هل تصلح كلاسيكيات المسرح الغربية لكل زمان ومكان؟
لاشك أن الحرب الروسية الأوكرانية قد عززت من أسئلة أوروبا حول نفسها، وهويتها ومصيرها. لأن الحروب هي التي تدفع بقوة أسئلة كثيرة كانت كامنة تحت السطح، لا يطرحها إلا الفن والمثقفون، إلى الواجهة. ذلك لأن دور الفن والأدب عموما هو طرح الأسئلة على الواقع الذي صدر عنه، وإن كان أكثر طموحا فعلى الواقع الإنساني الأعرض. وهذا في الواقع هو ما شعرت به عند مشاهدتي لهذا العرض المسرحي الجميل (أنتيجون في الأمازون Antigone in the Amazon) والذي أعده وأخرجه المسرحي السويسري/ البلجيكي ميلو راو Melo Rau، والذي يعتبره الكثيرون واحد من أهم المسرحيين الطالعين في أوروبا الآن. لأنه ابن أوروبا بمعناها الحديث الذي أزال الحدود بين بلدانها الصغيرة، كي تصبح قوة اقتصادية وثقافية يُعتدّ بها. فقد ولد في برن بسويسرا عام 1977، ودرس علم الاجتماع والأدب في جامعة باريس على أيدي بيير بورديو وتودوروف. وتعلم منهما طرح الأسئلة الجوهرية حول ما يتناوله من موضوعات. وقد بدأ العمل في المسرح والسينما والنشر والكتابة النقدية والإبداعية مع مطلع هذا القرن.
ميلو راو
وقبل مواصلة الحديث عن هذا المخرج والمعد المسرحي الموهوب الذي قدم لنا قراءة إبداعية ومستبصرة لمسرحية (أنتيجوني) العظيمة أود الإشارة إلى أن قراءات تلك المسرحية المعاصرة تتزايد باستمرار في السنوات الأخيرة. فقد شاهدت أكثر من قراءة حديثة لها في المسرحين الإنجليزي والأيرلندي في السنوات العشر الأخيرة. تكشف كل منها عن قدرتها على التعامل مع ما يدور في تلك البقاع، وما يدور للإنسان بشكل عام. وسبق أن كتبت للقارئ العربي عن قراءة يابانية مدهشة لها جاء بها من اليابان مهرجان أفينيون قبل أعوام قليلة. ذلك لأن عالمنا المعاصر يعاني بشكل غير مسبوق من تخلخل المعايير والقيم الإنسانية الأصيلة بدعاوى وأغاليط مختلفة. بالصورة التي يتذرع فيها الاستبداد بالقانون، وتصبح فيها المقاومة واجبا إنسانيا. وهو الأمر الذي يتطلب العودة إلى موضوع هذه المسرحية الأثير، ألا وهو كيف يمكن للقيم الإنسانية النبيلة والمبدأية أن تواجه هذا الخلل، وأن تتصدى لأخطائه التي ستؤدي حتما للتردي والانهيار؟ وكيف يمكن للإنسان أن يحافظ على إنسانيته وكرامته في وجه سلطات جائرة تتسلح بالقانون، وتستخدم باسمه العنف والبطش والأنانية؟
وسوف نكتشف بعد تحليل هذا الإعداد الجديد والفريد لها، أن هذا الهم أيضا كان شاغل مخرجها ومعدّها الذي حرص منذ بواكير شبابه على أن يعيش بنفسه في أكثر مناطق عالمنا التهابا، واشتعالا بالحروب والخلل. حيث عاش لعدة شهور في العراق عقب الغزو الأمريكي الغاشم لها مباشرة. وعاد إليها بعد ذلك أكثر من مرة، كي يستوعب ما يدور فيها من أهوال. كما زار شمال سوريا أكثر من مرة، وتعرف بنفسه على ما يعانيه شعبها من كوارث. هذا فضلا عن زياراته الطويلة التي امتد بعضها لشهور في عدد من المناطق الملتهبة بالنزاعات في القارة الأفريقية، وخاصة في الكونغو التي كتب عنها عملا مسرحيا مثيرا للاهتمام. ويعده كثير من المتابعين من أكثر أبناء جيله غزارة في الإنتاج؛ حيث نشر حتى الآن أكثر من خمسة عشر كتابا، وأخرج عددا من المسرحيات والأفلام. وقد اتسمت كتاباته ومسرحياته وأفلامه بطرح الأسئلة التي يتجنبها الآخرون، وبطريقة شائكة في كثير من الأحيان. وفي عام 2020 حازت مسرحيته (الأورستيا في الموصل Orestes in Mossel) على أكثر من جائزة أوروبية بعدما حولها إلى فيلم سينمائي.
أما هذا العام 2023 فقد أفتتح المسرح القومي بجنت NTGent في بلجيكا – والذي أصبح مديرا له منذ عدة سنوات – عروضه بمسرحيته الجديدة (أنتيجوني في الأمازون) في مايو 2023، ثم جاء بها إلى مهرجان أفينيون في شهر يوليو من نفس العام. ومع أنني لم أشاهد مسرحيته، أو فيلمه عن (الأوريستيا في الموصل) فإن مسرحيته الجديدة (أنتيجوني في الأمازون) تبدو وكأنها تواصل طرح نفس الأسئلة: هل تصلح النصوص الإغريقية الكبرى التي كُتبت في القرن الخامس قبل الميلاد كي تكشف لنا عن مدى ما تعانيه أوروبا الراهنة، وفي حالة العراق أميركا، المتمركزة على ذاتها من العمى؟ ناهيك عن أن تكشف لنا عما يدور في تلك البقاع النائية عنهما من العالم؛ سواء في العراق أو البرازيل؟ لأن المسرحية تأخذ مُشاهدها منذ أن يدخل المسرح الذي تُعرض فيه إلى حقل خصب من الأسئلة التي تؤكد له فيها من البداية أننا بإزاء تفكيك العملية المسرحية ذاتها.
مشهد من مسرحية «أنتيجوني في الأمازون»
لأنك تدخل المسرح لتجد خشبة مفتوحة الستارة ومضاءة – فكل شيء محسوب بالطبع في عمل من هذا النوع. على جانبها الأيمن مائدة عليها أشياء ستستخدم كلها أثناء العرض، وحولها عدة مقاعد بلاستيكية رخيصة، وخلفها نوع من شماعات الملابس التي تشبه خزانة الملابس المفتوحة عُلقت عليها الكثير من الملابس المختلفة التي سيستخدمها الممثلون الأوروبيون في العرض. أما على الجانب الأيسر فثمة عازف جيتار جالس على مقعد، وبجانبه آلات موسيقية أخرى سوف يستخدمها تباعا، وبجانبه مقعد آخر، ومعه أحد أبناء منطقة غابات الأمازون. فالمشهد الافتتاحي الذي يدخل إليه المشاهدون ينطوي على نوع من الرغبة في تفكيك ما سيعرض أمامنا، وفي خلفية المسرح ثلاث ستائر طويلة عليها صور لغابات الأمازون، ستتحول لشاشات أثناء العرض. وإذا كان هذا كله لم يُعدّ المشاهد لما سيتلقاه، فإن ميلو راو سيعلن علينا من مقدمة الصالة التي لايزال ضوءها ساطعا، أنه يريد أولا وقبل بدء العرض، أن يعطي الميكروفون لمن يريدون أن يطرحوا علينا قضية مهمة.
وعندما يتقدم أصحاب تلك القضية لعرضها علينا، سنجد أنها المطالبة بالحرية لجوليان آسانج (صاحب موقع ويكيلييس الشهير) الذي يعاني من السجن في بريطانيا منذ عام 2015 لمجرد أنه كشف اللثام عن الحقيقة. والدعوة لعدم ترحيله إلى الولايات المتحدة الأمريكية، التي سيواجه فيها عقوبات بالسجن مدى الحياة، لكشفه عن الكثير من أسرار عملياتها الاستعمارية البغيضة التي عانى منها الكثيرون. ويطالبون المشاهدين بالتوقيع على نداء لهذا الغرض سيتركونه في بهو المسرح لهم عندما يخرجون من العرض. وما أن يبدأ الإظلام في الصالة حتى يتبين لنا أن الستائر الطويلة في خلفية المسرح التي تبدت عليها صور لغابات الأمازون، مكتوب عليها «هناك أشياء وحشية، لكن لا شيء أكثر وحشية من الإنسان». وهي الجملة التي يغنيها كورس المسرحية أمامنا، والتي توشك أن تلخص لنا جوهر ما سيدور أثناءها من أحداث. ويواصل الكورس أغنيته التي تتحدث عن قدرة الإنسان الخارقة على التمرد والتحدي، وعلى معاندة الأقدار، ولكنه لا يستطيع أن يهرب من الموت.
وينهض العرض بعد ذلك على التضافر والتداخل بين فرقة ميلو راو التي جاءت إلى البرازيل بغرض عرض مسرحية سوفوكليس الشهيرة (أنتيجوني)، وبين حركة «من لا أرض لهم»، وهم سكان غابات الأمازون الشاسعة الأصليون من ناحية، وأغلبية المزارعين الفقراء والذين كان أغلبهم من رقيق الأرض قبل الاستقلال من ناحية أخرى. وسوف نعرف أثناء المسرحية، ومن أهل البرازيل الأصليين أن أرض البرازيل التي تبلغ مساحتها أكثر من ثمانية مليون كيلو متر مربع تملكها خمسمئة عائلة، جلها من أصول أوروبية. وأن 3% من السكان تملك ثلثي الأرض الصالحة للزراعة، وأن سكان البرازيل الذين يتجاوزون المئتي مليون نسمة لا يملكون منها، هم والحكومة نفسها، إلا الثلث الباقي. وأن المواجهة بين من يملكون، ومن لا يملكون، وهم الأغلبية الساحقة ممن يزرعون الأرض، هي من القضايا الساخنة التي تسري في دماء تاريخ البرازيل الحديث في القرنين الماضيين.
وتختار المسرحية حدثا رمزيا دالا في ذلك التاريخ الطويل، جرى ظهر يوم 17 أبريل عام 1996 في ألدورادو دو كاراخا Eldorado do Caraja؛حينما حاول 1500 متظاهر من حركة «من لا أرض لهم» – وهي حركة تُختَصر بالحروف الثلاثة MST من اسمها البرتغالي الدال: وهو Movimento dos Trabalhadores Rurais Sem Terra والذي يعني حركة العمال الزراعيين ممن لا أرض لهم – أن يتوجهوا في مسيرة سلمية إلى بيليم Belem وهي عاصمة محافظة بارا Para في شمال البرازيل، بدأت في 10 أبريل، كي يحصلوا على الأوراق الرسمية التي تقنن وضعهم وعائلاتهم التي يبلغ تعدادها 3500 نسمة في أرض تُركت مهجورة حتى بارت، وقد احتلوها وعاشوا فيها ويواصلون زراعتها. فقط يريدون تقنين وضعهم فيها، فضلا عن الاحتجاج السلمي في الوقت نفسه على قطع أشجار غابات الأمازون ا لاستوائية المجاورة، وتضامنا مع سكانها. ومع أن تظاهرتهم كانت سلمية طوال الأيام السبعة الماضية. إلا أن 150 شرطيا من البوليس الحربي المدججين بالأسلحة النارية اعترضوا طريقهم عند إلدرادو دو كاراخا؛ واغلقوا بعرباتهم الطريق أمامهم، وفتحوا عليهم نيران الذخيرة الحية. فقتلوا بدم بارد زعيم المظاهرة و18 آخرين من قادتها، كما أصابوا وجرحوا 69 آخرين كانت إصابات بعضهم من التي تركتهم معوّقين للأبد.
ويحكي لنا ميلو راو أن الدراماتورجي البرازيلي الذي عمل معه في تلك المسرحية وهو دوجلاس استيفام Douglas Etevam وهو المسؤول الثقافي في «حركة من لا أرض لهم»، وكان يعمل مع المخرج والمنظر المسرحي البرازيلي الشهير أوجوستو بوال Augusto Boal (1931-2009) صاحب تجربة (مسرح المقهورين) اللامعة، ودورها في إدماج المشاهد فيما يدور أمامه على المسرح والمساهمة في تغييره. وقد كان بوال أحد أشهر الداعمين لأصحاب «حركة من لا أرض لهم»، باعتبارها أحد إن لم تكن أكبر حركات الاحتجاج الاجتماعي في العالم. هو الذي أقترح عليه أن يعملا معا عام 2019. فعرض عليه ميلو راو أن يعملا معا على نص (أنتيجوني) باعتبارها تطرح أسئلة الحضارة الحديثة ومنطقها في نقض القيم الإنسانية التقليدية. وأن تكون نقطة انطلاق العرض هي مذبحة إلدورادو دو كاراخا الشهيرة هناك. بصورة يتم فيها نوع من التداخل بين السياسة والشعر، بين أعضاء حركة MST التي كانت تعمل مع/ وتحت إشراف/ دوجلاس استيفام في ورشة فنية على تطوير كورس وفيلم عن أعمال MST وخاصة عن لحظة المواجهة التاريخية المهمة بينها وبين قهر السلطة الغاشم عام 1996 بعد تصويره في فيديو، وبين أعضاء فرقته الذين يقدمون لهم (أنتيجوني). في نوع من التضافر الذي يسعى إلى أيقاظ الوعي وحث المشاهدين على اتخاذ موقف مما يعيشونه.
مشهد من «أنتيجوني في الأمازون»
وفي فبراير 2020 حينما قدم دوجلاس استيفان ميلو راو وفرقته إلى تلك الورشة وجدوا أنها مشغولة بالكثير من الأسئلة التي تتناول دور المرأة، ودور الدين في ذلك الصراع، وهو الأمر الذي أكد له أهمية اختياره لـ(أنتيجوني). لكنهم ما أن بدأوا في العمل حتى اندلعت جائحة الفيروس التاجي «كوفيد 19» فعادوا أدراجهم إلى أوروبا، ولم يتح لهم الرجوع للبرازيل لمواصلة العمل من جديد على هذا المشروع إلا مع مطالع 2023. وعندما عادوا وجدوا أن تلك الورشة قد أنتجت – أثناء غيابهم – فيلما عمّا جرى عام 1996، وهو عمل تطوّر عبره أحد الفلاحين – بسبب شبهه بقائد تلك المظاهرة السلمية الذي قتلته الشرطة الحربية بدم بارد – ليصبح ممثلا محترفا. وبدأت عملية التفاعل بين العملين: ذلك الذي يروى ما جرى عام 1996 وكيف انتهي بانتصار حركة MST في الاستيلاء على الأرض التي أرادوا الحصول عليها بسبب تبويرها، وقد أصبح استيلاؤهم عليها قانونيا، من ناحية؛ ومن الناحية الأخرى الإعداد الجديد، والذي أصبح ضروريا الآن لمسرحية (أنتيجوني).
وهكذا وأثناء هذا العمل المشترك، وجد ميلو راو نفسه يرجّع في أحاديث كريون الكثير من مفردات رئيس البرازيل اليميني السابق جايير بولسنارو Jair Bolsonaro. وبدأ التداخل والتضافر بين العملين في الإسفار عن نفسه. لأن ميلو راو لا ينسى أبدا في إعداده الخلاق لمسرحية سوفوكليس الجانب السياسي في حيرة «انتيجوني». لأنه إذا كانت أنتيجوني الأصلية تطرح في صدارة دراميتها الصراع بين الحق الإنساني البدئي – حق الإنسان في الدفن منذ أن قتل قابيل أخاه هابيل – وقوة السلطة الغاشمة وقدرتها على العصف بأبسط حقوق الإنسان. فإنها أيضا مسرحية عن قدرة أنتيجوني على أن تصل لحل وسط يتيح لها الزواج من ابن كريون، وبالتالي إلغاء الأحكام الجائرة التي لا تتفق مع أبسط الشرائع الإنسانية. لكنها في أي تأويل عصري لها، يمكنها أن تضفي على ذلك مواصلة العمل الفعّال على ما يهمها من قضايا بيئية ونسوية في هذه الحالة. في عالم تسود فيه قوانين الرأسمالية النيوليبرالية الجائرة، الذي أصبحت مخاطر نظامها الجائر وقدراته التدميرية مكشوفة للجميع.
لأن ميلو راو لا ينسى أن «أنتيجوني» في نهاية الأمر هي ابنة «أوديب» القادر على قتل الأب، وعلى ممارسة الجنس مع المحارم. وهي ليست تلك الأخت النبيلة الطيبة التي لا تريد غير دفن جثة أخيها، وإنقاذها من أن تأكلها الجوارح. ولكنها تعي أنها تعيش وسط حراك معقد لسلطة جائرة عليها أن تتسلح في وجهها بأقوى الذرائع، وأن تشعرها بفداحة ما ترتكبه من عار. إنها برغم موقفها النبيل، وإصرارها على دفن أخيها في وجه سلطة كريون الجائرة، بنت ذلك الوضع الإنساني المعقد والمثقل في الآن نفسه بالأخطاء البشرية. فهي بنت الواقع الذي يستأثر فيه كريون وأمثاله بالسلطة، ويستطيعون فرض أوامرهم على الكثيرين. وأن يدفعوهم إلى حالة من التعايش الخطر مع تلك المتناقضات. لكن القطع المستمر أثناء العرض بين ما تعيشه أنتيجوني وما عاشه أبناء «حركة من لا أرض لهم» هو الذي يرود خطواتها في هذا الواقع الجديد. لأن العرض وهو يقدم لهم مسرحية (أنتيجوني) يضفر بين أحداثها ومقتطفات الفيديو واللقطات الوثائقية لما جرى عام 1996، ولما أصبح عليه الحال الآن، وكيف أن النضال من أجل هدف إنساني حقيقي – خاصة ولو كان مرتبطا بتحقيق قدر من العدل الاجتماعي للفقراء – لابد له أن ينتصر ولو بعد حين!
فقد استطاعت الحركة أن تحقق هدفها الصغير على الأقل، وهو جعل استيلاء هؤلاء الفقراء ممن لا أرض لهم على الأرض البور وزراعتها لحسابهم قانونيا. وانتصارهم على مختلف ذرائع الحكومة الهشة من ضرورة الاستيلاء عليها لشق طريق للسكك الحديدية أو حتى لتمرير الكهرباء. وبينما نتعرف من خلال الفيلم الوثائقي على هذا، فإننا نتلقى بشكل مغاير صرخة أنتيجوني في وجه السلطة الغاشمة: «أنى توجهت يا كريون، لن تجد إلا ضميرك الذي يؤنبك.» كما أننا نفهم بشكل أعمق مقولة المسرحية: إن الحروب الأهلية – حيث يكون القاتل والمقتول من نفس العائلة – هي أكثر الحروب عنادا ووحشية. بصورة تكشف لنا عن أن إعادة كتابة الكلاسيكيات هي في مستوى من مستويات تأويلها المتعددة إعادة لفهم الواقع الذي نعيش فيه، ووضع تحولاته في إطار يساهم في الوعي بضرورة تغييرها. وإذا كان نضال «حركة من لا أرض لهم» قد حقق شيئا، فإن الطريق أمامه – وأمامنا – لا يزال طويلا! وخاصة فيما يتعلق بوقف اجتثاث غابات الأمازون التي تشكل الرئة الأساسية للكرة الأرضية بعيد المنال. حيث لا يزال الفيلم والشرائط الوثائقية التي تتفاعل مع (أنتيجوني) توكد لنا أن الأرض مصابة بالحمى، وأعراضها إصابتها المختلفة تتجلى أمامنا في كل مكان، ولكننا ندعي العمى وننكر رؤيتها! بل وتصرخ فينا: أسرعوا وأنقذوا ما تحبون!
إننا هنا بإزاء مزج خلّاق بين المأساة الإغريقية الشهيرة، وقصة سكان غابات الأمازون الأصليين، وقد جُردوا من أراضيهم بقوانين تعسفية جائرة. تيسر القضاء الفظ على غابات الأمازون الشهيرة، من أجل إثراء حفنة ضئيلة من الرأسمالية البرازيلية/ الأمريكية الجشعة، التي لا تأبه بشروط التوازن البيئي لكوكبنا. ولكنهم يصارعون أيضا من أجل الاستمرار في الحياة التقليدية البسيطة التي ورثوها عن أسلافهم، ومن أجل الحفاظ على تلك الغابات الضرورية للحفاظ على حياة البشر جميعا. أو بإزاء أمثولة رمزية للنضال السياسي في عصرنا الحديث، وأهمية مواصلته لمقاومة شرور عالمنا المعاصر وهي تسعى لقلب المنطق الإنساني البسيط والسليم، بتلك القوانين أو الادعاءات الجائرة التي منحت حفنة من العائلات في العهد الاستعماري حقوق ملكية تلك الغابات الشاسعة، دون حق غير حق الاغتصاب بالقوة الغاشمة؛ في عالم مُدَمِّر لكل ما هو جميل وإنساني. فميلو راو يسعى لخلق مسرح تنويري وتثويري معا، يضيء للمشاهد الطريق، ويحثه على القيام بدور فعّال في واقعه.
لأنه يحرص – كما يقول لنا في برنامج المسرحية المطبوع – على أن ينتقد الطريقة التي يعمل بها المسرح التقليدي أيضا، فثمة وراء الكثير من تلك القضايا، بل وضمنها، قضية المسرح نفسه ودوره في الواقع الجديد. بصورة يبدو أنه يمد فيها مسرح المقهورين عند أوجوستو بوال إلى غير المقهورين، من أجل أن يغيّر وعيهم وأن يدفعهم للتفكير في واقعهم الأوروبي المريح – والمدمر للآخرين في الوقت نفسه – من جديد. إنه يحلل بنية الفعل المسرحي نفسه ابتغاء تغييره، حتى يصبح للمسرح دوره الفعّال في واقع استنام إلى دعة اللامبالاة، والتعامل مع المسرح على أنه نوع من التسلية والترفيه. وهذا المسرح الجديد الذي يطمح إلى تحقيقه يعي أننا نعيش في حضارة كوكبية/ أو معولمة تستند على مجموعة من الأساطير الإغريقية أو المتوسطية على أكثر تقدير، ولكنها تتجاهل بقية ثقافات العالم وأساطيرها ومعتقداتها. لهذا كان التضافر ضروريا بين (أنتيجوني) بافتراضاتها الأوروبية، وما بلوره فيلم «حركة من لا أرض لهم» وسكان غابات الأمازون الأصليون من رؤى ومقولات. تنهض كلها على اساطيرها الخاصة، ومعتقداتها المختلفة، وأنساق حياتها البدئية التي تُجِلّ كل مكونات عالمها من الحيوان والحجر والبشر. فنحن هنا بإزاء طريقة جديدة كلية في إنتاج المسرح، تفضي بالتالي إلى خلق معارف جديدة، مغايرة للسائد ومضادة له بغية تغييره.
ألكسندر زيلدن ومسرح الإفضاءات الحقيقية:
مع مسرحية (اعترافات The Confessions) نعود إلى المسرحيات التي جاء بها مهرجان هذا العام من بريطانيا. ذلك لأن كاتب هذه المسرحية ومخرجها هو ألكساندر زيلدن Alexander Zeldin من كتاب القرن الجديد في المسرح الإنجليزي. وربما يكون أحد أهم كتاب جيله، وأشدّهم وعيا بتغيرات الواقع في بريطانيا في العقدين الأخيرين، بل وأكثرهم مهارة وقدرة على ترجمة هذا الوعي مسرحيا بصورة جديدة وعميقة وناجحة معا. ولذلك فإنه في رأيي المتواضع أكثر من جلبهم مهرجان هذا العام جدارة بتمثيل حاضر المسرح البريطاني، وأحقهم بأن يهتم به مسرحنا العربي. وأن يترجم المعنيون بالمسرح فيه مسرحياته التي لديها الكثير لتقدمه لواقعنا الراهن الذي تعاني كثير من بلدانه من الفقر والهوان. لذلك سأتريث قليلا عند مسيرته وأقدم للقارئ ملامح تجربته المسرحية، قبل تناول مسرحيته الجديدة التي جاء بها إلى المهرجان. فقد سبق أن شاهدت له أكثر من مسرحية، على مدّ الأعوام الأخيرة، وإن لم تتح لي، برغم جدارتها بالكتابة عنها، فرصه الكتابة عنه أو تقديمه للقارئ العربي.
الكسندر زيلدن
وقد ولد ألكساندر زيلدن في بريطانيا 1985 لأب يهودي روسي هاجر إليها قبيل الحرب العالمية الثانية، وعمل فيها مدرسا للأدب واللغات في أكسفورد وأم استرالية/ انجليزية. ومع أن الأب قد امتنع عن الحديث بلغته الروسية الأم داخل أسرته، إلا أنه أرسل ابنه للتعليم في المدرسة الأوربية للغات، التي مكنته من إجادة عدد من اللغات الأوروبية المختلفة. لكن الأب مات وألكسندر في الخامسة عشرة من عمره. وسرعان ما تغلب الصبي على وفاة أبيه بالغرق في المسرح حيث أعد أول مسرحية له وهو في السابعة عشرة من عمره، وفي العام الأول من دراسته الجامعية بأكسفورد، التي التحق بها لدراسة الأدب الفرنسي لأنه كان يعي أن هذه كانت رغبة أبيه، وأن موته المبكر يستوجب عليه الالتزام بوصيته. والواقع أن تصاريف حياته التالية؛ والتي أدت بأمه أيضا إلى أن تتركه في بريطانيا ما أن انهى دراسته الثانوية، وحصل على منحة للدراسة في جامعة أكسفورد، والعودة إلى استراليا، دفعته للغرق أكثر في عالم المسرح. فقد كان المسرح هو شغفه الرئيسي والعالم الذي يجد فيه نفسه.
لذلك سرعان ما أعد مسرحية بعنوان (لمحات من عملية الموت Glimpses of the Dying Process) عن رواية مارجريت دوراس (1914-1996) الشهيرة (Moderato Cantabile)[i] وشارك بها في مهرجان إدنبرة المسرحي عام 2002؛ والتي حظيت باختيار النقاد لها كأسوأ مسرحيات مهرجان إدنبرة التجريبي في ذلك العام. وهو الأمر الذي لم يزعزع اهتمامه بالمسرح بل زاده إصرارا عليه. وما أن حصل على ليسانس في الأدب الفرنسي من أكسفورد، حتى قرر السفر وراء المسرح. فذهب إلى القاهرة حيث حاول العمل مع فريق من الممثلين على إعداد نسخة مصرية من مسرحية شكسبير (روميو وجولييت) وأمضى بمصر عاما كاملا، ذهب بعده إلى كوريا الجنوبية، ثم جورجيا، ثم روسيا التي قرر أن يستقر فيها بحثا عن جذور عائلته بها في سان بيترسبورج. وأعال نفسه بأعمال الترجمة وتدريس اللغة الإنجليزية، بينما كان يتعلم اللغة الروسية. وأمضى فيها أكثر من سنة، كان يذهب فيها كل ليلة إلى الأوبرا أو الباليه أو المسرح. وكان يمضي كثيرا من نهاراته في قاعات بروفات الأوبرا. ويعترف بأن تلك المرحلة كانت من أهم سنوات تكوينه المسرحي، لأن عمله في قاعات بروفات الأوبرا خاصة مكنه من إدراك أهمية الموسيقى بمعنى الكلمة الواسع. فكل شيء في الأوبرا محكوم بنوتتها الموسيقية، وتُقيّم مهارة أي مخرج لها بقدرته على خلق التساوق الفعّال بين الموسيقى، وكل ما يدور أمام المشاهد؛ من الضوء والحركة والإيقاع وحتى تناغم مختلف التعبيرات الجسدية.
لكن النقلة الحقيقية في حياته المسرحية جاءت حينما رحل إلى باريس وعمل بين 2010 – 2012 مساعدا لبيتر بروك (1925 -2022) ومعاونته في سنوات حياته الأخيرة ماري هيلين إستيان Marie-Hélène Estienne، في إخراجه لأوبرا (الناي السحري) الشهيرة لموزارت. ويذكر لنا زيلدن أن بروك طلب منه في بداية العمل معه، أن يكتب صفحة واحدة كل يوم عمل أثناء التدريبات، يقرأها عليه في صباح اليوم التالي. وهو الأمر الذي جعله يفتح عينيه على اتساعهما على كل ما يدور، ويفكر في كل حركة ونأمة وصوت. وهو ما تعلم منه الكثير عن إيقاع العمل المسرحي. خاصة وأن الأوبرا – كما سبق له أن اكتشف في تجربته بموسكو – لابد أن يخضع كل شيء فيها للموسيقى نغما وحركة وإيقاعا. وأهم ما تعلمه من بروك هو أن المسرحية لا تعظ ولا تهدد أو تتوعد، وإنما عليها أن تقدم حياة حقيقية مترعة بالصدق والعنفوان على الخشبة. وبعدما عاد زيلدين إلى بريطانيا، بعد هذه التجربة الثرية، وبعد سنوات من التكوين المسرحي في أكثر من مكان بالعالم، وخاصة في موسكو ثم في باريس. عمل في تدريس المسرح في إحدى كليات لندن المحلية وهيEast 15 Acting School التابعة لجامعة إسكس. هنا بدأ يضع تجاربه وخبراته المختلفة في خدمة طلابه من ناحية، وفي كتابة نص تجريبي مغاير من ناحية أخرى.
ومع أنني لا أعرف إن كان قد زار تونس أم لا، في سنوات الرحيل وراء التكوين المسرحي – حيث يذكر لنا في سيرته أنه ذهب إلى مصر وإلى الشرق الأوسط – فإنه استخدم حينما بدأ الكتابة المسرحية مع طلابه بعض أساليب الكتابة الركحية – التي طوّرها عدد من المسرحيين التوانسة[ii] منذ ثمانينيات القرن الماضي – والتي تستخدم في المسرح الإنجليزي – في حدود علمي – لأول مرة. صحيح أنه يرفدها ببحث موسع حول الموضوع الذي سيتناوله. بالصورة التي دعت البعض إلى وصف ما يقوم به باسم stage writing وهي ترجمة إنجليزية للكتابة الركحية. حيث يشرحها هو نفسه في أكثر من مناسبة بأنها كتابة لا تأخذ اللغة فقط بعين الاعتبار، وإنما تستخدم معها لغة الجسد، والشخصية والمناخ المحيط بها، والضوء، والصوت. بالصورة التي دعت البعض إلى تسمية ما يقوم به بالمسرح الوثائقي docu-theater وهي تسمية لا يحبذها، إذ يؤكد على الطبيعة الإبداعية لما يقوم به. لأن زيلدن لم يعتبر المسرح أبدا مكانا للتوهيم، وإنما فضاء يلتقي فيه الجميع للشعور بالحياة بقدر من العنفوان الذي يُعدّ لديه جوهر المسرح ودوره معا.
ولهذا السبب نجد أن أغلب مسرحياته تقدم في وقتها In Real Time – حيث يصبح زمن العرض هو زمن الحدث – بينما تكون الصالة مضاءة طوال العرض، للقضاء على أي نوع من الوهم أو التوهيم. حيث يقول لنا في لقاء أُجري معه: «إنني أريد أن أواجه المشاهدين بتجربة مكثفة وحميمية ومثيرة للانفعال. لا أريد المسرح أن يكون مكانا مريحا، ولا مكانا لتحقيق نوع من الرضا الجمعي أو الاتفاق المجتمعي، ولكني أريده أن يكون خلافيا وصادما، لأن إزعاج المشاهد شيء إيجابي في نظري.» وهذا التصور للمسرح، والتوجه الذي اختطه طوال العقد الماضي هو ما جعل عددا من النقاد يوصون من يريد أن يعرف حالة بريطانيا الراهنة بشكل حقيقي، ودور المسرح في الواقع ورغبته في تغييره، بمشاهدة مسرحياته؛ وخاصة الثلاثية التي تعرف الآن باسم ثلاثية اللامساواة The Inequalities. صحيح أنه لم يبدأ العمل فيها كثلاثية، ولكن النقد المسرحي الإنجليزي أضفى على تلك المسرحيات بعد اكتمالها تلك الصفة، برغم اختلاف موضوعاتها وعدم وجود أي خيط درامي رابط بينها، اللهم إلا قدرتها جميعا على الكشف عما يعانيه المجتمع الإنجليزي في هذا القرن الجديد من تآكل العدالة الاجتماعية، وتفاقم عدم المساواة، وازدياد الفقر، واستشراء القهر والمعاناة، في ظل سياسات التقشف وتقليص الإنفاق العام التي انتهجتها حكومات المحافظين المتتالية.
ثلاثية اللامساواة والواقع البريطاني الرديء:
والواقع أن المسرحية الأولى في هذه الثلاثية قد تطورت أثناء عمله مع طلابه، وهي المسرحية التي حملت عنوان (ما وراء الرعاية Beyond Caring) والتي لقيت نجاحا كبيرا، ولفتت له الأنظار. وهي مسرحية استطاعت أن تضع أصبعها على نبض الواقع الاجتماعي المتردي في بريطانيا في هذا القرن الجديد الذي أصبحت الكلمة المفتاحية فيه هي التقشف. لأنها تقدم نماذج متعددة ممن يضطرون للعمل وفق عقد مجحف يدعى بعقد صفر من الساعات Zero Hours Contract. وهو نوع من العقود الاستغلالية التي بدأت تطل برأسها بحياء مع بداية القرن الجديد، و نزوع حكومات المحافظين المتعاقبة إلى التخلص من دولة الرفاهية الاجتماعية القديمة التي كانت تحرص على توفير العمل والتعليم والصحة للجميع. ثم أخذ يتنامى وينتشر حتى آذت سطوته الكثيرين مع نهاية العقد الأول من هذا القرن. وهو زمن العمل على هذه المسرحية. وهو عقد لا يلتزم فيه صاحب العمل بأي شيء حيال عماله، لا معاشات، ولا إجازات، ولا ضمانات، ولا حتى بأن يقدم لهم الحد الأدنى من العمل مقابل أجر منتظم. وإنما أن يدفع لهم مقابل عدد الساعات التي يحتاج إلى عملهم فيها، دون أي التزام آخر مثل التأمين عليهم، أو الاشتراك في أي صندوق للمعاشات لهم. ناهيك عن الحق في أيام الراحة أو الإجازات. أو غيرها من الأمور التي تجعل المرء آمنا في عمله وحياته.
مشهد من «ما وراء الرعاية»
والواقع أن مثل هذا العقد المجحف لم يظهر في الواقع الأوروبي إلا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي – وانعدام حاجة المجتمع الرأسمالي في تنافسه معه أيام الحرب الباردة للالتزام بالحد الأدنى من الرعاية الاجتماعية – حينما كان وجود المجتمع الاشتراكي الذي يوفر لسكانه كل تلك المزايا من حق العمل والراحة والصحة والتعليم وحتى الثقافة والترفيه، يدفع المجتمع الرأسمالي لأن يوفر نفس المزايا، بالإضافة إلى الحرية والممارسات الديموقراطية التي حُرم منها أبناء البلدان الاشتراكية. وما أن انهار المعسكر الاشتراكي ذاك، حتى أسفرت الرأسمالية عن وجهها القبيح فيما يسمى بنهاية التاريخ مرة، والعولمة أخرى، والنيوليبرالية ثالثة. وها هو المجتمع الإنجليزي الذي حقق فيه العمال الكثير من المكاسب للطبقات الدنيا من المجتمع، تنقض عليها حكوماته المتتالية واحدا عبر الآخر بدعاوى الخصخصة مرة والمنافسة الحرة أخرى منذ زمن مارجريت ثاتشر وحتى الآن.
مشهد من «ما وراء الرعاية»
هنا نجد أنفسنا بإزاء الاستغلال في أبشع صوره، حيث اختار زيلدن في مسرحيته تلك عمال النظافة في إحدى المؤسسات والذين يعملون بعقد صفر من الساعات. وهو نفس النوع من العقود الذي أتاح له بسبب – مسيرته التعليمية – أن يدرّس في تلك الجامعة.[iii] فهو يعمل على موضوع يعيش تفاصيله بنفسه. وجعلنا نعيش معهم في صراعهم مع مخدوميهم من شركات أو مؤسسات خدمية أو تعليمية مختلفة للحصول على ما يسدون به رمقهم. ونتعرف على مدى مجالدتهم لهذا كله، وما يحيط به من خلل في كثير من الإجراءات. حيث نرى أمامنا بحق شخصيات إنسانية تسعى للحياة. شخصيات طيبة تبذل كل منها أقصى طاقتها لتعيش حياة كريمة. إلا أنها تبدو جميعا محاصرة في مصيدة هذا الوضع الناجم عن عِلل حقيقية في النظام العام، لا جريرة لأي منهم فيه. اللهم إلا إذا كان الفقر جريمة، في بلد يعد من أغنى سبعة دول في العالم.
أما المسرحية الثانية في هذه الثلاثية فهي (حب Love) التي وصلت للعرض في المسرح القومي الإنجليزي عام 2016. وهي مسرحية تدور في نُزل مخصص للمبيت المؤقت لمن لا بيت لهم. يعترف زيلدن في ندوة أقيمت أثناء عرضها بأن المسرحية قد تبلورت في صورتها المعروضة عليهم من خلال التعاون مع نزلاء مثل هذا السكن المؤقت. حيث تتجمع فيه – ولدلالة اختيار الزمن المهمة – قبيل عيد الميلاد وهو أهم المناسبات الدينية القومية للأسرة الإنجليزية، أسرة من أب محدود الدخل يصارع البيروقراطية التي عليها أن توفر له مسكنا بإيجار يتناسب مع دخله المحدود، وأم حامل في شهرها الأخير وطفليهما اللذين يشاركان في المدرسة في مسرحية ميلاد المسيح السنوية التي تعرضها المدارس الابتدائية في تلك المناسبة. وقد زُجّ بالأربعة في غرفة واحدة، بعدما فقدت الأسرة سكنها حينما رفع صاحب المسكن الإيجار بطريقة لا يستطيعون بها دفعه، فطردهم. ولجأت الأسرة إلى هذا الحل المؤقت حتى يوفر لها مجلس الحي سكنا ملائما. وفي غرفة أخرى – فنحن هنا في مكان أقرب إلى شقة فسيحة تؤجر غرفها منفصلة – كهل عاطل عن العمل في الخمسين من عمره، يرعى أمه التي ضعضعها المرض، وتشوش وعيها بسبب الأعراض الجانبية لما وُصف لها من أدوية، وأصبحت غير قادرة على رعاية نفسها. وتقيم في غرفة ثالثة مهاجرة سودانية تعتصم كثيرا بوحدتها، بينما نتعرف في غرفة رابعة على مهاجر سوري يعمل مدرسا ويريد التأقلم مع واقعه الجديد، والتدريب على العمل في رقص الباليه.
مشهد من مسرحية «حب»
وطوال ساعتي المسرحية نُشاهد في الزمن الحقيقي تفاصيل تعَرُّض الحياة اليومية الحميمة لكل منهم لعيون الآخرين، ووقع حرمانهم جميعا – بسبب ازدحام المكان – من أي خصوصية. فنحن هنا في مسرح يحقق ما دعا إليه همنجواي في حديثه عن «جبل الثلج العائم»، وعن أن دور السرد الرئيسي هو أن يرينا Showing الأشياء ويترك لنا أن نستخلص كل شيء منها، بدلا من أن يخبرنا Telling عنها. مسرح يرينا كل شيء بالتفصيل، بدلا من أن يخبرنا عنها. ويترك لنا الحكم، أو الانفعال الملائم لما يدور أمامنا. فنحن هنا بإزاء مسرح لا يغضب نيابة عن الجمهور، وإنما يتيح للجمهور أن يغضب بنفسه لما يدركه من ظلم يقع على هؤلاء الناس الأبرياء الذين لا ذنب لهم ولا جريرة في هذا الواقع الأليم المفروض عليهم. حيث نرى بأعيننا كيف يعاقب النظام رب الأسرة وأطفاله، لأنه لم يذهب لموعد حدده له مركز التوظيف، وتصادف أن كان هذا هو يوم طرد المالك القديم لهم عُنوة من شقتهم، ولجوئهم لموئل من لا سكن لهم. وكيف يتسابق الجميع لاستخدام الحمام/ المرحاض الوحيد في الشقة أمام أعين الجميع ممن يحتاجون إليه – ربما بشكل أكبر – في نفس اللحظة. وغير ذلك من الأمور التي تجهز على خصوصية كل منهم وتعرضهم لإهانات لا لزوم لها. بصورة نكتشف معها مدى هشاشة الإنسان، في بحثه عن المعنى، ومدى ضعفه إزاء قوانين وإجراءات فُرض عليه يصارع معها، وكيف أنه ضحية لنظام يحثّ المشاهد على طرح الأسئلة عليه.
مشهد من مسرحية «حب»
ثم توالت بعد هذه المسرحية التي عُرضت في المسرح القومي الانجليزي نجاحاته، فأخرج معالجة جديد لرائعة شكسبير (ماكبث) للمسرح الكوري. وأصبح فنانا مقيما في المسرح القومي الإنجليزي عام 2017. وفي عام 2019 افتتحت مسرحيته التالية (إيمان وأمل وإحسان Faith, Hope and Charity) بالمسرح القومي الإنجليزي، واكتملت بها ثلاثية (اللامساواة). وحظيت بكثير من التقدير النقدي والإعجاب الجماهيري؛ مما أدى لانتخابه مساعدا لمدير المسرح القومي في العام التالي 2020. وأذكر أنني شاهدت هذه المسرحية وقتها، وشاقني أن ترجمتها إلى العربية تهدف أولا – كما تريد المسرحية – إلى إبراز القيم الإنسانية الثلاثة التي يجسدها عنوانها. خاصة وأن برنامجها المطبوع يذكر المشاهدين بأن المجالس المحلية – والتي تدير الأحياء المختلفة في بريطانيا – قد عانت من قطع الحكومة للتمويل الذي تقدمه لها بنسبة 77% في السنوات الأربع الأخيرة – وأن ما يدور أمامنا في أحد مراكز الأحياء الخيرية التي أقامها بعض المتطوعين في مبنى مهجور – لا يريد المجلس المحلي أو ربما لا يستطيع إصلاح سقفه الذي تتسرب عبره المياه عند المطر – من أجل مساعدة المحتاجين في العقد الثاني من هذا القرن، وتزويد الفقراء بوجبة غذائية ساخنة في اليوم، هو نتيجة طبيعة لإجراء الحكومة ذاك باسم التقشف، وخفض الضرائب على الأغنياء.
والواقع أن ملاحظتي على ترجمة العنوان العربية تلك – والتي لا تنطبق في النص الإنجليزي إلا على اسم الفتاة الطفلة – هي بنت حرص المسرحية على الابتعاد كلية عن الوعظ أو الإرشاد، ووعيها بأن المسرح تجسيد لا تجريد، وإظهار لا إخبار. وأن هذه هي الحياة التي يعيشها عدد كبير من أبناء بريطانيا في هذا العصر الكئيب، عصر التقشف وازدياد الفقراء فقرا، والأغنياء غنى. عالم تتكاثر فيه بنوك الطعام – لاحظ أن المصطلح الإنجليزي يربط تلك الأنشطة التطوعية باسم البنك أو المصرف وهو بيت الرأسمالية التي تسببت فيه – ويمزق فيه الفقر أواصر العلاقات العائلية. لكن أهم ما تجسده في الوقت نفسه هي قدرة هؤلاء الذين يعانون من خطل النظام السائد، على أن يصنعوا من حياتهم البائسة، أو بالأحرى مما بقي منها، وبقدر كبير من التكيف والمرونة، حياة جديرة بكرامتهم الإنسانية، ترفض اليأس وتتذرع في وجهه بالسخرية من كل ما يدور. لأن النشيد الذي يتبلور من خلال عمل «ميسون» الموسيقي مع الكورس – وبقدرة الفن السحرية – على أن يقدم لنا نوعا من العزاء أو السلوى. التي تنبثق عن مسرحية لا تنبع من إحساس الطبقة المتوسطة بالذنب وبأن عليها أن تخفف بالمسرح عبء تناقضات الواقع المزرية، وإنما من رغبه في الاحتفاء بالحياة وقدرة الإنسان على التحمل والتصدي لها. مسرح لا يهتم بالبنية الدرامية لما يدور، قدر اهتمامه بالنسيج الإنساني القادر على الكشف عن حقيقة الشخصيات، وعن جوهر اللحظة الراهنة.
مشهد من مسرحية «إيمان وأمل وإحسان»
والواقع أن ملاحظتي على ترجمة العنوان العربية تلك – والتي لا تنطبق في النص الإنجليزي إلا على اسم الفتاة الطفلة – هي بنت حرص المسرحية على الابتعاد كلية عن الوعظ أو الإرشاد، ووعيها بأن المسرح تجسيد لا تجريد، وإظهار لا إخبار. وأن هذه هي الحياة التي يعيشها عدد كبير من أبناء بريطانيا في هذا العصر الكئيب، عصر التقشف وازدياد الفقراء فقرا، والأغنياء غنى. عالم تتكاثر فيه بنوك الطعام – لاحظ أن المصطلح الإنجليزي يربط تلك الأنشطة التطوعية باسم البنك أو المصرف وهو بيت الرأسمالية التي تسببت فيه – ويمزق فيه الفقر أواصر العلاقات العائلية. لكن أهم ما تجسده في الوقت نفسه هي قدرة هؤلاء الذين يعانون من خطل النظام السائد، على أن يصنعوا من حياتهم البائسة، أو بالأحرى مما بقي منها، وبقدر كبير من التكيف والمرونة، حياة جديرة بكرامتهم الإنسانية، ترفض اليأس وتتذرع في وجهه بالسخرية من كل ما يدور. لأن النشيد الذي يتبلور من خلال عمل «ميسون» الموسيقي مع الكورس – وبقدرة الفن السحرية – على أن يقدم لنا نوعا من العزاء أو السلوى. التي تنبثق عن مسرحية لا تنبع من إحساس الطبقة المتوسطة بالذنب وبأن عليها أن تخفف بالمسرح عبء تناقضات الواقع المزرية، وإنما من رغبه في الاحتفاء بالحياة وقدرة الإنسان على التحمل والتصدي لها. مسرح لا يهتم بالبنية الدرامية لما يدور، قدر اهتمامه بالنسيج الإنساني القادر على الكشف عن حقيقة الشخصيات، وعن جوهر اللحظة الراهنة.
مسرحية تسعى بإخلاص إلى تقديم صورة حقيقية لما يدور في الواقع الإنجليزي بعد عقود من تحكم الثاتشرية البغيضة ورؤيتها ضيقة الأفق في مفاصل بنيته الحكومية. وخاصة بعد تجلى حقيقة ما دعاه البعض بنهاية التاريخ – التاريخ الذي كان يعلي قيمة الإنسان – وما رافقه من نهاية دولة الرفاه الاجتماعي بتجلياته الاشتراكية منها والرأسمالية إبان الحرب الباردة. وكشف الرأسمالية – في تجليها النيوليبرالي المسيطر – عن وجهها الحقيقي. والواقع أن هذه المسرحية، والتي تعد الجزء الأخير من ثلاثية اللامساواة، هي التي وجهت اهتمام نقاد المسرح الإنجليزي إلى الربط بينها وبين المسرحيتين السابقتين عليها في هذه الثلاثية المسرحية. وكيف أن الأعمال الثلاثة تكشف لنا ما أوقعه التقشف على أكثر الناس ضعفا وأشدهم تأثرا به في المجتمع. وهي كلها أعمال تتحقق فيها رؤيته الخاصة للمسرح. حيث يقول: «كان المسرح دائما هو السبيل الذي يجعلنا نقترب أكثر من قوة الحياة. وأن يمكننا من الحديث عن الأشياء التي لا نريد أن نراها». مسرح مفعم بالرغبة في أن يمنح من لا صوت لهم صوتا، وأن يتيح لهم أن يكونوا أنفسهم أمامنا وأن يعيشوا حياتهم ويضفون عليها معنى يجعلهم يمارسون إنسانيتهم ويعيشون كرامتهم.
«اعترافات» أم بورتريه لحياة خصبة:
بعد أن أمضى ألكسندر زيلدن العام الماضي (2022) في باريس، يعمل في مسرح «الأوديون» الشهير على مسرحية (موت في العائلة A Death in the Family)، ها هو يطلع علينا في مهرجان أفينيون هذا العام بأحدث مسرحياته (اعترافات). وهي مسرحية أراد أن يبحث بها عن طريق جديد بعد ثلاثية اللامساواة. وأن يبحث فيها عن شكل مسرحي جديد، ضمن سعيه لخلق مسرح خارج المسرح المعهود، ينهض على الصوت والإيقاع، وهو يرينا ما يدور بدلا من أن يخبرنا عنه. لذلك يقول لنا: إنه ظل لعدة أيام يجري حوارا مع أمه، لأنه أراد أن يعرفها أولا، وأن يجعل من حياتها ثانيا الأساس الذي يبني عليه مسرحيته الجديدة تلك. لأنه أراد أن يكون أساس هذا العمل ليس حياة مختلقة أو متوهمة، وإنما حياة حقيقية. حياة قادرة على أن تخبرنا عن حيوات أخرى أيضا، ولكنها حياة بالغة الخصوصية، يسعى إلى أن تكون بسبب شدة خصوصيتها حياة إنسانية عامة. لأن ما نراه على المسرح ليس نقلا حرفيا لما دار في هذه الحوارات، وإن استلهم منها، إلى حد كبير، الكثير من الخيوط التي أدار حولها بنية مسرحيته.
لأننا حينما ندخل صالة عرض هذه المسرحية والتي استأثرت بمسرح المهرجان الجديد والمعروف باسم La FabricA نجد أن ستائر المسرح منسدلة، وأثناء اكتمال حضور الجمهور تخرج امرأة من خلف الستار وتفتحه، لنكتشف أن ما يدور على الخشبة هو استعداد لحفل أو سهرة بيتية. وما أن يبدأ العرض – الذي يدور وأضواء الصالة مستمرة – حتى نكتشف أننا بإزاء سهرة من بعض الجيران تتعرف فيها «أليس» وهي فتاة شابة في الثامنة عشرة من عمرها، ولدت لأسرة عادية في قرية استرالية عام 1943، على أحد أبناء الجيران. في بيت تكشف لنا ديكوراته وأثاثه عن أننا في بيت أسرة من الطبقة الوسطى في أوائل ستينيات القرن الماضي. وتبدأ علاقة بينهما تؤدي إلى الزواج السريع. فينتقلان للحياة الزوجية الشابة. وبينما تسعى «أليس» لمواصلة رحلتها مع المعرفة، والقيام في الوقت نفسه بواجباتها المنزلية في الاعتناء بزوجها الشاب، وقد حصل على عمل في الجيش، فإنه يريد وقد أشعره العمل بكينونته أن تصرف زوجته كل همها في رعايته؛ وأن يكون هو مركز حياتها ومدار كل اهتماماتها، بدءا من تحضير وجبته الأساسية حين يعود إلى البيت، وصولا إلى تلميع أحذيته العسكرية وتجهيزها له كل صباح. ولا يأبه بقراءاتها ورغبتها في مواصلة المعرفة واكتشاف العالم والبحث عن مكانها الذي يرضيها فيه. وذات يوم، وبعد أن أثار بعضهم غيرته على زوجته، يفاجئها بأنه مستعد للإنجاب. وحينما تخبره بأنها ليست مستعدة لذلك بعد، لأنها بدأت بالكاد تتعلم أبجدية الحياة معه، وأن تكون لها حياتها في نفس الوقت؛ تدبّ الخلافات بينهما وتنتهي بالطلاق.
مشهر من مسرحية «اعترافات»
هنا تجد «أليس» نفسها – وهي لاتزال شابة في مقتبل العمر، مفعمة بالحياة والعنفوان – امرأة مطلقة يطمع الكثيرون فيها. وهنا أيضا تبدأ رحلتها الخصبة والمعقدة لمعرفة نفسها واكتشاف العالم من حولها، والعثور في الوقت نفسه على مكانها فيه. تريد مواصلة تعليمها والقراءة والاهتمام بدور المرأة في زمن كان فيه كتاب سيمون دو بوفوار (1908-1986) الشهير (الجنس الآخر/الثاني Le Deuxième Sexe) عام 1949، قد ترجم إلى الإنجليزية. ولما وقع في يدها أوائل سبعينيات القرن الماضي التهمته، والتهمت معه كل ما كتبته سيمون دو بوفوار، وبعدها كل ما كتبته آني أرنو التي فازت بنوبل مؤخرا. واندمجت في الحركة النسوية الاسترالية. ولكنها في الوقت نفسه – وفي الزمن والمكان الذي عاشت فيهما – لم تجد من يزودها بالأدوات الصحيحة للتعامل مع هذا كله، وكان عليها أن تعثر عليها. إنها امرأة مطلقة تعاني من تصور أن ذلك يجعلها امرأة سهلة ومتاحة، ومما يفرضه هذا التصور من عنف زمنها وشِراكه المختلفة – التي وقعت في بعضها رغم كل محاولاتها للإفلات منها.
وهي امرأة تحاول أن تمحو آثار بعض ما وقع عليها من عنف، بقدر ما تستطيع كي تكون ما أرادت أن تكون. وكي تتغلب على ما وجدته في طريقها من عراقيل. والواقع أن زيلدن استطاع أن يقدم لنا على الخشبة بحساسية وتأثير كبيرين مدى وقع العنف الذي صادفته في هذه الفترة عليها، والذي أدى في إحدى الحالات إلى تعرضها للاغتصاب. كما استطاع أن يجسد على الخشبة، وبنفس القدر من الحساسية والإبداع المسرحي كيف ردت لمغتصبها الصاع صاعين، وعرضته أمامنا للخزي والهوان الذي تشعر بهما المرأة المغتصبة. وهما مشهدان من أجمل مشاهد هذه المسرحية وأقواها تأثيرا رغم صعوبة، وربما استحالة الحديث عنهما بأي تفصيل للقارئ العربي. وتتوالى الأحداث في تلك المسرحية الشيقة، فتترك «أليس» استراليا وتجيء إلى بريطانيا في بحثها الحثيث عن نفسها، وعن التحقق وفق شروط حريتها الخاصة. وتعثر على ذلك في حديقة عامة. ومع مهاجر روسي لا يقل عنها ثقافة ووعيا بشروط الحياة وتصاريفها. وبالتدريج يتقاربان بطريقة فيها الكثير من احترام كل منهما للآخر وتقدير ما يمكن أن يكونه.
ومع أن هذا الشخص المنطوي الذي تعرفت عليه في حديقة عامة بأكسفورد يكبرها بثلاثة عشر عاما، بينما كانت وقتها في الحادية والأربعين من عمرها. إلا أنها شعرت معه بما لم تشعر به مع كل من عرفتهم في الرجال. وبدلا من أن تنتظر حتى يطلب هو منها الارتباط به – وهو أمر رآه مستحيلا من وجهة نظره ووعيه بعمره وموقعه – تقلب هي الأدوار. وتطلب منه أن يعبر عن مشاعره نحوها، وأن يرتبط بها. خاصة وأنها كانت تشعر في داخلها بالرغبة في تحققها كامرأة بالإنجاب، وبأن ساعة هذه الرغبة البيولوجية تقترب من نهايتها. أما هو فإنه لا يصدق حسن حظه، وكرم الحياة معه في عمره المتقدم ذاك. ويكون ألكسندر زيلدن هو ثمرة هذا الارتباط. لقد أراد زيلدن أراد أن يستلهم حياة أمه الخصبة كي يخلق إحساس بحياة حقيقية، تُعاش من جديد على خشبة المسرح أمامنا. بصورة يمنحنا المسرح معها سبيلا جديدا لحياتنا نحن بطريقة محسوسة وملموسة، وقد انقشع عنها كل الضباب الذي يغلف الكثير من الحيوات بالغموض وعدم الفهم. وبصورة تعد بها المسرحية نوعا من الاحتفاء بالحياة العادية البسيطة.
مشهد من مسرحية «اعترافات»
فالسؤال الأساسي الذي يلحّ عليه هو كيف يمكن الاحتفاء بالحياة، مجرد الحياة اليومية البسيطة!؟ الحياة بكرامة!
فالمسرح – منذ بداياته الإغريقية – هو مكان الرؤية، المكان الذي نلاحظ فيه العالم، والذي يتيح لنا أن نرى حياتنا من جديد، وبعيون جديدة. يقول لنا «إن بيتر بروك يجسد بالنسبة لي أسبقية الحدس على الشكل؛ وأنه في تعامله مع هذه المسرحية قد انطلق من حدوسه قبل أي شيء آخر.» إن (اعترافات) هي بنت الرغبة في الاستقصاء الانفعالي الذي يبدأ من حياة حقيقية. حيث يقول لنا: «إنها حكاية عن الواقع المعاش في نهاية المطاف، أو نوع من الصورة الشخصية ، أي «بورتريه» بمعنى من المعاني. لأن فن البورتريه الأدبي والتشكيلي معه من الفنون التي تحتاج أن نعيد اختراعها في زمننا المعاصر. فهي نوع من البورتريه الذي يقوم على تجربة حياة ومصير. ويجسد ما نحمله على أكتافنا من تاريخ عائلي واجتماعي، ومن أوجاع ومصائب توالت علينا من جيل إلى آخر. إنه بورتريه جمعي أيضا، ذلك لأنه في قسمه الأخير قدم لنا شيئا من قصة أبيه، وهو يهودي من أصول روسية ولد عام 1930 وهاجر إلى فلسطين، ولكنه لم يطق الحياة في دولة الاستيطان الصهيوني وتركها مبكرا إلى إنجلترا، التي عاش فيها بقية حياته حتى مات.
والواقع أن (اعترافات) ليست فقط مسرحية عن أمه، ولكنها أيضا مسرحية عن معنى المسرح ودوره في حياتنا المعاصرة. وعن كيف نضع على الخشبة حياة كاملة، كي يستطيع المشاهد أن يتعامل معها بشكل عقلي ونقدي وحِواري معا. لأن مسرحياته تتسم بفرادتها وقدرتها على التقاط أدق تجليات الحيوات الحقيقية التي يتعامل معها، ويسعى لتجسيدها أمامنا على الخشبة، بصورة تدفعنا لتأملها ومعرفة ما جرى لها، وليس التماهي معها، ثم الشعور بالشفقة والتطهير الأرسطي بعدها. بل تأمل ما يجري لها ومعرفة أسبابه، ومصادره الحقيقية. مسرح يدعونا للتفكير فيما نرى، وتأمل المسكوت عنه فيه. بالصورة التي تترك المشاهد موزعا بين احترام هؤلاء الذين يسعون إلى رد عوادي النظام الجائر وضرباته المتتالية ضد الضعفاء، والغضب ضد الواقع الذي اضطرهم لذلك. وهو الأمر الذي يذكرنا بكلمات برتولد بريخت الشهيرة في مسرحيته (جاليليو جاليلي) لا تسألوا كيف أنكر جاليليو أن الأرض تدور؟ ولكن فكروا في الواقع الذي جعل جاليليو ينكر أن الأرض تدور.
مشهد من مسرحية «اعترافات»
الرقص الحديث: بين الروميو وفي الانتظار:
لا تكتمل أي تغطية حقيقية لمهرجان أفينيون عادة دون الحديث عن بعض ما قدمه من عروض عن الرقص الحديث. لأن المهرجان أخذ على عاتقه منذ سنوات طويلة الاهتمام بهذا الفن المسرحي الجديد؛ والمساهمة في استقطاب جمهور واسع له، وفي بلورة أبجدياته المتحولة باستمرار. لأنه يفسح له في كثير من الأحيان فضاء المهرجان الرئيسي، كما هو الحال هذا العام مع تراجال هاريل Trajal Harrell وهو راقص ومصمم رقصات (أي مخرج) أمريكي ولد في دوجلاس بولاية جورجيا عام 1973 في بيت مليء بالموسيقى. وتعلق كلية بالرقص منذ شاهد في طفولته – على شاشة التليفزيون – باليه (كسارة البندق) الشهير.
صورة تراجال هافيل
واكتشف صبيا كيف يستطيع أن يرقص، وأن يستحوذ على الانتباه برقصته وحدها. وتنامى منذ ذلك الوقت المبكر اهتمامه بالمسرح والرقص معا، وهو الأمر الذي لم يعترض عليه والداه، بل شجعاه على الإخلاص لما يحب عمله. وحينما قُبل بجامعة ييل Yale المعروفة، قرر دراسة النظريات النسوية ونظريات ما بعد الاستعمار، وإن لم يهمل اهتمامه بالمسرح والرقص. لأنه تعرف أثناء دراسته فيها على مختلف أساليب الرقص ومدارسه الجمالية ولغاته الحركية المتباينة. ومنذ ذلك الوقت المبكر بدأ العمل على عروضه الخاصة في الرقص الحديث، وهي عروض كان يرفدها باستمرار هذا التفكير النقدي الذي تعلّمه في جامعة ييل حول من وماذا نستبعد؟ وما هي دلالات هذا الاستبعاد على المستبعدين؟ وكيف يمكن أن تكون عليه الأمور لو تغيرت التراتبات؟ وحلّ مكان الاستبعاد دينامية الاحتواء والقبول بالآخر المختلف من حيث العرق أو الجنس؟
صورة من عرض «الروميو»
ولما انتقل بعد تخرجه من جامعة ييل للحياة والعمل في نيويورك، واصل الانخراط في عدد من مدارس الرقص، والعمل في الكثير من العروض الفردية والمشتركة، حتى اشتهر مع مطالع القرن الجديد، بعمل بعنوان (عشرون نظرة، أو باريس تحترق Twenty Looks or Paris is Burning) عرضه في (كنيسة جدسون التذكارية Judson Memorial Church) عام 2009 بما يحملها تاريخها من تجارب فنية لامعة. وهو عمل يطرح سؤالا أساسيا عما كان سيحدث لو جاء راقصون من هارلم – وهو حي الزنوج الضحم في نيويورك – وشاركوا في عروض الرقص الحديث مابعد الحداثية والتي تبلورت في ذلك الفضاء المهم والتاريخي في ستينيات القرن الماضي. خاصة لو كانوا قد جلبوا معهم إلى ساحته سيولة حركاتهم في الرقص الفردي وأجروميتها وعنفوانها. لأنه كراقص من أصول أفريقية يحرص على طرح قضايا اللون والعنصرية والجنوسة وغيرها من قضايا الهوية الشائكة. خاصة وأن قرية جرينيتش Greenwich Village كانت تضم وقتها أكبر تجمع للسود في مدينة نيويورك، ومع هذا كانت كل التجارب الحداثية – وما بعد الحداثية – فيها تُغيبهم كلية من ساحتها، ولا تمنحهم أي دور فيها. وقد أدى النجاح الكبير لهذا العرض إلى تكريس سمعته كأحد أبرز الراقصين ومصممي الرقصات في جيله. وإلى استدعائه لتقديم عروضه الراقصة في أكثر من مهرجان في أميركا وأوروبا على السواء. بما في ذلك بالطبع دعوته للمشاركة في مهرجان أفينيون هذا العام.
وقد منحه المهرجان أهم فضاءاته – فضاء قاعة الشرف في القصر البابوي الذي يتسع لما يقرب من ألفي مشاهد – كي يقدم فيه عرضه الذي دعاه (روميو)، أو بالأحرى (الروميو The Romeo). وهو عرض ينهض ككثير من عروضه الناجحة على خلفية من التأمل والتفكير النظري. حيث يبدأ من ما سر تجاوز شهرة روميو لشهرة محبوبته جولييت؟ ولماذا تحوّل روميو إلى أسطورة، أو رمزا للعاشق القادر على الاستحواذ على حبيبته بينما لم تتحول جولييت إلى أي شيء مشابه؟ هل أن روميو مشتق من روما بما لها من حمولات ثقافية في الضمير الغربي وقدرته على فرض أولوياته؟ أم أن هناك سر آخر؟ خاصة وأنه يقول أن ما أذهله حينما ذهب إلى متحف «اللوفر» في باريس أن لوحه «الجيوكندا/ المونا ليزا» الشهيرة لليوناردو دافينشي هي لوحة صغيرة الحجم، (77X53سم) بينما كل صور الرجال الأقل منها شهرة وحتى قيمة جمالية في عالم الرسم في لوحات بالغة الضخامة. وهناك إلى جانب هذا الخلل في التناسب بين شهرة العاشقين، وتحول روميو إلى شخصية ميثولوجية بعيدا عن/ وربما على حساب جولييت/ عدد آخر من الأسئلة الكامنة وراء العرض.
صورة من عرض «الروميو»
حيث ينطلق من فرضية من هو الروميو الآن، وكيف يعبر عن نفسه حركيا؟ هل سيتحرك كفتيات الاستعراض في عروض الملابس؟ هل باستطاعته أن يجعل المستحيل ممكنا؟ ماذا يمكن أن يفعله الروميو، أو باختصار العاشق عموما كي يقهر الموت؟ هل باستطاعة الحب بما فيه من قوة التفاني في الآخر قهر الموت والبغض والكراهية؟ هل ثمة طرق ووسائل عديدة للتعبير عن العشق؟ أم أنه طريق واحد متعدد المسارات؟ هل كان باستطاعة روميو أن يتجنب مصيره المحتوم/ الموت؟ هل يمكن أن تجسده الحركة وحدها؟ وكيف استطاع روميو شكسبير أن يبلور تلك القدرة المسلحة بالبراءة على قهر تواريخ من العداوات والإحن؟ وأخيرا هل تستطيع الحركة وأجرومية الجسد الراقص أن تكشف أمامنا على المسرح ما أخفقت الكلمات في التعبير عما يعتمل في عالمه من غموض؟ وحتى يجيب على كل هذه الأسئلة يقول تراجال هاريل أنه كان عليه أن يبحث عما يمكن أن ندعوه بالرقصة البدئية التي قد تكون قد انبثقت في أي مكان وفي أي حضارة، فقد طرحت كل الحضارات هذه الأسئلة على نفسها. قد تكون رقصة امرأة يابانية عاد أبوها البحار سالما من البحر وسط العواصف والأنواء، أو رقصة راع في مرعاه فرحا بالحياة، أو حتى رقصة صياد وحيد استطاع اقتناص فريسته.
ولكنها في الوقت نفسه رقصة/ أو بالأحرى رقصات عديدة تمتد على مدى ساعة وربع من الزمان، تعي أنها ستُعرَض في ذلك الفضاء التاريخي الفسيح الذي عاش فيه الباباوات وشهد الملوك والأمراء والأساقفة والرهبان؛ وأن عليها أن تملأه بالمتعة والحركة. وأهم من هذا كله أنها ستدور أمام جمهور حافل عليها أن تستأثر باهتمامه وتستثير مشاعره وأفكاره معا. لأن دعوته للعرض في هذا الفضاء كانت بالنسبة له مفاجأة وحلما في الوقت نفسه. وقد تصادت تلك الدعوة وما يحمله الفضاء من تواريخ وأطياف، مع تفكيره في (روميو) بتلك الطريقة النقدية، وباعتباره طيفا ميثولوجيا في المحل الأول؛ لوجوده في كل الثقافات، ولتحوله إلى تلك الأسطورة العابرة للتواريخ والمراحل والأجناس والأنواع والألوان وحتى الحواجز الاجتماعية: من القصور وأعلى الطبقات وحتى الشوارع والحواري في أفقر الضواحي والقرى. ولذلك كان (روميو) بالنسبة له من أنسب الموضوعات التي أتاحت له أن يغامر جماليا وحركيا في مجالات جديدة. تمكنه من التحرر من كثير من قواعد الرقص المستقرة، وكتابة أجرومية حركية جديدة، قادرة مثل موضوعها على استيعاب ذلك البعد الإنساني الشامل في شخصية روميو ودلالاته.
ومع أنه قد حلم – كما يقول لنا في برنامج العرض – منذ عدة سنوات بالرقص في فضاء دير الآباء السماويين، أو حتى دير الآباء الكرمليين أو حتى بمسرح الفابريكا في أفينيون، إلا أنه قبل تحدي ما يدعوه بالفضاء الأسطوري، فضاء ساحة الشرف بالقصر البابوي المهيب. وقد نصب المخرج في خلفية وسط الخشبة مباشرة تركيب مخَرّم على شكل أقرب إلى المشربيات: يجلس في داخله الراقصون، ويبدلون بعض ملابسهم به. بل ويعلن عن بعض تلك التفاصيل بالإنجليزية التي تكتب ترجمتها الفرنسية أعلى الجدار. وعلى مد ساعة وربع من الرقص الذي استحوذ برغم بنيته الأبيسودية، وتغيراته الغنية في الملابس والألوان والإيقاع، على اهتمام المشاهدين، فقد بدأ عمله حول (الروميو) في التخلق في نصف خشبة مسرح هذا الفضاء الكبير، بينما لفّ الربعين الباقيين في أقصى يسار ويمين الخشبة في ظلمة ملتبسة كان يغيب فيها بعض فريق الراقصين كي يبدل ملابسه، ويعود في شكل مغاير وحركات وتشكيلات مختلفة. بل إن العرض يسعى لتفكيك بنيته أمامنا، ليس فقط بالإعلان عن تبديل الملابس، ولكن أيضا بخلعها أمامنا في نهايته، وكأنه يعود بنا إلى الحالة الأولى التي كان عليها كل «روميو» في كل مكان وزمان.
مشهد من عرض «الروميو»
حيث تتجول بنا اللوحات بين الأزمنة وما يتجلى في كل منها من تصورات للحب والموت على السواء. في عرض يطمح لتجاوز الثقافات والأعمار وينفتح على تصورات ثقافية وزمانية متباينة، تُعلي من شأن الهُجنة الثقافية بالمفهوم الذي طوّره هومي بابا. لأنها وهي تمزج موسيقى الجاز وإيقاعات الحركة العنيفة القادمة من الثقافات الأفريقية، مع انسيابية وسيولة الحركات الجسدية الناعمة المنحدرة من أجرومية الرقص الغربي الكلاسيكي، تتيح لنا منتجا جديدا يسري في شراينه الوعي بما في حوزة كل ثقافة من إمكانيات على العطاء. وقد وسمت هذه الهجنة الثقافية بمعناها الإيجابي كل لوحات العرض المتلاحقة، والتي كان يتدفق الراقصون فيها من جانبي الخشبة الملفعين بالعتمة، على مصمم الرقصات الذي لعب معهم دورا ملحوظا في بلورة بنية متميزة للعرض ولما به من مراحل وتغيرات، بوجوده المستمر قرب مركز العرض. بصورة تذكرنا باستمرار بإننا بإزاء الروميو نفسه، المتخيل الرئيسي في العمل، مهما تبدلت الرقصات وتغيرت الإيقاعات من حوله وبه في كثير من الأحيان.
مشهد من عرض «الروميو»
لأن أحد أهداف تلك الرقصات المتلاحقة، والتي كانت تتغير فيها ملابس الراقصين بطريقة مستمرة ومحسوبة معا، هو نبش وعي المشاهد، واستخراج ما يختزنه فيه من حركات العشق ولمساته الثاوية في كل منّا، والتي نجح تراجال هاريل في استثارتها فينا بلمسات شاعرية محسوبة. كما أنه استطاع وقد قلص مساحة العرض إلى منتصف الخشبة، أن يتحكم بشكل كبير في إيقاع الحركة، وأن يركز انتباه المشاهد عليها. بينما كانت الإضاءة تتحكم في الألوان التي تغمر خلفية حوائط القصر البابوي العملاقة، وتساهم بطريقتها الخاصة في تلوين المشهد كله، بما مكنه من تقديم عرض راق لا تكرار فيه برغم وحدة موضوعه، لم يشعر فيه المشاهد بالملل. بل استغرق فيه وهو يستثير في كل منهم هذا «الروميو» الثاوي في الأعماق الذي كان من قبل، أو الذي يود أن يكونه. بل هب المشاهدون بالوقوف وهم يصفقون بحماس كبير تحية لما قدمه لهم من متعة بصرية وحركية ولونية مدهشة ومثيرة للتأمل والتفكير معا.
«في انتظار » .. النهوض من جديد!:
أما العرض الراقص الثاني الذي شاهدته هذا العام، فإنه يأخذنا إلى راقصة ومصممة رقصات Choreographer من الجيل السابق على جيل تراجال هاريل، ومن خلفية مغايرة كلية لخلفيته الاجتماعية. لأن آن تيريزا دي كيرزماكر Anne Teresa, De Keersmaeker طالعة من قلب الطبقة الأرستوقراطية الأوروبية على العكس من خلفية أبناء الجنوب الأمريكي الذين عانوا كثيرا من الفقر والاضطهاد. فقد ولدت لعائلة ارستوقراطية، منحها موقعها فيها لقب البارونة، في بلجيكا عام 1960 ودرست الموسيقى كما تفعل بنات الارستوقراطية الأوروبية، ولم تهتم بالرقص إلا في أواخر دراستها الثانوية، وأثناء دراستها الجامعية في جامعة نيويورك. ومنذ أن تخرجت من مدرسة تش للفنون الشهيرة في تلك الجامعة وعادت لبلجيكا قدمت أولى رقصاتها التي لفتت إليها الأنظار وهي لاتزال في العشرين من عمرها. وكونت بعدها في بدايات الثمانيات فرقتها التي سرعان ما أصبحت أحد أهم فرق الرقص الحديث في بلجيكا وأوروبا، وما أن وصلنا إلى التسعينيات حتى كانت فرقتها قد أصبحت هي الفرقة المقيمة في أوبرا بروكسل، حيث تتابعت عروضها بوتيرة منتظمة. وشاركت بها في الكثير من المهرجانات الأوروبية والدولية. كما أنها أسست في بروكسل أيضا عام 1995 مدرسة خاصة للرقص الحديث وتصميم الرقصات. ثم أصبحت مخرجة للأوبرا عام 1998، ونالت منذ ذلك الوقت العديد من الجوائز.
صورة آن تيريزا دي كيرزماكر
أما العرض الذي شاهدته في أفينيون لها هذا العام في «دير الآباء السماويين/ الروحانيين Cloître des Célestins» الشهير في أفينيون فهو بعنوان (في انتظار! En Antendant) وهو عنوان يكتفي بالنصف الأول من عنوان مسرحية صامويل بيكيت الشهيرة (في انتظار جودو) واقتطاع جودو من عنوان بيكيت بالغ الدلالة على ما جرى تحت الجسر من مياه عطنة منذ ستينيات القرن الماضي وحتى الآن. والواقع أن هذا العرض – كما سنعرف من البرنامج المطبوع الذي يوزع علينا عند الدخول – يعود أصلا إلى عام 2012 حينما دُعيت لأول مرة إلى المشاركة في مهرجان أفينيون. واختارت وقتها أن تقدم عرضها في «دير الآباء السماويين». فقد كانت وقتها مشغولة بالتجريب في فرقتها الراقصة، وقد فتنتها الموسيقى البوليفونية المتقشفة المعروفة باسم Ars Subtiliorوالتي تعود إلى القرن الرابع عشر. وهو جنس موسيقي فريد يزعم الكثيرون أنه موسيقى المثقفين لغناه بالإيقاعات وثراء لغته الموسيقية وتعدد مستويات الدلالات فيه. انبثق في أوروبا في القرن الرابع عشر، حينما انتشر فيها الطاعون ودمر أركان علاقاتها السياسية والاجتماعية والدينية الوطيدة. كي يخلق بموسيقاه المزلزلة المعبأة بأصداء مخيفة وبأصوات بشرية حادة معادلا موسيقيا لما كان يدور، في عالم سيطر عليه الموت الأسود القاسي وانسداد الأفق وغياب الألق والحيوية من الحياة نفسها.
وقد وجدت دي كيرزماكر في تلك الموسيقى ضالتها أثناء تخليق عمل قادر على التعبير عما يدور في بلبال العالم عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2011. حيث مكنتها تذبذبات إيقاعاتها وتمزقاتها من تطوير ما يمكن دعوته ببوليفونية الحركة في الرقص، التي تعتمد هي الأخرى على الحد الأدنى من سيولة الحركة وعلى تقشفها وتطويعها القاسي للجسد البشري. وهي التجربة التي أرست فيها أجرومية راقصة جديدة تبلورت في مقولات شهيرة لها مثل: «مشيتي هي رقصتي» و«طريقة كلامي هي رقصتي»؛ تثير فيها أسئلة أساسية حول جماليات العلاقة المعمارية بين الموسيقى والحركة في الرقص الحديث. وعن أهمية تطويع الجسد البشري لممارسة بالغة الدقة والصعوبة والإيقاع كتلك التي كان يعيشها الرهبان في الدير الذي تقدمها فيه. وإذا كانت الموسيقى البلوفونية هي بنت مرحلة الطاعون – الذي أصبح يسمى في عدد من اللغات الأوروبية بالوباء الأسود أو الموت الأسود – فإن عودتها بنفس العرض، وإلى نفس الفضاء الذي سبق أن خلقته فيه قبل عقد من الزمان جاءت لأنها ترى أن اللحظة الراهنة في عالمنا لا تقل سوءا عن تلك التي عاشت فيها أوروبا تحت سطوة الطاعون الذي نشر الموت الأسود في كل مكان.
مشهد من عرض «في انتظار»
ويبدأ العرض في فضاء دير الآباء الروحانيين الذي تبلور فيه قبل عشرة أعوام، بعازف على الناي يعزف لحنا بالغ التقشف سرعان ما يأخذنا إلى الموسيقى البوليفونية القديمة وأصدائها المقلقة. ويتصادى معها تنفس الراقصين/ والراقصات العميق والمسموع وهم يدورون أمامنا في المشهد، يترنحون وكأنما تحت وقع المرض أو الحزن أو الألم. حيث يصبح هذا التنفس المسموع هو تشبثهم بالحياة إزاء الموت. كما يبدأ العرض بتوقيت محسوب في نهاية اليوم قرب المغرب، حيث الغياب التدريجي للضوء أحد العناصر الرئيسة الفاعلة في بنية العرض. وعلى أرض عارية، وليس على خشبة مسرحية، بالصورة التي يتصاعد فيها التراب أو يتناثر الحصى من تحت أقدام الراقصين أثناء حركاتهم السريعة عليها. وقد ارتدى كل الراقصين ملابس سوداء بسيطة تساهم في تحويلهم بالتدريج إلى أشباح كلما تكاثفت الظلمة. ويستمر حتى نهاية الغسق قرب العشاء، لأن العرض لا يستخدم أي إضاءة وتلفّه بالتدريج الظلمة الطبيعية حتى يبتلع الظلام آخر الحركات فيه. ولا نسمع في الظلمة إلا صوت تنفس الراقصين، وقد تلمس بعضهم القوة من البعض الآخر على وقع صوت الناي الحزين. والواقع أن تقشف العرض يتسق كلية مع تقشف الدير وبنيته، وسيطرة شجرتي البلوط الكبيرتين على فضائه المهيب.
ويعتمد العرض على مزيج من تلك الموسيقى القديمة المتقشفة وعلى الصوت البشري في صورته الأوبرالية، الذي طالما أُدغم فيها وتحاور معها في هذا الجنس الموسيقي القديم. وها هي تجسد في رقصات «في انتظار» سمة أخرى من سمات تلك الموسيقى البوليفوينة القديمة، والتي تتسم بأنها لا بداية لها ولا مسار ولا نهاية. حيث تنطلق وكأنما من وسط حركة مفاجئة أو تتوقف دون أي تمهيد. وهذا ما يعمر الرقصات بالجري والتزحلق وحتى ما هو أقرب للتشنجات المعبرة عن أرواح تتمزق، أو أجساد تسكنها أرواح شريرة. حيث يدور بعض الراقصين على أنفسهم، أو يترنح آخر فيحمله زملاؤه ويضعونه على نفس الكوم الذي سقط فيه الآخرون. وقرب النهاية يسقط أحد الراقصين، بعدما انتزع ثيابه، بصورة يتحول معها إلى تجسيد المسيح بعد نزوله من على الصليب. وأكوام من الجثث التي تستدعي الى الذهن المجازر الدينية أو المجاعات والأوبئة الملحمية والحروب التي لانهاية لها.
مشهد من عرض «في انتظار»
تقول المصممة أن هذا العرض ساهم في تجديد الكتابة الكريوجرافيه لديها، وأن العودة به إلى الفضاء الذي ولد فيه بعد عقد من الزمان، وبعدد من الراقصين الجدد، يمنحه حياة جديدة. لأنه يساهم في تطوير ما تدعوه بـ«تعظيم الحد الأدنى Maximiser le minimum» حيث جماليات التقشف في أبهى صورها. لأننا في الواقع بإزاء عمل جمالي وبيئي معا، يدور في قلب الضوء الطبيعي، على تربة الأرض مباشرة وبين الشجرتين العملاقتين، ولا يستخدم أي أضواء صناعية. عمل مضاد للسائد في اللحظة الراهنة من التشبث المستمر بالشاشات الصغيرة منها والكبيرة. والغرق في الأضواء الصناعية، والعزلة التي يفرضها كل أنسان على نفسه بوهم التواصل المستمر – عبر التليفونات الذكية/ أم تراها الغبية – مع الأخرين عبر الانفصال عنهم. وقادر على أن يريها صورتها في مرأته المغايرة. وإذا كانت هذه ا لموسيقى قد انبثقت عن الخلل الكبير في القرن الرابع عشر نتيجة لتفشي وباء الطاعون في أوروبا وتدمير الكثير من لحمتها الداخلية سياسيا واجتماعيا ودينيا، فإن ما يدور في واقعنا الراهن والذي تتسع فيه الهوة بين الأفراد – أو بالأحرى الصدوع المتعددة على كل المستويات – أكثر تدميرا من الطاعون القديم.
لأن العرض في مستوى من مستويات تأويله، يجسد لنا صورة تفشي موت أسود، من نوع جديد، يسري بشكل بطيء بين الراقصين فيتساقطون واحدا بعد الآخر، أو واحدا فوق الأخر، أمام أعيينا في أحد مشاهد العرض الآسرة. إنه الطاعون الجديد الذي يدمر عالمنا عبر ممارسات النيوليبرالية الجديدة التي يزداد بها الأغنياء ثراء، ويزداد معها الفقراء فقرا فيسري الموت في حياتهم ببطء أكيد. وما أن يقترب العرض من نهايته مع تكاثف الظلمة حتى كانت تنطلق موسيقى جديدة مغايرة لحوشية الموسيقى البولفونية عبر زقزقة العصافير وتحويمها المستمر في الفضاء كلما تنامى الغسق. وكأنها تعزف لحنها المناقض لما يدور في الرقص، والمؤكِّد في الوقت نفسه لما يستهدف النص أن يثيره في المشاهدين. وهو كفى اعتمادا على التكنولوجيا الحديثة، وعُد إلى الطبيعة ولا تدمرها. خاصة وأن تلك الزقزقات التي تعمر ربع الساعة الأخير قرب نهاية العرض، تتصادى مع تحول الرقصات وقد استأثرت باهتمام الجمهور – برغم عدم تحمل عدد منهم لها لتجسيداتها المتكررة للموت والسقوط ومغادرتهم العرض – الذي وجد نفسه مشاركا أثناءه رغم أنفه – في نوع من الطقس الديني المتقشف، الذي يسعى إلى أن يرد عنا الموت، وأن يدعونا إلى أهمية الاحتفاء بالحياة وبالطبيعة في توديعها بزقزقة العصافير ليوم، يعد باستقبال يوم جديد.
«عن ظهر قلب» وختام مغاير للمهرجان:
أشرت في بداية هذا العرض النقدي الضافي لما شاهدته في مهرجان أفينيون السابع والسبعين، أن مدير المهرجان الجديد لم يبرمج لنفسه إلا عملا واحدا ولليلة واحدة هي الليلة الأخيرة في فضاء المهرجان الرئيسي: أي ساحة الشرف في القصر البابوي. صحيح أنه أضطر لدواعي سبق وتحدثت عنها إلى تقديم عمل آخر له. لكن لابد لنا من التوقف عند هذا العمل الختامي الذي أراد به أن ينهي المهرجان نهاية احتفالية ومسرحية في آن. تعود بالمسرح إلى جذوره الشعبية حينما كان يعتمد كثيرا على الارتجال، والتفاعل الخصب بين المسرحي وجمهوره. ألا وهو عرض تياجو رودريجز (عن ظهر قلب By Heart). وهو العرض الذي يكشف عن قدرة مدير المهرجان الجديد على أن يلعب بمهارة هذا النوع المتميز من المسرح الذي يعتمد على الارتجال، وعلى حضور البديهة، وأهم من هذا كله على الحضور المسرحي على الخشبة. لأننا ندلف إلى مقاعدنا في مسرح ساحة الشرف في القصر البابوي الكبير لنجد تياجو رودريجز جالسا على مقعد مرتفع بلا ظهر/ مسند وقد صفت عشر كراسي عادية على مد الخشبة. وكان مرتديا قميصا أو فانلة وبنطلون من الجينز، وكأنه وسط مكان قد يقيم فيه بروفة لعمل مسرحي، أو يمرن الممثلين على أدوارهم.
وحينما يبدأ العرض يقول لنا – وهو يتوجه طوال الوقت بحديثة مباشرة إلى الجمهور طالبا منهم التواصل معه والاستجابة له – إن ثمة كما ترون عشرة مقاعد على الخشبة، وأنه سيحتاج في هذا العرض لعشرة متطوعين من المشاهدين يشاركونه هذا العرض. ثم يقول لنا وقد أخذ عدد كبير من المشاهدين يتحمسون للحركة تجاه الخشبة. إنه ممتن لحماسهم، ولكنه يجب أن يعلم من يريدون المشاركة، أن على كل منهم أثناء العرض أن يحفظ نصا «عن ظهر قلب» وأن يقدمه للجمهور، أي عملية تسميع النص. وهو نص قصير، ليس صعبا، ولكنه ليس سهلا أيضا، وإنما هو نص ممكن. وهؤلاء المشاهدون العشرة ليس مطلوبا منهم التمثيل، أو لعب أي دور معين في مسرحية. وأن كل شيء سيكون هادئا وعاديا. ويخبرنا أن هذا العرض المزعج قد بدأ نتيجة لطلب جدته التي أصيبت في أواخر حياتها بالعمى، والتي كانت قارئه نهمة، بل هي التي شجعته على القراءة منذ صباه، وساهمت في توفير الكتب له وتثقيفه على مد فترة طويلة من حياته. وقد طلبت منه، بعدما أصابها العمى، وقد أصبح معروفا إلى حد ما في الدوائر الثقافية أن يسأل من يعرفه من المختصين عن أهم النصوص التي عليها أن تحفظها عن ظهر قلب، كي تكون سلواها وتستمتع بها في شيخوختها بعدما فقدت القدرة على القراءة.
هنا يكتب خطابا إلى جورج شتاينر ( 1929-2020) وهو من أبرز نقاد الأدب الأوروبي، وله العديد من الكتب في هذا المجال، ويطلب منه أن يجيب على سؤال جدته. لكن شتاينر لا يجيب على رسالته، فيبحث في كتابات باسترناك (1890-1960) وراي برادبري (1920-2012) وغيرهم ممن يعرف أنهم يتسمون بنوع من المعرفة الموسوعية. وهو البحث الذي يتحول إلى متاهة أدبية تتردد فيها الكثير من الأسماء وخاصة من أسماء الشعراء كأوزيب ماندليشتام وأنا أخماتوفا وألدوس هكسلي وكوليردج ووردزورث وغيرهم. وتتابع استطراداته وهو يختار عشرة من المتطوعين ويجلسهم واحدا عقب الآخر على الكراسي العشرة الممتدة بطول الخشبة. فيخبرنا بأنه وقد كانت سوناتات شكسبير من النصوص التي اختارها، بعد رحلة بحثه تلك، أنه بدأ هذا العرض تعبيرا عن الحب المتبادل بينه وبين جدته. وأنه العرض الوحيد في العروض الكثيرة التي ألفها وأخرجها الذي يظهر فيه طوال الوقت على المسرح. وأنه بينما كان يقدم هذا العرض الذي بدأ منذ سنوات عديدة في فرنسا، بلغه نبأ وفاة جدته التي ظلت تعيش في قريتها بالبرتغال. وقد فكر بعدها في التوقف عن تقديم هذا العرض، ولكنه تراجع عن ذلك وواصل تقديمه في مختلف القارات كما يقول لنا، كنوع من إخلاص حفيد لجدته. وحينما اختاره المهرجان مديرا له، فقد فكر في أن يكون هذا العرض هو العرض الذي يقدمه فيه، حيث سيكتسب لديه قيمة رمزية إضافية في هذه المناسبة.
وما أن تنشغل الكراسي العشرة بمتطوعين يحرص على انتقائهم كي يمثلوا عددا من التوازنات من حيث العمر واللون والجنس وحتى اللغة، خاصة وأنه أعلن من البداية، وهو يقدم العرض باللغة الإنجليزية، أن على من يريد المشاركة أن يعرف اللغة الإنجليزية؛ لأن النص المطلوب حفظه هو واحدة من سوناتات شكسبير، وهي السوناتا رقم 30. و هذا ما يحدد طول النص الذي على المشاركين حفظه أثناء مدة العرض. لأننا نعرف أن السوناتا كشكل شعري معروف تتكون من أربعة عشر سطرا. وهو الأمر الذي يذكر مشاهديه به، فليس مطلوبا منهم غير حفظ أربعة عشر سطرا من الشعر. وما أن تبدأ عملية الحفظ بعد أن يقدم لكل منهم نسخة من النص، حتى تتفتح أمام أعيننا، عملية مسرحية كاملة مترعة بالدراما الحقيقية. تتجلى فيها الفوارق بين الأشخاص دون أن يسعى أي منهم للتمثيل أو حتى للكشف عن تفرده. ويتخلق أمامنا حدث مسرحي متكامل. يلعب فيه تياجو رودريجز بيقظته وحضور بديهته دور المايسترو الذي يتحكم في الإيقاع. ويسعى باستمرار للتأكد من مشاركة الجمهور فيما يدور.
ومن خلال دينامية متغيرة بتبدل العرض وتغير المتطوعين كل مرة يدور فيه، نكتشف حقيقة ما سبق وطرحه بيتر بروك من أن المسرح يتخلق في أي مساحة خالية. ويا لها من مساحة خالية تلك التي توفرها الخشبة المسرحية الضخمة في فضاء ساحة الشرف بالقصر البابوي العتيق. لأن طبيعة العمل المسرحي الذي يتخلق بالارتجال، وتتكشف أمامنا فيه آليات عمل الذاكرة التي تختلف بين شخص وآخر، تتخلق أمانا في فعل مسرحي مرتجل، يكشف لنا فيه المسرح الكثير مما نعرفه عن أنفسنا. وكيف أن كل منا ما أن ينتبه لواحدة من عثرات الذاكرة، حتى يسقط في أخرى. لأن هذا العرض كما يقول رودريجز يكشف له أكثر من أي من العروض الأخرى التي قدمها عن حقيقة العمل المسرحي وكينونته المتحولة أبدا. والواقع أن استمرار هذا العرض لما يقرب من الساعتين، وهو يتيح لكل من مشاهديه/ ممثليه العشرة أن يبرهن – مرة بعد أخرى، وبصبر وتحكم في المشهدية المسرحية لا ينفد – على قدرته على حفظ تلك السوناتا عن ظهر قلب، يكشف لنا عن إنسانية كل منهم وهشاشته البالغة في الوقت نفسه، وعن العلاقة المعقدة بين ما يدور على الخشبة، وبقية المشاهدين في الصالة الواسعة. وعن تخلق دينامية العمل المسرحي بين المشاركين في العرض بسرعة وسلاسة رغم أنهم يتعاملون مع بعضهم البعض لأول مرة. خاصة وأنه يريد منهم أن يًسمّعوا السوناتا معا.
لأنه إذا كانت الكثير من العروض تنطلق من أن من على الخشبة يمثلون الجمهور الذي يشاهدهم في الصالة – كما هو مضمر في كثير من العروض – فإن من على الخشبة هذه ا مرة قد جرى اختيارهم من الجمهور فعليا في هذه الحالة. وهذا هو السر ربما في أنه وبينما كان تياجو رودريجز يرود خطوات العشرة الجالسين أمامنا على الخشبة، كي يتأكد من حفظ كل منهم على حدة للسوناتا الشكسبيرية، ومشاركتهم الجمعية في ترديدها كاملة قرب نهاية العرض، كان كثير ممن كانوا حولي يبرهنون على أنهم قد حفظوها هم أنفسهم؛ بالصورة التي تحقق واحدة من أقصى درجات مشاركة الجمهور في العرض. بل إن العرض يكشف لنا عن ديناميته حينما – ولا أدري إن كان هذا يتم عمدا، أو أنه بالفعل قد تعثر أكثر من مرة في تذكر نصه – تشمل آليات عمل الذاكرة الخؤون تياجو رودريجز نفسه. وهو الأمر الذي يضعه في نفس الكفة مع ممثليه، ومع جمهوره على السواء. لكن الأمر الأهم هو أن هذا العمل يكشف لنا الكثير عن تصور رودريجز للمسرح، والذي يقترب كثيرا من تصور ألكسندر زيلدن الذي ناقشنا أعماله في هذا المقال. وإن كان أكثر منه مهارة من حيث السيطرة على المكان والحركة.
صحيح أنه يعترف بأن في هذا العرض الكثير من المعلومات الشخصية عن نفسه، وعن طبيعة تكوينه تكفي، لأن يصبح نوعا من البطاقة الشخصية التي تتيح له عبور الحدود الثقافية والدرامية المختلفة. لأنه ينطوي على كل الأسئلة النظرية الأساسية التي ينشغل بها مسرحه. فإن هذا الأمر يجعله بمثابة الشهادة الشخصية على منهج في التعامل مع المسرح والجمهور معا. حيث يقيم فيه في كل مرة حواره المختلف مع الكثير من الكتاب الذين شاركوا في تكون ذائقته من باسترناك وشكسبير إلى راي برادبري وألدوس هكسلي وغيرهم ممن قرأهم وأثروا عليه، فضلا عن الحوار المستمر مع جدته – معلمته الأولى – التي تركت ميسمها الواضح عليه؛ من خلال تعويده على حب الأدب والقراءة والقدرة على تذوقه وتحليله، وحتى دور أبيه في حياته في بعض الأحيان. إلى الحد الذي قال معه أحدهم ساخرا «إنك ما أن ترى عن «ظهر قلب» لرودريجز، فلست في حاجة لرؤية بقية أعماله، لأن به كل شيء!»
ومع ما في هذا القول الساخر من تبسيط، فإنه يكشف عن أهمية البنية المسرحية التحتية التي ينطوي عليها هذا العرض. وكيف تتكشف عن ثراء فكري ودرامي برغم بساطته المتناهية. لأن فيه هذا الزواج الفريد بين احترام العمل الأدبي وحرية الممثل على الخشبة. وهذا الخليط المتفرد من السياسي والشعري والحميمي في حالة من السيولة والحركة. لكن أبرز ما تحقق في هذا العرض، في تلك الليلة الأخيرة من أول مهرجان يديره في أفينيون، هو أن العرض تحول كما توقع إلى رسالة رمزية في النهاية بعد نجاح الممثلين/ الجمهور في حفظ السوناتا الشكسبيرية عن «ظهر قلب» وترديدها بنجاح قرب نهاية العرض، إلى حفل ختامي فريد بانتهاء المهرجان. حيث أخذ الممثلون في الرقص معه احتفاء بنجاحهم في هذا العرض، وقد اندمجوا بالفعل فيه. بينما دعا رودريجز الجمهور إلى الانضمام لهم ، فتوافد بالتدريج عدد كبير من الجمهور من الصالة إلى الخشبة يرقص مع الجميع.
[i] . هي الرواية التي تسببت في شهرة كاتبتها، حيث بيع منها عام 1959 نصف مليون نسخة. وعنوان الرواية مصطلح موسيقي باللغة الإيطالية من مفردتين تعني أولاهما التوسط والاعتدال، بينما الثانية الغنائي، يرتبط بطريقة معينه في العزف بصورة تحاكي فيها الموسيقى الصوت البشري. وقد حولها بيتر بروك إلى فيلم سينمائي عام 1960، حظيت ممثلته – جين مورو – بجائزة مهرجان كان الفرنسي الشهير لأفضل ممثلة رئيسية عن دورها فيه.
[ii] . وعلى رأسهم توفيق الجبالي ومحمد إدريس وفاضل الجعايبي ونور فرحات وفاضل الجزيري وعزالدين جنون وغيرهم.
[iii] . أذكر أنني وفي أواخر سنوات عملي بجامعة لندن وقبل التقاعد منها شهدت بداية تفشي تلك العقود في الجامعة لمن لا يعيّنون في وظائف ثابتة ويدرّسون بالساعة، وما تستلزمه من استغلال من ناحية وتدني المستوى المهني والحرفي من ناحية أخرى، وناضلت ضدها. لهذا أقول أن عمل زيلدن في مثل تلك الجامعة لم يكن ممكنا إلا بنفس شروط العقد الذي كانت توظّف به الجامعة عمال النظافة وغيرهم.