في العدد الماضي نشر محرر (الكلمة) القسم الأول من مقاله عن مهرجان أفينيون العام الماضي، وما دار فيه من استقصاءات مسرحية ومحاولات لتوسيع أفق العرض وجمالياته وقدرته على التأثير. ويواصل نشر هنا بقية ما كتبه عنه، كي نكون على معرفة بأحدث ما يدور في عالم المسرح الساحر، وفنونه المختلفة.

مهرجان أفينيون السابع والسبعون (2)

مشاهدات واستطرادات

صبري حافظ

 

هل تصلح كلاسيكيات المسرح الغربية لكل زمان ومكان؟
لاشك أن الحرب الروسية الأوكرانية قد عززت من أسئلة أوروبا حول نفسها، وهويتها ومصيرها. لأن الحروب هي التي تدفع بقوة أسئلة كثيرة كانت كامنة تحت السطح، لا يطرحها إلا الفن والمثقفون، إلى الواجهة. ذلك لأن دور الفن والأدب عموما هو طرح الأسئلة على الواقع الذي صدر عنه، وإن كان أكثر طموحا فعلى الواقع الإنساني الأعرض. وهذا في الواقع هو ما شعرت به عند مشاهدتي لهذا العرض المسرحي الجميل (أنتيجون في الأمازون Antigone in the Amazon) والذي أعده وأخرجه المسرحي السويسري/ البلجيكي ميلو راو Melo Rau، والذي يعتبره الكثيرون واحد من أهم المسرحيين الطالعين في أوروبا الآن. لأنه ابن أوروبا بمعناها الحديث الذي أزال الحدود بين بلدانها الصغيرة، كي تصبح قوة اقتصادية وثقافية يُعتدّ بها. فقد ولد في برن بسويسرا عام 1977، ودرس علم الاجتماع والأدب في جامعة باريس على أيدي بيير بورديو وتودوروف. وتعلم منهما طرح الأسئلة الجوهرية حول ما يتناوله من موضوعات. وقد بدأ العمل في المسرح والسينما والنشر والكتابة النقدية والإبداعية مع مطلع هذا القرن.

A person with a beard

Description automatically generated

ميلو راو

وقبل مواصلة الحديث عن هذا المخرج والمعد المسرحي الموهوب الذي قدم لنا قراءة إبداعية ومستبصرة لمسرحية (أنتيجوني) العظيمة أود الإشارة إلى أن قراءات تلك المسرحية المعاصرة تتزايد باستمرار في السنوات الأخيرة. فقد شاهدت أكثر من قراءة حديثة لها في المسرحين الإنجليزي والأيرلندي في السنوات العشر الأخيرة. تكشف كل منها عن قدرتها على التعامل مع ما يدور في تلك البقاع، وما يدور للإنسان بشكل عام. وسبق أن كتبت للقارئ العربي عن قراءة يابانية مدهشة لها جاء بها من اليابان مهرجان أفينيون قبل أعوام قليلة. ذلك لأن عالمنا المعاصر يعاني بشكل غير مسبوق من تخلخل المعايير والقيم الإنسانية الأصيلة بدعاوى وأغاليط مختلفة. بالصورة التي يتذرع فيها الاستبداد بالقانون، وتصبح فيها المقاومة واجبا إنسانيا. وهو الأمر الذي يتطلب العودة إلى موضوع هذه المسرحية الأثير، ألا وهو كيف يمكن للقيم الإنسانية النبيلة والمبدأية أن تواجه هذا الخلل، وأن تتصدى لأخطائه التي ستؤدي حتما للتردي والانهيار؟ وكيف يمكن للإنسان أن يحافظ على إنسانيته وكرامته في وجه سلطات جائرة تتسلح بالقانون، وتستخدم باسمه العنف والبطش والأنانية؟

وسوف نكتشف بعد تحليل هذا الإعداد الجديد والفريد لها، أن هذا الهم أيضا كان شاغل مخرجها ومعدّها الذي حرص منذ بواكير شبابه على أن يعيش بنفسه في أكثر مناطق عالمنا التهابا، واشتعالا بالحروب والخلل. حيث عاش لعدة شهور في العراق عقب الغزو الأمريكي الغاشم لها مباشرة. وعاد إليها بعد ذلك أكثر من مرة، كي يستوعب ما يدور فيها من أهوال. كما زار شمال سوريا أكثر من مرة، وتعرف بنفسه على ما يعانيه شعبها من كوارث. هذا فضلا عن زياراته الطويلة التي امتد بعضها لشهور في عدد من المناطق الملتهبة بالنزاعات في القارة الأفريقية، وخاصة في الكونغو التي كتب عنها عملا مسرحيا مثيرا للاهتمام. ويعده كثير من المتابعين من أكثر أبناء جيله غزارة في الإنتاج؛ حيث نشر حتى الآن أكثر من خمسة عشر كتابا، وأخرج عددا من المسرحيات والأفلام. وقد اتسمت كتاباته ومسرحياته وأفلامه بطرح الأسئلة التي يتجنبها الآخرون، وبطريقة شائكة في كثير من الأحيان. وفي عام 2020 حازت مسرحيته (الأورستيا في الموصل Orestes in Mossel) على أكثر من جائزة أوروبية بعدما حولها إلى فيلم سينمائي.

أما هذا العام 2023 فقد أفتتح المسرح القومي بجنت NTGent في بلجيكا – والذي أصبح مديرا له منذ عدة سنوات – عروضه بمسرحيته الجديدة (أنتيجوني في الأمازون) في مايو 2023، ثم جاء بها إلى مهرجان أفينيون في شهر يوليو من نفس العام. ومع أنني لم أشاهد مسرحيته، أو فيلمه عن (الأوريستيا في الموصل) فإن مسرحيته الجديدة (أنتيجوني في الأمازون) تبدو وكأنها تواصل طرح نفس الأسئلة: هل تصلح النصوص الإغريقية الكبرى التي كُتبت في القرن الخامس قبل الميلاد كي تكشف لنا عن مدى ما تعانيه أوروبا الراهنة، وفي حالة العراق أميركا، المتمركزة على ذاتها من العمى؟ ناهيك عن أن تكشف لنا عما يدور في تلك البقاع النائية عنهما من العالم؛ سواء في العراق أو البرازيل؟ لأن المسرحية تأخذ مُشاهدها منذ أن يدخل المسرح الذي تُعرض فيه إلى حقل خصب من الأسئلة التي تؤكد له فيها من البداية أننا بإزاء تفكيك العملية المسرحية ذاتها.

A person standing on a stage with a person standing on his back

Description automatically generated

مشهد من مسرحية «أنتيجوني في الأمازون»

لأنك تدخل المسرح لتجد خشبة مفتوحة الستارة ومضاءة – فكل شيء محسوب بالطبع في عمل من هذا النوع. على جانبها الأيمن مائدة عليها أشياء ستستخدم كلها أثناء العرض، وحولها عدة مقاعد بلاستيكية رخيصة، وخلفها نوع من شماعات الملابس التي تشبه خزانة الملابس المفتوحة عُلقت عليها الكثير من الملابس المختلفة التي سيستخدمها الممثلون الأوروبيون في العرض. أما على الجانب الأيسر فثمة عازف جيتار جالس على مقعد، وبجانبه آلات موسيقية أخرى سوف يستخدمها تباعا، وبجانبه مقعد آخر، ومعه أحد أبناء منطقة غابات الأمازون. فالمشهد الافتتاحي الذي يدخل إليه المشاهدون ينطوي على نوع من الرغبة في تفكيك ما سيعرض أمامنا، وفي خلفية المسرح ثلاث ستائر طويلة عليها صور لغابات الأمازون، ستتحول لشاشات أثناء العرض. وإذا كان هذا كله لم يُعدّ المشاهد لما سيتلقاه، فإن ميلو راو سيعلن علينا من مقدمة الصالة التي لايزال ضوءها ساطعا، أنه يريد أولا وقبل بدء العرض، أن يعطي الميكروفون لمن يريدون أن يطرحوا علينا قضية مهمة.

وعندما يتقدم أصحاب تلك القضية لعرضها علينا، سنجد أنها المطالبة بالحرية لجوليان آسانج (صاحب موقع ويكيلييس الشهير) الذي يعاني من السجن في بريطانيا منذ عام 2015 لمجرد أنه كشف اللثام عن الحقيقة. والدعوة لعدم ترحيله إلى الولايات المتحدة الأمريكية، التي سيواجه فيها عقوبات بالسجن مدى الحياة، لكشفه عن الكثير من أسرار عملياتها الاستعمارية البغيضة التي عانى منها الكثيرون. ويطالبون المشاهدين بالتوقيع على نداء لهذا الغرض سيتركونه في بهو المسرح لهم عندما يخرجون من العرض. وما أن يبدأ الإظلام في الصالة حتى يتبين لنا أن الستائر الطويلة في خلفية المسرح التي تبدت عليها صور لغابات الأمازون، مكتوب عليها «هناك أشياء وحشية، لكن لا شيء أكثر وحشية من الإنسان». وهي الجملة التي يغنيها كورس المسرحية أمامنا، والتي توشك أن تلخص لنا جوهر ما سيدور أثناءها من أحداث. ويواصل الكورس أغنيته التي تتحدث عن قدرة الإنسان الخارقة على التمرد والتحدي، وعلى معاندة الأقدار، ولكنه لا يستطيع أن يهرب من الموت.

وينهض العرض بعد ذلك على التضافر والتداخل بين فرقة ميلو راو التي جاءت إلى البرازيل بغرض عرض مسرحية سوفوكليس الشهيرة (أنتيجوني)، وبين حركة «من لا أرض لهم»، وهم سكان غابات الأمازون الشاسعة الأصليون من ناحية، وأغلبية المزارعين الفقراء والذين كان أغلبهم من رقيق الأرض قبل الاستقلال من ناحية أخرى. وسوف نعرف أثناء المسرحية، ومن أهل البرازيل الأصليين أن أرض البرازيل التي تبلغ مساحتها أكثر من ثمانية مليون كيلو متر مربع تملكها خمسمئة عائلة، جلها من أصول أوروبية. وأن 3% من السكان تملك ثلثي الأرض الصالحة للزراعة، وأن سكان البرازيل الذين يتجاوزون المئتي مليون نسمة لا يملكون منها، هم والحكومة نفسها، إلا الثلث الباقي. وأن المواجهة بين من يملكون، ومن لا يملكون، وهم الأغلبية الساحقة ممن يزرعون الأرض، هي من القضايا الساخنة التي تسري في دماء تاريخ البرازيل الحديث في القرنين الماضيين.

وتختار المسرحية حدثا رمزيا دالا في ذلك التاريخ الطويل، جرى ظهر يوم 17 أبريل عام 1996 في ألدورادو دو كاراخا Eldorado do Caraja؛حينما حاول 1500 متظاهر من حركة «من لا أرض لهم» – وهي حركة تُختَصر بالحروف الثلاثة MST من اسمها البرتغالي الدال: وهو Movimento dos Trabalhadores Rurais Sem Terra والذي يعني حركة العمال الزراعيين ممن لا أرض لهم – أن يتوجهوا في مسيرة سلمية إلى بيليم Belem وهي عاصمة محافظة بارا Para في شمال البرازيل، بدأت في 10 أبريل، كي يحصلوا على الأوراق الرسمية التي تقنن وضعهم وعائلاتهم التي يبلغ تعدادها 3500 نسمة  في أرض تُركت مهجورة حتى بارت، وقد احتلوها وعاشوا فيها ويواصلون زراعتها. فقط يريدون تقنين وضعهم فيها، فضلا عن الاحتجاج السلمي في الوقت نفسه على قطع أشجار غابات الأمازون ا لاستوائية المجاورة، وتضامنا مع سكانها. ومع أن تظاهرتهم كانت سلمية طوال الأيام السبعة الماضية. إلا أن 150 شرطيا من البوليس الحربي المدججين بالأسلحة النارية اعترضوا طريقهم عند إلدرادو دو كاراخا؛ واغلقوا بعرباتهم الطريق أمامهم، وفتحوا عليهم نيران الذخيرة الحية. فقتلوا بدم بارد زعيم المظاهرة و18 آخرين من قادتها، كما أصابوا وجرحوا 69 آخرين كانت إصابات بعضهم من التي تركتهم معوّقين للأبد.

ويحكي لنا ميلو راو أن الدراماتورجي البرازيلي الذي عمل معه في تلك المسرحية وهو دوجلاس استيفام Douglas Etevam وهو المسؤول الثقافي في «حركة من لا أرض لهم»، وكان يعمل مع المخرج والمنظر المسرحي البرازيلي الشهير أوجوستو بوال Augusto Boal  (1931-2009) صاحب تجربة (مسرح المقهورين) اللامعة، ودورها في إدماج المشاهد فيما يدور أمامه على المسرح والمساهمة في تغييره. وقد كان بوال أحد أشهر الداعمين لأصحاب «حركة من لا أرض لهم»، باعتبارها أحد إن لم تكن أكبر حركات الاحتجاج الاجتماعي في العالم. هو الذي أقترح عليه أن يعملا معا عام 2019. فعرض عليه ميلو راو أن يعملا معا على نص (أنتيجوني) باعتبارها تطرح أسئلة الحضارة الحديثة ومنطقها في نقض القيم الإنسانية التقليدية. وأن تكون نقطة انطلاق العرض هي مذبحة إلدورادو دو كاراخا الشهيرة هناك. بصورة يتم فيها نوع من التداخل بين السياسة والشعر، بين أعضاء حركة MST التي كانت تعمل مع/ وتحت إشراف/ دوجلاس استيفام في ورشة فنية على تطوير كورس وفيلم عن أعمال MST وخاصة عن لحظة المواجهة التاريخية المهمة بينها وبين قهر السلطة الغاشم عام 1996 بعد تصويره في فيديو، وبين أعضاء فرقته الذين يقدمون لهم (أنتيجوني). في نوع من التضافر الذي يسعى إلى أيقاظ الوعي وحث المشاهدين على اتخاذ موقف مما يعيشونه.