يتناول محرر (الكلمة) هنا عرضا مسرحيا من نوع خاص، بل بالغ الخصوصية، يستدعي التوقف عنه حين نؤرخ للمسرح أو نتأمل دوره في حياتنا العصرية الجديدة من ناحية، والتعرف على متغيرات تلك الحياة من خلاله ومدى سيطرة المشهدية والطقسية عليها من ناحية أخرى.

أغلى عرض مسرحي في العالم

تفكيك عرض افتتاح الألعاب الأولمبية في باريس

صبري حافظ

 

لأنني من المتابعين، منذ سنوات طويلة، لمهرجان أفينيون المسرحي، فقد رتبت تقويم حياتي السنوي على أن يكون موعد المهرجان – والذي يبدأ عادة أواسط الأسبوع الأول من يوليو/ تموز – هو موعد إجازتي السنوية، حيث أسافر إلى أفينيون وأعيش أيام المهرجان في ربوعها. لذلك انزعجت كثيرا حينما بدأ مهرجان العام الماضي في أواخر شهر يونيو 2024، أي قبل موعده المعتاد بأكثر من أسبوع. وما أن وصلت إلى أفينيون حتى علمت أن السبب في تقديم موعده هذا العام، جاء لكي لا يتعارض مع الأولمبياد الذي تستضيفه باريس بعد مضي قرن من الزمان على آخر استضافة لها له عام 1924. وإذا كان هذا السبب لم يقنع بعض المتابعين للمهرجان، فإن مشهدية احتفال افتتاح الأولمبياد المبهرة في 26 يوليو 2024، قد أقنعته بأن إدارة مهرجان أفينيون كانت على حق. فكيف لمهرجان أفينيون، بميزانيته المتواضعة رغم ضخامتها النسبية التي تصل إلى ملايين اليوروهات، أن ينافس هذا العرض المشهدي المبهر الذي نعرف الآن أنه تكلف 122 مليون يورو، أي ما يقارب أربعة أضعاف ميزانية مهرجان أفينيون بشقيه. بصورة أصبح فيها هذا الافتتاح العرض المسرحي الأغلى في العالم. حفل يندمج فيه  المسرح مع الموسيقى والفن التشكيلي، وتندمج فيه العمارة مع الرقص والغناء، وتندمج عروض الأزياء مع السينما وتتضاءل أمامه العروض المشهدية الكبيرة لتنصيب الرئيس الأمريكي، أو حتى لبعض الأولمبيادات التي نظمتها دول عريقة في المسرح مثل الأولمبياد البريطاني عام 2012، والذي نظم حفلاته الافتاحية والختامية مخرجان مسرحيان شهيران.[1]

فقد جعل حفل الافتتاح من نهر السين، ومن جسوره وضفتيه، والجزء الأكبر من حيين باريسيين كبيرين – الحي السادس والسابع – مسرحا لواحدة من أكبر العروض المسرحية التي استغرقت أكثر من أربع ساعات. وحضرها على الجسور وضفتي السين وفي الساحة والحديقة المترامية أمام برج «إيفل» أكثر من 320 ألف مشاهد في مدرجات بنيت خصيصا في تلك الأماكن، ناهيك عن 300 ألف آخرين من الذين كانت تطل شرفات شققهم على مد هذا المسار الطويل للعرض المبهر. فنحن هنا بإزاء عرض مشهدي على خشبة مترامية الأطراف، تمتد لعدة كيلومترات، فقد مرت قواربه تحت 24 جسرا من جسور نهر السين في باريس، وعددها 37 جسرا. يشاهده أكثر من نصف مليون متفرج حي مباشرة بين جلوس ووقوف على ضفتي النهر. ناهيك عن الملايين الغفيرة من الذين يتابعونه في جل بقاع العالم عبر شاشات التليفزيون كما فعلت أنا، وإن كنت وقتها في فرنسا نفسها. عرض تصنع مشهديته آلاف من البشر من كل بلاد العالم، ويتحول فيه النهر ومختلف معالم واحدة من أجمل مدن العالم إلى ركح كبير، تسود فيه فنون الفرجة المتنوعة، وتحوّل فيه رئيس الجمهورية إلى ممثل ثانوي، يقوم بدوره المحسوب الذي لا يستغرق إلا دقائق معدودة.

وهو عرض لا يمكن نكران ضخامته، وما به من إبهار مشهدي وحركي ونغمي ولوني جميل. فقد بدأت التدريبات على هذا الاحتفال قبل عامين، واستمرت بنيتها في التنامي طوال العامين الماضيين. وكأي عرض جيد يستهدف الاستحواذ على جمهور مشاهديه، ولعب دور في واقعه، فإن له بنيته ومراميه، ويمكن أن نتفق مع تلك المرامي أو نختلف معها. لكن المهم أننا بإزاء عرض مسرحي تشعر الأمة الفرنسية بأكملها بأنه يمثلها، أو يعبر عن بعض مشاغلها ورؤاها وإنجازاتها. ناهيك عن أنه يكشف عن تميزها – ولفرنسا تاريخ طويل في تأكيد هذا التميز باعتباره من مكونات هويتها القومية أو الوطنية. ومن البداية أصبح واضحا لمشاهديه، أنه عرض مغاير لعروض افتتاح دورات الألعاب الأولمبية التي تدور عادة في أحد أضخم استادات البلد المضيف. بل وتستغل البلد مثل تلك المناسبات لبناء استاد ضخم يستطيع استيعابه، ويصبح أحد الإضافات الباقية في جغرافيا المدينة لمثل تلك الاستضافة. فإن هذا العرض آثر من البداية أن يكون مختلفا، وأن يجعل باريس – مدينة النور والجمال – ساحته، وليس أي ستاد من استاداتها الضخمة، وأن يحيل صفحات نهر السين إلى ملعب مسرحه الرئيسي، ومكان تقديم فرق بلدان العالم المختلفة المشاركة فيه، وعددها 205 تهادى ممثلوها على متن 85 قاربا تتفاوت من حيث الحجم والضخامة. شارك فيها 6800 رياضي أمام المعالم التاريخية المختلفة لباريس، والواقعة على ضفتي النهر.

كما سعى العرض لأن يعكس شعار الدورة الأولمبية التي يستضيفها – Citius, Alyius, Fortius, Communiter – وتعني أسرع، أعلى، أقوى، معا. وأن يكشف عن أن باريس كمدينة تجسد في تاريخها وحاضرها هذا الشعار. فقد كانت ثورتها الكبرى عام 1789 حاضرة في خلفية بداية دوراته في العصر الحديث. وبالرغم من أن باريس أحد أكثر المدن جذبا للسياح في العالم، حيث تحتل دوما مكانا مرموقا بين العشرة الأوائل فيه، فإن أحد أهداف هذا العرض المبهر كان تقديمها كواحدة من أجمل مدن العالم وأجدرها بالزيارة. وكأي عرض فقد كان له مخرجه، بل كان وراء هذا العرض مخرجان. هما تيري ريبول Thierry Reboul الذي يدعوه البعض بعبقري تنظيم مثل تلك العروض والأحداث، وخاصة في باريس، وتوماس جولي Thomas Jolly وهو ممثل ومخرج مسرحي وأوبرالي، ومدير مسرح «العائلة الصغيرة La Piccola Famillia» في روان بشمال فرنسا. وكلاهما لغرابة المفارقة في السادسة والثلاثين من عمره، فقد ولدا عام 1982. وكأي عرض درامي كان ثمة وعي بما ينطوي عليه التتابع والتداخل والتوقيت من دلالات. لذلك بدأ بالعودة إلى مرحلة الاستنارة وتقديم شعار الثورة الفرنسية: الحرية والإخاء والمساواة، وكيف أنه يتجسد في جغرافيا المدينة وتاريخها. وكيف رقشت الثورة شعاراتها تلك في الضمير الإنساني من ناحية، وفي وعي الفرنسي بهويته من ناحية أخرى.

إذ سار العرض في خطين متوازيين: يقدم أحدهما رسائله السياسية والتي يبدو – وقد استغرق التخطيط لهذا العرض عدة شهور – أن الرئيس الفرنسي – ماكرون – أراد أن يتوج بها مرحلته، لكن الأحداث عصفت بذلك الهدف حيث جاء الموعد، وقد تعثر حزبه في الانتخابات الأخيرة، وجاء في المرتبة الثالثة بعد عدويه: اليسار واليمين. والخط الثاني هو تقديم الوفود المشاركة كالعادة، في نوع من الاستعراض المشهدي، وهي تتهادى على صفحات نهر السين الشهير. وهو الخيط الذي لم يخل هو الآخر من رسائله السياسية. وكان التقاطع بين تقديم الوفود – كالعادة في كل افتتاحيات مثل تلك الدورات الأولمبية، وتسليع باريس وتقديمها للجمهور يمضي بشكل سلس طوال تقديم قيم الثورة الفرنسية الرئيسية الثلاثة: الحرية والإخاء والمساواة. وإن أخذ في التلعثم حينما حاول تقديم قيمة المساواة التي لم تغب عن الواقع الفرنسي – والغربي من ورائه – مثلما تغيب الآن، وبشكل فاضح، في عالم يزداد فيه الأثرياء غنى، والفقراء فقرا. وقد حاول العرض أن يفخر بتحول القصر الملكي القديم وسط باريس إلى متحف «اللوفر» الشهير، والتذكير بأنه يملك أشهر لوحات الفن التشكيلي في العالم، وهي لوحة «الجيوكاندا» الشهيرة لليوناردو دافينشي، معرجا وبشكل ساخر، على المحاولات المتكررة لسرقتها منه.

كما يمكن أن نشير إلى خيط ثالث مواز لهذا العرض المبهر، وإن بقي خارجه. فقد اجتمعت أثناءه وفي ساحة الجمهورية الشهيرة في باريس 82 رابطة وهيئة ومنظمة مستقلة عن الحكومة ومعارضة لها في الوقت نفسه. تهدف إلى فضح أكاذيب النظام الماكروني، وكشف جرائمه المختلفة. وكان طيف كبير من هذه الاحتجاجات ضد مشاركة وفد دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين، وكأنهم كغيرهم من الرياضيين في العالم، وكأن الدولة التي يرفعون علمها غير مدانة بالإبادة الجماعية من أعلى محكمة دولية في العالم. وهو الأمر الذي تواقت أيضا مع عمليات تخريب خطوط القطارات السريعة التي تواقتت مع يوم الافتتاح احتجاجا على قوانين التقاعد الجديدة، وأدت إلى إلغاء أكثر من 800 ألف تذكرة، وإلغاء 25% من الرحلات، بما في ذلك قطارات «يورو ستار» التي تربط لندن بباريس. بل لقد بلغت الاحتجاجات العرض نفسه. حيث كان الوفد الجزائري المشارك في العرض على قارب كبير كغيره من مشاركات بلدان العالم، يلقي أوراق الورد في نهر السين على مد رحلة قاربه فيه، وهو يلوح بعلم بلاده، تخليدا لذكرى مذبحة 17 أكتوبر 1961 في النهر نفسه، والتي راح ضحيتها أكثر من 200 جزائري ممن كانوا يطالبون باستقلال بلادهم.

وقد سعى العرض وهو يدخل بنا إلى القصر الملكي القديم/ أو متحف اللوفر المعاصر، ويستعرض على عجل كنوزه الباذخة، أن يعرج بنا بعد التريث قليلا فيه إلى التغني بجمال تخطيط باريس، وامتداد حدائق التيوليري إلى ساحة الكونكورد التي تنهض فيها المسلة المصرية، والتي يمتد منها طريق الشانزليزييه الواسع الشهير على استقامته حتى قوس النصر. ثم حاول أن ينطلق من هذا التاريخ القديم وقيمه الإنسانية الباقية إلى القيم الجديدة، التي تحب فرنسا الإعلان عن دورها في تأسيسها. لذلك جاء بعد هذه القيم الثلاثة قيمة رابعة مهمة دعاها بالأخواتية Sororities أي النسوية التي أراد عبرها أن يؤكد ريادة فرنسا التاريخية في مجال إعطاء المرأة حقوقها السياسية منها والاجتماعية. وبعد سرد اسماء عدد لابأس به من النساء اللواتي لعبن دورا في تأسيس تلك الحقوق، وفي الدفاع عن حقوق المرأة ومساواتها بالرجل، بدا واضحا تغييب أسماء بعينها من تلك المسيرة الطويلة، في زمن ماكرون وصعود ا ليمين، وخاصة تلك التي ارتبطت باليسار مثل ماري كوري وسيمون دو بوفوار.

وكانت من ذرى هذا الحفل/ العرض المسرحي الجميلة مشاركة المغنية الشهيرة سلين ديون – الكندية من كيبيك الفرنسية – تغني من الطابق الأول لبرج إيفيل الشهير، لآلاف المشاهدين الذين جلسوا على مدرجات من المقاعد التي أقيمت على طول الحديقة المترامية الممتدة أمامه، نشيد الحب الذي ترنمت به إديث بياف قبل خمسين عاما. واختيار سلين ديون التي راهن الكثيرون على عدم قدرتها على الغناء مجددا، بسبب مرضها العضال وآلامه المبرحة، كي يعيدها الحفل للحياة وللغناء ولقيم الخير والحق والحرية. تأكيد ذكي لروح الأولمبياد التي تنهض على فكرة أن إرادة الإنسان الحر تهزم كل الصعاب.

لكن المشكلات بدأت حينما قادتنا المسيرة إلى قيم مرحلة الرأسمالية الليبرالية المعولمة، ومعها التبعية لمركزها المتداعي في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي يعد ماكرون أكثر ممثليها في حاضر فرنسا الراهن فاعلية. فقد كان الكثيرون يعوّلون على فرنسا في الماضي في أن تكون هي صوت أوروبا المستقل، في مواجهة تسلط الولايات المتحدة الأمريكية، وخاصة منذ زمن ديجول الذي وعى تأثيرها السلبي على أوروبا، ثقافيا وسياسيا على السواء. كانت فرنسا في زمن الديجولية تنهض، بسبب تاريخها المجيد في التأسيس للاستنارة ودور العقل، بدور المثقف الذي يطرح الحقيقة في مواجهة القوة. لكن ذلك الأمر تبدد مع أفول الديجولية نفسها، وصعود من وقفت رأسمالية أميركا المعولمة وراءهم منذ زمن ساركوزي حتى وصلت إلى ذروة التبعية لأميركا مع ماكرون – ربيب روتشايلد اللبيب – كما تصفه بعض الصحف الفرنسية. لذلك ألقت سياساته بظلها الثقيل على حفلة افتتاح الأولمبياد. سواء في السماح لمن يشارك في الأولمبياد أو منعه، إذ منع مشاركة روسيا فيه، إلا عبر من يستنكرون حربها ضد أوكرانيا، بينما سمح بشكل فج بمشاركة دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين دون أن يطلب من أي منهم استنكار حرب الإبادة التدميرية البشعة ضد الشعب الفلسطيني. بل تبين أن بعضهم سبق له أن شارك في تلك الحرب اللعينة، ولايزال الدم الفلسطيني على أيديهم.

وقد انعكست سياساته تلك على توجيه الحفل كما رسمته السلطة للقائمين على تنفيذه. فبعد الأخواتية جاءت الاحتفالية Festivities التي اهتمت بدور فرنسا في تصميم الأزياء وكل ما يجعل الإنسان يبدو جميلا ومعتزا بذاته الفردية. وكذلك دورها المشهود في تلك الاستعراضات الراقصة التي تنتشر في ملاهيها الليلية، والتي تركت مع الزمن بصمتها الأيقونية على بعض مناطق باريس، مثل حي بيجال الشهير، وملهى الطاحونة الحمراء. وما أن جاءت القيمة التالية، أي الغموض Obscurities وهي حسب التعبير المعجمي حالة من صعوبة معرفة الذات، حتى بدأت المشكلات التي توقف عندها كل من انتقد هذا العرض المبهر. حيث بدأ المتحولون جنسيا Trans وهي أحد أبرز منجزات مرحلة الرأسمالية الليبرالية، التي تنهض على إلهاء العامة بذواتهم، وتقسيمهم إلى فئات مختلفة، وتوجيه اهتماماتهم إلى أمور تشتت انتباههم، وتبعدهم عن مشاكل السياسة الحقيقية، من الشذوذ الجنسي إلى حرية الفرد في تغيير الجنس (من ذكر أو أنثى) الذي ولد به، فتسترجل النساء، بينما يتنسون الرجال. وهو الأمر الذي وصل إلى حد تعريض الجسد لتشوهات متعمدة، كي تحبك مسألة الاسترجال أو النسونة على السواء.

صحيح أن العرض أراد أن يغطي على وعيه بأن ثمة كثيرين لا يحبذون إبراز هؤلاء المتحولين، بوضع لافته إضافية عليهم وهي التعددية Pluralities التي تقبل بالاختلاف بين الناس بمختلف خلفياتهم وثقافاتهم. والتي تم فيها الدمج بين البشر والفنون المختلفة، على أنغام أغنية المغنية الفرنسية من أصول مالية آية ناكمورا التي عانت من اضطهاد اليمين المتطرف كثيرا. ثم الانتقال بعد ذلك إلى مرحلة التضامن Solidarities أو التآزر بين البشر، خاصة وقد أبرز العرض أن هذه هي الدورة الأولمبية الأولى التي يشارك فيها المهاجرون بفرقهم أو مهاراتهم المختلفة، والاعتراف بهم – وهو الأمر الذي يكشف في كثير من الأحيان عن معايير أوروبا المزدوجة – باعتبارهم من ظواهر الواقع الجديد الجديرة بلفت الانتباه لها. وإن كنا نعرف أن هذا الاهتمام يصبح سلبيا ومعاديا للآخر وعنصريا، حينما يكون المهاجر من غير الأوروبيين، وخاصة من أفريقيا أو البلدان العربية، ولكن ما أن يكون الأوروبي هو المهاجر – وأوكرانيا حالة صارخة – حتى يتغير الوضع، وتُفتح أبواب كرم الضيافة وإنسانية الاهتمام باللاجئ الذي وجد نفسه في ظروف صعبة. تلك الظروف الصعبة التي تردنا إلى حالة من المهابة Solemnities أو الجلال التي كانت تستأثر بها الطقوس الدينية القديمة، حتى أنفجر الحفل في وجه منظميه.

هنا جلب الحفل الكثير من صوره المختلفة، ووضعها أمام مائدة ضخمة، حافة بما لذّ وطاب، وقد عنون هذه المرحلة الختامية فيه بالأبدية Eternities كي ينهي رحلته الطويلة تحت هذا العنوان بالعودة إلى أصل الحضارة الأوربية الإغريقي، والإحالة إلى أساطيره الثرية. لأن طبق المائدة الأساسي، سرعان ما تكشف عن روح الهيدونية الغربية ممثلة في إلهة اللذّة الإغريقية Hedone، وإن كان البعض قال أنه ديونسيوس Dionysus، إله الخمر والاحتفالات الماجنة، فقد كان على شكل رجل لا امرأة. وهي حالة استدعت صورتها بالتناقض لوحة ليوناردو دافينشي الشهيرة عن «العشاء الأخير» للسيد المسيح مع حوارييه. والواقع وبرغم سوء التوازي وصدمته، فإن اللوحة – بعيدا عن ربطها بلوحة دافينشي الخالدة – تمثل حقا المباءة التي آلت إليها تلك الحضارة في نسختها الأمريكية المعاصرة. وقد انكشفت كل تناقضاتها المخفية أثناء حرب الإبادة الوحشية على غزة العزة والصمود الأسطوري.

ولا نستطيع أن ننسى حامل شعلة الاوليمبياد، الذي ظل يتقافز بها فوق اسطح العمارات الباريسية التقليدية – وهي رياضة جديدة وخطيرة تنتشر في باريس تسمى الباركور – حتى ينزل بها إلى مسرح الشاتليه التاريخي أثناء عرض مسرحي يجسد القيمة الأولى من قيم الثورة الفرنسية «الحرية»، ويقدم معها لوحة يوجين ديلاكروا «الحرية التي تقود الشعب» وهي لوحة أيقونية في متحف اللوفر الذي يعود إليه الاحتفال أكثر من مرة. لأن الفكر الذي تنهض عليه تلك الاحتفالية العملاقة، هو فكر الثورة الفرنسية، وعماده العلمانية التي انبثقت عنه وحمت مسيرة فرنسا وقادتها للأمام عبر العصور. هنا نجد المسرح الكبير يسود وهو يرسم الواقع الذي تتحول فيه أحد أجمل مدن العالم إلى ديكور للعرض المسرحي. يكون فيه المخرج مايسترو العرض، ورئيس الجمهورية مجرد كومبارس فيه. والأهم من ذلك كله، أنه حينما تكون باريس هي الركح، يصبح سكانها كلهم جمهور العرض الذي يدور في شوارعها وطرقاتها وشرفات شققها، ويعيد لأهلها عن طريق الفن الأفق المفتوح والاعتزاز بقيمة الفن والإنسان.

 

 

[1] . أخرج حفل الافتتاح المخرج المسرحي والسينمائي الانجليزي الشهير داني بويل Danny Boyle والذي سبق له أن أخرج عددا من الأفلام الشهيرة كان آخرها وأشهرها وقتها هو المليونير الطالع من القاع Slumdog Millionaire. ثم شارك ستيفن دالديري وهو من أبرز مخرجي المسرح الانجليزي المعاصرين وأكثرهم موهبة، في تنظيم عرض الختام، وهي عروض دارت في ستاد كبير ضخم بني لهذه المناسبة.