ثمة ما يجعل الكتابة عن سرديات السيرة مثارا لجدل صاخب، يتعلّق بعضه بحقيقة ما يُكتب من تلك السيرة، وبعضه الآخر يتعلّق بتدوين ما يخص «الشخصية الساردة»، عبر ما تُظهره أو تعترف به، أو عبر ما تُخفيه تحت مركزية السرد، وهذا ما يجعل سردية السيرة أكثر استعداد للتحول، ولاصطناع نوعٍ غامض من «بطولة الذات» التي تستعيد التاريخ من خلال حكاياتها، أو من خلال ما تستدعيه شيفرة تلك البطولة من اساطير وأوهام ومن سرائر تخص تمثيلها لحيوات الآخرين.
لست في معرض الحديث عن «المقموع والمسكوت عنه» في السيرة، ولا في معرض وضع الكتابة عنها كرهانٍ على ما هو فاضح، أو صريح، لكن ما تقترحه السيرة من جرأة قصدية، هو ما يجعلها موضع ذلك الحديث، بكل ما ينطوي عليه من كشوفات ومفارقات، تخصّ مرويات الجماعة والتاريخ والأخلاق، أو ما يخص تمثيل أمانتها السردية أكثر من تمثيل أمانتها الإنسانية. رواية سلام إبراهيم «دونت سبيك، إسطب» الصادرة عن دار أبجد للترجمة والنشر والتوزيع/ بابل 2023 تدخل في هذا الاشتباك، بين ما هو تاريخي/ سيروي، وما هو سردي، أو بين ما هو واقعي وما هو متخيل، وعلى نحوٍ يجعل خيار كتابتها رهينا بالقدرة على الاحتفاظ بوهجها الفني، وأن تقويضها السردي لصالح السيروي، لا يعني ارتباك مجاورتها له، والنزوع إلى الاكتفاء بصناعة الوثيقة، بل إن السارد/ صاحب السيرة سيكون هو الفاعل في إدراك خطورة كتابتها بوصفها نصا مفتوحا، يتجاوز عقدة «الجنس الأدبي» والخوف من الآخر، ومن فضائح السيرة.
لذا بدت لعبة كتابتها أكثر اندفاعا لاستثمار طاقة التخيّل والسحر السردي، ولسردنة أحداث واقعية، يمكن أن تغوي القارئ، وتحرضه على أن لا يكره التاريخ، وأن يجد في يومياته ومراحله بعضاً من الإشباع الرمزي والنفسي، وبعضاً من «المخفي» الذي تستدعي الكتابة عنه مراجعة لحظاته الفارقة، والتعاطي مع أحداثه المفصلية، أو مع ما يتمّ تدوينه من وقائع تتبدى عبر ما تؤديه شخصيات السيرة، الاجتماعية والسياسية والثقافية والحزبية، وحتى شخصيات العائلة والهامش، حيث يخضع وجودها في السيرة إلى ما يشبه «الهندسة السردية»، لكي تكون مناسبة لمدونة السيرة، ولما تمثله من إسقاطاتٍ تخص الزمن العراقي، في تحولاته وعنفه، وفي اغتراباته الملعونة، المسكونة بالرهاب السياسي، والعنف الأيديولوجي، والصخب الثوري، المتشظية بين ثنائيات القداسة والخطيئة، الالتزام والخيانة، البطولة والخذلان، الحب والكراهية، الجبن والبطولة.
المهم في هذه السيرة هو علاقتها بالتاريخ الشخصي لصاحبها، عبر مراحل الطفولة والنشأة، والاصطدام المبكر بالعنف والحب، والتعرّف على «صدمات» العراق السياسية، وانقلاباته المرعبة، وعلى سيرة تحولاته السياسية والأيديولوجية، واغتراباته الثقافية والوجودية، واكتشاف وعيه القلق، وعي أسئلة الهوية والشك والرفض والتمرد، تلك التي صنعت هروباته الكبرى، من الزمن النفسي والزمن السياسي والأيديولوجي، وهذه «زمانات» ليست بريئة، إذ كثيرا ما يؤطرها الغموض في السرديات العراقية. ما كتبه سلام ابراهيم، ليس نكأ لجرح نرجسي أو وجودي، بقدر ما كان محاولةً في الانحياز إلى لحظة صفاء متعالية، عمد من خلالها الى نزع الذاكرة القديمة عن لغة السيرة، ليبدو عريها الإنساني شهّيا بسردياته واستعاراته، مُحرضا على الاعتراف، وعلى تحويل الإخلاص في الكتابة إلى ما يشبه الخلاص الأنطولوجي، بإحالاته النفسية والرمزية.
إذ يحمل العنوان «دونت سبيك» شيفرته السيميائية في تمثيل النقائض، وفي إعطاء الذات الساردة/ العالمة شغفا بتحويل خطاب السيرة إلى خطاب مفتوح للزمن السياسي، والزمن النفسي، يتجاوز معه كثيرا من الحواجز التي صنعها التاريخ والأيديولوجيا والعائلة، وعلى نحوٍ يجعل من هذا التجاوز هو اللعبة الغاوية للخرق السردي، فنجد اشتباكا مع كتابة الرواية، ومع لعبة «الميتاسرد»، ومع تقانة «الاعتراف المسيحي» وتقانة التطهير، والتمرد على سطوة الرقيب القديم، والأيديولوجي الشيخ، والمثقف العراب. حتى تبدو الكتابة وكأنها بلا فتوحات أو بطولات، وأن ما يستغرقها هو شغف «الذات العارفة» في تقصي زمنها، وفي تدوين لحظاته الفارقة، إذ تدرك من خلاله أن الكتابة هي «مقدسها الأخير» وأن ما يمور فيها ويصطخب هو قلقها الشخصي والوطني والحزبي، وهذا ما يجعلها اكثر انشدادا إلى لذة الاعتراف، وإلى مواجهة تاريخ عراقي قاس، لم يرث منه إلا شقوقا غائرة في الروح، وأنفاسا تشبه أنفاس مارسيل بروست وهو يواجه لحظات اختناقه.
غواية القراءة وواقعية السيرة
قرأت رواية «الأرسي» فأدهشني سلام بجرأته، وبسحر واقعيته، وهو يكتب عن الجسد المتمرد، وعن المكان الغامض، وعن علاقته بالآخر، وعن حساسيته إزاء الوجود الذي لا يتحمله، حتى بدت الكتابة عن الطفولة، وعن الاغتصاب، وعن النفي الداخلي، وكأنها عتبات سردية لتمهيد الكتابة عن سردية سيرته في «دونت سبيك» من خلال توسيع توغلاتها، والذهاب الى الذاكرة، بوصفها «خزانا، يغمره كثير من الرماد، وكثير من الأشباح، وكثير من «الحقائق العالقة» وعلى نحوٍ جعل من بعض الأحداث القديمة، وكأنها براكين تفجّرت مع لعبة السرد، فـ«الحدث العسكري» و«الحدث السياسي» العراقيان تحولا إلى حدثين مفصليين في صياغة سمات الزمن العراقي، فمقتل الزعيم عبد الكريم قاسم عام 1963 بدا وكأنه إشارة إلى زمن صعود الفاشية، وبداية نشوء مظاهر العنف الأهلي، الذي انهارت معه كثير من الأحلام، والأفكار التي كانت ترهن وجودها الثوري الرومانسي بتلك الأحلام.
وهذا ما أعطى لـ«لعبة السرد» مجالا لربط هذه الأحداث بفاعلية السارد، وبالقدرة على الانخراط في إعادة كتابة التاريخ، «التاريخ من وجهة نظره» الذي ستتفجّر معه سرديات الأمكنة/ المدن/ المَهاجِر/ الدوستوبيات، مثلما تفجّرت معه أرواح الشهداء الذين كانوا حالمين بعالم أجمل، وبيوتوبيا الفكرة الفاضلة. تكشف واقعية هذه السيرة عن فكرة «البطل»، الذي يستعيد العالم عبر الحكايات، ليس بوصفه كاتب يومياتها، أو مذكراتها فحسب، بل هو صاحب العين التي تُفكّر، واللغة التي تجعل من السيرة زمنا داخليا، لكنه متمرد على التاريخ/ الزمن الخارجي، حتى يبدو هذا «البطل» المراهق والحالم، والملتزم ـ في مرحلة أخرى- أكثر تحسسا لتلك الحكايات، وأكثر دراية بما يكتبه، وبما يجعله واعيا لمغامرته في فضح المسكوت، وفي مقاربة الحرية بوصفها إرادة ومسؤولية لقراءة ذلك الزمن الداخلي، وفي ممارسة الكتابة كنوع متعال من التطهير، وربما كنوع من النقد الاجتماعي، الذي يحفر في حكايات الأمكنة، وفي خفايا علاقته مع الآخرين، الذين تحتشد بهم يوميات «الديوانية»، فهده الحكايات لا تتحدث عن شخصيات «بريئة» ولا «شريرة»، بل عن شخصيات أضحوية، لها بطولاتها وأحلامها وشقاوتها وشيطنتها وثوريتها ومكبوتها، لكنها تملك شغفا بالحب والحلم والتمرد، مثلما تجد نفسها مخذولة، أو مطاردة إزاء زمن سياسي/ انقلابي يحتشد بشعارات العنف والكراهية والقتل، وكأنها تستبطن تاريخ السيرة العربية ومقاتلها الغاطسة في اللاوعي الشعبي.
سردية المراجعة ينتقي لها السارد أحداثا معينة، ومشاهد يومية تؤديها شخصيات محددة، تتوزع بين الشقي الأرعن، والعم خليل صاحب المكان المغلق، والمعلم الحاقد، والضحية في ما بعد، والطفل السمح صديقه الثري سعد، والأولاد المشاغبين، ليجعل منهم برايغمات عميقة لتمثيل زمنه السيروي، ورهابات وعيه «الشقي» إزاء ما تُرهص به الأحداث في المدينة من تحولات صادمة، ومن نزعات جعلت من شعارات العنف إيهاما لسانيا لحماية أوهامها عن الثورة والعقيدة، مثلما عاشت الإحباط السياسي والقتل الأيديولوجي بعد انقلاب فبراير/ شباط 1963 بوصفه جزءا من سيرة القتل، الذي كانت تحفل به ذاكرة المدن العراقية.
ما حفلت به السيرة/ الرواية جعلت القارئ أمام لعبة «أجناسية» مغايرة، يكون التلازم فيها بين السيرة والسرد مدعاة لتوصيف كتابتها بأنها لعبة في «التجاوز السردي» عبر فك الاشتباك مع التاريخ، وعبر استدعاء اليومي والهامشي ليصنع سرديته الفاعلة، كنقيض لـ«السردية الكبرى» وبما يجعل من زمن السيرة الداخلي أكثر توهجا، وأكثر اندفاعا للتعرف على ما تخفيه من أحداث كبرى، لها وقعها النفسي والاجتماعي والسياسي، مثل مقتل عبد الكريم قاسم، والانقلاب وصدمته، ودخول «الحرس القومي» كجماعة عصابية للقتل العمومي، وتحوّل الخطاب الأيديولوجي إلى أداة لتمثيل رمزية العنف.
الزمن الداخلي… الزمن السردي
تكشف عنونة السيرة عن إحالة نفسية للزمن الشخصي/ الداخلي الذي عاشه الكاتب، فعبارات الأب بالدعوة إلى السكوت والصمت، تؤكد على المخفي من فكرة الخوف، ومن الرعب الذي تحول إلى واقع مضاد، وإلى لغة فاضحة، لذا فإن حضور الزمن السردي، هو إشارة إلى الخرق، وإلى التمرد على سلطة صمت «الأب والأم» وعلى سلطة الموت، وعلى سلطة الزمن النفسي، وهو ما يبدو واضحا من خلال تتبع فصول السيرة، التي تتمثلها وحدات سردية متوالية، تجمع بين الأحداث والشخصيات الحميمة – الأب، الأم، العم خليل- فيستعيدها نزوعا لتمثيل إشباع مباهجه الرمزية، ولمواجهة شعوره العميق بالفقد والموت، فحضور هذه الشخصيات تُمثّل له أحداثا، لها توصيفها النفسي، في الذاكرة، وفي يوميات المدينة، والغربة، وفي صياغة سردية تعويضية، يطرحها الكاتب في سياق ربط سيرة الطفل وعائلته اليسارية، بسيرة المتمرد والحربي والسجين النصير، وصولا إلى سيرة بطل الغربة الذي يدرك أن زمن السرد هو «الزمن الذي حلم به» ليمارس من خلاله مراجعته الجريئة للزمن النفسي، حيث تمارس اللغة حريتها باستدعاء الغائب/ الأب، الأم/ الأخ الشهيد/ ابن الأخت الشهيد، فضلا عن جرأته بتحرير الخطاب، ليبدو فاعلا في تعرية التاريخ من مقموعه، ومن عشوائيته، وبما يجعل الكلام المباح/ الحر، هو الضد النوعي للعنونة العالقة بفوبيا عبارة الأب «دونت سبيك» المسكونة برعب الصمت والخوف.
عن (القدس العربي)