جراء تعقيد اللحظة الراهنة، وإدلاء كل من يفهم ولا يفهم بدلوه في واقع يلعب فيه الخطاب دورا لا يقل أهمية عن دور السلاح يعود بنا الكاتب اللبناني المرموق إلى الصين في القرن التاسع عشر وإلى الطريقة الصينية المسماة بـ«الجاهرية» كي يزيح الركام الفاسد ويكشف للقارئ عن جوهر ما يدور.

إسمه الشّهيد

عـامـر محسـن

 

«التّشكّي الى السماء» هو تقليدٌ راسخ في الأدب الصيني التراثي، حيث يقوم الكاتب بالحديث مباشرةً مع السّماء ومساءلتها عن مظالمٍ يعتبر أنها قد وقعت عليه وآذته … توجّه جانغ الى الله طالباً سبباً وتفسيراً لتاريخ المعاناة الطويل الذي مرّ على الصوفيّين في الصّين، وقد طرح ثلاثة اسئلة: ذاك الحمل يا الهي، الذي كان قرباناً افتدى ولد ابراهيم، متى يا ترى سيظهر لنا؟ أم هل تقصد أنّه قد كُتب علينا، أتباع الطريقة الجاهريّة، أن نكون نحن الحمل؟ وماذا يعني ذلك؟ هل هو يعني أن السلطة القاهرة، التي تقترف المعاصي والاثم والفساد، هي اذاً اسماعيل السّعيد؟»
من مقال ستيفان هينينغ عن الكاتب الصيني جانغ تشنغجي في دورية «دراسات مقارنة في المجتمع والتاريخ»، العدد 51، سنة 2009.
عام 1871، في اقليم نينغشيا في شمال الصّين، كان المرشد الخامس للطريقة الصوفيّة الصينيّة المسمّاة بـ«الجاهريّة» محاصراً في حصنه، وقد وصلت الحال الى حافّة اليأس. كان المرشد قد الجأ عنده عدداً من المسلمين الفارّين، بعد تمرّدٍ فاشل ضد الدولة، وتعهّد بحمايتهم.

فلاحقهم الجيش الامبراطوري ووضع أتباع الجاهريّة في مرمى الانتقام: حاصر مدنهم وقلاعهم وواجههم بقوّة فائقة وسدّ في وجههم السّبل. في ليلةٍ بعد اشتداد الحصار، وجيش السلطان معسكرٌ خارج الأسوار، توجّه المرشد - وكان اسمه ما هوالونغ - الى الشّيخ سائلاً ايّاه عن أثمن أضحيةٍ يمكن أن يقدّمها المرء في العيد. وبعد حوارٍ قصيرٍ مع الامام يشرح المرشد أنّ الأضحية الحقيقية ليست حين تقدّم نعجةً أو ناقةً، بل هي تتمثّل في النبي ابراهيم حين سلّم ابنه للموت. ثمّ أضاف: «ومن أجل انقاذ الجماعة، لقد قرّرت، فسوف أقدّم نفسي أضحيةً». ثمّ خرج برجليه من البوّابة وسار الى جهة العدوّ ليسلّم نفسه الى قائد المعسكر. لم يتمّ إعدام ما هوالونغ مباشرة، بل تمّ تعذيبه ببطء على مدى شهرين قبل أن يموت، وقد قتل الجيش الامبراطوري كلّ فردٍ من نسله تمكّن من الوصول اليه - أكثر من ثلاثمئة من أقاربه بالاجمال. ولكن على الرّغم من ذلك فإنّ تضحية المرشد قد أوقفت الحرب فعلاً، ونجّت الجماعة من خطر الإبادة.
هذه من القصص الكثيرة التي يرويها الكاتب الصيني جانغ تشنغجي عن تراث الطريقة الجاهريّة في كتابه الشهير «تاريخ الرّوح» (يبدو أنه كان من الكتب الأكثر مبيعاً في الصين وقت صدوره في أواسط التسعينيات). والجاهريّة طريقة صوفيّة دخلت الى الصّين في القرن الثامن عشر عبر «وليّ» صينيّ ارتحل الى اليمن وتعلّم فيها قبل أن يعود الى بلاده ويؤسّس جماعته. واسم الجاهريّة يأتي من مبدأ «الجهر» بالمعتقد، ومذهبهم يقوم على أن تصمّم حياتك بحسب قناعاتك والتعاليم التي تعتبرها أخلاقيّة، وأن تعيشها بوضوحٍ مهما كان الثّمن. لهذا السّبب تعلي الجاهريّة من مقام الشجاعة والتضحية، ولهذا ايضاً فإنّ لها سلسلةُ من القادة - «مرشدون» - سقطوا كلّهم شهداء في وجه الدولة (يقول انتوني غارنو، في بحثه عن جانغ تشنغجي والطريقة الجاهريّة، أنّ ذكر الطائفة في أرشيفات دولة ال»تشنغ» ومراسلاتها لا يأتي الا على صورة تمرّدٍ لهم هنا أو حربٍ ضدهم هناك). وقد قرّر الكاتب الصيني جانغ تشنغجي، حين تعرّف الى الطائفة وأصبح من مريديها، أن يكتب تاريخها عبر سلسلة المرشدين الشهداء، بدءاً من أوّلهم الذي قتلته دولة التشنغ في أواسط القرن الثامن عشر ووصولاً الى المرشد السابع الذي مات عام 1920.

قصّة حياة جانغ في ذاتها مثيرة: مع أنّه ينحدر من أسرةٍ صينيّة مسلمة من قومية ال»هوي»، الّا أنّه كان في شبابه شيوعيّاً متحمّساً، ومريداً مخلصاً لماو تسي تونغ في مرحلة «الثورة الثقافية»، وهو ولاءٌ لا يزال يجاهر به الى اليوم. بل إنّ هناك نظريّة قويّة عن أن جانغ تشنغجي كان هو أوّل من استخدم تعبير «الحرس الأحمر» (وقد صاغ المصطلح في رسالةٍ وجهها الى ماو في الستينيات جاء فيها «نحن اذاً حرسك الأحمر»). بعد انقضاء الثورة الثقافية و»المرحلة الايديولوجية» أصبح جانغ انثروبولوجياً وروائياً، ونشر كتباً وقصصاً عن أهل منغوليا الداخلية (المنطقة الطرفية التي أُرسل اليها في السبعينيات وعمل في نواحيها وقراها) وعن حياتهم البدويّة وحكاياتهم وفولكلورهم. كان جانغ جزءاً من تيّارٍ أوسع ضمن الأدب الصيني صعد في تلك المرحلة وسمّي بجيل «العودة الى الجذور»، حيث أصبحت القصص تتمحور حول الأرياف والأطراف، والأقليات العرقية والقومية. كانت أكثر هذه الكتابات طريقة مواربة لنقد مجتمع المادية والاستهلاك الذي قد بدأ يظهر في الصّين، فقام هؤلاء الكتّاب بتسليط الضوء على الأطراف والهوامش بدلاً من المركز والمتن، وبحثوا عن المعنى في الخصوصي والمحلّي وليس في الايديولوجيا والمثل المتعالية. في احدى زياراته الى شمال الصين وجد جانغ نفسه، بالصدفة، في قريةٍ يسكنها مسلمون من الطائفة الجاهريّة، وبعد أن تعرّف اليهم واستضافوه مرّ هناك، في ليلة شتاءٍ قارسٍ وعاصفة ثلجية، بتجربةٍ روحيّة يقول أنّها بدّلت حياته: جعلته يعود الى الاسلام ويعتنق الطريقة ويصبح فرداً من الجماعة. ثمّ جلس هؤلاء القرويين معه لأشهر وهم يروون له تاريخهم وقصص اسلافهم وتضحيات قادتهم، ليقوم جانغ بتدوين وتوثيق هذه الروايات ونشرها في كتابه الشهير «تاريخ الرّوح»، وهو خليط بين الرواية والتأريخ والأرشيف.

الشهيد حسن نصر الله، بالمقابل، سوف تبكيه أمّةٌ كاملة من النّاس، جلّها من الفقراء والمستضعفين. بعضهم سيبكي في صمتٍ وبعضهم الآخر في السّرّ. أمّا عن أعدائه وقتلته، فنحن والزّمن كفيلين بهم. كنت في الصّين مؤخّراً وقد حاولت العثور على أعمال جانغ تنشغجي ولم أوفّق. لم تصدر للكتاب سوى ترجمة انكليزية وحيدة، في «تايبة» في أواخر التسعينيات، وهي غير مقرصنة أي انّها ليست متاحة لي ولأمثالي. وهناك في بيجينغ شرح لي خبيرٌ في التاريخ الصيني القديم أنّ أعمال جانغ ليست منتشرة اليوم لأنّ المؤسسة الثقافية لا تحبّ كتاباته وأفكاره. المشترك الذي وجده جانغ بين الماويّة والجاهريّة هي فكرة أن تعيش حياتك وفق قيمٍ ومبادىء معيّنة، وأن تلتزم بهذه «الحياة الأخلاقية» حتّى وإن كان العالم من حولك لاأخلاقياً. لهذا السبب كان من المنطقي أن تصبح فرقةً مثل الجاهريّة خصماً «طبيعياً» للدولة وأن ينتهي قادتها شهداء، يقول جانغ، فهما نقيضان لا يمكن أن يتعايشا: الجماعة والرّوح مقابل الادارة والبيروقراطية، التضحية مقابل الماديّة، والجّهر مقابل الامتثال. يكتب ستيفان هينينغ في دراسته عن الكاتب الصيني أنّ جانغ تشنغجي قد قارب تاريخ الجاهرية عبر تفسيرٍ خاصّ صاغه لمفهوم الأضحية والقربان الابراهيمي. اعتبر جانغ انّه كان مقدّراً أن يتمّ قمع الجاهريّة حتى تفرض الدولة الامبراطورية كيانها وناموسها. الجماعة الصوفيّة، بمعنى آخر، هي بمثابة «قربان» كان لا بدّ من التضحية به لكي يحيا نقيضها، ولكي تلتئم الصّين - الدولتية الماديّة - وتستقرّ كما هي. كان الجاهريّون مستعدّين دوماً لدفع هذا الثّمن، وهم يفتخرون بالشهادة والتضحية ولكن، يضيف جانغ (كأنه «هادي علوي» من الصّين)، ماذا تخبرنا هذه السيرة عن طبيعة الدّولة والسّلطة؟ وما هو هذا الكيان الذي لا يمكن أن يقوم ويكتمل الّا عبر سحق أفضل العناصر في المجتمع وأكثرهم أخلاقيةً وشجاعة؟

قد نكون نحن أكثر من يفهم هؤلاء الناس في عصرنا الحالي، نحن الذين أصبحنا أعداء للنظام والسّلطة في العالم بمحض وجودنا، وكوننا لم نتبع دين الامبراطور. البارحة فقد النّاس مرشدهم، لأنّه كان النقيض الحقيقي لكلّ المنظومة التي تحيط بنا، وفي الأخلاق قبل السياسة. عبّر لي أحدهم قبل فترةٍ عن صدمته وخيبة أمله من رد الفعل العربي والشعبي تجاه مذبحة غزّة، وكيف أنه لا يرتقي البتّة الى مستوى الحدث وتاريخيته. هذا، عندي، ليس حكماً على الجماهير العربيّة و»الناس العاديّين»، الذين يفتقرون الى التنظيم والتسييس، ويعيشون يوميّاً تحت حملات الافقار والاخضاع والتضليل. بل هو دليلٌ على نجاح النظام العربي - الاسرائيلي في الهيمنة على الثقافة العربية خلال العقود الماضية، وإعادة تشكيلها - بشكلٍ جذريّ - وخصيها بالكامل. هو يظهر لك كيف أصبح المثقفون والنخب، والفئات التي يفترض بها أن تشارك في التنظيم والتنظير وخلق حالة ثوريّة، امّا يعملون في خدمة النظام، أو تم تحييدهم، أو دفعوا لمغادرة أوطانهم.
ثمّ لديك، على المقلب الآخر من كلّ هذا، الشهيد حسن نصر الله. كان بمجرّد وجوده عدوّاً ونقيضاً لهؤلاء وما يمثّلون. حتى لو أنّه لم يعادهم فهم كانوا سيعادونه. وهذا نوعٌ خاصّ، غريزي، من الخصومة. مع أنّه سياسي ظاهراً الّا أنّه يتجاوز السياسة: انظر الى العرب الذين أصبحوا تابعين، الى الفئات البورجوازية الحقيرة في لبنان وغيره، الى كلّ من اشتراه رأس المال الخليجي والغربي. خصومة هؤلاء مع الشهيد كانت أعمق من خصومتهم مع أيّ طرفٍ آخر، فهو لا يطرح برنامجاً سياسياً يعارضونه، بل يمثّل نظاماً للحياة والعيش يتناقض بالكامل معهم ومع أسباب وجودهم. الموضوع هنا ليس «ايديولوجياً»: حين اجتمع هؤلاء كلّهم على معاداة السيّد وحاربوه فهم كانوا، قبل أيّ شيء، يدافعون عن مصالحهم وموقعهم الاجتماعي، وهذه أبسط وأفعل ايديولوجيا في العالم (والرهان على القوّة لا يحتاج الى كثير تفكيرٍ وتحليل). انت تجد اليوم بينهم وبين اسرائيل «وحدة حال» حقيقية لم يعد أكثرهم، لحسن الحظّ، يجهد في اخفائها.
ولهذا السبب فهم سوف يرمون الآن بكلّ ما لديهم ضدّكم، وأنا لا أقصد اسرائيل وحدها فاسرائيل ليست سوى رأس الحربة. انت تواجه منظومةً واحدةً متكاملة، تبدأ في واشنطن وتنتهي في الرياض وابو ظبي. وإن نظرت اليهم على أنّهم متفرّقون ومتمايزون فهم بالمقابل يعملون ضدّك سويّة وبتنسيق، وكلّما فهمنا هذا الواقع أسرع كلّما كان أفضل. لا يمكن أن تنتصر في مواجهةٍ وصراع إن سمحت لخصمك بأن يحدّد لك ميدانها. أكثر من ذلك: إن كان هناك من درسٍ لأحداث السنة الماضية، يجب أن يعرفه كلّ فلسطيني وعربي، فهو ليس دعوةً لـ»التعقّل» والخضوع، بل على العكس تماماً. ما حصل في غزّة ولأهل غزّة لم يحصل مثله لا في العراق ولا في سوريا ولا أيّ مكانٍ آخر في بلادنا المنكوبة. المعنى هنا هو أنّ كل تراكم ٍللقوة الأميركية في المنطقة سيدفع ثمنه، أوّلاً، الفلسطينيون، وسيترجم ابادةً وعنفاً جماعياً ضدّهم قبل أيّ طرفٍ آخر. إن كان هناك من درسٍ هنا فهو في التخلّي عن وهم «التوفيقية» واختيار الطريق الوسط، فهو غير متاح. فكرة أنّ قضية فلسطين قد تحلّ، من تلقاء نفسها، بالمناورات والتفاوض أو الفهلوة، أو في اننظار شيءٍ وصفقة يمنّ علينا بها الغرب. أو، باختصار، النمط الشائع بأنك تريد أن تحرّر فلسطين وأن يتوظّف ابنك ويعمل، في الوقت نفسه، في الامارات ودبيّ. إن لم تجعل حرب غزّةٍ هذه الأمور واضحة لك فلا شيء سيفعل ذلك.

لا يقدر المستكبرون على إزالة الفعالية عن شعبٍ عبر قتل قادته. بل عبر تجريده من التنظيم وتفكيك قدراته الجماعيّة و - قبل أيّ شيء - عبر جعل النّاس يتخلّون عن المبدأ ويخافون ويتعلّمون الامتثال. بالمعنى التاريخي، نحن لا زلنا في البداية، والحرب الكبرى التي تجري لا تزال في أوّلها. سوف تظهر الأيّام والسنوات القادمة المعنى الحقيقي لحياة السيّد حسن نصر الله ومعنى شهادته. في الصّين اليوم لا تزال الطريقة الجاهريّة موجودة، وأتباعها يعدّون بمئات الألوف، ومن تقاليدهم أنّهم ما زالوا، مع كلّ صلاة صبحٍ، يردّدون دعاءً موجّهاً لمرشدهم الخامس الشهيد فيستذكرون، في تسعة وخمسين ثانية، الأيام التسعة والخمسين التي قضاها المرشد في الأسر. الشهيد حسن نصر الله، بالمقابل، سوف تبكيه أمّةٌ كاملة من النّاس، جلّها من الفقراء والمستضعفين. بعضهم سيبكي في صمتٍ وبعضهم الآخر في السّرّ. أمّا عن أعدائه وقتلته، فنحن والزّمن كفيلين بهم.

 

عن «الأخبار» اللبنانية