لا يولدُ الأدب من فراغ، بل هو ابن الواقع ومرتهن به، أما ما يتغير في توظيف هذا الواقع فهو رؤيةُ المؤلف، وتأمل الكاتب، ومحاولته إعمال رؤيته وبثها عبر أدبه، والأدب رسالة مرسلة من المؤلف إلى المتلقي، بيد أن هذه الرسالة تتسم بسمة خاصة بها تمنحها «أدبيتها»، وتعطيها جوهر الاستجابة التأثيرية في نفس المتلقي، عبر البنيةِ الخاصة بالنص، أو بتعبير فلاديمير بروب عبر: «علاقة العناصر ببعضها بعضاً، وعلاقة هذه العناصر بالكل.»، ومن ثم فإن أكثر ما يلفت نظر الناقد في العمل الأدبي تلك العلاقات التي يقيمها المؤلف بين داخل العمل الأدبي – وفي أوقاتٍ نادرة – خارجه أيضاً.
وعمل سعد القرش، في روايته التي تتخذ عتبة أولية برقم يحيل لتاريخ مستقبلي: «2067م» هي من ذلك النوع المعقد المتشابك في علاقاته، وفي البنية التي اختطها المؤلف لعمله، ليوصل رسالة مركبة، تضرب في نواحٍ متعددة، ما بين الغرض السياسي، والغرض المستقبلي، والغرض النفسي، والغوص التاريخي، والنواحي الإيمانية، وحتى العلاقة الحميمة والرغبة، كل ذلك في عملٍ روائي واحد، يمكن القول إنه عمل «موسوعي»، يحتوي كل ما سبق للمؤلف أن نشره، خاصة أنه يحيل إليه – خصوصاً ثلاثيته السابقة – ليبني عليها، وكأن هذه الرواية هي المستقبل الذي ينتظر «عائلة عمران».
النقد الحديث:
رغم نظرة النقد الحديث للرواية بوصفها بنية، فإنه يمنحها صفة الصيرورة وعدم الثبات: «البنية ليست مستقرة وثابتة، وإنما هي متحركة وفق قوانين تقوم بتحويل البنية ذاتها إلى بنية فاعلة، تسهم بدورها في التكوين والبناء وفي تحديد القوانين ذاتها»، وبمتابعة هذه الرؤية فإننا نرصد تلاعب المؤلف في رواية «2067» تلاعباً كبيراً بالقارئ، حيث تم تغيير البنية من داخل الرواية نفسها عدة مرات، في اتجاهاتٍ متعددة، حتى إن القارئ، يصاب بالحيرة: أي قصة من القصص التي يرويها لنا المؤلف يرغب في أن يعرف نهايتها وتفاصيلها؟
إذا ما افترضنا أن الخط الرئيسي الذي يتم من خلاله تقديم الحكاية للقارئ هو خط لقاء محامٍ شاب مع مرشدةٍ سياحيةٍ سابقة، في محلٍ لبيع التحف والقطع النادرة، ومع نمو هذه العلاقة إلى أقصى حدٍ ممكن بين رجل متزوج وامرأة متزوجة، تتعدد مرات وأماكن المضاجعة بينهما، دون أمل في زواج أو التقاء دائم. فإذا كانت هذه هي الحكاية الأساسية التي يتم من خلالها جذب القارئ وتشويقه لمعرفة نهاية المطاف بين هذين العاشقين، فأين موقع التاريخ المستقبلي الذي يحيل لقرابة نصف قرن من الزمن عن وقتنا الراهن من ناحية، والهم السياسي المكبلة به أجواء الرواية الضاربة في اليأس عن أعماق الواقع إلى أقصى درجة ممكنة من ناحية أخرى؟
هنا لا يصبحُ المستقبلُ فكاكاً من الواقع، بقدر ما هو تورطٌ فيه أكثر، لا يقدم المؤلف رؤية متفائلة عن المستقبل، وإنما يقدم رؤية أكثر سوداوية، ليس فيها ما يدعو للبهجة أو السعادة، إلا تتبع مرات العشق والغرام المسروقة من حقوق زوجة (رشيد) المحامي، وزوج (سونهام) المرشدة السياحية السابقة، في أجواء خطرة، وملتبسة جداً، وموحية بقبضة خانقة للدولة على مواطنيها. فالتطور العلمي الوحيد الموجود في ثنايا الرواية – من البديهي توقع وجود تطور علمي مع تقدم التاريخ لهذا المدى الزمني – هو تطور مزيدٍ من الابتكارات العلمية التي لم تخطر على بال أحد، في قمع المواطنين؛ وهنا يقوم المؤلف بترجمة مشاعره عن الوقت الراهن، مسقطاً إياها على المستقبل، ناقِلاً للقارئ بالأساس رؤيته السياسية عن الواقع الراهن، وحلمه بما يرى أنه من غير الممكن تحققه في الوقت الحالي، على أمل أن يتحقق في الخمسين سنةً المقبلة.
إذن فبنية القصة التي تبدو في غاية التبسيط، من راوٍ مُحددٍ يروي وقائعَ محددة إلى متلقٍ يفترض المؤلف أنه يوافقه في وجهة النظر ذاتها، وهو ما يذكرنا بأبسط تعريفات الرواية، من أنها «راوٍ يحكي قصة إلى مروي له»، لنجد أنفسنا هنا أمام عدة روايات داخل رواية واحدة، يرويها (رشيد كامل ناجي عمران) المحامي، وفي هذا الاسم استحضار كامل لثلاثية أوزير: (أول النهار، ليل أوزير، وشم وحيد)، الروايات الثلاث السابقة للمؤلف، يتخيل فيها تجذر عائلة تصاحبها نبوءة بعدم الاكتمال وعدم التحقق، يستعرض خلالها تفاصيل مصر المملوكية، ووقائع مقاومة الفرنسيين، ويبني هنا الراوي على هذا التاريخ، باعتباره تاريخاً خاصاً بعائلته، وأنه امتداد لهذه الثلاثية، بيد أنه امتداد مستقبلي، وفي ذلك ما يوحي بشكل أو آخر برغبة المؤلف في التوقف عن الكتابة الروائية. فمنطقياً، إذا كان قد استقصى تاريخ عائلة عمران في الماضي، ومع الوقائع الصعبة لمقاومة الاحتلال الفرنسي، وحفر قناة السويس وغيرها، ثم القفز إلى المستقبل المتوقع بعد قرابة نصف قرن من الآن، فما الذي تبقى لكي يكتب عنه المؤلف من هذه العائلة؟
هنا لا يصبحُ المستقبلُ فكاكاً من الواقع، بقدر ما هو تورطٌ فيه أكثر، لا يقدم المؤلف رؤية متفائلة عن المستقبل، وإنما يقدم رؤية أكثر سوداوية، ليس فيها ما يدعو للبهجة أو السعادة، إلا تتبع مرات العشق والغرام المسروقة من حقوق زوجة (رشيد) المحامي، وزوج (سونهام) المرشدة السياحية السابقة، في أجواء خطرة، وملتبسة جداً.
المجتمع المصري
في هذا الالتقاء البسيط بين المحامي، و(سونهام)، ذلك الاسم الغريب لسيدة انتقى والداها الاسم من لغة هندية، وكونها مرشدة سياحية تستخدم اللغة الإنكليزية أكثر مما تستخدم اللغة العربية، وهي، رغم كل ما توحي الرواية به من تفتح وتذوق ورقي جمالي خاص، تقع أسيرة عقدتها الخاصة، رغم الظلم الذي تعرض له والدها القاضي عندما لُفِّقت له قضية رشوة، وتم فصله وعزله من مهنته، فإنها تعيش أسيرة التقاليد العائلية العقيمة، التي تمنع فتيات بعض العائلات من الزواج من غير عائلاتهن، وهنا يكشف المؤلف في هذا السياق المستقبلي، أن سلبيات المجتمع المصري، رحلت معه إلى مستقبله، أو إن شئت الدقة تهدد مستقبله، فلنتأمل هذا الحوار، الذي يأتي في اللحظة التي يصارح فيها (رشيد) برغبته في الزواج من (سونهام)، متوقعاً منها ترحابها، وبحثها عن الطلاق من زوجها، حتى يتحقق حلم البقاء الدائم بين أحضان عشيقها.
يقول على لسان (سونهام): «النسيان خطأ. أنت أخطأت، ونسيت أني بنت المستشار محسن عبد الحميد الرفاعي، وأهل بابا أشراف في الصعيد. هل الزواج عقد بين زوج وزوجة؟ أنت تعرف قاعدة تقليدية تقول إن الحرب قرار أكبر من أن يكون بأيدي العسكريين، قرار معقد. والزواج أكثر تعقيداً، عقد بين عائلتين يكون في الزوج والزوجة طرفا السلك المتصل بالكهرباء، السالب والموجب، ومكاني ليس الطرف السالب. هل أنا مفعول به؛ فأفقد حق الاختيار؟ أنا اخترتك، وأنت رضيت، ترددت وفرحت. أنت تناسبني في نزوة، في مرافقة تطول أو تقصر، وأنت الآن تقصرها. وأما في الزواج فأنا أتزوج الدكتور فوزي، ابن الدكتور موسى ناصر الأستاذ في كلية الأثار. فاهم قصدي؟».
تأتي هذه الفقرة صادمة في متن النص الروائي، فقد لا نتخيل أنه في عام 2067 ما زالت العادات والتقاليد نفسها التي نقر حاليا بسوئها ونسعى لمكافحتها، نجدها قد تسربت لما بعد قرابة نصف قرن من الزمان من الوقت الراهن، فالقبلية والعصبية حاضرة، والمثل: «يأكلها تمساح، ولا تتزوج فلاح» يطل برأسه من جديد، ورغم محنة (سونهام)، ومحنة أبيها المستشار الذي تم فصله من القضاء، إلا أنها لا تزال تحافظ على التراتبية الاجتماعية ذاتها، ورغم الجرح الغائر في نفس (رشيد)، فإنه لا يستطيع التخلص من إعجابه بـ(سونهام)، ويظل شغوفا بهاً، تثير في نفسه كل المشاعر المشتعلة، خاصة مع انطفاء الرغبة بينه وبين (سهير) زوجته، هنا في هذه اللحظة الحاسمة، تأتي وفاة والدته (هدى)، وهو حدثٌ يقصم ظهره ألماً، ويضفي على الرواية مساراً حزيناً.
على هامش هذه التراكبية المعقدة، تظهر صراعات أخرى، صراع الحق والباطل، صراع الخير والشر، صراع الإيمان بوجود الله أو عدم وجوده، يقول الراوي (رشيد): «بهذه البراءة للشاب القاتل، رأى رشيد أن الله ليس مع الحق، وقد رفع يده عن الدنيا، وترك خلقه في صراع يحكمه الجنون والفوضى، وفي أحسن الأحوال يخضع لقانون قوى غير متكافئة، فلا ينفع المظلوم إيمان أو تضرع بالدعاء. والقوي حائز الأدلة ينجو ويطغى. والله يسمع ويرى ويغض بصره عن أذى الظالمين، ولا تحنو يده على ضعيف أخطأته العدالة. ما أكثر النبلاء الذين لم يعصمهم الله من الأشرار، وانتهوا مهزومين في حروب غير عادلة، وأزهقت أرواحهم غيلة. تساءل عما يفيد الضحايا لو كب الله وجوه ظالميهم في جهنم؟ ألا يكونون ساديين لفرحهم بقصاص متأخر من جناة تسعر بهم النار؟ ألم يكن الله، لو شاء، قادراً على منع شرورهم؟ يؤمن رشيد بقرب خروج المعذبين الذين فقدوا الأمل في العدل، شاهرين السلاح. ما دامت النهاية واحدة، والموت ينتظرهم، فليكن موتاً شريفاً».
وبعكس هذا التردد في مواجهة حياته مع (سهير)، نجد شجاعة مطلقة في القيام بفعل الرفض والمعارضة والرغبة في إسقاط أنظمة الحكم العربية، فالمؤلف عبر قصة الحب التي تتحول في جزء كبير من الرواية إلى قصة حب ثانوية، ليصبح فعل مواجهة السلطة. لا يبدو في (2067) أن واقعَ المصريين يختلفُ كثيراً عن الآن، وبرؤيةٍ يحدوها التشاؤم الشديد، فقط اختفاء الإسلام السياسي عن المشهد هو الملاحظ، عدا ذلك فكل شيء سيئ، ويكرّس المؤلفُ لسوئِه، وعلى غِرار الفيلم الأسترالي – من إخراج سيث لارناي وبطولة كودي سميت – الذي يتخذ العنوان نفسه (2067) يتخيل المؤلف اختفاء الأوكسجين، أو وجوده بشكلٍ غير كاف لممارسة الحياة اليومية، ورغم تأقلم المصريين معه، إلا أن هذه الظاهرة أفضت إلى نشأة «بارات الأوكسجين»، وهي بارات يتم تقديم بعض الأوكسجين النقي فيها لتنقية الرئة، ولإضفاء حالة من البهجة والسرور، وعوضاً عن الخمورِ التقليدية في البارات، يصبح الأوكسجين متاحاً لمن يستطيع الدفع. وهي فكرة متناصة مع الفيلم السابق الإشارة إليه، بيد أن هناك اختلافاً كبيراً في الأحداث بينه وبين الرواية.
صراع الحياة الزوجية يبدو قائماً ومستمراً في الحياة الاجتماعية للمصريين، وبالصورة التقليدية الراهنة، تجسد الرواية نموذجاً لاستمرار رجل مع زوجة رأى فيها – في مرحلةٍ ما من حياته- تناسباً وتوافقاً كبيرين معه، ثم اكتشف بعد ذلك أنها إنسانة مصطنعة، ومع الوقت ينحسر الكلام بينهما، غير أنهما يرزقان بطفل، (هادي)، ولقلة الحوار بين الأب والأم يأتي الطفل مصاباً بما يشبه الخرس، وغير قادر على الكلام، وبينما كانت نصيحة الأم له أن يطلّقها، وأن الطلاق هو الحل، يرى فيه الطفل اختيار السعادة بدلاً من الاستسلام للأمر الواقع، ويعيش حياة بلا روح، أو يعتمد على عيشة النزق والخيانة الزوجية، ولكن لآخر الرواية يبدو (رشيد) غير قادرٍ على اتخاذ مثل هذا القرار.
وبعكس هذا التردد في مواجهة حياته مع (سهير)، نجد شجاعة مطلقة في القيام بفعل الرفض والمعارضة والرغبة في إسقاط أنظمة الحكم العربية، فالمؤلف عبر قصة الحب التي تتحول في جزء كبير من الرواية إلى قصة حب ثانوية، ليصبح فعل مواجهة السلطة، وحلم استعادة يوم يتم فيه قهر الشرطة، وكسرها، باستخدام التعبير البلدي الدارج: «الشعب ركب»، يصبح هذا هو الحلم أو المتنفس الذي يعيش من أجله المحامي/ المؤلف، ورغم التطور الشديد الذي يتنامى مع اختراع أجهزة قامعة، وفي التفنن في استخدام وسائل للتعقب، حتى يصل التطور إلى مرحلة اختراع كاميرات تركّب على الذباب لمراقبة الناس، ويكون هناك المكلف باستعادة هذه الكاميرات مهما كان الثمن. وأيضاً برقابة صارمة على الهواتف المحمولة وأجهزة الحاسوب وغيرها، بل يصل الأمر إلى اختراع أشخاص من لحم ودم، ولكنهم آليون، ليس في قلوبهم أي رحمة، ومبرمجون فقط على القمع، وعلى التنكيل بالبشر، وعبر «إدارة الكنترول» كما يسميها، يتم التحكم في كل شيء.
بل أمكن اختراع نسيج من القماش يجعل من يرتديه غير مرئي، ومن ثم يمكن لهذه القوات ممارسة ما تشاء من خرق للقانون، أو إنهاء حياة البشر، أو اتخاذ قرار يمنع القيام بأي فعل رفض أو معارض، إذ تعد ذكرى الخامس والعشرين من يناير/ كانون الثاني في هذا الوقت ذكرى محرمة، ورغم ذلك لا يتردد (رشيد) المحامي من التطوع بقيام عمل ما يستعيد هذه الروح التي مضى على زمنها أربعون سنة، وفق التاريخ الداخلي للرواية، ولا مجال بحال لأي حياد تجاه وجهة النظر هذه، إذ يبدو عالم الرواية الداخلي مؤيداً تماماً لوجهة النظر هذه، ورافضاً أي احتمالية لأي تأقلم مع السلطة، حتى إنه ليس من سبيل في احتمال أو تصور أن يكون في المستقبل أي خير للمصريين من أي شيء حالياً، هل هو إسقاط على الواقع بلغة المستقبل؟ أم هي فعلاً رؤية للمستقبل؟ أم هي تعبير عن انكسار المثقف العاجز عن مواجهة الواقع فيتخيل أنه يواجهه في مستقبل ما؟ أو يواجه نيابة عنه شخصيات مستقبلية يتخيل المؤلف أنه أسهم في إعدادها؟ كل هذه أسئلة محيطة بفضاء الرواية، تفرض نفسها كأسئلة مشروعة لمن يقرأها ويستقرئُ ما وراءها ولو بعد حين.
كاتب مصري
عن (القدس العربي)