في تصديره للرواية السيرية “الخواجاية” (دار الشروق) للكاتبة المصرية فيموني عكاشة يتوقف القاص محمد المخزنجي أمام مفارقة الاسمين “فيموني” بصوتياته الأوروبية، و”عكاشة” بشيوعه في مصر. وترجع الساردة هذا الاسم الغريب إلى كونها ابنة رجل مصري يدعى أنور، وامرأة هولندية تدعى “غيردا”، فبعدما اختار الأب اسم ولديه: عبدالله وكمال، على اسم أبيه وأخيه، أراد أن يرضي زوجته، فاختار هذا الاسم المركب الذي يجمع بين اسم “فام”، أم زوجته، و”خوني” اسم أختها، فكانت “فيموني” بعد حذف حرف الخاء لثقله في النطق.
والرواية موصوفة بأنها “سيرة روائية”، أي إنها تجمع بين فني السيرة والرواية، والحق أنها سيرة “غيرية” أكثر من كونها سيرة “ذاتية”، فهي مسرودة على لسان الابنة “فيموني” التي ترصد قصة حياة والدتها التي انتهت حياتها بالخرف والتيه وفقدان الذاكرة، بعد أن كانت تتمتع – كما يلاحظ الجميع – بذاكرة حديدية، من دون أن يخلو السرد من إشارات من سيرة الابنة. والأم هنا هي المقصودة بوصف “الخواجاية”، وهي مؤنث لفظة “خواجة”، التي جرى إطلاقها في الأوساط المصرية على كل أجنبي، خصوصاً إذا كان غير مسلم.
ولا يعنينا الآن محاولة “تجنيس” هذا العمل كأن نقول مثلاً إنه “رواية السيرة الغيرية”، على غرار ما يعرف بـ”رواية السيرة الذاتية” بوصفها جنساً هجيناً يجمع بين السيرة والرواية. فالعمل الذي نحن بصدده أوسع من ذلك، إذ يستعرض تاريخ فترة طويلة من التحولات المصرية، إضافة إلى الحديث الموجز عما حدث في هولندا خاصة أثناء الحرب العالمية الثانية وتعرضها للاحتلال الألماني، ومعاناة شعبها من الفقر وندرة الطعام.
تغطي الرواية الفترة من أوائل الستينيات، وصولاً إلى ثورة يناير 2011. والكاتبة لا تستعرض هذا التاريخ، سواء الهولندي أو المصري، إلا من خلال تصوير انعكاساته على الشخصيات التي تحرص الساردة على ذكر أسمائها الحقيقية التي ترد في بعض المواضع على لسان الأم حين تقول: “كان لدي زوج وسيم يحبني كثيراً، ولديَّ عائلة وأحفاد، لا أعلم أين هم جميعاً الآن، لا توجد إلا ابنتي معي وأحياناً ما أرى أبي، تقول فيموني إنه ابني عبدالله وليس أبي”. ومن هنا تأخذ الرواية طابعاً توثيقياً تحرص عكاشة على تأكيده من خلال تضمين الرواية لصور هذه الشخصيات على مدار صفحات كثيرة.
الزمن الاسترجاعي
تبدأ البنية الزمنية من سنوات “غيردا” الأخيرة، بعد دخولها في مرحلة الخرف والتيه، ثم وفاتها. تقول الابنة الساردة: “أذهب لغرفتها التي لم أدخلها منذ رحيلها، ربما أستنشق رائحتها أو أسمع حفيف خطواتها، وهي تداعبني وتقرصني في صدري”. ومن هذه اللحظة الحاضرة تبدأ رحلة الاسترجاع من خلال المذكرات التي تركتها “غيردا” في درج خزانتها، مما يترتب عليه تراوح السرد بين ضمير الغائب الذي يتجلى فيما تحكيه الابنة عن أمها وعائلتها، وضمير المتكلم الذي يظهر فيما ترويه الأم عن نفسها في فترات حياتها المتعاقبة: “اسمي غيردا يوحنا زيلهورست… لا أعلم سني الآن بالضبط، أظن أنني في الرابعة والستين، وقد أكون في السادسة والستين، أما ابنتي فتقول إنني في الرابعة والثمانين، ولكنني لا أصدقها”. ويستمر السرد في عودته إلى الوراء، فنتعرف على حبها لـ”أنور”، مهندس النسيج المصري، في حين كانت هي جليسة أطفال. ترى “أنور”، فتقع في حبه، فقد كان، كما تصفه، وسيماً مرحاً كريماً.
ويبادلها “أنور” هذا الحب ويقرر الزواج منها رغم معارضة بعض أسرته لكونها أجنبية. والساردة حريصة دائماً على كسر الإيهام بأننا أمام عالم تخييلي، فتقول: “قررت أن أبدأ الكتابة عن حكاياتها، عن عائلتها التي لم تتوقف قط عن ذكرها، وأن أذكر اسمها الذي سخرت منه في صغري”. ولا شك أن أهم ما رصدته الساردة أن هذه الأم لم تعانِ من صراع “هوياتي” بين كونها هولندية في الأصل ومصرية بالانتماء، بل إنها حرصت على أن تزرع في أبنائها حب مصر بعدما عشقتها وعاشت في قلب مجتمعها، سواء في المحلة الكبرى أو القاهرة أو الإسكندرية أو مديرية التحرير. وتجلت هذه الهوية المصرية في اللهجة الدارجة التي لم تتردد الساردة في تضمينها داخل السرد الفصيح.
لم تعشق “غيردا” في حياتها سوى الأطفال والموسيقى وهما – ببراءتهما – النقيض الواضح لمآسي الحرب والقتل والدمار: “تركت الحرب آثارها علينا جميعاً حتى إني لم أتلقِ تعليماً منتظماً ولا جيداً أثناءها”. ووسط كل هذا كانت الموسيقى الشيء الوحيد الذي حاولت تلك العائلة الحفاظ عليه في أثناء سنوات الحرب بوصفها تشبثاً بالحياة. ولم تكن هذه هي الثنائية الوحيدة في الرواية، فهناك الهويتان المشار إليهما: الهولندية والمصرية، تقول الابنة: “ظلت تلك الخطابات – خطابات أمها – حاجزاً بين عالمين منفصلين، حياتها التي ظننت أنني أعرفها: أمي الخواجاية التي عاشت سعيدة في بلدها مصر، وحياتها الأخرى في عالم آخر وثقافة ولغة مغايرتين”.
وهي – كما نلاحظ وعلى رغم الاختلافات – ثنائية تكاملية أو متصالحة. أما الثنائية المتصارعة فتتمثل في طائفتي البروتستانية والكاثوليكية، وهو صراع ترجع أصوله – كما تقول الأم – إلى “القرون الوسطى، عندما اعتنق كثير من الهولنديين المذهب البروتستانتي، بعدما تأثروا بالتعاليم اللوثرية، وحرق البروتستانت آنذاك الرسومات التي كانت تضج بها الكنائس الكاثوليكية، واضطهدوا الكثيرين منهم”. وهناك ما يمكن أن نسميه بالثنائية الصحيحة التي تفرق بين اليهودية والصهيونية على رغم توحيد الكثيرين بينهما، تقول فيموني: “كانت الحروب التي خاضتها مصر مع إسرائيل، وسياسة عبدالناصر وطرده لليهود المصريين، قد جعلت العائلة – عائلة أمها – تخاف أن يوصموا بالصهيونية”.
تحولات السبعينيات
كانت المحلة الكبرى شبيهة الإسكندرية في كونها مدينة يقطنها أناس متعددو الجنسيات، علاوة على كونها إحدى القلاع الصناعية في فترة الستينيات، تقول الساردة: “لم يقتصر وجود الأجانب في المحلة على هؤلاء المتزوجات من رجال مصريين، بل كان هناك كثير من الخبراء الذين يأتون إلى شركة مصر للغزل والنسيج، اختلفت جنسياتهم حسب سياسة مصر تجاه الدول في كل وقت”. وبعد هذه الحقبة التي شهدت نهضة صناعية كبيرة على رغم القمع الناصري الذي حكته فيموني نقلاً عن أبيها، شهدت السبعينيات انتكاسة صناعية، وشيوع الفساد الذي تسلل لإدارة المصنع الشهير، وظهور علامات الثراء غير المبرر على البعض، وانتشار السرقة والتضييق على العمال، وتردي التعليم وانتشار شيوخ الكاسيت الذين اهتموا فحسب بالإسلام الطقوسي.
تقول الساردة إن “أكثر ما كان يثير أمي في تلك الفترة هي خطب الشيوخ الجمعة لتشددها”. وأدى هذا التشدد إلى شيوع الفتنة الطائفية: “حكت لي أمي عن قريبة لأبي، أنه كان يتندر معها ويقول: يجب أن نزوج ابنك بفيموني، فردت بحسم: لن أزوج ابني لمسيحية”، على رغم علمها أن “فيموني مسلمة” لأبيها وأن أمها أسلمت قبل زواجها. ومن الواضح تداخل العام والخاص فقد كانت ثورة يناير المصرية محفزة لفيموني للخلاص من زواجها الذي كانت تستشعر قيوده وفتوره، “لم تكن الثورة تحدث في مصر فحسب، بل في داخلي أيضاً. ثرت على زواجي الذي فتر، وعلى عملي الذي استنفد كل طاقتي لسنوات طوال. شعرت أن حياتي تسير بالتوازي مع الأحداث المتفجرة”. لا نستطيع، بعد كل هذا، أن نقول إن هذه الرواية سيرة ذاتية أو غيرية، وحسب، فهي كذلك سيرة وطن تتداخل أحداثه مع مكنونات الذوات الواردة في السرد.
اندبندنت عربية