عندما عدتُ إلى القاهرة، وكنت قد تركتها إلى الصعيد حتى نهاية المرحلة الثانوية، كان من بين أحلامى الافتراضية التقاطُ صورة أمام تمثال نهضة مصر، تظهر خلفها قبة الجامعة مباشرة، ولكنى شعرت بخيبة أمل، لأننى اكتشفت أن القبةَ ليست أمام التمثال بالضبط كما تظهر فى الأفلام السينمائية، وأن مسافة طويلة تفصلهما، اختزلتها الكاميرا عبر عدساتها!
\تذكرتُ هذه الواقعة، وأنا أقرأ مستمتعًا هذا الكتاب المرجعى الفريد، منهجًا وشكلًا، وموضوعًا وبناء، والصادر فى ترجمته العربية عن دار العين تحت عنوان «مدن سينمائية.. تأريخ للحداثة الغربية من الشاشة إلى الواقع»، والكتاب ألفه بالإنجليزية د. نزار الصياد، أستاذ العمارة والتخطيط وتاريخ العمران المتميز، بجامعة كاليفورنيا، بيركلى، وقامت بترجمته هالة حسنين.
يروى د. نزار فى الكتاب شيئًا قريبًا من حكايتى، فقد اصطحب صديقة هندية مع ابنها فى جولة فى نيويورك، وكان الابن يبحث طوال الوقت عن «تمثال الحرية» وفق موقعه الذى رآه فى الأفلام، أى أن السينما صارت مرجعًا حقيقيًّا للمدن ومعالمها، ولذلك كان د. نزار نفسه وراء تدريس مادة فريدة لطلبته فى أمريكا، أطلق عليها اسم «تاريخ المدن السينمائية». وإذا كان الكتاب الجديد المدهش والضخم يقتفى أثر الحداثة وما بعد الحداثة فى المدن والبلدات الصغيرة الغربية، كما قدمتها أفلام شهيرة، فإن نفس هذا المنهج المركّب والشامل، طبقه د. نزار مع فريق من الباحثين المصريين فى كتابٍ صدر فى العام الماضى بعنوان «القاهرة السينمائية»، وكان أيضًا من أبرز الإصدارات وأعمقها. من المنطقى أن يكون الكتاب الجديد عن الحداثة التى وضعت بذورها فى الغرب ووصلت أصداؤها إلينا، أما مفهوم «المدينة» فلا يتعلق فقط بذلك الحيز البنائى الذى يظهر على الخريطة، وتترجمه الشوارع والمساكن والملاعب والحدائق، ولكنه يتعلق أيضًا بالبشر، وعلاقاتهم الاجتماعية والطبقية والاقتصادية، وهذا التفاعل بين الإنسان والمكان، وبين المدن والأفكار التى صنعتها وأفرزتها؛ أى أننا أمام مفهوم أقرب إلى معنى «العمران» عمومًا، أو قوانين وعلاقات وأشكال الاجتماع الإنسانى فى المكان والزمان.
هذا تعريفٌ أساسى قبل أن تقرأ، كما أن عليك أن تلاحظ أن د. نزار لا يتحرك من مدينة الشاشة إلى مدينة الواقع فقط، ولكنه يتحرك أيضًا حركة عكسية، فيحدثك مثلًا عن تحول البلدات الصغيرة إلى مدن حديثة كبرى، ثم ينتقل إلى الأفلام التى قدمت رؤيتها الخاصة لهذه التحولات، فصورة المدينة على الشاشة بنفس أهمية صورتها على الأرض، ولا تغنى الصورتان عن بعضهما البعض.
وبسبب هذا التتبع التاريخى لتطور المدينة، والتتبع التاريخى للأفلام التى تحدثت عن المدينة، أصبحنا أمام كتابٍ دسم يشبه المدن فى اتساعها، وتنوع أحيائها، وتعدّد شوارعها، ومداخلها ومخارجها، أو كأننا أمام عروسة «الماتروشكا» الروسية، فكل جزء صغير، يقودنا إلى جزءٍ أكبر وأكبر.
والبديع أن ثقافة د. نزار الواسعة، معماريًّا وسينمائيًّا، وربما أدبيًّا وفلسفيًّا أيضًا، قد انصهرت فى منهج شديد الثراء، يقرأ المدينة مثلما يقرأ الفيلم، ويحكى قصة الثروة والسلطة والمجتمع الغربى، بنفس العمق الذى يحكى ويحلِّل فيه قصص أفلام مهمة فى تاريخ السينما، مثل: «متروبوليس»، و«برلين: سيمفونية مدينة»، و«العصور الحديثة»، و«آنى هول»، و«مانهاتن»، و«سائق التاكسى»، و«خلف النافذة»، و«برازيل»، و«ترومان شو»، و«بليد رانر»... إلخ.. بل ويقدِّم دراسات مقارنة بين الأفلام، متتبعًا أفكارًا مثل الحداثة وما بعد الحداثة، والجوانب الطبقية والعرقية، وصورة المدينة كيوتوبيا مثالية، فى مقابل صورة المدينة كديستوبيا، ومقتفيًا مجازاتٍ سينمائية مختلفة تعبر عن كل تطور عمرانى، من المتجول الهائم إلى الصعلوك، ومن الإنسان الآلة إلى الإنسان المستنسخ، ومن التلصص الفردى إلى التلصص الممنهج، كما فى رواية أورويل «1984». كل تطور عمرانى كان ينعكس على رؤية الفنان السينمائى، وعلى مرّ العصور، وبتنويعاتٍ لا حصر لها، تسجيليًّا وروائيًّا، ومن خلال مواهب كبرى لمخرجين مثل فريتزلانج، وهيتشكوك، وشارلى شابلن، ووودى آلن، ومارتن سكورسيزى، وجاك تاتى، وكانت الأفلام تمتلك الخيال والقدرة على التنبؤ، كما كانت تمتلك سخرية قوية ومؤثرة. هل يمكن أن ننسى مثلًا سخرية شابلن فى «العصور الحديثة»، وتأتى فى فيلم «خالٍ» من حداثة تهمّش الإنسان أو تجعله مجرد آلة؟ وهل ننسى نيويورك كمسرحٍ أنيق للمثقفين وللفنانين المأزومين، فى فيلمى آلن «آنى هول» و«مانهاتن»، فى مقابل نيويورك القذرة وكمدينة للخطايا فى فيلم سكورسيزى الأشهر «سائق التاكسى»؟ هل ننسى تلك الرؤية الكابوسية للمدينة الافتراضية المتسلطة، والتى تراقب الجميع فى فيلم «برازيل»؟ أو تلك المدينة التى تصل إلى الثورة والانفجار فى «متروبوليس»؟ وهل يمكن بسهولة نسيان المدينة المغلقة ضمن لعبة تجعل العالم كله يتفرج على فرد سجين ووحيد فى فيلم «ترومان شو»؟
«المدينة فى السينما» ثمرة إبداع ذاتى منحاز بكل تأكيد، ولكنها تكشف فى الوقت نفسه عن تطور الحداثة وما بعد الحداثة، فى مجال العمارة والعمران والتخطيط، فالاتجاه ــ مثلًا ــ إلى تفكيك المدينة فى شكل مجتمعات مغلقة ومراقبة (كومباوندات مثلًا)، سرعان ما وجد صداه فى أعمال سينمائية انتقادية أو ساخرة، والحنين إلى مدينة الخمسينات كـ «يوتوبيا مفقودة» سرعان ما قوبل بسخريةٍ واضحة فى أفلام مثل «بليزانتفيل»، والتوترات العرقية فى أمريكا سرعان ما رأيناها على الشاشة فى أفلام «تنبؤية» لا تُنسى مثل فيلم سبايك لى «افعل الشىء الصحيح». كعاشقٍ للمدن وللأفلام استمتعت بهذا المزيج بين الأماكن والبشر، وبين نظريات الاقتصاد والاجتماع، وبدا لى فى النهاية أن مدينة تنتهك حرية الفرد وإبداعه، وتعزله عن بقية البشر تحت أى مسمى، هى مدينة فاشلة مهما ارتدت من أقنعة الحداثة، وما بعد الحداثة. وليس هناك فن مثل «السينما» انتقد صناع مدن الروبوت، ومراقبى الناس عبر الشاشات، ومهمشى الفقراء فى الأحياء البائسة.. «مدن سينمائية» من أهم وأعمق وأمتع كتب هذا العام.
الشروق المصرية