وراقبت شروق الشَّمس. ومع أنَّ الشَّمس هي عدوي، إلَّا أنَّ الفجر دائمًا ما يحمل معه البشائر. ربما كان الأب جوزيف مُحقًا. ربما حان الوقت لأخطو إلى خارج هذه الجدران الآمنة. سمعت عن رجلٍ طاف بالقرى لسؤال النَّاس أن يلمسوه. كان يقول لهم: "أنا بشرٌ. ما الثَّروة الَّتي يُمكن لأطرافي أن تحوزها إذما كُنت أنا نفسي فقيرٌ؟ لستُ شريرًا ولا ساحرًا . عيناي ترفَّان بسبب سطوع ضوء الشَّمس. أنا لستُ بشرتي." ربما هذا هو  ما يعنيه أن تكون شُجاعًا: أن تنظر إلى عدوك في عينيه، أن تجعل النَّاس يرون الإنسان فيك.

في الصَّباح، أخبرت الأب جوزيف بنيتي الذَّهاب إلى دار- مدينة الأشياء المُمكنة. فأخبرني بأنَّي سأكون بأمانٍ مع قريبه في مدينة مبغالا. في الباص، جلست بجوار رجلٍ من الماساي يعمل حارسًا أمنيًا، أخبرني عن وفرة الوظائف الأمنيَّة في المدينة، فتقدمت إلى إحداها. وأنا الآن هنا. بعد المقابلة، توجهت إلى موقف السِّيارات كي استقل حافلة نقل صغيرة- الدالادالا- إلى مبغالا. كان الموقف يمور بالنَّاس والحافلات. ألفيت نفسي سائحًا وسط الزَّحام. لا أحد ينظر لي، ولا أحد يحفل بأمر ذراعي، ولا لون بشرتي. ثمَّ شيءٌ ساحرٌ في أن تضيع في الزَّحام، في أن لا يلتفت إليك أحدٌ، ثمَّ شيءٌ رائعٌ في أن تكون شخصًا عاديًا. وهناك، في حافلةٍ مليئةٍ بالغرباء، شعرت، لأوّل مرةٍ في حياتي، بأنَّي إنسانٌ.

قضيت شهرًا طويلًا قبل أن تُعاود شركة سيكيّ للخدمات الأمنيَّة الاتصال بي. لقد قرروا أن يمنحوني فرصةً. أخبرتهم أنَّ الفرصة هو كل ما يُمكن لأيَّ منا أن يصبو له.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • معنى الزيروزيرو باللُّغة السَّواحيليَّة هم الأشباح أو المصابين بنقص عنصر الملامين في الجلد والشَّعر والعينين، الذين يُطاردهم ويقتلهم السُّكان ظنًّا منهم أنَّ استخدام بعض أعضاء أجسامهم يجلب الحظ والثَّراء.

نيما كومبا: شاعرة وكاتبة من تنزانيا. حازت في 2014 جائزة شركة اتصالات للأدب عن فرع القصَّة الومضة. وهي مؤلفة المجموعة الشَّعريَّة، ’النَّظر عبر المعقد والمعتاص‘ (2011)، وأيضًا ’البحث عن مبوجي السَّاحر‘ المنشورة في منزل آمن:ّ  رحلات في الكتابة الإبداعيَّة غير القصَّصيَة، وهي منتخبات أصدرتها مجموعة كُتاب دول الكمنولث في 2016. 

  • الدكتورة هناء خليف غني أكاديمية متخصصة في الأدب المسرحيّ الإنكليزي، تدريسية في كلية الآداب/ الجامعة المستنصرية، صدر لها أكثر من خمسة وعشرين كتابا مترجما في تخصصات الأدب والانثروبولوجيا، والفلسفة، آخر كتاب صدر لها قبل أيام هو (في أهمية الرقص) لـ  مندي آلوف، منشورات دار صفحة 7 في المملكة العربية السعودية.