تبدد الباحثة الجزائرية فكرة أن ثمة تناص في رواية الكاتب المصري الشهير، لأن ما بها يتجاوز الاستيحاء إلى الاستنساخ الحرفي برغم إصرار الكاتب على أن نصه لايشبه أباه الذي نقل عنه، كاشفة عن نقله للكثير من النصوص من كتاب «التجليات» و«كتاب الاسرا إلى مقام الأسرى» لأبن عربي، وغيرهما من نصوص المتصوفة

بين التنّاص والاستنساخ النصي الحرفي

بنية الصّوفي في رواية «كتاب التجليات» لجمال الغيطاني: قراءة تناصيّة

أمينة مستار

يعمدُ الناصّّ/ الروائي حين تشكيله أو تشييده لنصّه السّردي بشكل من الأشكال وفي لحظة واعية أولا واعية أحيانا، إلى استدعاء نصوص أخرى ذات أنساق متعدّدة بكلّ مستوياتها الظاهرة والمضمرة، فيقوم باستلهامها واسترفادها لتختلط بتعرّجات متنه وتتفاعل مع مكنوناته، والتي من شأنها أن تقوّض انغلاقيته وتمنحه إضاءات جديدة، وهو ما يمكن أن يحقق الفاعلية المتبادلة بين النصوص داخل النسيج السردي، كيما يتأكّد وفقه مفهوم "عدم انغلاق النص على نفسه وانفتاحه على غيره من النّصوص، وذلك على أساس مبدإ مؤدّاه أنّ كل نص يتضمن وفرة من النصوص المغايرة فيتمثلها ويحوّلها بقدر ما يتحوّل ويتعدّد بها على مستويات مختلفة"(1)، فتغدو الروايةُ بذلك وكأنّها تركيبة نصيّة (combinaison textuelle) تشكلت أجزاؤها من عناصر متباينة وذكريات قرائية عديدة أي ذاكرة نصية تسهم في تشكيل البنية الروائية، وهو ما قد يعني بأنّ كلّ نص في بنيته الخطابية هو حصيلة جملة من عمليات التفاعل بين النصوص التي تدخل في نسيجه(2)، غير أنّ هذا التفاعل والتمازج لا يجعلان من النص المتفاعل والذي يشتغل على آليات التناص نسخة طبق الأصل من بنية النصوص التابعة(3) .

ومنه يمكن القول إنّ النصّ الروائي قد يغتدي بنية تشتغل على نصوص محاذية أو مجاورة أو مغايرة، لكنّها تراهن على نسق لغوي قوامه تحابك اللغات وتداخلها وتمازج الصّيغ والأشكال التعبيرية من خلال فعل تهجيني يجمع بين الوعي واللاوعي في تركيبه، مثل ذلك الذي ذهب إليه الناقد "ميخائيل باختين" في معنى هذا التهجين في الكتابة الروائية على أنّه "المزج بين لغتين داخل ملفوظ واحد، وهو أيضا التقاء وعيين لسانيين مفصولين بحقبة زمنية وبفارق اجتماعي أو بهما معاً داخل ذلك الملفوظ"(4)، ممّا يولد نسقا من المتفاعلات النصية تمتزج فيها موادّ فنية متجانسة وأخرى غير متجانسة داخل وعاء سردي واحد، يلجأ الروائي إلى استثمار طاقاتها التعبيرية والدلالية والجمالية لإغناء نصه وتعميق قضاياه وموضوعاته، فيزجّ بهذه المستنسخات أو ما يسمّى لدى بعض الباحثين بـ "المقبوسات"(*)، بين مفاصل النص عبر افتتان واضح بها فيستحيل المقبوس بهذا "ملهما وكاشفا في الوقت الذي يكون فيه ـ هو نفسه ـ موضع إلهام وكشفا جديدا من المتناص الروائي، إذ يحوّل كلّ منهما الآخر، ويتحول به بالمعنى الدقيق للمفهوم الذي تقدّمه كريستيفا لقضية التناص ومصطلحها فيخلقان معا، وعلى نحو لا يمكن معه فصل أحدهما عن الآخر، الوحدةالإبداعية الجدلية للنص الروائي"(5).

وهكذا يمكن أن ينشأ حوار بين النص والنصوص الثقافية الأخرى المقبوسة بمختلف أصنافها التعبيرية، ومن ثَمّ تواشجها بعلائق جديدة وجعلها وحدة دالة أو منحها دلالات مغايرة للدّلالات التي كانت تتميّز بها ضمن سياقها السابق وموضعتها في سياق جديد، فتأخذ المتفاعلات على هذا النحو مواقعها التي توضعّت عليها داخل السياق السردي، وبالتالي يمكن أن تؤدّي جملة من الوظائف الدلالية والفنية والتشكيلية للنص، بخاصة إذا ما اعتبر التفاعل عنصرا مكوّنا للأدب على وجه العموم، بل هو ظاهرة تمثل جوهر الحركية النصية التي يراهن فيها على سلطة النص والمرجع،أو إذا ما اعتبر الآلية الأساسية لكلّ قراءة أدبية لأنها وحدها التي تنتج الدّلالية(6) signifiance.

إنّ هذه المتفاعلات النّصية أو ما يمكن أن يسمّى أيضا بالمتناصات، قد تكون تراثية كما قد تكون حديثة ومعاصرة، عربية أو أجنبية، تتفاعل فيها الآثار الدينية مع التاريخية مع الأدبية فضلا عن الشعبية، ممّا قد يشكل شبكة تلتقي فيها نصوص عديدة مستمدّة من ذاكرة الروائي ومخزونة حيث يختلط القديم بالحديث والأدبي بغير الأدبي، واليومي بالتراثي أو الخاص بالعام والذاتي بالموضوعي، إلى درجة يصعب فيها تحديد مصادر كل النصوص المقتبسة(7)، وهو ما يمكن تلمّسه والوقوف عليه في نص "كتاب التجليات، الأسفار الثلاثة" للغيطاني، الذي يبدو أنه يحتشد بتفاعلات نصية متنوّعة المصادر والأشكال يتداخل فيها الشعري مع النثري والقديم مع المعاصر، واليومي مع التاريخي، والواقعي مع العجائبي، والأدبي بغيره، والدّيني مع الصوفي، وغيرها من المتفاعلات التي حاول الروائي أن يستوحيها ويغذّي من خلالها الأنساقَ والرؤى الروائية بمؤونة سردية ذات خصوبة وثراء بالغين، ممّا يعمل على مضاعفة الطاقة الحكائية وشدّ أحداث الرواية ضمن فضاء متحرّك ومتداخل الأشكال والوظائف، كما أنه حاول أن يستثمرها من خلال تكسير النّمط الفني المغلق، وجعله مفتوحا على شكل هجين يتحاور مع أساليب فنية متعدّدة، ليقوم بتنقيحها حينا واستنساخها أو إعادة صياغتها ثمّ معارضتها والتناص معها حينا آخر.

إنّ «كتاب التجليات» ينبني على بنية فنية تنطوي على أساليب تتعدّد مناخاتها ومظانها وتنهض على عنصر الاغتراف من الذاكرة والتراث الثقافيين العربيين، وتذويب المستنسخات النصّية المستوحاة منهما داخل أعضاء النص ومزجها بمادته وروحه، فتصير كأنها نسيج واحد يضمّ وحدات سردية تثري كلها الخطاب الروائي، وتحدّد وظائفه الجمالية والفكرية، ولعلّ هذا الصّنع لا يتمّ إلا من خلال إعادة كتابة النص المتكئ على مجموعة من النصوص السابقة بوعي خاص، وهو ما قد يذهب إليه كتاب التجليات في هذه التجربة لا سيّما أنّ الرواية في نظر أحد الباحثين هي نوع فنّي جديد ينبني على التعلق والاختراق ثمّ الهدم وإعادة البناء وكذا الاستيعاب والإنتاج(8).

يبدو أنّ الفعل الصّوفي يمضي بعيدا في كتاب التجليات بأسفاره الثلاثة عبرَ لغة الكشف والاكتشاف والغوص في المجهول والانخراط في عالم روحاني عجائبي، ويتجلى ذلك بشكل واضح من خلال الهاجس الصوفي الذي يغلف كافة لغة التجربة الروحانية التي يعايشها السارد أو البطل بضمير المتكلم طيلة الرحلة المعراجية الخيالية التي تقوده نحو عالم سماوي غيبي، وهو معراج شبيه بالمعراج الروحي لدى المتصوّفة، وتكون الرحلة على شكل رؤيا لا تخلو من سمات الحلم والمشي في الهواء، وهي إحدى الكرامات في الثقافة الصوفية فيرحل الراوي في هذا المعراج الخيالي متنقلا خارج واقعه الأرضي المادي المحصور بقيود الزمن والمكان، وقد تشرّب النص عناصر وإشراقات اللغة الصوفية بالتفعيل والمحاورة، متقمّصا الرؤيا الصّوفية التي تأخذ شيئا من حلم النوم والبعض الآخر من حلم اليقظة، ليتيح حرية الحركة في التنقل بين الأزمنة والشخوص والأشياء والموجودات، فالرؤيا في العرف الصوفي هي أن يخلق الله في قلب النائم ما يخلق في قلب اليقظان، بحيث تنبثق لدى المتصوفة في الغالب إمّا من الرؤيا المنامية أو الإلهام أو من خلال صوت الهاتف(9)، فيلجأ حينئذ المتصوّف العارف الذي منّ الله تعالى عليه بذلك، بكل توقان إلى سرد هذه الكرامة، وقد كان السّارد في بداية عروجه قد تمثل هذا النوع من الرؤيا الصوفية في قوله "وفجأة عند ساعة يتقرّر فيها الفجر صاح بي الهاتف الخفي.. يا جمال"(10)، وفي قوله أيضاً.. عند اللحظة التي يتقرر فيها الفجر وليال عشر، خفق قلبي في صدري خفقة كاد ينخلع منها، هلعت، ولم أر نفسي، إن الإنسان كان هلوعا، خاصة إذا جاءه الهاتف الذي لا يأتي إلا في اللحظات الجسام، لينبئ بالجلل من الأمور، أو لينذر بأمر عظيم، لكنه لا يبوح، "لا يفصح"(11)، أو في قوله "تجلّ وتجلّ، إن النائم يرى ما لا يراه اليقظان"(12).

لقد دفعت متعةُ الحكي المتصوّف/ السارد (الرائي) الذي يرى حلما في نومه إلى أن يتحوّل إلى راو يقوم بقصّ ما رآه في منامه، ومن ثمّ تتحول الرؤيا إلى نص يُحكى يعمد فيه الراوي إلى سرد ما رآه، دون أن يكلف نفسه مشقة التنسيق إذا افتقد النظام أوالزيادة أو النقصان(13)، ومنه تكون الرؤيا حافزا سرديا للتواصل مع الغير، وهي حالة من حالات الوجد الصوفي، المعبّر عنه في التجربة الصوفية بالشطح بحيث إن العارف حين دخوله في المعرفة، تكون علامته الأولى في ذلك ما يعرف بالشطح، ومن لم يبلغ مرتبة الشطح لا يصحّ أن يسلك في عداد العارفين الحقيقيين(14). كما قد نلفي صورة أخرى للمعراج الصوفي وشطحاته والتي استلهمها نص "كتاب التجليات"، وهي اكتساب السارد لطبيعة فوق بشرية خارقه مثل تحليقه وطيرانه في الهواء أو تنقله في الفضاءات والبلدان والأزمنة كما يشاء.. "لكنني انتبهت إلى أنّني طاف معلق، لقد صرت في خلق جديد"(15)، "هكذا ارتفعت رأسي بعد أن ألقيت نظرة التياع على بقية جسمي، سبحت في سماء مدينة الكوفة، رأيت من عل عال المدينة مضمومة، ملمومة مضمّدة بالنخيل والشجر، ثمّ تزايد ارتفاعي"(16).

ولقد سئل "أبو يزيد البسطامي" (ت 261ه) عن المشي في الهواء فأجاب قائلا: "إذا طابت نفس بقلبه وطرب قلبه بحسن ظنه بربّه، وصحّ ظنه بإرادته، واتّصلت إرادته بمشيئة خالقه، فشاء بمشيئة الله، ونظر بموافقة الله، وترفع قلبه برفعة الله، وتحرّكت نفسه بقدرة الله، وسار حيثما شاء هذا العبد بمشيئة الله تعالى، ونزل حيث شاء الله في كلّ مكان علما وقدرة"(17). إنّها جملة من المكابدات الصّوفية التي حملها الروائي لبطله الراوي المتماهي مع مرويه، والسّاعي في حيرة نحو معرفة المطلق وتجلياته التي تشرق في الذات وفي الوجد "يا حبيبي لا تحجبنّك الحيرة عن الحيرة، أنّى لَلمُقيَّد بمعرفة المطلق"(18)، وقد جلل ذلك كلّه معجم صوفي متعدّد الألفاظ والتعابير والمصطلحات التي تردّدت في النص الروائي مثل (السفر، المقام، الحال، الوصل، القبض، البسط، الزمزمة، الأبدال، الفوت، المدرج، الجمع، الموقف، الغربة، الحلول، الحبّ، الرؤيا، الدّيوان، الجهات، المنازل، النشأة...) وغيرها من عناصر وقرائن التجربة الروحية المتصوّفة وباطنيتها، وهو ما يؤكد الطابع الصوفي لهذه الرواية التي يمكن إدراجها ضمن الروايات الصوفية على الرّغم من هويتها السّردية، حيث يذهب أحد الباحثين في هذا السياق إلى اعتبار نص "كتاب التجليات" "نصا يمتح من الخطاب الصوّفي تقنيته وأبعاده ومراميه، في الوقت الذي يعمل فيه على التماهي مع نص واحد ظاهره تصوّف وباطنه سرد روائي"(19).

بمعنى أنّه إذا كان النّصُ الروائي هنا رؤية أدبية وفنية، فهي تمتزج من وجه آخر بالرؤيا الصوفية التي اتخذت من المعراج ولو على المستوى الأفقي ـ أي ليس صعودا من سماء إلى سماء كما في العروج الصوفي بل في فضاء الأرض ـ أسلوبا رمزيا في حركة السّارد وترحاله الصوفي، مثله مثل الساّلك لدى الصوفيين الذي يسافر من أجل امتلاك حقيقة الإنسان الكامل أو الوصول إلى الحقيقة والمطلق، ولكنّه يستعين في ذلك بمعرفة المفاهيم والمعاني الصّوّفية لتُعينه على امتلاك قبس المعرفة الإشراقية، وترشده في سفره الوجداني نحو التجليات الربّانية. ويمكن التدليل على حركة الرؤيا والعروج بقول السارد في جوّ صوفي خيالي يثير الدّهشة والغرابة "رأيت يد الشيخ الغريب تشير إلى بداية قوس قزح التي تكاد تلامس الأرض، فسلمت سلام المقبل على رحيل طويل ولا يدري من أمره شيئا، ثمّ لامست بقدمي بداية ألوان الطيف، وبسرعة بدأت ارتقي، وقبل أن يرتدّ إلي طرفي كنت أمضي صعدا في الفراغ..."(20).

هكذا تنحو رواية التجليات نحوا رؤيويا صوفيا في إطارها العام، من خلال تشرّبها الأسلوب الصّوفي ومناصاته، وتمثّل العديد من مصطلحاته ومفاهيمه، انطلاقا من مصطلحين رئيسين في النص وهما السّفر والتجلي اللذين يشكلان منذ العنوان أقنومين صوفيين في بنية النص، وقد انقسم العمل الروائي في مجمله إلى تجليات وأسفار ومقامات ثمّ أحوال، وأمّا التجلي فيعرف لدى الصوفيين بأنه "ما يتكشف للقلوب من أنوار الغيوب"(21)، ثمّ السفر الذي يعتبر هو الآخر "سرّ القلب عند أخذه في التوجه إلى الحق بالذكر"(22)، ويبدو أنّ حقيقة الأسفار في العرف الصوفي عددها أربعة وليست ثلاثة كما جاء في الرواية ولعلّ ذلك كان إغفالا قصديا من الروائي حين جعل الرّحلة المعراجية تقوم على ثلاثة أسفار دون رابع لها، وهو ما قد يفسّره فشل بطله الروائي من بلوغه مراده وهو التجلي، حيث لم يستطع الامتثال لأوامر الديوان البهيّ، فضربت عليه الحجبة الإنسانية، فحُرم من بغيته، وبالتالي لم يحقق من معراجه هذا النتائج التي يصبو إليها السالكون عادة عبر هذه الأسفار في نهاية المطاف "عند هذا الحدّ اضطرّ إلى التوقف، فلم يكن بوسعي إلا الامتثال، بعد أن بدأت صيرورتي تلقى ما لا قبل لي بوصفه أو التعبير عنه، لذا أنهي هذا السفرعلى غير رغبة مني، أما إذا سنحت الفرصة وسمحت الوسيلة فربما جمعت ما تبدّد، ولملمت ما تشظّى، علّي أصوغ يوما القولَ والمخاطبات والسرائر فيتكشف من السرّ قدر جلل"(23).

غير أنّ ابن عربي يرى أنّ الأسفار ثلاثة وذلك في قوله "أمّا بعد فإنّ الأسفار ثلاثة لا رابع لها أثبتها الحق عزّ وجلّ وهي سفر من عنده وسفر إليه وسفر فيه.."(24). من هنا يمكن أن تطرح فرضية أخرى إضافة إلى الفرضية السّابقة، في اصطناع الروائي عنوان نصه من حيث اختيارُ العدد ثلاثة للأسفار تأثرا بتحديد الشيخ إبن عربي وتناصه معه دون غيره. أمّا المقام فيعرّف في الاصطلاح الصّوفي على أنّه "ما يقوم به العبد بين يدي الله عزّوجلّ بالمجاهدات والرياضات والعبادات، ولا يرتقي منه إلى غيره ما لم يستوف أحكام المقام السابق"(25)، وهو يتّصف عكس "الحال" بالثبات والرّسوخ، فالحال قابل للتغيير والانتقال ويقصد به "معنى يرد على القلب من غير تصنّع ولا اجتلاب ولا اكتساب من طرب أو حزن أو قبض، أو بسط، أو هيبة، ويزول بظهور صفات النّفس، سواء يعقبُه المثل أولا، فإذا دام وصار ملكا يسمّى مقاما، فالأحوال مواهب، والمقامات مكاسب، والأحوال تأتي من عين الجود، والمقامات تحصل ببذل المجهود"(26).

تأسيسا على هذه المعاني والتعاريف لبعض مصطلحات الرواية الرّئيسة، قد يسوّغ إمكانية إدراج أحداث هذه الرواية ضمن فضاء ديني متخيّل، يهيمن عليه الجوّ الصوّفي بكلّ إيحاءاته وشطحاته، حيث تتقاطع أنفاس وتجارب الصوّفيين اللامعين بكلّ محمولاتها اللفظية والدلالية الوجدانية، لعلّ من أبرزها تجربة "محي الدين بن عربي" الذي تتجلى بصماته في النصّ بشكل بارز فتفيض لغتُه ونصوصُه في الرواية بل تكاد تكتسح أجزاءها، ممّا ينبئ بحضوره الوجداني في مخيّلة الروائي ومدى منحه مساحة كبيرة لآلية التناص معه، وهو ما يزكيه صاحب النص في بعض أقواله مثل قوله "في نهاية السبعينات كنت اقترب من (الفتوحات المكيّة) للشيخ ابن عربي، كنت اتطلع إليه دائما وأتساءل عمّا يمكن أن يحويه هذا الكتاب الضخم؟ بدأت أقرأه بالفعل مستعينا بمؤلفات أخرى لمعاصرين أو مستشرقين للنفاذ إلى أسراره"(27).

لقد حاول الروائيُّ أن يستوحيَ فكرة الرواية وموضوعها من خلال تجربة ابن عربي وخصوصيتها، غير أنّ البنية العامّة لتصوّر الرحلة وأطوارها وما تضمنته من أحداث وتداعيات، هو ما قد يختلف فيه الروائي عن المتأثر به والمقبوس منه، حين يذهب إلى مبدأ الاستيحاء والاستلهام لا يعني بالضرورة التماثل والاستنساخ، بل إن بنية نص "كتاب التجليات" هي بنية أخرى مستقلة ذات قسمات مختلفة وتنفرد بهويتها الخاصة في مثل قوله "استوحيت الفكرة من ابن عربي، ومازلت مصرّا على أنّ هذا الابن (التجليات) لا يشبه أباه في شيء"(28)، ممّا قد يعني أنّ تجليات الغيطاني التي حملت الرواية اسمها، هي تجليات ذات طابع خاص، تستمدّ مرتكزاتها ومعانيها من التجربة الصوفية التي تقوم على محور خيالي يعتمد على الذهن مثلما فعل المتصوّف "ابن عربي" حين أمعن في قراءة معراج الرسول صلى الله عليه وسلم، لكي تنشط المخيلة لديه فيتصوّر إسراء ومعراجا ذاتيين ينهضان على تخيلات ذهنية محضة بل في الواقع هي أكثر من معراج وإسراء(29).

يأخذ إبنُ عربي خصوصيته وموقعه المتميّز في كتاب التجليات من حيثُ درجة الاستلهام والتناص،لا سيّما من خلال حضور قوي لظلال كتابيه الرّئيسين وهما "الفتوحات المكية"، و "كتاب الإسرا إلى مقام الأسرى"، وما يمثّلانه من تجربة الرّحلة والمعراج في الثقافة الصّوفية. اهتمّ المتصوّفة جميعُهم بدءا من أبي يزيد البسطامي "طيفور بن عيسى" بفكرة المعراج الروحاني إلى عالم سماوي شفاف، ويكون ذلك غالبا في إطار رؤيا مناميّة فينتقل من يسمّى بالسالك في العرف الصّوفي من مرحلة إلى أخرى، ويرتقي من مقام إلى غيره طمعا في النّظر إلى وجه الخالق، محاكاة لعروج الرسول (ص) ومشاهداته ورؤاه الغيبية، اعتقادا من هؤلاء الصّوفيين بأنّ العروج إلى السّماء ومشاهدة الحق الذي اختصّ به النبيّ (ص) يمكن أن ينسحب على بعض الأولياء حيث تختصر آداب السلوك الصوفي، وتتحوّل من بعد ذلك إلى قصة رمزية يعبّر فيها (المتصوف السالك) عن هواجسه، مثلما هو الشأن في قصة "ابن عربي" التي أسماها "كتاب الاسرا إلى مقام الأسرى" حيث يصوّر فيها عروج الروح من عالم الكون إلى عالم الأزل(30)، وهي القصّة التي تأثر بها جمال الغيطاني وحاول محاكاتها في "كتاب التجليات" متّخذا شكلها السّردي منوالا لأحداث الرواية، وقد نلفي في هذا السياق ذلك التناص الجلي بين الصياغتين حين يلجأ الروائي إلى استلهام سمت صياغة ابن عربي، في التعبير عن بنية الرّحلة الرّمزية للراوي (البطل) في تجربته الروحية.

إذ يقول الشيخ ابن عربي في قصة معراجه "قال السالك: خرجت من بلاد الأندلس، أريد بيت المقدس، وقد اتخذت الإسلام جوادا، والمجاهدة مهادا، والتوكل زادا، وسرتُ على سواء الطريق، أبحث عن أهل الوجود والتحقيق، رجاء أتبرز في صدر ذلك الفريق"(31)، وهو ما قد يحاكيه نص "كتاب التجليات" في قول صاحبه "سريت في النور الأخضر، في زمن الزهور المرجوّ، فرأيت نفسي أخرج من مدينة رباط الجميل عند شاطئ المحيط، أرحل وأعبر الحدود بال رادّ أو مانع"(32)، ويقول إبن عربي أيضا في وصف طريق السّلوك والرّحلة، وما تختصّ به من مشاقّ وعوارض "فلم أزل أصحب الرّفاق، وأجوب الآفاق، وأعمل الركاب وأقطع اليباب، وامتطي اليعملات، وتسري ببساطي الذاريات، وأركب البحار وأخرق الحجب والأستار، في طلب علة الصّورة الشريفة"(33)، وهي صورة قصصية يعمد الناصّ إلى استنساخها أو على الأقل استلهامها ولو رمزيا في قوله "بعد طول انتظاري لعلّ وعسى، بعد هيهات قررت الخوض في بحر البداية لم أخش الطرق، ولم أهب البلل، أبحرت وطال إبحاري لقطع المسافات في البحر زمن يخالف زمن البرّ"(34).

لعلّ التداخلَ بين هذه النصوص لا يرتكز فقط على الاستنساخ النصي حرفيا بل يأخذ تمظهرا أسلوبيا حكائيا في صورته العامة، دون الوقوف على النسخ النصي الكامل، وهي إحدى التقنيات التي يلجأ إليها الروائي في محاكاة طريقة الكتابة وملفوظها، غير أنه أحيانا يكشف عن التأثر المباشر والتناص القصدي حين نلفي مقطعا سرديا مستمدّا بشكله ومضمونه من كلام الشيخ "ابن عربي" وذلك في قول السّارد في بعض تجلياته "أخذني البهت، ثمّ الإشراق عندما رنت إلى رئيسة... ما وراءك ياجمال قلت: وجود محدود، ورغبة في وجود غير محدود.. قالت: ما الذي دعاك إلى الخروج؟ قلت حيرتي، وألمي ورغبتي في الولوج"(35)، والذي يتناصّ فيه مع نص إبن عربي صياغة وتركيبا، حين يقول: قال السّالك، فلقيت بالجدول المعين، وينبوع أرين، فتى روحاني الذات، ربّاني الصّفات، يومئ إليّ بالالتفات فقلت: ما وراءك يا عصام، قال: وجود ليس له انصرام، قلت: من أين وضح الرّاكب، قال: من عند رأس الحاجب، قلت له: ما الذي دعاك إلى الخروج، قال: الذي دعاك إلى طلب الولوج، قلت له: أنا طالب مفقود، قال: "وأنا داع إلى الوجود"(36). قد تتجلّى من خلال هذه النصوص المتداخلة، طبيعةُ الاستخدام للنص المقتبس داخل نص الرواية، بصفة يقترن فيها الجانب اللفظي المحض مع الجانب المضموني المشحون بمختلف الدّلالات، لكن مع الاعتماد للضرورة الفنية والسردية على آلية التّعديل أو التحوير والتصرّف في تفاصيل النص ولغته، وهوما يمكن أن تؤدّيه عملية المحاكاة بشتّى تقنياتها التي يعتبرها البعض "عملية تحويل معقدة لنص سابق لأنها تستوجب تمكّنا ولو جزئيا لتقليد النص السابق"(37).

على هذا الأساس تشقّ رواية "كتاب التجليات" منذ بدايتها مسلكا تناصيا في وجهه الغالب، تتداخل فيه جملة من النّصوص، منها ما هو وارد حرفيا مع بعض التعديل الطفيف ومنها البعض الآخر الذي يرد بصياغة معدّلة، لكن تظلّ روحها هي ذاتها وتدل عليها في كلّ الأحوال السّمات اللفظية العامة للغة المقاطع والمقتبسات، ولعلّ أكثر المصادر حضورا وتأثيرا في النص الروائي بكلّ ظلاله التناصية، والتي يبدو أنها كانت أنموذجا فنيا وتشكيليا وروحيا للروائي، هي كتابات ونصوص الصوفي "ابن عربي" كما ذكر آنفا ثمّ يأتي في الدرجة الثانية من حيث التأثير كتاب "الإشارات الإلهية" لأبي حيان التوحيدي (ت 414ه) وكتاب " المواقف والمخاطبات" لأبي عبد الله النفري (ت 354ه)، الذي قد يوحي به لفظ "موقف" المكرّر في المتن حين يرد عنوانا فرعيا لكثير من المشاهد السّردية وغيرها من الصيغ مثل صيغة (قلت وقيل لي)، من ذلك مثلا ما ورد على لسان السارد "قيل لي: كن حشما، أغمض... قيل لي: اعمل الصحبة الجميلة، وأظهر الودّ... قيل لي: الطريق وعر، والمفازة موحشة.. قيل لي: ما تجزع منه اليوم قد تأنس به غدا.. قلت: إني معه بقلبي، ولكن للمحاسبة أوان.. قلت: كيف أصبر على ما أمَرَّ أصلي وأَرسَى كدوراته"(38)، وهذا احتذاء بصيغة فيها كثيرمن الشّبه مع صيغة (أوقفني وقال لي) من كتاب (المواقف والمخاطبات) كأن يقول صاحبه في موضع منه "أوقفني وقال لي: قل لليل ألا أصبح لن تعود من بعد لأنني أطلع الشمس من لدن غابت عن الأرض... وقال لي: قل للباسطة الممدودة تأهبي لحكمك وتزيّني لمقامك واستري وجهك بما يشفّ وصاحبي من يسترك بوجهه"(39).

تتخذّ المناصّات في رواية «كتاب التّجليات» مستويات متعدّدة، تجمع بين الوحدات التناصّية الصّغرى والوحدات التناصية الكبرى، اعتمادا على الاستنساخ النّصي الحرفي حينا، وعلى آلية الاستلهام والتّماهي أو التعالق حينا آخر، وذلك حسب ما يقتضيه المقام السّردي وحاجاته الفنيّة والتّشكيلية في النص الرّوائي، وهو ما قد يتجلى لأولّ وهلة انطلاقا من العنوان باعتباره عتبةً بنوية هامّة من عتبات النص seuils)) أو محيط النص كما يدعى في النقد المعاصر، وهو أحد المتوازيات النصية (paratextes) أوما يسمّى لدى بعض الباحثين بالبرازخ النّصيّة(40)، حين الاشتغال على النّص الصّوفي ومصطلحاته لدلالة اللفظة على ذلك المرجع، ومن هنا يمكن رؤية العلاقة التناصية بتوازي نصٍ ما متمثلا في عتبة من العتبات، بالنصوص التي انطلق وتوازى معها دلاليا ولغويا وفنيا، وقد حاول الرّوائي من خلال وضع عنوان نصّه أن يقوم بهذا النّوع من التوازي النّصي مع عنوانين صوفيين بارزين من مؤلفات الصّوفي "ابن عربي" وهما "كتاب التجليات" و "كتاب الإسفار عن نتائج الأسفار"، مع ما لهذا المتناص من إيحاءات وإحالات دلالية تُسهم في تحديد طبيعة وصياغة العلاقة بين النّص المرجعي والنص الرّاهن.

كما نلفي أيضا متوازيات نصية أخرى داخل النص، حين يوظف عناوين فرعية صغرى يصدّر بها كثيرا من أجزاء الرواية، مثل مصطلحات (إشارة، لطيفة، الفصل، تتميم، تجلّ، حقيقة، بيان، تنبيه، إفصاح)، وغيرها من المسميات الصوفية التي جعلت النص بمثابة بنية لغوية صوفية تتناص مع بنيات الكتابة الصوفية وصيغها، وكأنّ الروائي يستلهم استلهاما شبه كامل طريقة الكتابة وتشكيل النصوص عند "ابن عربي" فيؤثِر الاتكاء على رصيد مفرداته ومصطلحاته، موظفا إياها كما هي في صورتها اللفظية، أو مع بعض التعديل والتحوير، ليجعلها في صدر النصوص الجزئية للمتن، وتسكن النّسيج العام كأنها منه، ولعل ممّا يمكن التقاطه وتسجيله في هذا الشأن جملة من المصطلحات والعبارات التي وردت في أغلبها في الفتوحات المكية، فضلا عن التي ذُكرت سابقا مع أنّ بعضها يتكرّر في شتّى كتاباته وذلك مثل (رقيقة، رقائق، فصل، وصل، وصل في فصل، الاغتراب، الفوت، سفر الأبدال،الحيرة، النشأة الأولى والأخرى، تجلي، مقام الحزن، مقام القربى، الظمأ) وأخرى عديدة تُستدعى حرفيا أو يعمد الروائي إلى إعادة صياغتها بزيادة كلمة أو إنقاص أخرى.

بل نلفيه أحيانا يقتطع بصفة شبه كاملة وحدة نصية من مصادرها، ليصدّر بها جزءا من أجزاء نص "كتاب التجليات"، فيجعلها نصا موازيا مستنسخا متداخلا مع النص المقتبس وذلك في مثل قوله "تجلي الأماني، قال تعالى (وغرتكم الأماني) صدق الله العظيم، أماني النفس حديثها بما ليس عندها، صاحبها خاسرا، يلذّ له الزمان بها، فإذا رجع مع نفسه لم ير في يده شيئا، فحظه كما قال من لا عقل له... أماني أن تحصل تكن أحسن المنى، وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا"(41)، وهو النصّ الذي استنسخه من صاحبه "ابن عربي" استنساخا كاملا، لولا بعض التعديل، وذلك حين يقول "ابن عربي" "تجلي الأماني، أما في النفوس تضاد الأنس بالله سبحانه، لأنه لا يدرك بالأماني، ولذلك قال وغرّتكم الأماني، أماني النفس حديثها بما ليس عندها، ولها حلاوة، إذا استصحبها العبد فلن يفلح أبدا، هي ممحقة الأوقات، صاحبها خاسر، يلذ بها زمان حديثها، فإذا رجع مع نفسه لم ير في يده شيئا حاصلا، فحظه ما قال من لا عقل له: أماني إن تحصل تكن أحسن المنى، وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا"(42).

كما يمكن الوقوف على متناص آخر يرد هو الآخرمستنسخا بالكيفية ذاتها، من حيث اللفظ والسّياق وحتى فيما يخصّ وضع تسمية للمقام المراد، وذلك في قول الروائي "يقول لي: اعلم أنني دخلت مقام القربى مثلك، في شهر محرم سنة سبع وتسعين وخمسمائة وأنا مسافر ببلاد المغرب، فتهت به فرحا، ولم أجد فيه من أحد، فاستوحشت من الوحدة وتذكرت دخول أبي يزيد بالذلة والافتقار، فلم يجد فيه من أحد، وهذا المنزل هو موطني فلم استوحش فيه لأنّ الحنين إلى الأوطان ذاتي لكل موجود وأنّ الوحشة مع الغربة"(43)، وهو النّص عينه الذي يوجد ضمن نصوص إبن عربي، فيستلهمه ويدرجه في أحد سياقات النص الروائي، وتحديدا في مقام الحزن، ليعبّر به عن إحدى دلالات حالة الحزن والغربة التي أصابت السّارد بعد أن صارت رأسه طافية محزوزة لا يدري إلى أين يتّجه وكيف يصنع في وحدته، أمّا النص الذي تناصّ معه تناصا يكاد يكون تامّا، لولا بعض الجمل المحذوفة، فهو في قول ابن عربي "هذا المقام دخلته في شهر محرّم سنة سبع وتسعين وخمسمائة وأنا مسافر ببلاد المغرب، فتهت به فرحا، ولم أجد فيه أحدا، فاستوحشت من الوحدة، وتذكرت دخول أبي يزيد بالذلة والافتقار فلم يجد في ذلك المنزل من أحدا، وذلك المنزل هو موطني فلم استوحش فيه لأنّ الحنين إلى الأوطان ذاتي لكل موجود، وأنّ الوحشة مع الغربة"(44).

إذن يزخر جسدُ النص الروائي بلغة الفيض الصّوفي، فتتدفق النّصوص الصّوفية المستلهمة بشكل ملفت للنظر، وتتساكن في حالة تعالق وعناق، متلبّسة بالنسيج السّردي، لتتحوّل إلى مكوّن حيوي مفتوح على أفق دلالي عرفاني ورؤيوي، قد يعكس القاعدة الاستلهامية للروائي في تشكيل البنية الحكائية واللغوية، وتخصيبها بشبكة واسعة من النصوص الصوفية التي جاء بعضها مندغما داخل الفضاء السّردي، ممتزجا بلغة النصّ الأصلي، اعتمد فيها الروائي على تقنية الاستنساخ تارة والاستيعاب تارة أخرى بشيء من التعديل والتصرّف الجزئيين، أمّا بعضها الآخر فجاء إما على شكل نصوص مستقلة وكأنّها بنيات نصية موضوعة للتعلم والإيحاء، فجعل لأكثرها عناوين تدلّ عليها من مصطلحات صوفية، ولكنه مال فيها غالبا إلى أسلوب الاستلهام والتفاعل مع النص السّابق (المقتبس) في صياغة شبه جديدة مع المحافظة على الدلالة ذاتها، أو في استدعاء هذا النوع من التناص في اقتباسات مستقلّة، تبدو وكأنّها لا تنتمي إلى سيرورة الحدث الروائي العام، بل هي بمثابة العتبات التي تحيل على أحوال السارد والسّالك في رحلته الروحية. ولقد وردت هذه المتناصات والمتفاعلات النصية برمّتها إمّا جملا أو عبارات قصيرة تشبه الومضات أو اللازمة الشّعرية، وإمّا مقاطع طويلة مدمجة في جسد الحكي، أو تتموضع خارج بؤرة الحكي، فتشكل لبنات مفصولة عن ذلك، وكأنّها وضعت معماريا لتزيين أو تكثيف اللغة السّردية وضفافها الدّلالية.

لعلّ المتناصات القصيرة مثل الطويلة هي كثيرة، ذات مساحة كبيرة في بنية النصّ وقد تغدو أنموذجا تشكيليا وفنيا متميّزا في هذا الإطار، وإنّ استدعاءها كلها في هذا المقام أمر ليس ميسورا وربّما ليس مستساغا بالنظر إلى حجمها ومواضعها العديدة، ولكن لإعطاء صورة واضحة عن ذلك نورد هنا بعض الأمثلة بشكليهما الحرفي والجزئي، وذلك مثل "ولمّا بدا الكون الغريب لناظري، حننت إلى الأوطان حنين الركائب"(45)، وهو بيت مقتبس من نصوص ابن عربي، مع وجود بعض الاختلاف في لفظة "حنين" التي وردت في الأصل "حنّ" وكذا عبارة "لمّا" جاءت في موضع هكذا، وفي موضع آخر "إذا ما"(46)، أو في مثل قول الروائي "إنّ المطلب وعر والمبغى عسير"(47)، وهي عبارة تبدو متناصة مع قول الحلاج في شعره "حقيقة الحق قد تجلت... مطلب من رامها عسير"(48)، أو في قوله "كل شيئ في سفر دائم"(49)، ممّا قد يتناص مع قول إبن عربي "العالم في سفر على الدوام دنيا وآخرة"(50)، أو في مثل قوله طريق أبي في الحياة غريب، "وطريقي في طريق أبي غريب"(51) وهي جملة مستلهمة من قول ابن عربي "طريق عبد القادر في طريق الأولياء غريب، وطريقنا في طريق عبد القادر غريب"(52). عديدة هي المتناصاتُ التي حفل بها نص «كتاب التجليات» في شكلها الموسوم بالتركيز والقصر، أي هي عبارة عن نصوص قصيرة صوفية التعبير والدّلالة منها المنظوم ومنها المنثور، وقد جعلها الروائي بمثابة المناصات الخلفية التي تشكل واجهة لتعالق مجموعة من النصوص الصغيرة المفتوحة على سلسلة من اللغات والبنيات المعرفية.

أمّا الضّرب الثاني من المتناصات ـ التي أشير إليها سابقا ـ فهو ما تعلق بتلك التعالقات النصية التي امتازت بطول نصوصها، إمّا بتذويبها داخل النسيج السّردي وتفعيل وظيفتها في السياق العام، وإما بجعلها مفصولة عن مجرى الحكي وأحداثه وإدراجها داخل فضاءاتها المستقلة مع عناوين فرعية دالة عليها، ممّا يعكس طريقة الروائي القائمة على تقنية خاصّة في انتهاج استراتيجية تناصية حيوية وغير تقليدية. وإذا ما رمتُ عرض مثل هذه الاقتباسات، ذات النّفس الطويل نسبيا من مصادرها الصّوفية فإنّ المجال يستدعي مساحة شاسعة، ولهذا يَحسُن بي أن انتقي بعضَ الأمثلة عن ذلك، قصد استجلاء صورة هذا الشكل من التناص، ومدى حضوره الكثيف والوظيفي داخل الفضاء النّصي للرواية.

تأخذ المتناصاتُ الطويلة هي الأخرى صورتين بارزتين من حيثُ التوظيفُ داخل النصّ الروائي، إحداها حين يكون النصُ المقتبس بنية منفردة بسياقها الخاص، موسومة بعنوان فردي صغير يدل عليها، تتداخل مع نص غائب مستدعى من مصدره الأصلي، والأخرى حين تختلط بمتواليات النص الحكائية في مجراها العام، وذلك لإثراء البعد التناصي في الرواية، وتفعيل رصيد المتفاعلات وإعادة صياغتها وتشكيلها جماليا. لعلّ من أبرز النّصوص وأهمّها التي مثلت الصّورة الأولى مثل قول الروائي تحت عنوان "فصل" "كل شيء يدور، تدور الأيام في الأسابيع، والأسابيع في الشهور، والشهور في السنين، والسنين في الدّهور، نهار يكرّ على ليل، وليل على نهار، فلك يدور، وخلق يدور، وحروف تدور، ونعيم يدور، صيف يدور، وشتاء يدور، وخريف وربيع يدور، شقاء يعقب راحة، وحزن بعد فرح، ميلاد بعد موت"(53)، وهو المقطع الذي استلهمه الروائي بسياقه مع التصرّف فيه ببعض التعديل والإضافة من قول ابن عربي معنون بـ "حقيقة": "تتكرر هذه الأيام في الشهور كما يتكرر الليل والنهار في الأيام، وكما تتكرر الساعات في الليل والنهار، وكذلك الشهور في السنين، والسنون في الدّهور والأعصار... فنهار يكرّ على ليل، وليل على نهار، وفلك يدور وخلق يدور، وكلام يدور"(54).

أمّا الضّرب الآخر من المتناصّات، فهي تلك التي تتصف بتوظيف النصوص المقتبسة والمستدعاة داخل البنية الحكائية، بإدغامها في لغة السّرد وفضائها الفنّي، فتصير قِطَعا متواشجة مع بقية القطع السّردية، وعناصرَ مشاركة في توليد وتنمية صيرورة الأحداث. لقد زخرت الرّواية بمثل هذا النوع من التّداخل النصي إلى درجة تجعل القارئ يشعر وكأنّه أمام صوت نصي واحد غير متعدّد، ولا يوجد ما يشِي بتعدّد النصوص وتمازجها، واندساسها داخل اللغة السّردية الأصلية، وهو ما قد يوحي بمدى فاعلية هذا التناص وإمكانية تعايش النصوص المستجلَبة مع النصّ الرّاهن، ومن ثَمّ تشكيلها لوحدة عضوية فنية مؤطرة غير مشتّتة. لا يتّسع المقام لإيراد أمثلة طويلة على كثرتها مكتفيةً ببعض النّصوص ذات النفس الصّوفي،لإظهار الجانب الوظيفي والفنّي في توظيفها واستحضارها حين تقتضي متواليات الحكي ذلك، وتبيان أثر الإشباع الروائي بهذه النّصوص، وذلك مثل قوله وهو يتحدّث عن قيمة "النخلة" وارتباطها الجدلي بأب السارد، وعلاقتها بالزّمن من حيث التلاشي أو التجدّد "اعلم أنّ الله تعالى لما خلق آدم عليه السلام، الذي هو أول جسم إنساني تكوّن، وجعله أصلا لوجود الأجساد الإنسانية، وفضلت من خميرة طينته فضلا(**)، خلق منها النخلة، فهي أخت آدم عليه السلام وهي لنا عمّة"(55)، وهو ما يَرد لدى الشيخ إبن عربي في قوله "اعلم أنّ الله تعالى لمّا خلق آدم عليه السلام الذي هو أول جسم إنساني تكوّن وجعله أصلا لوجود الأجسام الإنسانية وفضلت من خميرة طينته فضلة خلق منها النخلة، فهي أخت آدم عليه السلام وهي لنا عمّة"(56).

"أو مثلما نجد في قول الروائي حين يتعلق الأمر بوفاة والد السارد وحواره معه، قبيل موته وسرّ تنبّئه بحادثة الفراق والرحيل من الدّنيا والبقاء". رأيت مثل ذلك لوالدي ـ رحمه الله ـ وكان قبل أن يموت بخمسة عشر يوما أخبرني بموته، وأنه يموت يوم الأربعاء، وكذلك كان، فلما كان يوم موته.. استوى قاعدا، غير مستند، وقال لي: يا ولدي اليوم الرحيل والبقاء، فقلت له " كتب الله سلامتك في سفرك هذا، وبارك الله في لقائك" ففرح بذلك وقال لي "جزاك الله يا ولدي عنّي خيرا، كل ما كنت أسمعه منك تقوله ولا أعرفه وربّما كنت أنكر بعضه هو ذا أنا أشهده"(57)، وهو النصّ ذاته منسوخا برمّته صياغةً وتركيبا وحوارا من نصوص إبن عربي(58)، وكأنّ موقف السّارد هو ذاته موقف صاحب النص السّابق إزاء وفاة الأب وما دار من حوار بينهما عن ذلك.

إذن يمكن القولُ بعد هذا العرض المختصر لمختلف أشكال التعالق النصي الصّوفي في "كتاب التجليات" انّ الروائي قد تعامل مع المخزون الصّوفي بشيء من الخصوصية محاولا الاغترافَ من مَعينه والجدل مع نصوصه باستراتيجية فاعلة أضفت على أجزاء النص الروائي نوعا من الحيوية والشفافية والشعرية، كما أسهمت في تدفّق الدّلالات وتكوين بنية نصية منسوجة بلغة تستولي فيها روحُ التصوّف وتفتح التعابيرَ السّردية على رمزية كثيفة. 

باحثة جامعية جزائرية/ جامعة وهران ـ السّانية 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ حسين خمري: فضاء المتخيل، مقاربات في الرواية، ط1، منشورات الاختلاف، الجزائر، 2002، ص 101.
(2) ـ ينظر د. جهاد عطا نعيسة: في مشكلات السرد الروائي (قراءة خلافية) في عدد من النصوص والتجارب الروائية العربية والسورية المعاصرة، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2001، ص 288.
(3) ـ ينظر محمود جابر عباس: استراتيجية التناص في الخطاب الشعري الحديث،مجلة علامات في النقد، مج 12، ع 26، النادي الأدبي، جدة، 2003، ص 266.
(4) ـ ميخائيل باختين: الخطاب الروائي، تر: محمد برادة، ط 1، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، 1987، ص 12.
(*) ـ المصطلح من وضع د. محمد رياض وتّارفي كتابه: توظيف التراث في الرواية العربية المعاصرة، ود. محمد عزام في كتابه: النص الغائب.
(5) ـ جهاد عطا نعيسة: في مشكلات السّرد الروائي... ص 219.
(6) ـ ينظر آمنة بلعلى: الحركية التواصلية في الخطاب الصوفي، (من القرن الثالث إلى القرن السابع الهجريين)، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2001، ص 248 ـ 249.
(7) ـ ينظر محمد عزام: النص الغائب، تجلبات التناص في الشعر العربي، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2001، ص 54.
(8) ـ ينظر سعيد يقطين: الرواية والتراث السردي، من أجل وعي جديد بالتراث، ط 1، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2006، ص 195.
(9) ـ ينظر سارة بنت عبد المحسن بن عبد الله بن جلوي آل سعود: نظرية الاتصال عند الصوفية في ضوء الإسلام، ط 1، دار المنارة للنشر والتوزيع، السعودية، 1991، ص 197.
(10) ـ جمال الغيطاني: كتاب التجليات، الأسفار الثلاثة، دار الشروق، ط 1، دار الشّروق، القاهرة،1990، ص 06.
(11) ـ المصدر نفسه: ص 27.
(12) ـ المصدر نفسه: ص 18.
(13) ـ ينظر آمنة بلعلى: الحركية التواصلية في الخطاب الصوفي...، ص 175.
(14) ـ ينظر د. عبد الرحمن بدوي: شطحات الصوفية، ط 3، وكالة المطبوعات، الكويت، 1978، ص 21 ـ 22.
(15) ـ الرواية: ص 217.
(16) ـ المصدر نفسه: ص218 ـ 219.
(17) ـ نقلا عن عبد الرحمن بدوي: شطحات صوفية، ص 97.
(18) ـ الرواية: ص 17.
(19) ـ وذناني بوداود: جمال الغيطاني والرواية الصّوفية، مقاربة في رواية "التجليات"، مجلة حوليات التراث، تصدرها كلية الآداب والفنون، جامعة مستغانم، ع 2،2004، د. ص (الكترونية).
(20) ـ الرواية: ص 379.
(21) ـ الجرجاني، علي بن محمد بن علي: التعريفات، مكتبة لبنان، بيروت، 1985 ص 37.
(22) ـ المصدر نفسه: ص90.
(23) ـ الرواية: ص 814.
(24) ـ محي الدّين بن عربي: كتاب الإسفارعن نتائج الأسفار، ضمن كتاب "رسائل ابن عربي"، ص 457.
(25) ـ الجرجاني: التعريفات، ص 170.
(26) ـ المصدر نفسه: ص 60
(27) ـ جمال الغيطاني: التناص، تفاعلية النصوص، أجرى الحوار سيزا قاسم، مجلة ألف، ع 4، 1984، د. ص (نسخة الكترونية من موقع خاص بجمال الغيطاني).
(28) ـ حوار مع جمال الغيطاني، جريدة الخبر الأسبوعي، ع 34، 1999.
(29) ـ ينظر د. ثناء أنس الوجود: قراءات نقدية في القصة المعاصرة، د. ط، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة،2000، ص 33.
(30) ـ ينظر آمنة بلعلى: الحركية التواصلية في الخطاب الصوفي، ص 299.
(31) ـ إبن عربي: كتاب الإسرا إلى مقام الأسرى، ص 175
(32) ـ الرواية: ص 14
(33) ـ ابن عربي: كتاب الإسرا إلى مقام الأسرى، ص175
(34) ـ الرواية: ص 30
(35) ـ المصدر نفسه: ص 37
(36) ـ ابن عربي: كتاب الإسرا إلى مقام الأسرى، ص 172
(37) ـ آمنة بلعلى: الحركية التواصلية في الخطاب الصوفي، ص 297
(38) ـ الرواية: ص 731
(39) ـ النفري، أبو عبد الله محمد بن عبد الله: المواقف والمخاطبات، تقديم وتعليق د. عبد القادر محمود، تحقيق آرثر آربري، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1985، ص 277
(40) ـ ينظر آمنة بلعلى: الحركية التواصلية في الخطاب الصوفي، ص 250
(41) ـ الرواية: ص 13.
(42) ـ إبن عربي: رسائل ابن عربي، تقديم محمود محمود الغراب، ضبط محمد شهاب الدين العربي، ط 1، دار صادر، بيروت، 1997، ص 453.
(43) ـ الرواية: ص 436.
(44) ـ ابن عربي: الفتوحات المكية في الأسرار المالكية والملكية، ج 3، ضبط يحي عثمان، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1985، ص 387.
(45) ـ الرواية: ص 12.
(46) ـ إبن عربي: الفتوحات المكية، ج 4، ص 225، رسائل ابن عربي، ص 123.
(47) ـ الرواية: ص 30.
(48) ـ ديوان الحلاج ومعه أخبار الحلاج وكتاب الطواسين، وضع حواشيه وعلّق عليه محمد باسل عيون السود، ط 2، دار الكتب العلمية، بيروت، 2002، ص 132.
(49) ـ الرواية: ص 45.
(50) ـ إبن عربي: الفتوحات المكية، ج 6، ص 99.
(51) ـ الرواية: ص 45.
(52) ـ إبن عربي: الفتوحات المكية، ج 1، ص 254.
(53) ـ الرواية: ص 46.
(54) ـ إبن عربي: رسائل ابن عربي، ص 74.
(**) ـ فضلا (هكذا جاءت في النص) أما في النص المقتبس فجاءت (فضلة).
(55) ـ الرواية: ص 72.
(56) ـ إبن عربي: الفتوحات المكية، ج 1، ص 118.
(57) ـ الرواية: ص 84.
(58) ـ ينظر إبن عربي: الفتوحات المكية، ج 1، ص 240.