بألقٍ وحفيفٍ رقيقٍ طلعت زهرةُ لوتسِ من غمْر نهرٍ عارمٍ فيَّاض، وانتشأت الكتابة.
لطالما جالَ بخاطري أن عشق اللغة -إذا حُقَّ - هو في كُنهه ولعٌ عتيقٌ جَذِلٌ بالموسيقى الكونية مثلما هو توقٌ إلى سبْر الأصولِ التي انبثقت منها المقاصد الأُولى لكل نبرة ولكل حرف ولكل كلمة، وهو أمَارة نزيهة على جلاءِ حدْس عاشق اللغة وسلامة غريزته ورهافة حواسه لالتقاط البوْح الحيّ للألفاظ.
ارتضيتُ دوماً الاعتقادَ المألوف بأن الطلاسم والألفاظ السحرية في الحكايات القديمة مُصاغة حصراً من كلماتٍ وحروف يهتف أو يهمس بها الشخصُ فيُجاب؛ لكن ألا يمكن أن تكون حقيقة الأمر على غير هذا؟ ومَن يدري فلعلَّ بعض الطلاسم لم تكن إلا صفيراً أو دقاتٍ أو أية مُنغَّماتٍ مُجرّدة مُطلَقة يكمُن مفعولُها في منطوقها لا في معناها. الطلاسمُ التي نُسِيَت؛ ما الذي حُجِبَ بنسيانها وزال! اللغاتُ التي ماتت؛ ما الذي رافقَها فاندثرَ واختفى؟
تبدو لي بعض كلمات اللغة العربية كما لو أن لها روائح، وفي هذه اللغة لي كلمات أحبها لِذَاتها وفي ذاتها؛ مثل كلمة "يـُغْـدِق" (وتصريفاتها) ومثل بعض الأسماء المنتهية بألِفٍ مقصورة مثل "رضوى" و"أروى" ومثل الفعل "أضوى"، ومن الكلمات التي أمالت قلبي، وأنا صبي، كلمة "فدائي"، ولا زلتُ أطرب لكلمة "فداء، افتداء". ولي في العربية أيضاً كلمات لا أشعر بها ولا أستسيغها؛ مثل كلمة "يَراع" وكلمة "حميم"، وتوجد كلمات أنفرُ منها ولا أتوقَّع الجيّدَ ممن يستعملونها في صياغة كتاباتهم؛ مثل الفعل "جعل، يجعل"، خاصةً حين يُستخدم كفعل مساعد، فيكتب أحدهم مثلاً: "وجعل يأكل، وجعل يمشي" الخ.
أبهجتني دائماً الإشاراتُ والتراسُلاتُ المبثوثة في النصوص الأدبية بل كذلك في الفنون كلها وفي الحياة عموماً، إذا كانت مدسوسةً بعنايةٍ وعُلُو كأنها وِصالٌ حَيّيّ بين النص وقُرّاءٍ شبيهين بكاتبِهِ أو ذوي قُربى لِطيْفِهِ الأدبي، ولَكأنها سِقايةٌ بالتلميح والإيماء والإضمار إلى نصوصٍ شقيقةٍ مَطويّةٍ في سابق الزمان أو حاضرِه أو آتيِهِ، ومن هذه الإشارات والتراسلات ما يُطْلِق روحَ النص ويرفده بروابط تحتيَّة وما يمنح تأويلَه إثراءً وإكثاراً من دون أنْ يأثم بالوقوع في توجيهه. وأعياني، بالمقابل، الجدالُ عن شكلٍ ومضمون. شكلُ الرسالة صِنوٌ لغايتها، والشكلُ هو أولُ المحتوى وليس له في الكتابة أن يُناقِضه. هل يوجد ثمة معنى منفصلٌ عن الكلمات، بحذافيرها، التي صاغته؟ هل لا يتغيّر المعنى إذا لم تتغيّر الكلمات التي صاغته، إنّما يتغيَّر فقط نسقُ صياغتها؟ هل يمكن التعبير عن المعنى نفسه باستعمال كلمات مختلفة أو باعتماد ترتيبٍ أو تراصٍّ مختلف للكلمات نفسها؟ هذا إذا كان المقصد هو الدِّقّة التامة في التعبير عن المعنى المراد وليس عن معانٍ تقريبية أو رديفة؛ ذلك أن الدقةَ التامة هذه هي في يقيني أصلٌ مكين من أصول الحضارة. أثناء دراستي الجامعية بكلية طب قصر العيني، المقرّرة رسمياً باللغة الإنجليزية؛ كانت حاجتي هي أن تكون كل معلومة أدرسها مُصاغة في تعبير واضح بنسبة مئة في المئة كي أقدر على حفظها واستذكارها، وهذا كان يعني لي ضرورة وجود المعلومة إمّا في صيغة الإثبات التام أو النفي الصريح، أمّا المعلومات التي أتت صياغتُها في الوسط بين الإثبات والنفي فكانت مُحيِّرةً وعسيرةً، وقد صادفتني آنذاك تعبيراتٌ مثل "it is not uncommon to see… to find… to…"، أي "ليس من غير الشائع أن..."، وهي صياغة لا يصحّ إيجازُها أو تقريبها إلى صيغة إثبات مثل "من الشائع"، ولَطالما أربكتني في دراستي تلك العبارةُ الإنجليزية ونظيراتُها، ذلك أني كنتُ أراها غير حاسمة بالإثبات أو بالنفي حسب ما تطلّبتُ؛ أفكان إذاً من الممكن أن يصيغ الكاتبُ عبارتَه تلك صياغةً أخرى بديلةً أكثر صراحة لكي يتمكّن تلميذٌ من استذكار المعلومة بسهولة؟ لا-مُطلقاً، فلم يكن أمام الكاتب، وهو يكتب معلومةً علمية دقيقة مُحدَّدة، إلا تلك الصياغة الصعبة المركَّبة التي لا ينضبط المعنى المراد، مع ذلك، بسواها حتى لو لم يُرحِّب بها التلميذُ واتهمَ كاتبَها بالحذلقة أو بالجنوح إلى التعقيد والإعسار! إذا كان هذا هو مبدأ الكتابة في النصوص العلمية فالنصوص الأدبية أجدر وأوْلى به إذْ تستمسكُ بأن ليس في الإمكان التعبير عن المعنى نفسه بكلمات أخرى أو حتى بالكلمات نفسها إذا زُحزِحت مواضِعُها. وبكلمةٍ؛ فإنه حيثما تنقُص جودةُ ودِقة وصرامة ووعي الكتابة، يمكن أن تحلَّ صياغةٌ محل أخرى وأن تُستبدَل مُفرداتٌ بغيرها، من دون أن يتأثر المعنى المراد كتابته.
كُلّما قرأتُ أو سمعت تحبيذاً عمومياً لِما يُسمّى اللغة "العارية" أو "المتقشِّفة" في الأدب أتوجّسُ جزعاً. تمتاز لغة الصحافة والقصص الصحفية عن لغة الأدب بفاعليتها المنجِزة ووضوحها التام وقدرتها على الوصول من أقصر السبل إلى مقاصدها ومعانيها بحسمٍ لا تأويل له ولا ظلال، وهذه كلها، وغيرها، خصائص مناقِضة للغة الأدب، لكن بسبب سهولة الإمساك باللغة "المتقشِّفة" للصحافة، قراءةً وكتابةً، مالَ إليها كثيرون من الطبقة الشعبوية للآداب، قُرّاءً وكُتَّاباً على السواء، واعتُبرت من قِبلِهم هي النموذج الأعلى للكتابة الأدبية. ولقد تسمَّمت الكتابةُ الأدبية بتكاثر السمات الصحفية في لغتها باضطرادٍ تماشياً مع ازدياد تغوُّل الفسطاطِ التجاري والغوغائي في الأدب وتعاظُم فسطاطِ الاستعمال السياسي له.
في ظنِّي أنّ كتابةَ سطرٍ من الشعر الحقيقي تستلزمُ، بالأساس، حداً لا متناهٍ من الورع والمروءة، ناهيك عن النُّضج والموهبة والتأهُّل الشخصي للمكانة السامقة، وتستحق وتستوجب –هذه الكتابة لسطرٍ من الشعر الحقيقي– أن تنال كفايتَها من الاختمار والاستواء في ما يُلائمها من الحضانة والكفالة الـمُناظِرة لحضانة وكفالة الرحِم، وأن تُحرَس بالعكوف والانتباه والحدس، إلى أنْ تنبثق فتُشِّع بألقِها المستديم الباقي، أمّا ما يكون غير ذلك، تحت اسم الشعر، فهو تبديدٌ وإهدارٌ ومُغافَلة. الشعراء الحقيقيون، النادرون، يعرفون أن الاستعارات هي من أعمال السِّحر وأن سحرها نافِذٌ ومقيم وأن فيها سراً أصيلاً من مباهج الشِّعر، لكن الـمُلفِّقين تدبّروا بوسائلهم إنتاجَ كميات مهولة من استعاراتٍ مزيَّفة ورديئة حتى عُطِّلت الاستعارة وهي جوهر، وابتُذِلت ومُحِقت وهي فنٌ وسِحرٌ ومكمنُ نشوات. لا تترادف بالضرورة القصيدةُ مع الشعر، بل قلَّما عُثِر في القصائد على الشعر الذي قد يحلُّ في سردية قصة أو رواية أو في لوحة أو مشهد سينمائي أو في غير ذلك من حوادث الحياة. يبدعُ الشاعرُ الحقيقي الشعرَ لا القصائدَ، يجسِّد الشعرَ ويحياه، ويعبُر أزمنةً وإنْ عسُرَ عليه عبورُ يومِه. وإذا كان للكلمة طاقة السِّحر والقدرة على اجتراح الخلْق فهذه الكلمة إنما هي بحوْزةِ الشاعر، الذي ما هو بصائغٍ عذبِ اللغة فحسب، وما هو برؤيويٍّ مُقتدرٍ على التعبير والإبانة بموسيقية وإدهاشٍ فحسب، إنّما هو بالأصل كائن مُتمَلِّكٌ ذاتَه، مهما لاحَ من ضَعفه، كأن له وُجوديْن، و مُتمَلِّكٌ التأليفَ بلُغته الشخصية الـمُمضاةِ منه والطالِعة من الصميم ومن البكارة كأنها لُغة لم يسبق لها قبله وجود.
لا أراني من نُصراء الأدب الواقعي (ما يمكن بالأحرى أن يُسمّى "الواقعي الواقعي"، مرتيْن)، الناقلِ لِما يُظَن من قِبل بعض الكُتّاب وبعض القُرّاء أنه الواقع بلحمِهِ وشحمِه، إذْ يبدو لي أنه يخدعنا. يخدعنا ويسلبنا هذا الأدبُ الواقعي إذْ يعجبنا، وقد وقعنا في خلْطٍ حين يُلهينا اهتمامنا بالحكاية عن افتقار سردِها إلى فنون الأدب، فيتحصّل على استحساننا؛ غير أنه لا يتحصَّل حقاً، في غالبية الأحوال، إلا على شغفنا الإنساني العام من جهة تأثُّرنا كقُراء بالموضوع وتفاصيله إذا كان الموضوعُ خلَّاباً قوياً من الوِجهة الإنسانية، بينما قد لا يمتلك ذلك النَّصُّ الواقعي نفسُه الجدارةَ الأدبية والفنية بالضرورة، فلا يستحق استحسانَنا المجرَّد الحقيقي ورضاءنا الفني كلّما حُيِّدت مزايا الموضوع.
تتضاءل توقعاتي إزاء جودة أي نص نقديّ أدبي إذا تعثّرتُ فيه بمصطلح "يُوظِّف" أو "توظيف"؛ ذلك أن هذه الكلمة، بما فيها من معاني "التخديم" و"عَمْدية التخديم"، تبوح بنوعية معتقداتِ الناقد عن ماهية الكتابة وتكشف عن متطلباتٍ استنفاعية له منها باعتبار فنون وعناصر الكتابة الأدبية خوادِم. يتأبّى الأدبُ أن يكون وسيلةً أو أن يقدّم خدمات؛ فلا التزام له سوى أدبيته. ولحُسن الحظ لم تعد تصادفني عبارة "الأدب الملتزم"، بإيحاءاتها المخاتِلة، التي طالما اقترنت بالجماعات السياسية، وكان المراد منها دوماً هو إتاحة الإبداعات الأدبية لأجل خدمة أغراضٍ وتسريب دعاياتٍ وتضمين مبادئَ، وِفقاً لتصوُّرٍ فحواه أن الأدب أداةٌ يمكن بسْطُها أفخاخاً لصيْد ونهْب عقل القارئ ووجدانه. وهذا هو أيضاً، إلى حدٍ ما، شأن ما يُسمَّى الأدب الرمزي، بما ينطوي عليه من استعمالية ومن استخفاف بل إزراء بمكانة الأدب وباستعصائه على التوظيف أو أداء مهام. كذلك يترفّع الأدبُ وأهْلوه عن المثول في مضمار سباق اللهم إلا لو بَرَزَ للسباق محكِّمون وقُضاة وحكماء يستأهلون أن تُضرب عليهم قبابُ كقباب سوق عكاظ ذاك الذي كان بعضاً من شعائر الحج القديم؛ ذلك أنّ الجوائز اللاعبة في السوق الأدبي مهما تسامت لا تفلت من لزومية الظلم بها ولا تبرأ من غايتها كأداةِ تسليعٍ للأدب. ولعل من دواعي الفطنة أن يهنأ أدباءُ العالَم الحقيقيون لِكونهم قد أفلتوا من الفوز بجائزةٍ سياسية مموَّهة هي جائزة نوبل للأدب التي لا تجترئ فحسب على التلاعُب بالأدب وكُتّابه بل تنهب سُلطةَ تقدير الجدارات والطبقات الأدبية وتروِّج مُفضلّاتِ رُعاتِها الآنية بأسواق الترجمة والنشر وتتدخّل كذلك بمتطلباتها وبسطوتها في إرساء الأولويات الأدبية للقُراء والكُتّاب. جائزةُ الكتابة للكاتب ليست تُضارَع إلا بلَذةِ وِصال حبيبةٍ وحبيب؛ لا شأن لثالثٍ بها.
أعتقدُ، في فؤادي، بوجود الإلهام. إذا افترضنا أن شخصاً قد توصّل إلى فكرةٍ جديدة - فنية أو علمية أو اجتماعية الخ – ثم مات هذا الشخص قبل أن يجهر بفكرته؛ فما الذي يحدث لهذه الفكرة؟ جوابي الشخصي هو أن هذه الفكرة -بذاتها- ستنتقل إلى عقل أو وجدان شخصٍ آخر يُقارب عقلَ أو وجدان الشخص الذي مات، وهذا الشخص الآخر سيتلقى هذه الفكرة كإلهام. أمّا إذا لم يُوجد هذا الشخص الآخر، المثيلُ عقليّاً ووجدانيّاً للميت صاحبِ الفكرة، فإن الفكرة قد تتحوصل وتبقى هائمةً نصفَ حيةٍ نصفَ ميتة حتى تُتاح لها ظروف إنعاشها وانطلاقها، كإلهام.
***
العدوانُ الصهيوني فائقُ الشراسة والحقدِ على الفلسطينيين أعاد طرحَ مسألة وجودية: أتكتبُ أم تنحني لتُزيح وترفع ركامَ البنايات التي قصفتها الصواريخ فاندفن تحتها أحياءٌ بالآلاف لا سبيل إلى إنقاذ معظمهم؟! معضلةٌ نشأت فأسعفني ما كنتُ قد دوَّنتُه في دفتر يومياتي، ذات يوم بعيد بالقرن الماضي: «إذا أخذنا في الاعتبار المآسي والكوارث التي تحيق بالبشرية وتحدث لها كل يوم فسيصعبُ أن نجد الشجاعة والمروءةَ للحديث عن جدوى الكتابة أو جدوى الفنون أو حتى جدوى أي عمل فردي، ومن المؤكد أن طرْح الأمر على هذا النحو ينطوي على ضيْمٍ لكل الأطراف؛ الكاتب والكتابة والقارئ والعالَم، فإذا كانت هنالك حياةٌ تُفقَد ودماءٌ تُنزَف وآلامٌ ومواجع بغير حصْر، وكان هذا هو الحد الأول فهل يمكن وضْع "الكتابة" في هذا الفخ لتكون هي الـمُعادِل وهي الحد الآخر! لا؛ فالكتابة ليست أكبر من كوارث البشر، ولكنها ليست أصغر منها، والكتابة لا عُقدة لديها تجاه جدواها، وما انبغى أن يكون لها مثل عقدة الذنب هذي، ولو كانت الكتابة هي مجرد رسالة يؤديها الكاتب لَكان يحقُّ عليه التزام الصمت أحياناً، بل كثيراً، تجاه مصائب البشر، ولكن الكتابة تتجاوز منطقَ الرسالة ومنطق المنفعة المتعمَّدة، مثلها كمثل الرجل والمرأة اللذين ينجبان طفلاً للعائلة فهُما لا يقصدان تعويضَ البشرية عن طفلٍ هَلَكَ في مجاعةٍ أو حرب أو مرض أو غير ذلك، إنهما لا يتعمَّدان هذا المنحى الكُلِّي الذي لا يخطر لهما على بالٍ، ولا يقصدان أن يقدِّما منفعةً عامة في الوقت نفسه الذي يقدِّمان فعلياً هذه المنفعة العامة بعفوية، ويغدو الحديثُ عن الجدوى أو الرسالة ممجوجاً لأن الجدوى والرسالة مطويَّتان مُخبّأتان مدسوستان باحترازٍ يصون الكرامة؛ كرامة الكاتب والكتابة وكرامة الذين يتلقونها ويفضُّونها ويضيفونها إلى أنفسهم.
لماذا أكتبُ؟ أكتبُ للوصول إلى معرفة. فالكتابة كالقراءة، أداة للوصول إلى تَلقّي معرفة، وليس إلى توصيل معرفة، فالكاتب بينما هو يكتبُ يعرفُ؛ يعرفُ ما لم يكن يعرفه قبلاً. الكتابة مملة ولا تناسبني إذا كنتُ سأكتبُ ما أعرفه أو إذا كنتُ أتصوّر أني أريد إفادة الآخرين أو إفاقتهم أو إعلامهم بما أعرف. الكاتبُ يكتبُ ليتحرّى وليتمثّل وليعرفَ، يكتب ليجدَ المعرفة أثناء ممارسة الكتابة، وشيئاً فشيئاً تتكوّن فيه الشهوة لهذا السبيل من سُبُل المعرفة التي لا تفي بها القراءة ولا تؤدّي إليها مُعارَكةُ الحياة اليومية ولا يجلبها الحدْس ولا الحُلم، ومن هنا فإنّ الكُتّاب الذين يجلسون لكتابة كتابٍ يعرفونه بالتمام مُسبّقاً إنّما يكونون، بحسب رأيي، كمَن يتوقّع أن ينبت من خشب الطاولة نوّارٌ وأوراقٌ خُضر.
أيمكنني -يوماً- أن أُلخِّص حياتي في صفحة، ثم ألخص الصفحةَ في كلمة، ثم ألخص الكلمةَ وأُجرِّدها وأُنظِّفها لتغدو صوتاً يكون هو طَيفي الموسيقي! أيمكن!»
***
لو أن لديَّ الفرصة للاستيلاء على كتابيْن من صاحبيْهما فسآخذ الأمير الصغير من أنطوان ده سانت إكسوبري، وآخذ حرير من أليساندرو باريكو، مع تقديري لأعمال مثل الجريمة والعقاب والحرب والسلام، إلا أني لا أراني في الأعمال المطوَّلة هذه التي أحب قراءتها لكني لا أغبطُ كُتَّابَها. ثمة كُتب قصيرة، من ضمنها هذان الكتابان، تنمو بلا توقُّف في نفوس وسرائر بعض قُرّائها حتى لتغدو مُلهِمةً وترسخُ متراميةً بلا أول وبلا آخر، إنّما بفِطنة وحَذق.
وأنت تكتب كُن أنت القارئ المختارَ الوحيدَ الذي تنشُده. لا تحسب حسابَ القارئ الآخر، الذي هو كل الآخرين. لا تراعِ القارئَ الآخر، لا تتملّقه، لا تخشاه. إذا بدأتَ بمراعاة القارئ أهونَ مراعاةٍ فلن تنتهي من ذلك، وستمضي إلى حيث تفقد قلمَك وأفكارَك وأسلوبَك، وتضمحل، وتُضيِّع قارئَك المثالي، ولا يَبقى لك إلا أسوأ القارئين.
21 يناير 2024
(نُشِرت بالملحق الثقافي لجريدة عُمان)