في تلك الدراسة الضافية عن هذا الكتاب الجديد، يكشف لنا الباحث اللبناني المرموق عن أننا بإزاء كتاب مهم يؤرخ لمرحلة بالغة الأهمية في تاريخ لبنان الحديث من جهة، وفي تاريخ عملية الصراع العربي الصهيوني من جهة أخرى، في عملية تنطوي على قدر كبير من الفرز والكشف عن الحقيقة.

فواز طرابلسي عن «زمن اليسار الجديد»

أسعد أبو خليل

 

لا أبالغ إذ أقولُ إن هذا الكتاب من أهمّ الكتب التي صدرت عن لبنان منذ سنوات. ولا أبالغ أبداً إذ أقول إن هذا الكتاب من أهم الكتب عن اليسار اللبناني (والعربي)، وهو صادر عن قائد عايش المرحلة من الداخل، وفي أهم المفاصل التاريخية المعاصرة. هذا الكتاب صارَ مرجعاً عن الحرب الأهليّة وعن اليسار اللبناني، وعن تاريخ لبنان المعاصر. المُنعش في هذه الشهادة الصادقة أنها نادرة. لأن معظم، إن لم نقل كل، الشهادات من قبل قادة الحركة الوطنيّة كانت اعتذاريّة، ومن منظور مضاد لليسار. تلك الشهادات كانت شهادات تائبين ونادمين، على عكس شهادات قادة المعسكر اليميني الانعزالي ومقاتليه. شهادات اليمين ملؤها الفخر والزهو والاعتزاز، حتى بجرائم القتل والعلاقة مع إسرائيل. كيف يمكن أن نفسّر أن نَفَس شهادات قادة اليسار والحركة الوطنية كان مُندّداً بِـ، وبمثابة إعلان طلاق بالكامل مع، المرحلة؟

فواز طرابلسي لم يقطع مع المرحلة وقدّم خدمة جليلة لكل من شارك في النضال الوطني والفلسطيني في لبنان. الشهادة كانت أمينة للمرحلة وكان الكاتب صريحاً حتى في تقييم دوره (وهو قدّم ما يشبه بيان الذمّة الماليّة وهذا نادر جداً ويجب أن يشكّل قدوة في كتابات القادة الوطنيّين وخصوصاً اليساريّين، والسياسيّين بصورة عامّة). المزعج في موضوع تناول تاريخ اليسار اللبناني أن يساريّين سابقين (اعتنقوا اليمين وأصبحوا في خندق الخليج على أقل تقدير) تخصّصوا، لا بل احتكروا، مهمّة الكتابة عنه. «مؤسّسة روزا لوكسمبورغ» (وهي مؤسّسة رجعيّة يمينيّة صهيونيّة تتسرّب إلى العالم العربي تحت ستار اسم امرأة عظيمة، وتكشّفَ دورها أكثر في الحرب على غزة) نشرت كتاباً عن اليسار اللبناني بقلم يميني («اليسار اللبناني» لحسين يعقوب، وكانت مراسلة «الشرق الأوسط» مرجعاً في الكتاب، الذي يبدأ بخبر اعتداء عنيف من حزب الله في 7 أيّار على مركز لـ«اليسار الديموقراطي»).

واليساري الذي يكتب عن تجربته في لبنان مُطالب دائماً بتقريع اليسار والتنديد به كي تكون كتابته مقبولة للنشر والعرض والمراجعة والتصفيق. وعندما كتب وديع حمدان كتابه «أوراق من دفتر العمر» هرع وضّاح شرارة إلى موقع «ميغافون» (المُمَوَّل من حكومات «الناتو» وسوروس) كي يهجو وديع حمدان بقسوة، ويلومه على عدم الذهاب بعيداً في نقده ومراجعته. وردّ حمدان على شرارة مؤكّداً أنه انتقد اليسار بدليل هجومه على محسن إبراهيم، ولكن شرارة لم يكفه ذلك، وأراد من حمدان أن يهجر اليسار قبل سنوات طويلة.

الثقافة السياسيّة العربيّة السائدة رجعيّة بالكامل، وهي تضع كل كاتب في موقع الدفاع والتبرير لو كان يساريّ الهوى. هذا يفسّر لماذا تُشكّل طبقة المثقّفين اللبنانيّين «أمةً واحدة»، ولكنّ الاقتصاد السياسي لا الأيديولوجيا يفسّر الظاهرة. أسماء كثيرة من تاريخ اليسار اللبناني تمرّ في الكتاب ويستشهد طرابلسي بكتابات بعضهم، قبل وبعد. تكاد لا تصدّق ما ترى، من التحوّل من نقيض إلى نقيض (حازم صاغية كان قد دعا، مثلاً، إلى قتل أنور السادات عندما زار القدس). لكن النقيصة الوحيدة في الكتاب هي التالية: أن الكتاب يذكر أسماء كثيرين من تاريخ اليسار الذي عايشه المؤلّف ويذكر تحوّلات كثيرين منهم نحو اليمين ولكنّه لا يقدّم تفسيراً لهذه الظاهرة، وهو الأصلح والأكفأ لتفسيرها، لأنه عايشها من الداخل وعرف شخصيّاتها. ولماذا منظمة العمل الشيوعي قدّمت متحوّلين ومتحوّلات إلى اليمين والحريريّة أكثر من غيرها من التنظيمات؟

كان طرابلسي قد كتب عن تجربته من قبل في كتاب «صورة الفتى بالأحمر»، وهو كتاب جميل ومشوّق. دخل طرابلسي إلى السياسة من باب الأدب، فأضفى ذلك على كتاباته نفحة أدبيّة جميلة تضفي متعةً على القراءة. يقول عن ذلك: «يمكنني القول إنني جئتُ إلى اليسار والاشتراكيّة من قراءاتي الأدبيّة، أكثر من التحصيل الفكري الذي سيأتي لاحقاً» (ص. 25) وهناك ملاحظات وحوارات ظريفة جداً ترد في الكتاب، مثل المدرّس الذي كان لا يتكلّم بغير الفصحى: «ماذا وراءك، يا فوّاز» (ص. 27). لكن كتاب التجربة الأوّل كان متحفّظاً. وقلتُ للكاتب يومها إنه من الواضح أن لديه المزيد. وهذا الكتاب يكمل من حيث انتهى الكتاب الأول أو هو يسبقه. لا يتحفّظ المؤلّف هنا ويروي للمرّة الأولى تجربته الصعبة مع محسن إبراهيم ويقدّم لنا وصفاً عن شخصيّة رجل فذّ لعب دوراً في الحركة القوميّة العربيّة واليسار العربي بعدها. ومحسن إبراهيم لم يكتب مذكّراته، على ما نعلم (هو سجّل حلقات مع غسان شربل ولكنها لم تُنشر بعد).

ينطلق فواز طرابلسي من تجربة وطنيّة يساريّة ثريّة جداً. عرف الجميع وأسهم في مفاصل كثيرة. هل أحسده على تجربته؟ أحياناً أريد أن أعيش تلك المفاصل التاريخية التي سبقت زمني ولكن أتصوّر معاناة الخيبة من هزائم وفشل وانفصال. حليم بركات (وهو أكبر سنّاً من طرابلسي وعلّمه العربيّة، كما عرفنا من الكتاب) كان يحدّثني عن طول تجربته، ولكنه يختمها بالقول إن المرحلة الحالية هي الأسوأ. هذا ما أعنيه. كنتُ أريد أن أعيش بهجة التأميم أو فرحة الوحدة أو الأمل بانطلاق العمل الفدائي. أتيتُ إلى التجربة (المتواضعة) في أواخر السبعينيات عندما كان اليسار والحركة الوطنية والفصائل الفلسطينيّة في حالة ترهّل وانتظار. طرابلسي عاش كل تلك التجارب والآمال والخيبات ولكن من دون أن يحوّله ذلك نحو الرجعيّة أو الخندق الخليجي (هو من قلّة نادرة من المثقّفين اللبنانيّين الذين واظبوا على نقد الأنظمة الخليجيّة، وحذَّر مبكراً من «الجزيرة» عندما كانت قوميّة النزعة، ولاحظ أنها لا تعرض أي نقد للسياسات النفطيّة والغازيّة). كنت كلّما ألتقي بالمؤلّف أمطره بالأسئلة كي أستزيد على ما كان قد كتبه من كتب ومقالات، رغم اختلاف سياسي بيننا أحياناً، كان آخرها عن زياد الرحباني.
فكرة الكتاب انطلقت من أطروحة دكتوراه أعدّتها مريم يونس، وطرحت فيها على طرابلسي عدداً من الأسئلة (فصل «تقديم»). ويُسجَّل لطرابلسي أنه يستجيب لكل طلبات الباحثين والباحثات، في الجامعات العربيّة والغربيّة. وأوّل ما تعرّفتُ إليه كان في عام 1980 أو 1981 عندما زرتُ محسن إبراهيم (بوساطة عائلية لأنه لم يكن من السهل لقاء الأمين العام التنفيذي للحركة الوطنيّة) في مقرّ الحركة (وهو مبنى كامل في وطى المصيطبة). كان لديّ مجموعة من الأسئلة عن تجربة الحركة الوطنيّة والفساد والعجز المستشري فيها بغرض بحث في الجامعة. طلب مني إبراهيم قراءة الأسئلة وعندما فرغتُ قال لي إنه منهمك في أعمال كثيرة وإنه سيحيلني إلى الرفيق فواز وإنه يمثّله في أجوبته. أعطيتُ أسئلتي إلى طرابلسي وكان أن استجاب لي بودّ وقدّم إليّ بعد أيام أجوبة مستفيضة مطبوعة على آلة كاتبة. ولا أزال أحتفظ بها.
درَسَ طرابلسي في «ثانويّة برمّانا» التي كانت واقعة تحت تأثير «الكويكرز» (ص. 16). وهذه طائفة سلميّة (في الغالب) ولكن أفرادها لا يمانعون المقاومة لو كانت سلميّة. لكن يكفي أن نتذكّر أن ريتشارد نيكسون كان منتمياً إلى هذه الطائفة، كي ندرك أن بعضهم يقبل الحرب والعنف ولو هجومياً، والبعض الآخر يقبله للدفاع عن النفس. وموقف الكويكرز في أميركا من قضيّة فلسطين كان متقدّماً على موقف باقي الكنائس. مرَّ على طرابلسي في المدرسة عدد من المعلّمين الفلسطينيّين (ص. 19) المُهجّرين من فلسطين (وكانت ذلك حالي في الـ«آي. سي» في الستينيّات وكان معظم المعلّمين المتميّزين من معلّمي «الكليّة العربيّة» التي أسّسها أحمد سامح الخالدي). كانت اهتمامات طرابلسي الأولى أدبيّة، ولكن تلاميذ ذلك الجيل حظوا بتنشئة سياسيّة بسبب تحزّب معظم المعلّمين، ولأن شبح النكبة خيّم على جيل كامل، لا بل أجيال. تعرّض طرابلسي للطرد أكثر من مرّة، وواحدة منها كانت للتضامن مع خرّيجي «الأكاديميّة اللبنانيّة للفنون الجميلة» التي طفقت تعلّم الحقوق باللغة العربيّة (ص. 23).

اليسوعيّة والنظام الطائفي رفضوا ذلك رفضاً قاطعاً: 1) لأنهم فضّلوا احتكار الجامعة اليسوعيّة في تعليم الحقوق. 2) لأن النظام لم يكن يريد تخريج محامين من المسلمين. قامت قضيّة بسبب رفض نقابة المحامين الاعتراف بشهادة هؤلاء الذين درسوا الحقوق باللغة العربيّة، يا للهول. إميل إده ما كان يريد أن يرافع إلا بالفرنسيّة في المحاكم. ويقول طرابلسي إن إضرابات تلك الحقبة ضغطت من أجل إنشاء الجامعة اللبنانيّة (تأخر إنشاء الجامعة اللبنانيّة عن إنشاء جامعات وطنيّة في الأقطار العربيّة: جامعة بيرزيت في 1924، جامعة القاهرة في 1908، وجامعة دمشق في 1923). السبب كان من أجل منع نشر العلم بين المسلمين لأن التعليم بالإنكليزية أو الفرنسيّة في الجامعة اليسوعيّة والأميركيّة كان منيعاً على خرّيجي المدارس الإسلاميّة. ولا ننسى أن الحكم في لبنان رفض بشدّة معادلة شهادة التوجيهيّة (التي كان عدد من المسلمين الذين يدرسون في دول عربيّة ينالونها) لأن السلطة المارونيّة الطائفيّة الحاكمة حاربت، بكل جهر، نشر العلم وتوزيع الشهادات على المسلمين. لبنان قبل الحرب كان نظام أبرثايد رسمي (الحكم هنا لي، لا لطرابلسي).

ويقول عن القراءات إنّ «الأدبيّات الشيوعيّة كانت ممنوعة في عهد كميل شمعون» (ص. 25). والتنويه بذلك ضروري أمام جمهرة «الزمن الجميل» المأسوف عليه دائماً. والدولة اللبنانيّة في الحرب الباردة اعتنقت رسميّاً سياسات معاداة الشيوعية والاشتراكيّة (وشارك في هذه الحملة بالتمويل صحف ودور نشر ومراكز. يكفي أن تنظر إلى «النهار» في تلك المدة لترى تخصّصها في ذمّ الشيوعية والاشتراكيّة والسخرية الدائمة من كمال جنبلاط وشعارات العدل الاجتماعي). وأوراق «فريد شهاب» (مدير الأمن العام النافذ) تكشف أن جهاز الاستخبارات القوي كان مكرّساً لرصد الشيوعية وصدّها في لبنان (واستمرّ شهاب في عمله حتى بعد تقاعده، لمصلحة جهة خارجية على الأرجح). لم يتمتّع لبنان بحرّية مطلقة إلى بعد اغتيال الحريري وخروج الجيش السوري من لبنان. ومن المضحك أن جماعات الثورة وإعلام تمويل سوروس والغرب لا تزال تصرّ على أن ميشال عون كان ديكتاتوراً حكم مثل المحمديْن في الخليج.
يعرف فواز كل شخصيّات المرحلة، أو أفراداً أصبحوا في ما بعد شخصيّات المرحلة. تعجّبتُ عن دور كلوفيس مقصود في قيادته لمجموعة يساريّة بعد خروجه من الحزب التقدمي الاشتراكي (اعتراضاً على موقف كمال جنبلاط غير الإيجابي من عبد الناصر عند التأميم، حسب ما أخبرني). وكان كلوفيس يعقد حلقات عن مواضيع تقدميّة. لا أتصوّر كلوفيس في هذا الدور، ربما لأنني تعرّفتُ إليه في مرحلة لاحقة من حياته وكان قد فقد حيويّته وزخمه الذي سمعت عنه عندما كان شاباً لفت جمال عبد الناصر بشخصيّته وذكائه ومعرفته. تأثّر طرابلسي بجدّه العلامة عيسى إسكندر المعلوف. قد يكون المعلوف أوّل أكاديمي بالمعنى الحديث في لبنان، وشملت معرفته الكثير من العلوم. يروي أن جمال عبد الناصر كان معجباً به وأبرق معزيّاً عند وفاته. تتخيّل حكام اليوم يتابعون نتاجات أكاديميّة؟
أجواء البدايات السياسية:

تأثّر طرابلسي في صباه بأجواء سياسيّة متنوّعة تدور في فلك اليسار آنذاك: من الحزب التقدّمي والحزب الشيوعي، إلى أجواء قوميّة بعدها. بعد مدرسة برمّانا يلتحق طرابلسي بكليّة في مانشستر في بريطانيا. انتسب هناك إلى جناح يساري ماركسي في حزب البعث، يقوده قيس السامرائي (الذي سيصبح في ما بعد من قياديّي الجبهة الديموقراطيّة لتحرير فلسطين، ص. 38) وربما بسبب الانتماء السياسي القومي، كانت مسيرة طرابلسي أوسع من اهتمام الشيوعيّين التقليديّين ونشاطهم في لبنان، فتراه يهتم بالثورة الجزائريّة، والقضية الفلسطينية والقضيّة اليمنية، التي كان قريباً من قادتها لسنوات طويلة (وكتب عنها في «جنوب اليمن في حكم اليسار: شهادة شخصيّة»). فضّل المؤلّف «البعث» على حركة القوميّين العرب لغياب المضمون الاقتصادي الاشتراكي عند الأخيرة (ص. 40). ويوضح طرابلسي أن الانفصال أسهم في اكتشاف الاشتراكيّة عند القوميّين العرب والناصريّين لانكشاف ضلوع «ملّاك الأرض ورجال الأعمال» في مؤامرة الانفصال (ص. 41). وهذه المصالح موّلت الانقلاب على النظام الوحدوي (بالتشارك طبعاً مع أنظمة خليجيّة وحكومات غربيّة). ويلاحظ طرابلسي عن حق أن النظام الناصري انحاز للاشتراكية في تلك المدة، وليس قبلها (أدّى ذلك إلى تأسيس «اتحاد قوى الشعب العامل»، وهو غير التنظيم اللبناني المعروف بهذا الاسم والذي كنّا نطلق عليه بعد 1976 تسمية «أقشَع» سخريةً منه بسبب تحالفه مع التدخّل العسكري السوري.)

يلحظ طرابلسي المفارقة في أن «البعث» والناصريّين كانوا يشدّدون على الاشتراكيّة فيما كانت الأحزاب الشيوعية غارقة في التنظير لـ«ثورة وطنيّة ديموقراطيّة، وأحياناً بقيادة البورجوازيّة الوطنيّة» (ص.41-42). مال طرابلسي إلى التروتسكيّين الذين كانوا «أكثر تجاوباً مع القضيّة الفلسطينيّة من سائر تنظيمات اليسار» (ص. 42). لا يشرح طرابلسي سبب ذلك، ولكن دور الاتحاد السوفياتي كان مهيمناً على الأحزاب الشيوعيّة. كان أفق حل القضيّة الفلسطينيّة في موسكو محدوداً بتأييد «القرارات الدوليّة» التي أتت دائماً في مصلحة إسرائيل، والتي لم تذكر الشعب الفلسطيني بالاسم. لم تتخصّص الأحزاب الشيوعية (مثل الأحزاب القوميّة) في القضيّة الفلسطينيّة لأنها كانت ستخسر لو نطقت بالموقف السوفياتي الذي يحكمها. كانت المنظومة الاشتراكيّة دائمة التشديد على حق إسرائيل في الوجود منذ قرار التقسيم.

لم يكمل طرابلسي دراسته الجامعيّة في بريطانيا وعاد إلى لبنان والتحق بالجامعة الأميركيّة في بيروت. درس تحت إشراف حنا بطاطو، الأستاذ الاستثنائي الفذّ. قلّة تعرف أن بطاطو كان فلسطينيّاً وعرّفه طرابلسي، وعن حقّ، على أنه «الماركسي الناصري الفلسطيني» (ص.43). حافظ بطاطو على ولائه لعبد الناصر حتى في سنواته الأخيرة عندما كان مقيماً خارج العاصمة واشنطن. لم يكتب بطاطو عن القضيّة الفلسطينيّة، وعاتبتُه على ذلك ذات مرّة بعد أن ألقى محاضرة قيّمة عن الحق الفلسطيني في الأرض، فما كان إلّا أن أجابني (على طريقته المتواضعة في المعرفة) بأن هناك من هو متخصّص فيها أكثر منه. (كانت رؤيته للقضيّة الفلسطينيّة شديدة الاعتدال، ووافق في الثمانينيات على مسار ياسر عرفات التسووي). لم أكن أعرف عن صلة طرابلسي ببطاطو قبل قراءة الكتاب. كان بطاطو يعمل آنذاك (أوائل الستينيّات) على إعداد أطروحته للدكتوراه كي تصدر في كتاب، ولكن المشروع تأخّر حتى أواخر السبعينيّات لأن بطاطو، حسب ما أخبرني، تألّم من الصراعات بين الشيوعيّين والبعثيّين فوضع المشروع جانباً لسنوات قبل أن يعود إليه.

جُمّدت عضويّة طرابلسي في حزب البعث لأنه كان على صلة بمنشقّين عن الحزب، الذي عُرف بانشقاقاته أكثر مما عرف بإسهاماته الوحدويّة. أعاد الحزب لطرابلسي الاعتبار بعد وصوله إلى السلطة في سوريا والعراق في 1963. بدأ طرابلسي بالكتابة مبكراً وعمل في صحيفة «الكفاح العربي» لصاحبها رياض طه (الذي أصبح نقيباً للصحافة فيما بعد واغتيل، على الأرجح، على يد النظام السوري). تعرّف على ياسين الحافظ الذي كان يرأس تحرير جريدة «الثورة» في دمشق. كان للحافظ تأثير كبير على اليساريّين حينها، ولا يزال له تأثير في أوساط اليساريّين الليبراليّين. وبرز المؤلّف مبكراً واختير لعضويّة لجنة ضمّته مع ميشال عفلق وجبران مجدلاني لصياغة قرارات مؤتمر «البعث» وهو في سن الخامسة والعشرين (ص. 46). لكن سرعان ما فُصل طرابلسي من الحزب بعد إدانته للقمع الذي تعرّض له الشيوعيّون في العراق.

تعرّف طرابلسي إلى وضّاح شرارة بعد مغادرته لتجربة «البعث». كُتب الكثير مؤخراً عن وضاح شرارة على ضوء الاهتمام بتاريخ اليسار اللبناني. وبعض الاهتمام باليسار اللبناني غير بريء إذ هناك محاولة مقصودة من اليمين لتعظيم دوره، وذلك من باب المناكفة مع حزب الله، كما أن الصحف اليمينية السعوديّة تعظِّم من أسطورة «جمّول» لتبخيس المقاومة الإسلاميّة حقّها. بلغت المحاولة أوجها في مقابلات الياس عطالله الأخيرة مع صحيفة «نداء الوطن»، إذ سرق عمليّة الويمبي من الحزب السوري القومي الاجتماعي. لكن لا يمكن إنكار دور شرارة في تشكيل تنظيمات «اليسار الجديد»، من دون النظر في تأثير هذا اليسار أو تقييم مساهمته في العمل الوطني في لبنان. ظلّ طيف وضّاح شرارة ظاهراً في ذهنيّة التشكيلات اليساريّة حتى أواخر السبعينيّات. لا أزال أذكر عندما فاتحني كمال يازجي في أوائل الثمانينيّات في الجامعة الأميركيّة في بيروت في أمر الانضمام إلى مجموعة يساريّة فوضويّة جديدة كان شرارة يُوجّهُها. لم ترق لي فكرة «التنظيم» و«الفوضويّة» في ذلك الحين، وما عرفتُ ما آلت إليه تلك التجربة. أي إنّ وضاح شرارة كان فاعلاً في اليسار اللبناني منذ أوائل الستينيّات حتى السبعينيّات، قبل أن يتفرّغ لدور يميني صريح في إعلام الحريريّة والسعوديّة عبر العقود.

عرّفَ شرارة، الوثيق الاطلاع مبكراً على الإنتاج اليساري في فرنسا، أجيالاً من اليساريّين اللبنانيّين على كتابات لم يعرفوها من قبل. أذكر أنه هو كان المُبادر في نشر كتابات كاستورياديس بيننا في أواخر السبعينيّات وأوائل الثمانينيّات. لكن شرارة لا يقيم طويلاً مع مفكّر، والثابت في مسيرته الطويلة كان الاستقرار في حضن اليمين. وكانت المجموعة التي انضم إليها وضّاح تميل لتشكيل جناح بعثي (آخر) معارض قبل أن يستقرّ القرار على إنشاء مجموعة يساريّة جديدة.

لا شكّ أن «البعث» كان له صدى كبير في أوساط المثقّفين والطلاب. عندما كتبتُ أطروحة الماجستير في الجامعة الأميركيّة في بيروت (عن حزب العمل الاشتراكي العربي-لبنان) وتحدثتُ عن انجذاب المثقّفين العرب لحركة القوميّين العرب، صحّحني منح الصلح (وكان عضواً من خارج الجامعة في تحكيم الأطروحة) وذكّرَ بحجم النفوذ البعثي في الجامعات والمدارس. قال إنه كان أعظم من تأثير الحركة في أوساط الشباب. يصعبُ على جيلي، وعلى الجيل الجديد بالتأكيد، أن يفهم جاذبية «البعث»، لكن علينا أن نتذكّر أن ذلك كان قبل أن يحمل الحزب وصمة الحكم في سوريا والعراق. هذه المجموعة اليساريّة الجديدة عُرفت باسم «لبنان الاشتراكي». وكانت العلاقات متشعّبة بين تنظيمات اليسار. فوضّاح كان في صدد مجموعة بعثيّة منشقّة قبل أن ينضم إلى التنظيم اليساري الجديد، ولكنه بقي على اتصال «بأحمد ستيتيّة، القيادي في حركة القوميّين العرب، الذي يتفاوض مع نخلة المطران، أبرز وجوه التيّار اللينيني» في الحزب الشيوعي اللبناني، ومع تيّار شيوعي آخر متأثّر بالشيوعيّة الإيطاليّة (ص. 50).

وانضمّ وضّاح شرارة وكريستيان غازي إلى «التيّار اللينيني» في داخل الحزب الشيوعي. يبدو وضّاح من سيرة طرابلسي (ومن كتاب فادي بردويل «الثورة والخيبة»، الذي كان أقرب إلى سيرة هاغيوغرافيّة لوضّاح) أن شرارة كان دائم الترحال الفكري والحزبي وأنه لم يستقرّ به المقام إلا بعد أن وجد نفسه في صف اليمين. هو توقّف عن الانتقال التنظيمي عندما وجد نفسه في اليمين وفي خدمة المشروع المعادي لليسار. وهو أجادَ في هذا الدور إلى درجة أنه كان مطلوباً: تراه يكتب في جريدة رفيق الحريري وفي جريدة خالد بن سلطان وأخيراً في موقع مموَّل من حكومات «الأطلسي» وسوروس. من حقّ شرارة أن ينتقل ويتغيّر، ولكن يبقى السؤال: لماذا يكون الترحال الفكري بين مثقّفي لبنان دائماً في اتجاه واحد، نحو أنظمة الخليج؟ هل أن الحجّة لدن الأمراء والشيوخ تتفوّق على الحجّة في خندق أعدائهم؟ وهل أن المكافأة الماليّة للانتقال نحو الخليج ليست مُسبِّباً أو إغراء؟ ولماذا لا نسمع عن انتقال بالاتجاه المعاكس، من اليمين إلى اليسار؟ وهناك حالات مشبوهة طبعاً: كيف أن توفيق الهندي (الذي اعترف عند التحقيق معه في التسعينيّات بالتخابر مع العدوّ الإسرائيلي) بدأ عمله السياسي في الجناح الأكثر ثوريّة في «فتح» (مع ناجي علّوش) قبل أن يجد نفسه في القوّات اللبنانيّة؟ هل هذا كان انتقالاً أم اختراقاً من البداية؟

بدأ إصدار نشرة «لبنان الاشتراكي» في عام 1966. هنا من الضروري وضع الرواية في سياقها التاريخي. يجهل جيل الشباب جوّ القمع الذي كان سائداً في لبنان في تلك السنوات. لم يكن الأمر مزحة. أجهزة المخابرات اللبنانيّة حينها كانت مخيفة، ولا تتورّع عن معاقبة سياسيّين: عملاء «المكتب الثاني» شطبوا وجهيْ الصحافي ميشال أبو جودة والنائب نسيم المجدلاني بسبب انتقادات للأمير فؤاد شهاب (كان شهاب يحرص على لقب الأمير). ورأيتُ بأم عيني الندبة الطويلة على وجهيْ الرجليْن. كما أن الغرب كان يلزّم أعمال محاربة الشيوعيّة لأجهزة المخابرات اللبنانيّة، على الأرجح. مجموعة الشباب هذه كانت تجازف في العمل اليساري السرّي. وكان للحزب الشيوعي حزب وقيادة ظلّ رديفة تستعدّ لتحمّل المهمات في حال اعتقال قيادة الحزب وأعضائه (تعلّمت الأحزاب اليساريّة الممنوعة الكثير عن ضرورة السريّة بعد الحملة الشرسة من نظام فؤاد شهاب ضد الحزب القومي). الأسماء الحركيّة كانت معتمدة لكن لبنان بلد صغير والناس تعرف بعضها من وجوهها (يذكر أحدهم في معسكر تدريب في جنوب لبنان في أواخر السبعينيّات كيف أن مسؤولاً حزبيّاً زارَ الرفاق وصاحَ بهم: من منكم عبدالله. لأن عمّته تتصل بالمكتب وهي قلقة عليه. ذُهل الرفاق لأن الجميع كان يتعامل بالأسماء الحركيّة، وكان ذلك عندما كانت سطوة المكتب الثاني أضعف بكثير مما كانت عليه).

لكن حتى في ذلك الزمن، عندما كان جوني عبده هو المسؤول، كان عند المخابرات اللبنانيّة قوائم بأسماء الذين يمرّون على مخيّمات التدريب اللبنانيّة والفلسطينيّة في الجنوب وكانوا على الأرجح يقدّمون المعلومات للإسرائيليّين (جوني عبده كان يستضيف أرييل شارون في منزله، وزار -حسب ما نُشر في إسرائيل- الأخير في مزرعته في النقب).

لبنان الاشتراكي:
صدرَ العدد الأوّل من نشرة «لبنان الاشتراكي» في أيلول 1966 واستمرّ حتى آذار 1970، وأصبحت المجموعة تُعرَف باسم «لبنان الاشتراكي» (يرجّح فوّاز أن وضّاح شرارة كان وراء التسمية، ص. 51). التصميم على الاشتراكيّة يمكن أن يُفهم في سياق التصادم الفكري مع الحزب الشيوعي اللبناني الذي كان يؤمن بمقولة «الرأسمالية الوطنيّة»، والمفهوم كان بمنزلة تصالح بين الاتحاد السوفياتي وبين أنظمة عربيّة وغير عربيّة لا تؤمن بالشيوعيّة. لم يكن الاتحاد السوفياتي يرى أننا مهيؤون لتطبيق الاشتراكية بعد، ونظريّات الاستحالة تعدّدت. من هذا المنظور، فإن «اليسار الجديد» في هذه المجموعة هو تعبير عن استقلالية عن الاتحاد السوفياتي، خصوصاً قبل انعقاد المؤتمر الثاني للحزب الشيوعي اللبناني في 1968. وصِفة اللبناني في اسم المجموعة كانت مُلفتة وذلك في زمن كان الجدال اليساري فيه يراوح بين القوميّة وبين الأمميّة. قد تكون هذه المجموعة، عبر حصرها النضال الاشتراكي في حدود لبنان، سابقة لتعبيرات الوطنيّة اللبنانيّة اليساريّة، التي انطلقت في رحم 14 آذار بعد اغتيال الحريري.

يذكر المؤلّف عدد الكتب التي كانت تناقَش (باقتراح من شرارة، ص53) وغزارة القراءات كانت تختلف في الكمّ والنوع عن التثقيف الشيوعي الضحل في الأحزاب الشيوعيّة («الإصلاحيّة» منها كما «الثوريّة») في زمن الحرب الأهليّة. كان يكفي للتدرّج في صفوف تلك الأحزاب قراءة نتف من «18 برومير» ونتف من «ما العمل» كي تكتمل ثقافة العضو العقائديّة. يقرّ المؤلّف بتأثّره بغرامشي، وهو كان من أوّل مُترجميه إلى العربيّة. وكان الأعضاء يواظبون على مطالعة الصحف اللبنانيّة والعربيّة والأجنبيّة على حدّ سواء. التنظيم لا يشبه أياً من الأحزاب اليساريّة التي عاصرتُها أثناء سنوات الحزب، ربّما لأن مجموعة «لبنان الاشتراكي» كانت أقرب إلى تنظيم نخبة فكريّة لا تطمح إلى الاختراق الجماهيري (تماماً على نسق تمييز موريس دوفرجيه بين نوعيْن من الأحزاب). لا يمكن أن يستطيع حزب، بهذا التطلّب في التثقيف الفكري، أن يصل إلى العمّال والفلّاحين الذين طمحت الأحزاب الشيوعيّة آنذاك لجذبهم. هذا لا يعني أن النخبويّة لم تعترِ صفوف تنظيمات شيوعيّة تقليديّة، حتى تلك التي استطاعت أن تضمّ جماهير إليها. لكن المعايير في التثقيف لم تكن واحدة، وكان هناك تراخٍ في المتطلّبات والواجبات في خلايا التنظيمات في المناطق الريفيّة والعمّاليّة في نواحي بيروت.

ويتحدّث طرابلسي بصراحة عن طقوس رفاقيّة في التدخين والسلام بين الأعضاء (ص. 55). وكان الانضمام إلى التنظيم نخبوياً وانتقائيّاً، على عكس ما ساد في تنظيمات الشيوعيّين التقليديّين، خصوصاً في سنوات الحرب. كان يُفترض أن يكون هناك ترشيح وموافقة، لكن لا أذكر أن هناك عضواً طُرد. المنافسة كانت على أشدّها بين التنظيمات وكان حجم التنظيم يقرّر حجم التمويل الخارجي (العربي أو الاشتراكي الشرقي). ويذكر طرابلسي، شاكراً، الدور الطليعي الذي لعبه بشير الداعوق، صاحب «دار الطليعة». الداعوق ليس معروفاً كثيراً وكان يبتعد عن الأضواء، ولم يضره أن تكون زوجته (الأديبة، غادة السمّان) معروفة أكثر منه. يصفه طرابلسي بـ«الإنسان الدمث، والقارئ الدؤوب، والبعثي المنفتح، والناشر الجريء الاستثنائي الذي أسهم بدور بارز في نشر أدبيّات التحرّر الوطني والاشتراكيّة والماركسيّة» (ص. 56).

الداعوق بلا شك كان عَلماً من أعلام النهضة الفكريّة التقدميّة في لبنان. كان بعثيّاً لكن لم يكن دوغمائيّاً أو عقائديّاً في سياسة النشر، في داره أو في مجلّة «دراسات عربيّة». مجلّة «دراسات عربيّة» (التي كنا نعود إلى مقالاتها بعد سنوات) أسهمت في إذكاء الخلافات الفكريّة وفي إثراء التثقيف الفكري التقدمي لمَن يرغب. كانت مروحة التعبيرات الأيديلوجيّة تنمّ عن سعة صدر وانفتاح الناشر الفريد. كتب «دار الطليعة» ثقّفت اليساريّين أكثر بكثير من منشورات «دار التقدّم» (أي الدار الموسكوبيّة التي كانت تنشر التراث الماركسي المختار بالعربيّة). وكانت مقالات «دراسات عربيّة» تراوح بين الإنتاج الأكاديمي والمناكفات الحزبيّة بين عقائديّين. تفرّغ طرابلسي لترجمة التراث اليساري لـ«دار الطليعة» في سنوات الدراسة في الجامعة الأميركيّة.

وتزامن تنظيم «لبنان الاشتراكي» مع «جبهة القوى الطالبيّة» وهي تنظيم لطلاب يساريّين في المدارس والجامعات الفرنسيّة التعليم (كان أمين معلوف وسمير فرنجيّة من بين الأعضاء، بالإضافة إلى يهود لبنانيّين يساريّين) (ص.59). وتنافس على كسب ودّ الجبهة الحزب الشيوعي اللبناني و«التيّار اللينيني» فيه. طُردت يولا بوليتي من «التيّار اللينيني» بعد أن اتُّهمت بـ«تمرير معلومات» عنه إلى «لبنان الاشتراكي» (عبر شرارة). استقال طرابلسي احتجاجاً. عمل طرابلسي مع مجموعة من اليساريّين في نشاطات من أجل فلسطين وضد الحرب الأميركيّة في فييتنام. تسبّب ذلك في منع طرابلسي من زيارة أميركا لمدة عشرين عاماً (ص. 60).

ميّز الإنتاج الفكري لـ«لبنان الاشتراكي» بين البورجوازيّة المالية-التجارية وبين الإقطاع السياسي، وشغل هذا التمييز النقاش الفكري مع أن المجموعة أخذت في الحسبان «تبرجز الإقطاع السياسي» (ص. 63). لكن النقاش كان نظريّاً ومجرّداً بعض الشيء. يذكر طرابلسي القضايا المطلبيّة، ولكنها لم تشغل التنظيم وإن شارك فيها مع الطلاب الثانويّين. كان التنظيم يقدّم تحليلات طبقيّة للظواهر السياسيّة، مثل الحكم على التجربة الشهابيّة بأنها كانت تمثّل «مصالح الرأسماليّة اللبنانيّة ذات الطابع التجاري-المصرفي في الغالب» («لبنان الاشتراكي»، تموز 1968، والاستشهاد من ص. 66 من الكتاب) لكن من دون تقديم مساهمة عن التركيب الطبقي للمجتمع اللبناني (أوّل دراسة في هذا الصدد كانت في كتاب بالفرنسيّة لسليم نصر وكلود دوبار في 1976).

لكن الشهابيّة لم تقطع بالكامل مع الإقطاع السياسي بل تحالفت مع أجنحة منه ضد أخرى (هي فضّلت صبري حمادة على كامل الأسعد، مثلاً). ويتفوّق تقييم المجموعة للتجربة الشهابيّة على تقييمات لاحقة كادت أن تجعل من شهاب المصلح الأكبر. يذكر طرابلسي القيود على الطبقة العاملة في عهده (ص. 67)، كما أن شهاب كان المتبنّي لحزب الكتائب نكاية بريمون إدة. وطرابلسي على حق في أن «النظر إلى الشهابية قبل الحرب الأهليّة ليس كالنظر إليها بعدها» (ص. 68). وقفت المجموعة ضد الستالينيّة وضد التدخّل العسكري السوفياتي في تشكوسلوفاكيا. هذا النقد المبكر للستالينيّة كان بالفعل من تجليّات «الجِدة» في التجربة اليساريّة، لأن الأحزاب الشيوعيّة لم تكن تجرؤ على نقد الستالينيّة حتى بعد عام 1956. لكن هل إن نقد الستالينيّة والتدخّل العسكري السوفياتي في تشكوسلوفاكيا أسهم في إضافة المسحة الليبراليّة التي شدّت فيما بعد معظم أعضاء المجموعة وجعلتهم من أصدقاء اليمين؟

وفي ضوء الحرب الباردة، والحروب الأميركيّة المنتشرة حول العالم، لماذا يكون التدخّل العسكري السوفياتي الشرّ بعينه، خصوصاً بعد جلاء حقيقة حركات المعارضة في أوروبا الشرقيّة وتبخّر أوهام التعويل على «اشتراكية إنسانيّة» في تلك الدول كي تكون في تضاد مع الماركسية السوفياتية؟ يعترف طرابلسي أن المجموعة كانت تجهد كي تظهّر الاختلاف مع الحزب الشيوعي اللبناني وأن المعرفة الماركسية النظريّة للمجموعة أتاح لها النظر باستعلاء نحو الشيوعيّين التقليديّين، في حقبة عانوا فيها من صراعات ومن أثقال قرارات خطأ (بالنسبة إليهم) مثل قبول التقسيم، ومعارضة الوحدة ومجابهة عبد الناصر في الوقت الذي كان فيه رأس الحربة ضد الاستعمار الغربي. كان العداء أو الاختلاف مع الحزب الشيوعي هو مبرّر وجود كل الأحزاب الشيوعيّة الأخرى في لبنان.

المفارقة أن مجموعة «لبنان الاشتراكي»، التي انضوت في ما بعد في إطار «منظمة العمل الشيوعي»، لم تعد تؤمن بالاختلاف العقائدي مع الحزب الشيوعي وتبيّن في هذه السيرة أن السبب الذي منع الاندماج بين التنظيميْن كان شخصيّاً (من ناحية المنظمة وزعيمها، محسن إبراهيم). يقول فواز إن الحزب لم يكن آنذاك (في منتصف الستينيّات وبعدها) جاذباً للشباب الحالمين و«المستعجلين» للتغيير (ص.71). والحزب لم يكن جاذباً أيضاً في مرحلة الحرب بالنسبة إلى الشيوعيّين الثوريّين. كانت النظرة إليه أنه جامد وستاليني وإصلاحي النزعة والتوجّه. لكن المنظمات الشيوعيّة الثوريّة فشلت هي الأخرى في التمايز الحقيقي عن الحزب ولم تثبت أن مسلكها أو عقيدتها ثوريّة في مقابل إصلاح الحزب.

تبلورت على الواقع، خصوصاً أن بعضها (مثل حزب العمل الاشتراكي العربي-لبنان) كان منضوياً في إطار الحركة الوطنيّة اللبنانيّة. والتبعيّة للاتحاد السوفياتي حكمت سياسات كل الأحزاب الشيوعيّة في لبنان، باستثناء التروتسكيّين والفوضويّين والمجموعات الصغيرة التي لم تحمل صفة أحزاب. لكن خلاف «لبنان الاشتراكي» مع الحزب شمل قضايا كبرى مثل مشروع روجرز والموقف من العمل الفدائي والكفاح المسلّح على الصعيد العربي والعالمي، والنظرة إلى الشهابيّة (كان من المفيد لو أن طرابلسي أسهب في شرح المواقف المختلفة للمجموعة هنا) (ص. 72). لكن طرابلسي على حق في أن مجمل إصلاحات الشهابيّة لم تمسّ بـ«التزام لبنان مبادئ الاقتصاد الحرّ» (ص. 80).

كما إنّ المجموعة على حقّ في أن الشهابيّة لم تقلب النظام الطائفي أو تسعى إلى القضاء عليه، بل سعت إلى تعديل موازين التمثيل في الإدارة، ليس إرضاءً للمسلمين، بل من أجل تحقيق السلم الأهلي. ونقاشات المجموعة مع الأحزاب والشخصيّات الأخرى غلب عليها طابع «التشاوف» النظري كما اعترف طرابلسي. هناك وثيقة من 1968 (من إعداد أحمد بيضون، على ما أظن) وفيها نقد لتناول كمال جنبلاط للماركسيّة (بعنوان «تهافت الجنبلاطيّة في تعدّي الماركسيّة»). هناك القليل من النقاش السياسي في الدراسة وكثير من إثبات القصور النظري والمعرفي لجنبلاط حول الماركسيّة.

واختلفت المجموعة مع الحزب الشيوعي في تقييم انتخابات 1968. رفضت المجموعة الفصل بين المرشحين الشهابيّين وبين مرشحي «الطغمة الماليّة» (ص. 75). وكتب طرابلسي في «لبنان الاشتراكي» في آذار1968  عن موضوع الانتخابات وردّ على الحزب الشيوعي بمقولة «التحالف الحاكم بين البورجوازيّة التجاريّة-الماليّة والإقطاع السياسي المكوَّن من عائلات مالكة للأرض فقدت نفوذها الاقتصادي أمام التطوّر الرأسمالي» (ص. 75). وحالة الصناعي بطرس الخوري ماثلة لتدعيم مقولة طرابلسي، فالرجل تحالف مع عائلات الإقطاع، ليس من أجل البروز كزعيم سياسي، وإنما من أجل تمرير مشاريعه الاقتصاديّة ومحاربة اليسار (كان قريباً من رشيد كرامي ومن كميل شمعون وكان من أبرز مموّلي شحنات السلاح في أوّل الحرب الأهليّة لمصلحة ميلشيات اليمين).

يعترف المؤلّف بقصور نقد المجموعة للحزب الشيوعي: هم أخذوا على الحزب عدم دفعه نحو الاشتراكيّة فيما توصّلت المجموعة إلى خلاصة الدعوة إلى «مرحلة وطنيّة ديموقراطيّة وسيطة». كما رهنت المجموعة عمليّة البناء الاشتراكي بـ«تحوّلات عربيّة أساسيّة» (ص. 75-76). ويمكن الملاحظة أن التعويل على التحوّلات العربيّة تجلّى في الاتكال على المقاومة الفلسطينيّة. وعندما فشل التغيير، قام محسن إبراهيم وغيره بلوم المقاومة الفلسطينيّة كأنها هي الموكلة بتغيير الوضع اللبناني وتثويره.
المسألة الاجتماعية وحوادث 1958:
يُنوِّه طرابلسي بأن فؤاد شهاب أولى المسألة الاجتماعيّة الاهتمام اللازم بعد حوادث 1958 (ص. 81). لكن أرى أن هذا الإيلاء لم يكن بدافع إنساني خيري، بل لأن شهاب (مستعيناً بخبراء الرجل الأبيض الذي حبَّذَ الاستعانة بهم) أراد حماية النظام الرأسمالي الطائفي من الانهيار. لكنه لم يترك المسألة الطائفيّة جانباً، بل واظب على حماية الامتيازات المارونيّة بنفس حماسة خلفائه وأسلافه. يقارن طرابلسي بين إعادة إعمار لبنان بعد 1958 ومشروع الحريريّة بعد الطائف. يقول إن المشروع الأخير عوّلَ على قدوم سلام عربي-إسرائيلي. لم يكن نظام شهاب ليمانع ذلك، لو أنه تمتّعَ بحماية النظام الناصري لسلام مع إسرائيل. الحريري اعتمد في تعويله على السلام العربي-الإسرائيلي على مؤازرة النظام السوري الذي غطّى له حلمه التطبيعي. طبعاً، طرابلسي على حق في أن الحريري ورفاقه من كل الطوائف قضوا على نظام الأمن الاجتماعي الذي استحدثه فؤاد شهاب (حمايةً للنظام). يتساءل طرابلسي عن قدرة النظام الطائفي على الديمومة في حال إكمال برامج العدل الاجتماعي. لكنّ الجواب يحتاج إلى النظر إلى نظام الشهابيّة، في عهديْن: لم يقضِ على زعماء الطوائف بل فضّل زعماء على آخرين، وهو مسؤول، أكثر من غيره، عن رفع مرتبة بيار الجميّل وذلك نكايةً بريمون إده، عدوّ شهاب اللدود.

يتذكّر طرابلسي أجواء حرب 1967 في الجامعة الأميركيّة والتظاهرات أمام السفارة الأميركيّة. ويروي مشهداً طريفاً: فؤاد السنيورة وهو يرمي قنابل مولوتوف على السفارة. لكنّ السنيورة عوّض في سنواته في الحكم عن خطيئته تلك، واستقبله بوش وربّتَ على كتفه في البيت الأبيض في مشهد أثلج صدر القومي العربي الذي لم يحتج يوماً إلى فحص دم، مثله مثل قادة الجبهة اللبنانيّة. أصدرت مجموعة «لبنان الاشتراكي» بياناً باسم «اشتراكيّون لبنانيّون» واتهمت فيه الجيش بـ«حماية مكاتب شركات النفط بدل أن يشارك في المعركة الوطنيّة على الحدود» (ص. 86). لكن الذي يقرأ عن مناقشات وقراءات المجموعة يتعجّب أن الهمّ العسكري لم يشغلهم. صحيح أن دولة ما قبل الحرب الأهليّة كانت دولة بوليسيّة (في عهد المكتب الثاني وفي عهد سليمان فرنجيّة)، والبيان المذكور أدّى إلى حملة ضد الأعضاء، تعرّض أعضاء للاعتقال والتحقيق (بمن فيهم طرابلسي الذي نال «فلقة» في «الزمن الجميل») فيما تعرّض البعض الآخر للتعذيب (يتحدّث المؤلّف عن رفيق له فيقول: «طرحوه أرضاً وضربوه وداسوه بالجزَم ثم صبّوا عليه الكاز وهدّدوا بحرقه»، ص. 87)، لكن هموم المجموعة كانت نظريّة وتحليليّة للغاية.

على عكس المجموعات اليساريّة الثوريّة التي نبتت في أوائل السبعينيّات والتي كان همّها الأساسي حماية المخيّمات الفلسطينيّة، وشنّ حرب عصابات ضد قوى السلطة ورأس المال. واعتقل النظام آنذاك جنوداً وضبّاطاً لأنهم اعترضوا على عدم مشاركة الجيش في حرب 1967. لم يشذّ التنظيم عن مسار حركة القوميّين العرب، وسادت أولويّة بناء الحزب الماركسي اللينيني، لكن ماذا تفعل عندما تنتشر الأحزاب الماركسيّة اللينينيّة كالفطر، ويُخوِّن أحدها الآخر، ويقول باعتزاز (نقلاً عن لينين): إذا وُجدَ حزبان ماركسيّان في بلد ما، فأحدهما حتماً انتهازي. أذكر كيف كانت الأحزاب الماركسيّة الصغيرة في بيروت تقول ذلك عن كل الأحزاب الأخرى، بالجملة.
التقرير الذي صدر عن المجموعة بعد الحرب قرّر دعم الفدائيّين وتأمين المأوى والملجأ والغذاء لهم، لكنه لم يقرّر المشاركة في القتال. في هذا لم يختلف الحزب اليساري الجديد عن الحزب الشيوعي التقليدي. «فضّل التقرير ضرب الحكم الرجعي في الداخل لأنه عائق أمام العمل الفدائي» (ص 89) لكن كيف تضرب السلطة من دون تسلّح وتدريب؟ من الواضح أن المجموعة ارتأت ما ارتأته قوى اليسار التقليدي في حينه: أن تعتمد على المقاومة الفلسطينيّة كي تحمل السلاح من أجل الثورة وبالنيابة عن القوى اللبنانيّة التي لم تكن تريد خوض غمار الكفاح المسلّح. الغريب بالنسبة إلى جيلي (الذي تلا جيل فوّاز ورفاقه) أن التجذّر النظري لم تكن له ترجمة في التجذّر العملي على الأرض. يعترف طرابلسي بذلك ويقول إن «المهمات (كانت) جداً متواضعة: تنظيم تظاهرات. وبثّ الوعي في الجنوب. وإطلاق حريّة العمل الفدائي».

كيف كان تسليح وتدريب ميليشيات «الكتائب» و«الأحرار» (وكان ذلك علنيّاً وكانت الصحف تنشر عنه تحقيقات مصوّرة) لم يستدعِ ردّة فعل (غير ردة الفعل اللفظيّة) من قبل القوى الوطنيّة والتقدميّة؟ والاختلال في ميزان الإعداد العسكري كان سيؤدّي إلى هزيمة ماحقة في حرب الفنادق، لولا أن المقاومة الفلسطينيّة سارعت إلى إنقاذ القوى الوطنيّة بعد أن كانت قوى اليمين في طريقها لاحتلال منطقة الحمراء ورأس بيروت. يستشهد المؤلّف في هذا الصدد بمقالة لوضّاح شرارة كان واضحاً فيها استبعاد الخيار العسكري لانشغال الناس بـ«تحصيل معاشهم» (ص. 91) ونشرة «لبنان الاشتراكي» كانت واضحة في استبعاد تعميم نموذج الكفاح المسلّح في لبنان. (ص. 93) لكن الخلفيّة الطبقيّة (غير الفقيرة والكادحة) لأعضاء المجموعة قد تفسّر الامتناع عن خوض غمار الكفاح المسلّح.

كان المقاتلون في الأحزاب الشيوعيّة الثوريّة التي رفعت شعار الكفاح المسلّح من خلفيّات طبقيّة كادحة، وجنوبيّة شيعيّة في الغالب، وظلّ ذلك الطابع حتى في الثمانينيّات من خلال دراسة للحزب الشيوعي عن شهدائه في حينه. شذّ عن ذلك أفراد في «المنظمة الشيوعيّة العربيّة» لكنّ المنظمة خاضت تجربة مختلفة من انتهاج العنف السياسي. في تلك الفترة، بدأت مسيرة الاندماج التنظيمي بين «لبنان الاشتراكي» و«منظمة الاشتراكيّين اللبنانيّين» في حركة القوميّين العرب. وكان المؤلّف باشر التواصل مع نايف حواتمة ومحمد كشلي (الأخير أسّس دار نشر «ابن خلدون» وأصبح في عهد رفيق الحريري المستشار الخاص لشؤون قمع الحركة العمّاليّة). «لبنان الاشتراكي» لم توافق على تبرئة عبد الناصر من مسؤوليّة الهزيمة، كما فعلت الحركة، لكن ذلك لم يحل دون اندماج التنظيميْن في صف حزب جديد، أي منظمة العمل الشيوعي.

يصف طرابلسي بدقّة الحالة بعد الهزيمة وهو على حقّ في أن الحقبة السعوديّة بدأت آنذاك (ص. 94)، أي قبل موت جمال عبد الناصر. كان عبد الناصر مثخناً وليس في وضع الالتزام بتقسيمه النظام العربي إلى معسكر رجعي وتقدّمي بسبب حاجته الماسّة إلى المال النفطي لإعادة بناء القوات المسلّحة. ويتحدّث طرابلسي عن تصالح بين الحركات القوميّة والشيوعيّين، لكن ذلك ينطبق على حركة القوميّين العرب فقط، لأنها اختارت التحوّل نحو بناء التنظيم الشيوعي ونبذت قوميّتها. العلاقة بين «البعث» والشيوعيّين، مثلاً، لم تتحسّن أبداً والحزب الشيوعي (الرسمي) رضخ لحكم «البعث» في سوريا والعراق وأطاعه، لكن ذلك لم يحمِ الحزب الشيوعي في حالة العراق، ولم يحمِ التنظيمات الشيوعيّة الأخرى في حالة سوريا.

لكنّ التحوّلات من حركة القوميّين العرب إلى تنظيمات ماركسيّة لم تكن سهلة أو سلسة. «الجبهة الشعبيّة»، وحدَها، ولّدت انشقاقات «الجبهة الديموقراطيّة» و«الجبهة الشعبيّة-القيادة العامّة»، و«الجبهة الشعبيّة-العمليّات الخارجيّة»، و«الجبهة الشعبيّة (الثوريّة) لتحرير فلسطين». وأسهم بعثيّون سابقون في إنشاء «لبنان الاشتراكي» في لبنان، وفي تأسيس «المنظمة الاشتراكيّة الشعبيّة الفلسطينيّة» و«المنظمة العماليّة الثوريّة» بقيادة قيس السامرائي ورفاقه في العراق. (ص. 97) حتى الأنظمة أدركت جاذبيّة الشعارات الثوريّة وتنظيم الفدائيّين. نظام صلاح جديد كان من أنصار حرب التحرير الشعبيّة ولهذا أسّس منظمة «الصاعقة» (أطلقوا عليها لقب «السارقة» بعد ارتكابها لسرقات كبرى في منازل أثرياء منطقة القنطاري). وكل التنظيمات اتفقت على الكفاح المسلّح لكن اختلفت حول الباقي. وطرابلسي يلاحظ عجالة و«سلق» اعتناق الماركسيّة اللينينيّة من قبل القوميّين السابقين، ويقول إن ذلك أدّى إلى «سهولة الانفكاك من التزام الماركسيّة والارتداد عليها». ليت المؤلّف توسّع في هذه الفكرة لأنها تساهم في فهم ارتداد الكثير من قادة وأعضاء منظمة العمل الشيوعي، خصوصاً أن القادة المؤسّسين كانوا من الذين أمعنوا في دراسة ونشر الفكر الماركسي منذ الستينيّات.

في أعقاب هزيمة 1967:
الحزب الشيوعي اللبناني تجاوب هو الآخر مع التحوّلات الكبرى وعقد مؤتمره الثاني في عام 1968 والذي حسم فيه موقفه من القضيّة الفلسطينيّة. لكنّ انتهاج الكفاح المسلّح لتحرير فلسطين لم يكن برنامج عمل له. يقول المؤلّف إن «منظمة أنصار» لم تعمِّر طويلاً، ومشروع تشكيل الحرس الشعبي للدفاع عن الجنوب لم يكن جاداً. أمّا عن «الحركة الثوريّة الاشتراكيّة اللبنانيّة» وعمليّة «بنك أوف أميركا» في عام 1973، فيقول المؤّلف عنها: «أخذنا موقف الإدانة القويّة للقمع الدموي لأجهزة السلطة على صفحات «الحريّة»» (ص. وص٩٨). وفي كتابه المرجعي، «26 ساعة، بنك أوف اميركا»، يروي عباس الحسيني أن جبهة الأحزاب والقوى الوطنيّة والتقدميّة تنصّلت من العمليّة وأدانتها. موقف الحزب الشيوعي ضد المجموعة كان قاسياً ووصفها بالإرهاب (جوزيف سماحة أدان تلك العمليّات في ما بعد في «السفير»).

لم يعترض على بيان القوى الوطنيّة والتقدميّة إلا منظمة العمل الشيوعي وحزب العمل الاشتراكي العربي-لبنان. وذهب البيان بعيداً في اتهام العمليّة بأنها توطئة «لإنزال أميركي» (ص. 12 من كتاب الحسيني). أمّا «النداء»، فقد اعتبرت العمليّة «محاولة رجعيّة فاشلة للتحريض على القوى التقدميّة». وحزب البعث الموالي للنظام السوري اعتبر العمليّة «خطة عمل إرهابيّة». لم يدافع عن «الحركة» إلا حزب البعث الموالي للنظام العراقي في بيان من صياغة موسى شعيب (الذي عرف علي شعيب عن كثب)، وبيان آخر لـ«الخلايا العماليّة الثوريّة» من صياغة روجيه نبعة. وأصرّت جريدة «الحياة» يومها على أن منظمة العمل الشيوعي هي وراء العمليّة، ما زاد من تنصّل المنظمة منها.

تعرّض طرابلسي للنقد الثقافوي الذي مثّله أدونيس وصادق جلال العظم بعد الهزيمة في عام 1967. لكنّ طرابلسي يعبّر، عن حق، عن تقدير أكبر لنقد ياسين الحافظ. الأخير لم يذمّ الجيوش العربيّة ولم يقدِّس العمل الفدائي على أنه المُخلّص الوحيد بل بقيَ يعوّل على الجيوش العربية من دون أن يقصّر في نقد النظام الناصري. يرى الحافظ أن صيرورة حرب العصابات يكمن في تحوّلها إلى حرب جيوش نظاميّة. والحافظ، خلافاً للنزعة اليساريّة التي نفرت من القوميّة، «دارَ... دورته الطبقيّة الكاملة ليعود إلى موقف قومي عن وحدة الأمّة وحشد طاقاتها» (ص. 104). وفي نقده للحافظ، يوحي طرابلسي بأن تشخيصه للتقدّم في المجتمع الإسرائيلي يساوي على الأرجح بين التقدّم والعنصر الغربي (ص. 105). وهنا يستفيض طرابلسي في شرح الهزيمة العسكريّة في عام 1976؛ لكنّ سرديّة طرابلسي تعتمد حصراً على رواية المؤرّخ خالد فهمي (الشديد الانحياز ضد عبد الناصر، ويأخذ عليه أن الشعب المصري شعر باليتم بعده). كان على طرابلسي الاستعانة برواية شاملة وموثوقة لحازم قنديل في كتابه «جواسيس وجنود ورجال دولة: طريق مصر نحو الانتفاض». قنديل لا يقول بصراع قوى بين عبد الناصر وعامر، بل يقول إن عبد الناصر لم يكن يمتلك أدوات الحكم العسكريّة والأمنيّة قبل 1967.

وتتعدّد الأسباب في تحليل الهزيمة
وتتعدّد الأسباب في تحليل الهزيمة في عام 1967، والتي يورد فواز طرابلسي بعضها من دون الانجرار إلى درك الثقافويّة الاستشراقية التي وقع فيها أدونيس وصادق جلال العظم (وهشام شرابي في ما بعد) أما حول موضوع أن جمال عبد الناصر أخطأ في عدم المبادرة في الحرب الذي يورده طرابلسي (ص. 114) فهذا صحيح؛ لقد صدّق الوعد الأميركي بأن إدارة جونسون ستلوم الطرف الذي سيبادر إلى إطلاق النار. كان فهم عبد الناصر للسياسة الغربية متقدّماً على فهم الحكّام العرب، وهو كان يحذّر في خطبه من النوايا الأميركية، لكنه في تلك اللحظة التاريخية ظنّ أن أميركا ممكن أن تلوم إسرائيل لو هي بادرت بالحرب. وهذا الفخ نفسه الذي وقع فيه ياسر عرفات في قمّة «كامب ديفيد» مع إيهود باراك في آخر عهد بيل كلينتون، عندما دعاه الأخير ووعده بأنه ليس هناك ما يخسره وأنه لن يلومه لو لم يقبل بالعرض الإسرائيلي. ماذا فعل كلينتون عندما رفض عرفات العرض؟ سارع إلى المنبر في البيت الأبيض ولام عرفات على فشل القمّة. لسبب ما، لا تزال أطراف عربية عديدة تأمل أن تتصرّف أميركا في الصراع مع إسرائيل بشيء من الحيادية. في لبنان، لا يزالون يتعاملون مع «الوسيط الأميركي»، عاموس هوكشتين، (حامل الجنسيّة الإسرائيليّة) على أنه نزيه ومحايد.

أيّد المؤلف الكفاح المسلّح لكنه رفض مقولة أن المقاومة الفلسطينيّة ستشكّل «رافعة الثورات العربية» (ص. 115). هذه النظرة سادت في اليسار الفلسطيني وخصوصاً شعارات «الجبهة الشعبية»، ومفادها أن تحرير فلسطين سيمرّ بالضرورة من العواصم العربية. وفي المراجعة التاريخية، يبدو حذر المؤلّف صائباً. فشلت المقاومة الفلسطينية (أو اليسار الثوري) في تغيير الأنظمة، لا بل إن محاولاتها استجلبت عداء شعوب تلك الدول، على غرار ما جرى في لبنان وفي الأردن. وصحيح أن عمليّة التثوير والتغيير كان يمكن أن تكون بصورة مختلفة بالكامل، ومن دون استعراض أو رفع شعارات مُنفِّرة للجمهور (مثل شعار «كل السلطة للمقاومة» الذي رفعته «الجبهة الديموقراطية» في الأردن عام 1970). فكرة التثوير ليست خطأً طبعاً، لكن مسار وجود المقاومة في الدول العربية لم يهتم ببناء علاقات مع الجماهير، ربما بسبب الاعتداد بقوّة السلاح، كما حصل في لبنان.

وبالطبع، كانت هناك تعبئة وتحريض ضد المقاومة، وتؤكد الوثائق الأميركية أن المكتب الثاني اللبناني كان يحرّض (ويسلّح) أهل الجنوب أملاً بحماية إسرائيل وطرد المقاومة مبكراً من لبنان. يستشهد طرابلسي بحديث ياسين الحافظ عن ظاهرة الشخبوطية، في إشارة إلى تأخر اجتماعي وأيديولوجي، وتراكم مال غير مقرون بالإنتاج. والظاهرة هذه تتجلّى في أيامنا أكثر من قبل بسبب السطوة التي نالتها أنظمة الخليج بعد تدمير الدول والمجتمعات في ليبيا والعراق وسوريا ولبنان. لم يعُد هناك معارضة للطغيان الخليجي، ولم يعد هناك إعلام مُغايِر باستثناء الإعلام المرتبط بمحور المقاومة، وهو صغير الحجم والتأثير.

ويروي طرابلسي، الذي قضى وقتاً في الدراسة في بريطانيا بعد عام 1968، حيث تركّز نشاطه على الدعوة من أجل القضية الفلسطينية، قصته مع مجلّة «نيو لفت ريفيو» اليسارية. حينذاك، طلبوا من فواز مساهمة، فكتب دراسة طويلة عن فلسطين. لكنّ المسؤولين اليساريّين في المجلّة، لم تعجبهم المساهمة، وكان المعترض الأكبر، بيري أندرسون (ص. 121). قام المعترضون بنشر ردّ على المقالة في العدد نفسه، لكنهم ذيّلوا الردّ بتوقيع اسم عربي مزيّف، مع أن كاتبه كان روبن بلاكبورن، والذي سحب أندرسون اسمه من العدد. اليسار الغربي لم يشذّ عن عنصريّة وانحياز الصهيونية، وتوضّحت معالم هذا اليسار كثيراً أثناء الحرب في غزة، عندما يعترض برني ساندرز (يُعتبر الاشتراكي الوحيد في مجلس الشيوخ) على فكرة وقف النار في غزة.

كذلك نشط طرابلسي في دعم الحركات والثورات في شبه الجزيرة العربية، فيما كان الوطنيون والتقدميون العرب ينأون بأنفسهم عن مسألة الخليج، كون في ذلك حماية لمكتسبات وامتيازات ماديّة لهؤلاء، فضلاً عن فرص في العمل في الإعلام الخليجي. قد لا يعرف البعض أن كتاب فرد هاليداي، «شبه الجزيرة العربية بدون سلاطين»، هو من تأليف مشترك بين هاليداي وطرابلسي (مع أن هاليداي احتكر اسم المؤلّف بالرغم من مساهمة طرابلسي في الكتابة). وللمفارقة، فإن طرابلسي هو مَن عرّف هاليداي إلى اليسار والقوميّين في شبه الجزيرة وسافر معه إلى هناك. وعندما كان طرابلسي يعدّ أطروحته في جامعة لندن مع الصهيوني المتعصّب، بي جي فاتيكوتس، والذي كان معروفاً بشدّة كراهيته لعبد الناصر، تزامن خلاف طرابلسي مع أستاذه مع تشكيل «منظمة العمل الشيوعي» في لبنان. الطريف أن «منظمة الاشتراكيّين اللبنانيّين» (الذين جاؤوا من خلفيّة حركة القوميّين العرب) كانوا في البداية من دعاة التنظيم الأفقي والعمل الشعبي.

لكن هؤلاء أنفسهم (أو على الأقل زعيمهم محسن إبراهيم) سرعان ما تحوّلوا باتجاه شديد اللينينية المركزية. المنظمة عند انطلاقتها أرادت الفصل بين نسقها في الشيوعية ونسق «الحزب الشيوعي اللبناني»: أيّدت الكفاح المسلّح ضد إسرائيل (لكن ليس بأيدٍ لبنانيّة) وعارضت تبعيّة «الشيوعي اللبناني» للاتحاد السوفياتي، و«نزعة المصالحة الطبقيّة» (ص. 130)، كما عارضت مقولة التطوّر الرأسمالي التي طلع بها منظّرو الاتحاد السوفياتي لتسويغ التحالف مع أنظمة عربية غير شيوعية (أو معادية للشيوعية). وكانت توافدت أجنحة مختلفة إلى «منظمة العمل الشيوعي» عند، أو بعد، التأسيس، ومنها «التيار اللينيني» داخل «الحزب الشيوعي» و«الوسط الطالبي الفرنكوفوني» و«المجموعة التروتسكيّة».

 وانضمّت إليها أيضاً كوادر من «الشيوعي اللبناني»، ومجموعة ماويّة متشدّدة انطلقت من «الحركة الطالبيّة الثانويّة» (ضمّت نواف سلام). كما انضمّ إليها خارجون عن «حزب العمال الثوري العربي» (الذي أسّسه ياسين الحافظ)، وبعض القوميين السوريين، وأناس من «حركة الشباب الزغرتاوي» ومن «جمعية شباب تنّورين»، وخرّيجون من «حركة الشبيبة الأرثوذكسية»، وأفراد من «مجموعة طانيوس شاهين»، بالإضافة إلى منشقّين عن حزب «الطاشناق». وعلى هذه الخلفية، أفهم اليوم لماذا نظرت «منظمة العمل» إلى تجربتها، في تلك الحقبة بالحد الأدنى، على أنها «يسار جديد». لم تكن المنظمة شيوعيّة أرثوذكسية موالية لموسكو أو لخالد بكداش. قرأتُ عن عناصر تكوين التنظيم وأسماء المنضمين (الكثير منهم أصبحوا معروفين في ما بعد في عالم السياسة والأدب والفنّ)، وشعرتُ بالغيرة الشديدة: كم كان الانضمام إلى هذه التجربة الجديدة مثيراً ومشوّقاً يومها، خصوصاً أن المنظمة كسرت النمط الشيوعي «الكومنترني» النشأة.

لكن سرعان ما أدركتُ أن عناصر التفكيك والتشرذم وُلدت في التنظيم الجديد. هذه مجموعات متنافرة وخليط غير متناسق أيديولوجياً ومتعارض تنظيميّاً. ثم إن هذه الأسماء المعروفة ليست إلا عنواناً لظاهرة «اليساريّين السابقين» الذين انضمّوا في ما بعد إلى اليمين، الحريري أو الخليجي، لا فرق. صحيحٌ أن الكثير من الذين انضمّوا إلى التنظيم لم يعمّروا فيه أبداً، وهجره معظم المؤسّسين، وقد يكون طرابلسي هو الوحيد الذي حافظ على ولائه للتنظيم لسنوات طويلة، لكن من اللافت أن شخصيّة محسن إبراهيم المركزية كانت شديدة الجذب لقطاع الطلاب والمثقّفين، مثل ميشيل عفلق تماماً: الرجل الذي ينبذ الأضواء والفاقد للحسّ الجماهيري ،وكان شديد التأثير على المثقّفين. إلا أن محسن إبراهيم كان أمهر من عفلق في ألاعيب السياسة، التي أطاحت بعفلق وهمّشته مبكراً في داخل حزبه.لم يكن ثمّة إجماع حول أولويّات النضال ونوعه. وهذا النقاش لا يزال جارياً في أوساط أفراد من اليسار في لبنان

والجدير ذكره، أن «منظمة العمل» انتهجت سياسة تحريض عمّالي، لكنها كانت فوقيّة. كان ذلك شبيهاً بتجربة سكن وضّاح شرارة في وسط عمّالي لكسب تأييد الطبقة العاملة. لم تكن الظاهرة محصورة بالمنظّمة وحدها، لكنّ الأخيرة كانت تنظيم مثقّفين أكثر من معظم المنظمات والأحزاب الشيوعية في لبنان. وهذا التكوين جذب إليها المزيد من المثقّفين، لكنّ هؤلاء قصيرو النفس، ما يفسّر الهجرة المبكّرة منه، لكن ليس هذا ما يفسّر ارتداد الكثيرين من اليسار إلى اليمين. يقول طرابلسي إن الخلاف احتدم مع «الحزب الشيوعي اللبناني» مبكراً، وحول الموقف من «دخول المقاومة الفلسطينية إلى لبنان» (ص. 134) والمنافسة على كسب الطلاب والعمّال، وتطوّرت الخلافات إلى اشتباكات في الجامعات، على ما يروي المؤلّف. وانعقد المؤتمر الثالث لـ«الحزب الشيوعي اللبناني» عام 1972، بعد أن نال الحزب الرخصة الرسميّة، فيما كانت المناسبة احتفاليّة كبيرة حضرها ممثّلون من الدولة ومن كل أنحاء العالم.

وعندما انحاز كمال جنبلاط إلى «الحزب الشيوعي» في خلافه من اليسار الشيوعي البديل والثوري الذي كان ينبتُ، قال في خطاب أمام المؤتمر إن الخطة «التي اتبعها الحزبان اليساريان الرئيسيان (الحزب الشيوعي والحزب التقدمي الاشتراكي) كنّست من ميدان السياسة اللبنانية جميع الشلل المعتقديّة الضالّة التي ضلّلت سابقاً بعض الطلاب والمثقّفين وبعض الجماهير المحدودة»، بحسب ما يروي طرابلسي (ص. 134) لكنّ فواز يتحدث هنا عن الخلاف مع جنبلاط و«الحزب الشيوعي» حول الحلّ السلمي من دون أن يوضّح موقف المنظمة بالتحديد.

على أن الصراع داخل «منظمة العمل» لم يقلّ عن الصراع خارجه، بينها وبين «الحزب الشيوعي» وباقي الأحزاب الأخرى. لم يكن ثمّة إجماع حول أولويّات النضال ونوعه. فكّر إبراهيم بالتنحّي لكن مبادرة من وضاح شرارة عجّلت في عقد مؤتمر أوّل في نيسان 1971. اختلف المؤلّف مع وضّاح مبكراً، ووقعت «قطيعة» بينهما. رفض شرارة صيغة الديموقراطية المركزية، لكنه لم يقدّم بديلاً عنها. واقترح البعض وضع كلمة اشتراكية في اسم المنظمة بدلاً من الشيوعية لتجنّب تنفير الناس من شبهة الإلحاد. وفيما كانت أسماء القيادة نتاج اتفاق بين إبراهيم وشرارة، ومارس التنظيم إجراءات قمعيّة ضد مظاهر تمرّد في «المكتب العمّالي»، يعترف طرابلسي بدوره «الأبرز» والأشرس في الإجراءات التي أدّت إلى خروج الأعضاء من التنظيم (ص. 139). اختلفوا حول أولويّات النضال: هل يكون الوطني أو الاجتماعي؟ (هذا النقاش لا يزال جارياً في أوساط أفراد من اليسار في لبنان خصوصاً بعد الانهيار المالي). وترك المنظمة مَن أولوا الأهميّة للنضال الوطني، والتحقوا بصفوف المقاومة الفلسطينيّة (من مثل محمد كشلي، الذي أصبح في ما بعد مستشار رفيق الحريري لشؤون قمع الحركة العمّالية، ويُقال إنه أجادَ في دوره في التخريب على الحركة العمّالية في التسعينيّات). وغادر التنظيم بعض الماويّين اعتراضاً على تأييد المكتب السياسي لتأميم نفط العراق، واعتبروا ذلك «تنازلاً للبعث» (ص. 140). هؤلاء التحقوا بحركة «فتح»، يا للغرابة! وأيضاً، انضمّ فريق آخر من المغادرين إلى «الشيوعي اللبناني».
يفصِّل طرابلسي النقاش حول التنظيم المُعتمد في المنظمة، وكانت هناك وجهة نظر المؤلّف التي تقول بانتهاج ديموقراطيّة مركزيّة، فيما ناصر آخرون فكرة وضّاح شرارة بتبنّي «الخلويّة الأفقيّة» التي ترفض الانتخاب التمثيلي في التنظيم. وكانت الخلايا مستقلّة عن بعضها البعض (ص. 142) وطرابلسي على حق أن الخلوية الأفقية لاءمت «لبنان الاشتراكي» لأن وضاح شرارة كان المُهيمِن في التنظيم، وفي بداية تجربته القصيرة في منظمة العمل الشيوعي. إثر ذلك، غادر معظم أعضاء «لبنان الاشتراكي». تقرأ عن تلك الانقسامات والانشطارات وتتعجّب أن التنظيم عاشَ لسنوات طويلة بعد التأسيس؛ لكنه عاش كتنظيم مختلف كلياً عن التنظيم الذي تكوّن في التأسيس.

اليسار والانتخابات اللبنانية:
نعلم في سرديّة طرابلسي أن تنظيم «اليسار الجديد» لم يعد جديداً (ولم يكن ثوريّاً أصلاً) بحلول ١٩٧٢، سنة الانتخابات النيابيّة الأخيرة قبل الحرب. وكانت مجموعة «لبنان الاشتراكي» قد هجرت التنظيم، لكنه استطاع الصمود عبر ضمّ عناصر جديدة إليه. كان التمايز بين التنظيمَين (الحزب الشيوعي والمنظّمة) من منظور اليسار صعباً على الذي يبحث في سوق التنظيمات اليساريّة عن ملاذ له. طرابلسي عارض المشاركة في الانتخابات النيابيّة، فيما أيّدها محسن إبراهيم وأحمد بيضون (رشيد درباس كان مرشحاً على قائمة نقولا الشاوي نفسه في تلك السنة، ص. ١٤٦، قبل سنوات من اكتشافه لسحر اليساريّة الحريريّة). تلاقت المنظمة مع الحزب الشيوعي على ضرورة «الارتقاء» إلى «المستوى السياسي الوطني» في العمل، والذي تُرجم في عام ١٩٧٥
في «البرنامج المرحلي» للحركة الوطنيّة. يأتي طرابلسي على ذكر إضراب معمل غندور الشهير في عام ١٩٧٢ وكان للمنظمة دور فاعل فيه. أطلقت سلطة «الزمن الجميل» النار على المُضربين من العمّال. ردة الفعل الغاضبة جمّعت عشرات الآلاف من الناس في تظاهرة احتجاج كبيرة لا أزال أذكرها. كان ذلك الإضراب درساً للذي كان يبحث عن دلائل عن تحالف السلطة مع البورجوازيّة أو عن فهم الدولة كأداة قهر طبقي.

هنا تنتفي الطائفيّة في لبنان. انشقّ وضّاح شرارة عن المنظمة وتحرّك ضمن ما عُرف بـ«المجموعة المستقلّة». اتهمت المجموعة المنظمة بـ«التحريف والإصلاح والقُطريّة». طالب التنظيم الجديد بـ«فرز» عناصر لبنانيّة للعمل في صفوف المنظمات الفلسطينيّة. يُلاحظ في حينه أن اليسار آنذاك، حتى في جناحه الذي اعتبر نفسه البديل الجذري، كان يخشى من طرح فكرة الكفاح المسلّح ضد السلطة، أو تنظيم مجموعات مسلّحة خارج نطاق المقاومة الفلسطينيّة. يقول طرابلسي إن المنظمة خسرت «نحو نصف الأعضاء، إن لم نقل الثلثَين» (ص. ١٥٧) في سلسلة الانشقاقات والمغادرات. يعترف طرابلسي بأن تأثير الانشقاقات كان سلبيّاً: عداء شديد نحو المثقّفين (إذا كان ذلك سلبيّاً بالفعل) وإعادة بناء التنظيم على أسس شديدة المركزيّة الأوامريّة. أصبح محسن إبراهيم «أبا خالد» وأصبح «أبو خالد» الآمر الناهي في التنظيم، وباتت القيادة تقرّر مسائل الانتخابات داخل التنظيم (لم يختلف الوضع في باقي التنظيمات اليسارية).

يتحدّث طرابلسي عن النزعة المحافظة في موضوع المرأة. شكّلوا «لجنة نسائيّة» برئاسة رجل (طرابلسي) لكن القيادة استبدلت طرابلسي بشقيق محسن إبراهيم، عندما بدأت اللجنة بإثارة قضايا حسّاسة مثل التحرّر الجنسي (ص. ١٥٨). والمحافظة في هذه القضيّة لم تكن حكراً على المنظمة، وإنما سادت في كل الأحزاب والتنظيمات الشيوعيّة، الإصلاحيّة والثوريّة على حد سواء. كان للمنظمة سمعة أنها الأكثر نجاحاً في اجتذاب الرفيقات، وكان بعض الشباب ينضمّون إليها فقط لهذا السبب. الوجود النسائي كان منعدماً في القيادة في معظم التنظيمات، وكان تبجيل العمل المسلّح حجّة لاستبعاد المرأة، مع أن الكثير من القيادات الشيوعيّة من الذكور لم يحمل سلاحاً أو يتعلّم على الرمي (كان هذا من ضمن تقسيم العمل في هذه التنظيمات، القتال والموت للأعضاء المعتّرين). في هذا، إنّ تجربة «حماس» وحزب الله مختلفة للغاية، وهي صمدت واستمرّت بسبب التصاق القيادة بالقاعدة في مجابهة الأخطار ونمط العيش.

يتحدّث عن مباشرة التدريب المسلّح بعد ١٩٧٣ و«بإمكانيّات متواضعة جداً» (ص. ١٥٨). رعاية تسليح وتدريب ميليشيات اليمين، كانت متعدّدة ومتنوّعة، عربيّة (الأردن والسعوديّة) وإقليميّة (إيران الشاه) وغربيّة وجنوب أفريقيّة. كانت أميركا عندما تريد أن تسلّح فريقاً في دولة ما، تجرّ معها صفّاً كاملاً من الحلفاء والوكلاء حول العالم للمشاركة. «الكتائب» كانوا بالنسبة إلى أميركا منذ الستينيّات مثل الـ«كونترا» في نيكاراغوا في الثمانينيّات. لكن لم يكن هناك من خطة لحمل السلاح من قبل المنظمة: كان الهدف في البداية حماية الأحياء المُحيطة بالمخيمات (ص. ١٥٩) فقط التنظيمات الثوريّة الصغيرة آمنت بحمل السلاح ليس فقط لمؤازرة الثورة الفلسطينيّة، بل لإسقاط النظام اللبناني. منظمة العمل الشيوعي لم تكن في هذا الوارد. ساهمت الجبهة الديموقراطيّة و«فتح» في تسليح وتدريب أعضاء المنظمة. تأخر التدريب العسكري عند كل تنظيمات الحركة الوطنيّة، ما أعطى الزخم في بداية الحرب إلى الفريق الانعزالي.

وهذا الضعف زاد من اعتماد الأحزاب اللبنانيّة على قيادة المنظمة التي كانت تقطّرُ (بأمر من عرفات) في التسليح (كان كلوفيس مقصود يروي لنا، كشاهد، مشهد اجتماع لقيادة الحركة الوطنيّة والمقاومة الفلسطينية، وكان كمال جنبلاط يشكو فيها من استيلاء «فتح» على باخرة سلاح في مرفأ صيدا لحساب الحركة الوطنيّة. وكان عرفات يلفّ ويدور ويراوغ ويكذب، وكان جنبلاط يضيق ذرعاً منه). يتحدّث عن المنافسة بين «أمل» (التي طرحت نفسها كبديل من الإقطاع ومن الحركة الوطنيّة في آن) وبين اليسار والتقدميّين. بحلول ١٩٧٥، كان اليسار أقوى وخصوصاً بعد تمسّك «أمل» بالتحالف مع النظام السوري، بعد تدخّله العسكري في ١٩٧٦. لم يكن المزاج العام يقبل ذلك، وتسبّب ذلك في معارك أدّت إلى إغلاق مكاتب «أمل» في مناطق الجنوب وبيروت الغربيّة. (لكن «أمل» ستعود بعد بضع سنوات لتثأر من الضيم الذي لحقها، بنظرها).

سياق الصراع بين «أمل» والحركة الوطنيّة يغيب عن سرديّات مستحدثة وخبيثة عن اغتيال شيوعيّين في ذلك الزمن. يقول فوّاز طرابلسي: لم نتوقّع «الحرب» وما أحد توقّع «الحرب» (ص. ١٦٢). هذه الجملة أثارت استغرابي كثيراً، وهي تدلّل على حالة التفوّق التي سادت في الميدان السياسي والعسكري عند اشتعال الحرب لمصلحة القوى الانعزاليّة. كيف يمكن أن يغيب عن توقّع النخبة اليساريّة المثقّفة، التي كانت تتابع الصحافة العربيّة والعالميّة، أن أميركا وإسرائيل ووكلاءهما في لبنان كانوا يعدّون للحرب؟ كانت الصحف اللبنانيّة تنشر تحقيقات مصوّرة عن مخيّمات التدريب الكتائبيّة والشمعونيّة في ميروبا وفي غيرها. وكانت ظاهرة التسلّح اليميني بادية للعيان. و«الكتائب» بدأت بمحاولة إطلاق شرارة «عين الرمّانة» منذ عام ١٩٦٩ على كوع الكحّالة وفي محيط تلّ الزعتر.

كما أن حملات التحريض ضد الوجود الفلسطيني كانت واضحة في مراميها ومتناغمة مع إعلانات المسؤولين الإسرائيليّين عن الوجود الفلسطيني في لبنان. لم تكن قوى «الكتائب» و«الأحرار» تخفي مخطّطها، بل تعلنه أمام الملأ، وخصوصاً بعد فشل الجيش اللبناني في تطويع المقاومة الفلسطينيّة بالنيابة عن إسرائيل في ١٩٧٣. وليس صحيحاً أبداً أنه لم يكن هناك توقّع باشتعال الحرب. مجلّة «الهدف» كانت تحذّر باستمرار من مخطّط يهدف إلى إشعال الحرب وتصفية القضيّة (عدد ٦ ديسمبر من مجلّة «الهدف» في ١٩٦٩ يحذّر من مخطّط أميركي خطير في لبنان). كانت خطب جورج حبش تتكرّر في تحذيراته من مخطّط الفتنة الكتائبيّة. وحزب العمل الاشتراكي العربي - لبنان (وهو حزب صغير رديف للجبهة الشعبيّة) طرح منذ ١٩٧١ مشروع الكفاح المسلّح لإسقاط السلطة، ودحر قوى اليمين الفاشي.

كل الإشارات كانت موجودة وكان هناك حديث عن المؤامرة من القوى الوطنيّة، لكن الأحزاب والتنظيمات الوطنيّة لم تأخذ تلك المؤامرة على محمل الجِدّ (نعلم الكثير اليوم عن تلك المؤامرة، من خلال ما كتب ونُشر وخصوصاً من الأرشيف الأميركي، حيث كان هناك ضابط أميركي رفيع على كوع الكحالة، وكان مقاتلو «الكتائب» يكمنون لقوافل فلسطينيّة في محاولات لإشعال الحرب. الذي يقرأ عن محاولات مبكرة لا يجادل في مسؤوليّة «الكتائب» في بوسطة عين الرمّانة. (المؤامرة لم تكن خافية، لكن كان عقلاء الحركة الوطنيّة حسني النيّة وعوّلوا على دور مُنقذ للدولة، كمُقيِّد لتفلّت وتمرّد ميليشيات اليمين، فيما كانت مخازن الجيش اللبناني مفتوحة لميليشيات اليمين، وكانت مخابرات الجيش قد أنشأت بنفسها ميليشيا «التنظيم». (وكانت الأقرب إلى إسرائيل بين ميليشيات تدين بالولاء لإسرائيل). الحركة الوطنية كانت قد حسمت أمرها بضرورة العمل على تحسين النظام اللبناني باتجاه ليبرالي، بدلاً من شعار إسقاط النظام الذي لم توافق عليه المنظمة أو الحزب أو معظم أحزاب الحركة الوطنيّة.

في النظرة إلى الخلف، كان يمكن وقف الحرب مبكراً لو أن قوى اليسار والقومية باشرت بالتسلّح في الستينيّات وأخذت خيار الدفاع عن النفس. كان ذلك سيضمن هزيمة «الكتائب» بحلول ١٩٧٥، ما كان وفّر الكثير من الويلات على الشعب اللبناني. تنظيمات الحركة الوطنية كانت جديّة في حرصها على السلم الأهلي، بينما كان تفجير الحرب أولويّة لـ«الكتائب» ورعاتها الغربيّين وفي تل أبيب. والمقاومة الفلسطينيّة، أو «فتح» بقيادة عرفات تحديداً، لم تكن في وارد الانخراط في الحرب في لبنان، بل هي كانت تنصح بالتهدئة وتعمل من أجلها (كان أبو صالح يعمد إلى قصف الشرقيّة في الأيام التي كان عرفات غائباً فيها عن لبنان). ويضيف طرابلسي عن الحرب «لم نتوقّع مدتها». صحيح، لم يكن أحد يتوقّع مدّتها لأن الحسم العسكري كان ممنوعاً، من قبل النظام السوري ومن قبل عرفات ومن قبل إسرائيل التي كانت تتدخّل في الحرب لمصلحة أدواتها منذ البداية.

هذا يعزّز الخطأ الذي ارتكبته الحركة الوطنيّة في إدارتها للصراع. هي رفعت شعار عزل «الكتائب»، فيما كان قادة الحركة الوطنيّة (كمال جنبلاط ووليد جنبلاط) والمقاومة الفلسطينيّة يتفاوضون سراً مع قادة ميليشيات اليمين. لكن طرابلسي يعترف بأن نظرة الحركة الوطنيّة كانت مبسّطة من ناحية توقّع رضوخ البورجوازيّة اللبنانيّة لمطالب الإصلاح (ص. ١٦٣). ويخصّص طرابلسي المسؤوليّة بالحزب الشيوعي والمنظمة وكمال جنبلاط. لم يكن التحليل الماركسي السائد يقبل بوجود تناغم بين المشروع الفاشي والبورجوازية اللبنانيّة (كان الصناعي بطرس الخوري حليفاً وثيقاً لرشيد كرامي، والمُمَوِّل الأساس لميليشيات اليمين اللبناني). السلاح (عند الحركة الوطنيّة) لم يكن أكثر من أداة «تهويل» (حسب ما يصف طرابلسي، ص. ١٦٣) لفرض إصلاح النظام ولم يكن أبداً أداة لإسقاط النظام، كما أراد الثوريّون في التنظيمات الشيوعيّة المتطرّفة (وكان بعضها، مثل حزب العمل الاشتراكي - العربي - لبنان، ممثلاً في الحركة الوطنيّة ما يضعف حجّتهم في إسقاط النظام لأنهم كانوا ملتزمين بالبرنامج المرحلي للحركة).

ومنظمة العمل لم تتورّع عن تطمين البورجوازيّة حول مصالحها، إذ إن تقريراً للمنظمة من آب ١٩٧٥ يقول إن «أي تغيير لن يمسّ الطبيعة الطبقيّة للسلطة، وإنما سوف يمسّ الشكل السياسي للسيطرة البورجوازيّة» (ص. ١٦٤). ويعترف طرابلسي أيضاً بأن تصنيف اليمين الفاشي بالانعزاليّة (والانعزال كان عن العروبة) افترض من الحركة الوطنيّة أن الدول العربيّة كانت ستحتضن نضال الحركة الوطنيّة، فيما أيّدت بعض الأنظمة العربيّة «الكتائب» و«الأحرار» وسلّحتهم.

شارك في صياغة البرنامج المرحلي كلّ من: جورج حاوي ومحسن إبراهيم مع كمال جنبلاط (بالإضافة إلى إنعام رعد وألبير منصور وعصام نعمان). الصيغة الأوليّة كانت من إعداد الأخير (ص. ١٦٥). جورج حاوي، حسب ما نقل عنه طرابلسي، قال إن البرنامج كان مزيجاً من مقرّرات المؤتمر الثالث للحزب و«فكر كمال جنبلاط». البرنامج، عندما تقرأه اليوم، يبدو شديد الاعتدال، وليس أكثر من دفع النظام اللبناني اليميني نحو الليبراليّة. أي أن الحركة الوطنيّة كانت تطمح إلى القيام بدور اليسار في الأنظمة الديموقراطية في الغرب. يُنقل عن المبعوث الأميركي في حرب السنتين، دين براون، أنه أبدى دهشته عندما قرأ البرنامج، لأنه كان يتوقّع تأميمات وبرامج شيوعيّة. تفاجأتُ من حديث طرابلسي عن صياغات تقارير المنظمة أن تقرير آب ١٩٧٥ كان آخر تقرير شاركَ هو فيه، مع أنه كان نائب الأمين العام (الرجل الثاني في التنظيم) (ص. ١٦٦).

بات الأمر منوطاً بالكامل بمحسن إبراهيم، ولم يكن طرابلسي يمارس صلاحيّة الرجل الثاني مع أنه كان أقرب بكثير من القاعدة. يدعو البيان إلى إجراء «تعديلات أساسيّة على الشكل السياسي للسيطرة البورجوازيّة» لكن «من دون المساس بالطبيعة الطبقيّة للسلطة» (ص. ١٦٧). الغرابة أن التقرير طالب بجعل لبنان «ساحة التصدّي الرئيسيّة لدحر المشاريع الاستسلاميّة» لأن المنظمة كانت وثيقة الصلة بالجبهة الديموقراطيّة التي كانت أوّل فصيل قبلَ علناً بـ«حلّ الدولتين» (وكان ذلك بإيعاز من ياسر عرفات). يظهر من الكتاب كم أن اليسار اللبناني لم يكن متأكداً في تحديده للعلاقة بين الإقطاع السياسي والبورجوازيّة اللبنانيّة.

في عرف المنظمة، لم يكن الإقطاع إلا «الوكيل السياسي للبورجوازيّة»، مع أن العلاقة تختلف بين طائفة وأخرى. وطرابلسي يغالط في دعوة المنظمة إلى «علمنة المجتمع»، وكانت الدعوة سائدة في أوساط اليسار. يقول إن علمنة المجتمع لا تستوي من دون فرض وقهر، كما جرى في ألبانيا الشيوعيّة مثلاً. طبعاً، كانت أحزاب اليمين ترفع شعار العلمنة لإحراج المسلمين، وتعميق الشرخ بين أحزاب اليسار والشخصيّات والتنظيمات الإسلاميّة الطائفيّة. ويعترف بأن فكرة مجلس الشيوخ الطائفي صدرت عن الحركة الوطنيّة. الجبهة اللبنانيّة (التي يصرّ ورثتها على أن صراعها كان محصوراً فقط برفض التوطين الفلسطيني) اعترفت في أول بيان لها بأنها تنظر إلى الصراع على أنه بين يمين ويسار، وأن لبنان «ملك للفينيقيّين لا للعرب». (ص. ١٧٦)

 وعندما تعرّضت بكفيا لخطر السقوط، أرسل بيار الجميل إلى الطرف الآخر أنه يوافق على العلمانيّة شرط الامتناع عن التمدّد نحو بكفيا. والعرض غريب لأن العلمانيّة لم تكن من أوائل منطلقات الطرف الآخر في حربه. يتحدّث طرابلسي عن مرحلة التوافق الأميركي - الإسرائيلي على التدخّل السوري في لبنان، لكن عنوان شعار عرفات عن «القرار الفلسطيني المستقلّ» (ص. ١٨١) لا يصلح للمرحلة. الصراع لم يكن يوماً عن استقلاليّة قرار المنظمة (الخاضعة حتى ١٩٩٠ لنفوذ التمويل الخليجي)، بل كان صراعات بين أنظمة مختلفة، واختار عرفات أن يطلق وصف «القرار الفلسطيني المستقل» على مسار التسوية والتنازلات. يتحدّث طرابلسي عن مطالبة شمعون وشارل مالك بتدخّل عسكري أميركي في لبنان في ١٩٧٦، لكن الوثائق الأميركيّة التي درسها الأكاديمي الشاب، نيت جورج (وقد أطلع فواز على أطروحته للدكتوراه) تكشف أن المطالبة بالتدخل العسكري الأميركي من قبل اليمين اللبناني سبقت نشوب الحرب الأهليّة بسنوات. وتعجّبت أن طرابلسي صدّق رواية جوزيف أبو خليل (ص. ١٨٣) عن أن طلب مساعدة إسرائيل جرى في ١٩٧٦، بينما نعلم اليوم أن العلاقة بين «الكتائب» وإسرائيل بدأت في الخمسينيّات.

يروي المؤلّف عن اللقاء الذي جرى بين بشير الجميّل وكمال جنبلاط في حزيران ١٩٧٦ (بالرغم من رفع شعار «عزل الكتائب» منذ ١٩٧٥). في الاجتماع، أبدى الجميل استعداده لقبول البرنامج المرحلي، ما يثبت قصوره (أي البرنامج) وعدم صلاحيّته، كما طالب بشير بوقف التقدّم على جبهة بكفيا (ووافق جنبلاط على الطلب، مفوّتاً فرصة كان يمكن أن تنهي الحرب بسرعة). وهذه المعلومة مفيدة لأنها تدلّ على أن النظام السوري لم يكن وحده ممانعاً لفكرة الحسم العسكري ضد اليمين، فقد شاركه عرفات الفكرة، وبعض قادة الحركة الوطنيّة أنفسهم (جنبلاط كان يتأرجح بين القبول والرفض، وكان قد قبل بها قبيل اغتياله). يذكر طرابلسي صدّ قوات فلسطينيّة (برعاية أبو جهاد) لتقدّم القوات السورية على محور بحمدون، لكن حتى أبو جهاد لم يكن من أنصار المواجهة مع النظام السوري (وكانت المواجهة أقرب إلى الرمزيّة).

يذكر طرابلسي أن السادات لم يستقبل جنبلاط قبل عودته إلى بيروت، لكن العلاقة بين جنبلاط والسادات كانت وثيقة للغاية. أي أن جنبلاط فضّل المسار الساداتي على مسار النظام السوري في الصراع مع إسرائيل، وهو كان من داعمي السادات حتى بعد اتفاق سيناء، ما دفع «جبهة الرفض» الفلسطينيّة إلى إصدار بيان قوي ضده. دبّر محسن إبراهيم أمر انتخابه أميناً عاماً لمنظمة العمل الشيوعي، في الوقت الذي كان فيه طرابلسي في مهمّة في الخارج (كلّفه بها إبراهيم). يبحث طرابلسي في مسألة حتميّة الحرب، والنقاش فيها يفترض أن الإرادة كانت داخليّة، وأنه يمكن لطرف فيها أن يرعوي ويمنعها. لكن هذا كان مستحيلاً لأن «الكتائب» كانت مرتهنة بالكامل لإسرائيل وأميركا، في زمن الحرب الباردة وفي زمن محاولة إسرائيل القضاء على أي وجود فلسطيني مسلّح. ولبنان كان مرشّحاً لكي يكون الساحة الثانية بعد الأردن لأن قيادة المقاومة انتقلت إليه.

ومحاولات «الكتائب» لإشعال الحرب بدأت في ١٩٦٩ ولم يكن يمنع نشوب الحرب إلا غياب الطرف الذي يمكن أن يكون طرفاً فيها: عرفات كان حازماً في رفض الانخراط في الحرب، والأطراف اليساريّة الثوريّة لم تكن بالغة التأثير، وكانت تخضع لإرادة «فتح» لأسباب عديدة. وطرابلسي على حق في أن «الجبهة اللبنانية» (كان الاسم الأوّل المُقترح للجبهة هو «الجبهة المسيحيّة»، لكن الخارج رأى أن التسمية الدينيّة تضرّ بالقضيّة) تحمّلت «المسؤوليّة الكبرى في نقل النزاع من سياسي إلى عسكري» (ص. ١٩٤). وخيار الحرب (كما يتضح من الوثائق الأميركيّة المُفرج عنها) كان خياراً للدولة اللبنانيّة نفسها (أو الرئاسة اللبنانيّة التي كانت وحدها تتحكّم بمقدّرات الدولة) التي رأت في المقاومة الفلسطينيّة خطراً على نظام الاستئثار الطائفي، وسياسة الدعم المبطّن لإسرائيل في الصراع العربي الإسرائيلي.
وحرب نظام سليمان فرنجيّة على المخيّمات الفلسطينيّة في أيّار ١٩٧٣ كان مُرتّباً مع إسرائيل وبالتنسيق مع قيادة الجيش (كان رئيس الأركان، يوسف شميط، من أنصار شنّ حرب حاسمة ضد المقاومة الفلسطينيّة). وهل هي صدفة أن الحرب ضد المخيّمات أتت بعد أسابيع من عمليّة فردان ضد قادة المقاومة؟ نظام شارل حلو (حتى لا نتحدّث عن الحقبة التي سبقته) كما نظام سليمان فرنجيّة، كان ينسّق عبر مفوّضين مباشرين مع إسرائيل في العمل ضد المقاومة الفلسطينيّة، وكانت الإدارات الأميركيّة تعلم عن تلك المفاوضات إمّا عبر الرئيس اللبناني أو من مصادرها الخاصّة. وكان للكتائب «تصلّبان»، كما يروي طرابلسي: تصلّب حول وجود المقاومة الفلسطينيّة، وتصلّب حول الإصلاح السياسي والتوازن الطائفي. تصريحات بيار الجميّل اليوميّة كانت تذمّ اليسار اللبناني أكثر بكثير مما كانت تذمّ المقاومة الفلسطينيّة.

وموقف الجميّل الطائفي لم يكن خافياً. يستشهد طرابلسي بتصريح للجميّل من عام ١٩٧٤ يقول فيه: «لا يحقّ للمسلمين المطالبة بالمساواة التامة في الحقوق طالما أن المسيحيّين لا يثقون بولائهم للبنان، ويتخوّفون من تزايد تضامنهم مع القضايا العربيّة.» (ص. ١٩٦) هذا التصريح يفسّر العقليّة التي أدّت إلى ارتكابات القتل على الهويّة والسبت الأسود. أي أن خوف، أو رفض، اليمين اللبناني للمقاومة الفلسطينيّة لم يكن له علاقة بالسيادة (التي كانت مُخترقة من إسرائيل منذ ١٩٤٨)، بل من تأثير الوجود الفلسطيني على تعزيز الموقع التفاوضي للمسلمين في النظام اللبناني. في لبنان ما قبل الحرب، لم يكن هناك حصريّة سلاح: كان السلاح محصوراً بالجيش وبميليشيات اليمين المتحالفة مع الجيش والمُستفيدة من خزائنه.

يقول طرابلسي إن الحركة الوطنيّة اتخذت قرار التسليح بعد ١٩٧٣، وإنها سرعان ما انتقلت من الدفاع إلى الهجوم. لكن مسار الحرب الأهليّة في حرب السنتين كان خاضعاً بالكامل للفعل الكتائبي الشمعوني. جبهة الشيّاح كانت الوحيدة التي شهدت محاولات للاختراق في البداية، لكن كان ذلك من قبل تنظيمات صغيرة (مثل «قوات الحسين الانتحاريّة» وحزب العمل الاشتراكي العربي - لبنان). عرفات سيطر بسرعة على الوضع ومنع تغيير وضع الجبهات باستثناء حرب الفنادق، لأن الخطة الكتائبيّة كانت تهدف إلى الوصول إلى البنك المركزي ورأس بيروت. يقول المؤلّف إن البحث عن «اليمين الذكي» (الذي كان غسان تويني قد بشّر به) لم يُحقّق. ويذكّرنا المؤلّف بالتوتر والخلاف بين كمال جنبلاط وقيادة المقاومة. في اليوم الذي اغتيل فيه كمال جنبلاط، كان هاني الحسن يخطب في المجلس الوطني الفلسطيني وينتقد «مغامرات» كمال جنبلاط و«استخدامه للمقاومة الفلسطينيّة من أجل مصالحه السياسيّة الخاصّة». (ص. ٢٠٨)

وقرّر وليد جنبلاط اختيار محسن إبراهيم أميناً عاماً تنفيذيّاً للمجلس السياسي المركزي للحركة الوطنيّة، بعد الحصول على موافقة الحزب الشيوعي (كان إبراهيم قليلات يريد المنصب لنفسه). (يقول المؤلّف إن جنبلاط كان يفضِّل إبراهيم على حاوي). اختلف طرابلسي مع إبراهيم في تقدير موقف المنظمة في المرحلة الجديدة التي تداخلت فيها مع جسم الحركة الوطنيّة. ضمّ إبراهيم كوادر المنظمة إلى قيادة الحركة الوطنيّة. طغت مصلحة الحركة الوطنيّة (والتي كان لها حسابات مراعاة طائفيّة) على مصلحة المنظمة كتنظيم مستقل. سحب الحزب الشيوعي ومنظمة العمل مطلب قانون الأحوال الشخصيّة المدني الاختياري من أدبيّات الحركة الوطنيّة.

ويشير طرابلسي إلى ظاهرة التعاطف الإسلاموي مع الثورة الإيرانيّة، والتي أصابت عدداً من كوادر المنظمة مثل جوزيف سماحة. وبدأت نغمة إدانة الحرب الأهليّة ونبذها من الأساس. جهاد الزين أدان «الحرب القذرة جداً» (ص. ٢١٣). أمّا مارون بغدادي فأعلن في مقابلة مع حازم صاغية في «السفير» أن «أكبر كارثة وقعت على العرب هي الماركسيّة واعترف بأن سلطة البروليتاريا تخيفه أكثر من أي سلطة أخرى» (ص. ٢١٥). وفي خضم التغييرات الأيديولوجيّة الهائلة في صفوف قادة ومثقّفي المنظمة، يتعاظم دور الإعلام الخليجي، فيقول طرابلسي عن حازم صاغية: «فها إن حامل لواء العداء الذي لا يرحم للتجزئة الاستعماريّة، الذي يصف الكيان اللبناني بأنه مجرّد امتداد للكيان الصهيوني، ينقلب إلى لبنانوي كياني. بعدما انتقل إلى الصحافة المُمَوَّلة من أمراء النفط السعوديّين».

المثقفون العرب والثورة الإيرانية:
يستعيد طرابلسي مرحلة انبهار المثقّفين العرب بالثورة الإسلاميّة في إيران، ويذكر في هذا السياق أدونيس وحازم صاغيّة ووليد نويهض (ص. 218). والمفارقة أنّ أكثر المُنبهرين بالخميني وحركته، تحوّلوا في ما بعد إلى ألدّ أعداء النظام الإيراني، وكل حركات المقاومة التي يدعمها. يستشهد بكلام صاغيّة بتهليله لـ«اقتلاع» المثقّفين ذوي «الجنوح الليبرالي» في داخل إيران. انتقد جوزيف سماحة ذوبان منظّمة العمل الشيوعي في جسم الحركة الوطنيّة، ودعا إلى مغادرة الجبهة التحالفيّة ناقداً بالتلميح لكتابات محسن إبراهيم. هذا لا يُحتمَل. تقرّرَ فصل سماحة في اجتماع للمكتب السياسي، ويعترف طرابلسي أنه لم يوافق ولم يعارض قرار الفصل. ويقول إنّ محسن كان يستعين بسماحة (باعتراف الأخير فيما بعد، حسب الكتاب) لتهميش طرابلسي.

الغريب أن طرابلسي تحمّل لسنوات من إبراهيم تفرّده بالسلطة ومعاركه ضد منافسه الأوّل في داخل التنظيم، ولم يعترض على سلوكه، وبقي متحفّظاً في نقده حتى في الكتاب الصريح الذي بين أيدينا. لكن سماحة يخرج من المنظمة ليشترك مع سمير فرنجيّة في «مشروع لتجديد الحزب التقدمي الاشتراكي»، فيما كان فرنجيّة «يتعاون مع جوني عبده لبناء مواقع معارضة ضد كانتون سليمان فرنجيّة» (ص. 221). قبلَ سماحة آنذاك، في نقلة فكريّة، بإنتاج زعامة ثنائيّة «ممثّلة ببشير الجميّل ووليد جنبلاط». يقول طرابلسي إن سماحة ذهب إلى حدّ «محاولة عقلنة حكم بشير الجميّل»، وهذا الموقف سادَ في بعض أوساط الانهزام في الحركة الوطنيّة.

يروي طرابلسي زيارات شارك فيها من قبل قيادة الحركة الوطنيّة إلى عدد من الدول بما فيها العراق وليبيا. في العراق، تسنّى له الالتقاء بصدّام الذي كان على معرفة بترجماته. وتزامنت الزيارة مع حملات ضد الشيوعيين في العراق، وزيارة أخرى تزامنت مع زيارة وليد جنبلاط ومحسن إبراهيم إلى دمشق (لم يقابلهما صدّام في تلك الزيارة ربما اعتراضاً على العلاقة بين الحركة الوطنيّة والنظام السوري). ليس واضحاً اليوم تاريخ بداية العلاقة بين النظام العراقي وبين «الكتائب» و«القوّات اللبنانيّة»، ولكن أمين الجميّل كان على علاقة جيّدة مع النظاميْن العراقي والليبي قبل 1982. لم يكن طارق عزيز هو العرّاب الوحيد (كما يذكر المؤلّف)، فقد كان النائب اللبناني البعثي، عبد المجيد الرافعي، على علاقة جيّدة مع القوى الانعزاليّة بحكم العداء المشترك للنظام السوري. أمّا في ليبيا، فكان العقيد القذّافي يستسيغ عقد جلسات فكريّة لمناقشة «الكتاب الأخضر» (لم يشارك طرابلسي فيها، ولكن شارك فيها كثير من المثقّفين وقادة الحركة الوطنيّة). (إذا كان صدّام يريد أن يكون عبد الناصر آخر، فإن القذّافي أراد أن يكون لينيناً آخر).

يتحدّث عن لقاء جمعه مع فيديل كاسترو، وتبدو شخصيّته جد محبّبة ولطيفة خلافاً للزعيميْن الليبي والعراقي. عن اليمن يقول إنّ محسن إبراهيم زار علي ناصر محمد بعد تسلّمه السلطة، وقدّم له نصيحتيْن: «تجميع مناصب الحكم الثلاثة بشخصه: الأمانة العامة للحزب، رئاسة الدولة، ورئاسة مجلس الوزراء، وتمتين علاقته بياسر عرفات، لأن الأخير سيخدمه في الانفتاح على السعوديّة» (ص. 234) يقول طرابلسي عن المرحلة إنه كان يغرّد خارج السرب (ص. 236) ولكنه لا يشرح سبب بقائه في التنظيم. صحيح، يقول إن زوجته رأت أن يتركا المنظمة وينضمّا إلى الحزب الشيوعي (ص. 236)، لكن طرابلسي يعترف: «تردّدتُ وأهملتُ». والعلاقة بين طرابلسي وإبراهيم تبدو في الكتاب غامضة ومتوتّرة وتنافسيّة. كانت تلك العلاقة تحتاج إلى شرح وسرد أكثر مما ورد عرضاً في الكتاب.

في المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي في 1979 يتخذ الحزب قراراً بـ«الارتقاء بالعلاقات بين الحزب والمنظمة إلى أرقى المستويات». كان الاندماج بينهما مطروحاً، وأذكر في تلك المرحلة أننا كنا دائماً نتوقّع حدوث الاندماج الذي لم يتحقّق. وافقت المنظمة على قرار الحزب الشيوعي، وطرحت الاندماج. وطرابلسي على حق في أن المنظمة فقدت في الحرب أي مبرّر لوجودها «المستقل» (ص. 237). عمل المؤلف بجدّ من أجل الاندماج ولكنه يكتشف عدم الترحيب من الجانبيْن (وكان هو مولجاً بعمليّة الاندماج). محسن إبراهيم رأى أن الاندماج يتحقّق فقط في حالتيْ النصر أو الهزيمة.

استفاد محسن إبراهيم من دوره كأمين عام تنفيذي للحركة الوطنيّة. بدا كأنه أعلى مرتبة من وليد جنبلاط (الرئيس الاسمي للحركة الوطنية، والذي دعم زعامة إبراهيم) وجورج حاوي وإنعام رعد وإبراهيم قليلات (أي قادة أحزاب أكبر بكثير من المنظمة، وكان قليلات يرى في نفسه الرقم الأوّل بين قادة الحركة الوطنيّة). يقول طرابلسي إن إبراهيم «صادر مسؤوليّاتهم أو استعاض عنهم بالتواطؤ مع ممثّلين عنهم». ونقرأ عن اعتراض من قبل الأمناء العامّين الآخرين لدور إبراهيم، ولم نكن نعلم عن ذلك في حينه. كم كان قادة تنظيمات الحركة الوطنيّة وأحزابها يعملون ويتآمرون في السرّ، حتى عندما كانوا يظهرون في صور الاجتماعات الأسبوعيّة للمجالس المركزيّة. اقترح جورج حاوي على محسن إبراهيم العمل من أجل توحيد التنظيميْن. ويبدو أن النيّة كانت صادقةً عند الحزب الشيوعي، وحتى عند فواز طرابلسي، ولكن العقبة كانت عند محسن الذي لم يكن يرتضي بالدور الثاني في تنظيم جديد يضمّ المنظمة.

تدفّق المال والسلاح «بوفرة» (ص. 241) ضخّمَ حجم الجهاز العسكري وزاد عدد المتفرّغين في الأحزاب (بلغ نحو 60 أو 70% من أعضاء المنظمة، بحسب تعداد طرابلسي). هذا الرقم مذهل، لأن النسبة كانت أقلّ بكثير في صف الأحزاب الثوريّة الصغيرة التي اعتمدت على المتطوّعين. وكان التفرّغ يجلب إلى التنظيمات عدداً من الذين لا يمتّون بصلة إلى عقيدة الحزب أو التنظيم، وكان ذلك ظاهراً في الجسم العسكري للتنظيمات بصورة خاصّة. وكان بعض المتفرّغين يتنقّلون بيسر بين التنظيمات، لأنه لم يكن لديهم أي دافع أيديولوجي. يذكر المؤلّف أن سوءاً أصاب العلاقة بين المنظمة والجبهة الديموقراطيّة (بسبب قرب الأخيرة من النظام السوري). لا أذكر أن العلاقة كانت سيّئة بين المنظمة والنظام السوري في تلك الحقبة، وكانت بيانات المنظمة والحركة الوطنية منتظمة في الإشادة بالنظام السوري، ولكن قرب محسن إبراهيم من ياسر عرفات عزّز شكوك دمشق من المنظمة (وعرفات نفسه كان دائم الإشادة بالنظام السوري، فيما ساءت العلاقة بينه وبين النظام العراقي، وصدرت «فلسطين الثورة» بعنوان اتّهمت فيه صدام بقتل وديع حدّاد).

انقسمت مجلّة «الحريّة» إلى قسميْن، قسم تحرّره الجبهة وقسم آخر تحرّره المنظمة. فشلت المساكنة وانفصلا، وأصبحت مجلّة «بيروت المساء» الناطقة باسم المنظمة. يقول طرابلسي عن ذلك: «سُجّلت (المجلّة) باسم محسن، كما هو حال جميع ممتلكات المنظمة» (ص. 242). هذه الإشارة العابرة فضيحة بكل معنى الكلمة. نعلم أن زعماء الأحزاب والمنظمات كانوا يستأثرون بصنع القرار، ولكن الاستئثار بالأملاك المنقولة وغير المنقولة هو جانب غير معلوم من الناس. عرفات، مثلاً، لم يكن كذلك. لم يسجّل أملاكاً باسمه أو باسم عائلته. على العكس من ذلك، سجّل عرفات ممتلكات في لبنان بأسماء لبنانيّين أصدقاء لمنظمة التحرير فسرقوها، واحتفظوا بها عندما طالبتهم منظمة التحرير بها فيما بعد. جورج حبش لم يختلف. لكن الظاهرة في التنظيمات اللبنانيّة كانت أميَل نحو الفساد. لكن أين كان قادة المنظمة، بما فيهم نائب محسن إبراهيم. عندما كان الأمين العام يسجِّل أملاكاً للتنظيم باسمه الشخصي؟

يذكر اجتماعاً طويلاً بين حافظ الأسد ومحسن إبراهيم في أيّار 1982. يقول إنّ الأسد روى بتفصيل عن الحسم العسكري، في ما يُعرف بمجزرة حماه. يقول إنّ الأسد هدّد إبراهيم بالتلميح، ولكن كيف كان إبراهيم يضايق الأسد في تلك الحقبة؟ كانت تصريحات إبراهيم وقادة الحركة الوطنيّة كلّها إشادة بسوريا والدور السوري. وإبراهيم كان من الذين نصحوا وليد جنبلاط بالتصالح مع النظام السوري بعد اغتيال كمال جنبلاط مباشرةً. طالب الأسد ببيان يُعلن إدانة الحرب العراقيّة-الإيرانيّة، فاستجاب إبراهيم لذلك قبل أيّام من بدء الاجتياح الإسرائيلي (ص. 244). يروي عن الاجتماعات التي تلت حصار بيروت من أجل التحضير للمقاومة. كان عرفات يحذّر من غزو إسرائيلي وشيك للبنان (راجع الصحف في شباط وآذار 1982)، ولكنه لم يكن مستعداً عسكرياً لذلك أبداً، لا بل إنه عيّن الحاج إسماعيل، واحداً من أقلّ القادة العسكريّين كفاءةً، قائداً عاماً للقوّات المشتركة.

كان إسماعيل من أول المنسحبين، وبدلاً من محاكمته ميدانياً، كافأه عرفات بتعيينات لاحقة في مناصب رفيعة، قبل «أوسلو» وبعدها. في التحضير لإطلاق المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة، يذكر الأحزاب المشاركة، وهي الحزب الشيوعي ومنظمة العمل وحزب العمل الاشتراكي العربي-لبنان (الحزب الأخير قلّما يرد في تأريخ تلك المرحلة). ويذكر طرابلسي ما غاب عن السرديات، من أن الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين والجبهة الديموقراطيّة شاركتا في أعمال المقاومة ولكن من ضمن أعمال «جمّول». هذا كان عهدي بالمقاومة الفلسطينية في لبنان، كانت فصائلها تقوم بأعمال النضال والقتال، وتقدّم الشهداء وتقبل بتواضع تجيير الرصيد للأحزاب اللبنانيّة، كما جرى بصورة مطلقة في «حرب الفنادق». لم يكن سهلاً التكيّف بين العمل العلني (الاستعراضي في حالات الأحزاب الناصريّة) والعمل السرّي الذي فرضه الاجتياح الإسرائيلي وتدشين عهد الجميّل.

اقترح جورج حاوي على محسن إبراهيم العمل من أجل توحيد التنظيمَيْن. ويبدو أن النيّة كانت صادقةً عند الحزب الشيوعي، وحتى عند فواز طرابلسي، ولكن العقبة كانت عند محسن الذي لم يكن يرتضي بالدور الثاني في تنظيم جديد يضمّ المنظمة. وطرابلسي محقٌّ في أنّ إعلان الدمج في حقبة الهزيمة تلك كان يمكن أن يمدّ الأعضاء بالمعنويّات اللازمة (ص. 252). يصف مشهد عرفات وهو يتنقّل بين الأبنية في حصار بيروت، وكيف كان العدوّ الوحشي الذي لم يعر الحياة المدنيّة يوماً أيّ اعتبار، يطارده ويقصف أبنيةً سكنيّةً فوق رؤوس ساكنيها لعلّه يحظى بعرفات بين الجثث. وكان سهلاً على عرفات الاختباء لأنه، خلافاً لرفاق له في القيادة، لم يكن يميل إلى حياة الرفاهية، وأذكر في ليلة من تلك الأيام أنه نام مع مرافق واحد في سيّارة فولفو تحت جسر في بيروت الغربيّة. وفي تلك الأيام العصيبة، تقرأ عن اشتباك بين «المرابطون» و«الأفواج العربيّة». كيف لا تقتنع أن العدوّ كان مخترقاً تلك التنظيمات التي تمرّست باشتباكات الأحياء؟

ويصف بإيجاز شديد مشهد وداع عرفات. كان عرفات آسراً لمن عرفه. أعجب حتى الساعة كيف أن شيوعيّين أُعجبوا به، لأنّ عقيدته (إذا كنا نستطيع أن نتحدّث عن عقيدة لرجل آمن بالبراغماتية والتكتيك والألاعيب كبديل عن عقيدة) أبعد ما تكون عن الشيوعيّة واليسار. عرفات ارتاح في حضن أنظمة الخليج أكثر مما ارتاح في أحضان أيّ نظام عربي. وقراره المستقلّ (بالزعم) لم يرفعه يوماً بوجه أنظمة الخليج. هو شُهرَ فقط ضدّ سوريا والعراق وليبيا.

وضع منظمة التحرير الفلسطينية:
لم يكن وضع منظمة التحرير في بيروت سليماً أبداً خلال الحصار. لم يتحدّث طرابلسي عن ذلك في الكتاب. أتذكر كيف أن البزّة المرقّطة للفدائيّين التي كانت تجلب لحاملها العزّة والنفوذ (وأحياناً السطوة الظالمة) باتت تجلب نظرات العداء المفضوحة. كُثر تخلّوا عنها بالكامل. المزاج الشعبي (خلافاً لعنوان «السفير» الشهير) كان قد هجرَ المقاومة إلى مكان معادٍ. بات قادة الحركة الوطنيّة يلجؤون إلى منزل صائب سلام الذي كان على تواصل مع المبعوث الأميركي. كُثر أحرقوا منشوراتهم وكتبهم الحزبيّة وتخلّوا عن أسلحتهم. لم يكن الاجتياح لينجح من ناحية سرعة تقدّم جيش العدوّ، لو أن الشعب في الجنوب لم يكن قد تخلّى في عمومه عن القضيّة. الفساد والظلم كانا سائديْن من قبل المنظمات اللبنانيّة والفلسطينيّة، لكنّ الشيوعيّين والحزب القومي وقلّة غيرهم لم يمارسوا ما سُمِّيَ بـ«التجاوزات» من قبل العناصر المُسلَّحة. لم يكن كلّ مسلّحي الحرب زعراناً. كم استسهلَ العدوّ الإبادي (الذي نشهد سلوكه اليوم) قصفَ وتهديم مبانٍ سكنيّة فوق رؤوس ساكنيها فقط عند الاشتباه بأن عرفات قد دخلها.

هناك الكثير من الأبنية التي لاقت ذلك المصير. مبنى بالقرب من منزلنا في حي المزرعة أصبح ركاماً بقصف قنابل فراغية ولم يكن عرفات قد زاره ولم تكن هناك مواقع للمقاومة الفلسطينيّة (مشبوه في الحيّ ردّدَ في ما بعد أن العدوّ اعتذرَ عن جريمته، وهذا لم يكن صحيحاً). وفي تلك الأيام الصعبة، حيث كان عرفات وقادة المقاومة يفتّشون عن أماكن آمنة، يروي طرابلسي عن اشتباك وقع بين «المرابطون» و«الأفواج العربيّة» في الحيّ الذي كان عرفات مقيماً فيه. هذه الاشتباكات بين الأحياء كانت في نظري تحمل بصمات اختراقات إسرائيليّة وهي زادت بوتيرة مرتفعة قبل الاجتياح (نذكر أفعال أبو عريضة في صيدا والحريق الذي نشبَ في الحارة). إعلام إسرائيل من خلال «صوت لبنان» الكتائبيّة كان يروِّج بحماس لهذه الأخبار لتأليب الرأي العام. وقع الكثير مِن أهالي الجنوب وبيروت الغربيّة أسرى لبروباغاندا «صوت لبنان» الإسرائيليّة.

يذكر طرابلسي تنصيب بشير الجميّل. وحتى لو عزلنا عامل الجيش الإسرائيلي المحتلّ الذي فرضه، فإن القوّات اللبنانيّة فرضت بالقوة انتخابه واستعانت بالمال (تولّى ميشال المرّ بالاتفاق مع إسرائيل المشاركة في دفع الرشاوى) والتهديد بالقتل. يقول طرابلسي إنه ظنّ يومها أن بشير في الحكم كان سيشبه أمين، مع أن حكم أمين كان تقليداً لما كان حكم بشير سيكون عليه (وكان سيكون مآله الفشل، ولو عاش بشير الجميّل لانتهى في الحكم سركيساً آخر من ناحية العجز والضعف.)

يتحدّث طرابلسي بصراحة عمّا سمّاه، بدقّة، حالة «الإحباط والارتداد بين مثقّفي اليسار وصحافيّيه» (ص. 256) بعد الاجتياح. يستشهد بكلام مُلطّف جداً من جوزيف سماحة عن بشير الجميل وأن سماحة اعتبر السياسة المُرتجاة للبنان هي «حالة اللاحرب واللاسلم السائدة بين العرب والإسرائيليّين». ودعا سماحة الجميّل إلى ربط «مواقف لبنان الخارجية بالموقف العربي العام. ودعاه إلى أن يستخدم علاقة بعض العرب بأميركا لاستدراج تنازلات من إسرائيل تجاه لبنان». وعندما وصل خبر اغتيال بشير الجميّل «أصدر محسن (إبراهيم) بياناً يستنكر الاغتيال باسمه الشخصي». للأمانة، لم يكن القائد الوحيد في الحركة الوطنيّة الذي أدان الاغتيال واستنكره بكلمات قويّة. المزاج الشعبي في الغربيّة راوح بين البهجة والفزع من عواقبه.

عارضت منظمة العمل الشيوعي مفاوضات 17 أيّار. يقول إن مواقفها اختلفت عن مواقف جوزيف سماحة حول المقاومة المسلّحة، ويضيف طرابلسي: «تحمّس جوزيف للمفاوضات وزار بصفته الصحافيّة نتاليا برفقة سمير فرنجية وأمين المعلوف وآخرين». ردّ سماحة على موقف «بيروت المساء» عن المفاوضات «متهماً إياها بـالتشبيح» و«الانعزاليّة اليساريّة»» (ص. 257). مُعتمداً على رواية ألان مينارغ، يقول طرابلسي إن شارون أبلغ عائلة الجميّل أن الفلسطينيّين قتلوا بشير. عندها اتخذت قيادة «القوات اللبنانيّة» و«بمباركة» من بيار الجميّل قرار الهجوم على صبرا وشاتيلا. وتولّى التنفيذ إيلي حبيقة وديب انستاز وميشال زوين وإميل عيد وجيسي سكّر ومارون مشعلاني وجو إده (ص. 258) (نتذكّرهم بالاسم ما حيينا). وشارك في الذبح، بالإضافة إلى القوّات، ميليشيا «الأحرار» و«حراس الأرز» بالإضافة إلى وحدات من «جيش لبنان الجنوبي».

وعن عمليّات «جمّول»، يقول طرابلسي، عن حق، إنه لم تكن هناك قيادة تقود أعمال المقاومة بل كانت الأطراف المختلفة تقوم بالعمليّات مستعملةً اسم الجبهة. وغطّت اللافتة، حسب طرابلسي، مقاومة «أمل» وحزب البعث والحزب السوري القومي الاجتماعي والحزب التقدمي الاشتراكي و«تشكيلات يساريّة متعدّدة أخرى في منطقة سوق الغرب والشحّار». طبعاً، كانت كل الفصائل الفلسطينيّة تقدّم الدعم وكانت تشارك في المقاومة تحت اسم جبهة «جمّول». يروي حاوي عن اجتماع متوتّر بين جورج حاوي ومحسن إبراهيم طالب فيه الأوّل الثاني بالتنحّي عن منصب الأمين العام التنفيذي للحركة الوطنيّة، كي لا يكون الشيوعيّون في واجهة الاستهداف. اقترح حاوي سكرتاريا من ألبير منصور وسمير صبّاغ وأسامة فاخوري (الأوّل والثالث لم ينتميا إلى أحزاب فيما كان الثاني نائباً لإبراهيم قليلات). كان الاقتراح نتيجة تراكمات في الخلاف بين الرجليْن، بالرغم من أن اسميهما ارتبطا في الأذهان بثنائي حليف في سنوات الحرب. صارحهم سعد الله مزرعاني بخلفيّة قرار قيادة الحزب الشيوعي فقال: «قرّرنا أن نستعيد هويّتنا اللبنانيّة ونريد أن نأخذ مسافة من المقاومة الفلسطينيّة» (ص. 262). ويضيف طرابلسي: «واستنتجنا أن ذلك يعني أيضاً النيّة بالتسوية مع النظام السوري».

تجاهل محسن إبراهيم بعد ذلك دعوة للقاء قيادي مع جورج حاوي. وبعد ذلك، زار حاوي أمين الجميّل في بعبدا واعتبر طرابلسي الزيارة «فاتحة استعادة الحزب لهويّته اللبنانيّة». لكن حاوي روى في ما بعد أن الهدف من اللقاء كان مناشدة من حاوي للجميّل بعدم عقد الاتفاق مع إسرائيل وإيصال رسالة من حافظ الأسد ضد 17 أيّار. عندها، اجتمع إبراهيم مع وليد جنبلاط وصدر عنهما بيان يعلن «تعليق أعمال الحركة الوطنيّة». يقول طرابلسي إن اقتراح حاوي بتنحّي إبراهيم كان نتيجة معلومات استقاها من زيارته لموسكو حول ضغوط وشروط لحلّ الحركة الوطنيّة وإنه حاول تفادي ذلك بتغيير واجهتها (ص.263). لكن قرار الحلّ لم يُناقَش من غير جنبلاط وإبراهيم. وقد فوجئ بالقرار قادة وجمهور الحركة الوطنيّة. حتى طرابلسي لا يبدو أنه يعلم كيف اتخذ إبراهيم وجنبلاط القرار وإذا كانا قد تعرّضا لضغوطات ما من جهة ما. صحيح أن الحركة كانت (كما يعترف طرابلسي) في حالة انقسام وتشرذم فظيع.

 

* كاتب عربي - حسابه على تويتر
asadabukhalil@