يكشف الناقد الفلسطيني أن كتاب كنفاني الرائد انطوى على رؤية ثاقبة تمكنت من التنبؤ بمستقبل هذا الأدب. فبرغم ولادة أصوات أدبية جديدة كثيرة تكتب بالعبرية، وتنقل اللغة المستعادة من تراتيل وأشواق دينية، إلى لغة يومية متداولة، تُكتب بها الروايات والقصص ظلت أساطير الصهيونية واستخدام الهولوكوست تتوالى حتى عرتها كلية حملتها الأخيرة على غزة.

«في الأدب الصهيوني»: لا شيء تغيَّر

على الجبهة الأخرى منذ كنفاني

فخري صالح

 

لربما يكون كتاب غسان كنفاني (1936- 1972) "في الأدب الصهيوني" (1967)- (1) أول دراسة عربية تسعى إلى قراءة ما أنتجه كتابٌ يهود، وغير يهود، من أدب يتناول المسألة اليهودية، وتحولات الفكر والأيديولوجية الصهيونيين، من منظور ملتزم بالفكرة الصهيونية، أو متعاطف ومتحمس لها، سواءٌ في أصولها الجنينية الأولى، التي سبقت الإعلان عن الحركة الصهيونية، أو تبلور فكرتها، في نهايات القرن التاسع عشر، أو بعد إقامة الدولة العبرية، كما في العقدين التاليين من عمرها، وصولًا إلى 1967، وهو العام الذي صدر فيه الكتاب. لقد كان كنفاني سبَّاقًا إلى بلورة رؤية ثاقبة حول الحركة الصهيونية، والتصورات العرقية، الاستعلائية، التي تغذيها، وحول دور الإنتاج الأدبي، خصوصًا الروائي منه، في التبشير بالصهيونية، و"الدور الرسولي لليهود" (!)، في العالم، و"الضرورة الوجودية" (!) لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.
ومع أن كتاب غسان كنفاني المبكر، قد اعتمد، في مصادره الأساسية، على ما كُتب ونُشر في اللغة الإنكليزية، من روايات وقصص ودراسات نقدية، ولم يعتمد على أي مصادر أو مراجع عبرية، لأنه لم يكن يتقن تلك اللغة، فإن لماحيته، وذكاءه، وقدرته على التقاط ما هو جوهري في الأدب الصهيوني، جعلا كتابه الأكثر أهمية، (من وجهة نظري)، من بين الدراسات التي كُتبت حول الموضوع، حتى هذه اللحظة. لقد واصل عددٌ من الباحثين العرب، المهمة التي بدأها كنفاني، فأنجزوا دراسات تتناول الأدب الذي كتبه كتابٌ صهاينة، يعيشون خارج الدولة العبرية، أو كتابٌ إسرائيليون، عاش بعضهم في فلسطين قبل نكبة 1948، أو أنهم ولدوا في فلسطين، قبل النكبة، أو بعد النكبة. ولا شك أن عددًا من هؤلاء الدارسين نقلوا عن المصادر والمراجع العبرية مباشرة، لكونهم متخصصين في اللغة العبرية، فركزوا على الأعمال المكتوبة بالعبرية، دون غيرها من اللغات التي كتب بها أدباء صهاينة، أو متعاطفون مع الصهيونية، من غير اليهود. ويمكن القول إن موجة الدراسات عن الأدب العبري، وكذلك الصهيوني، التي أنجزها د. إبراهيم البحراوي، ود. رشاد الشامي، وأنطوان شلحت، وجودت السعد، وهاني الراهب (1939- 2000)، الذي كتب عن الشخصية اليهودية في الرواية الإنكليزية، وبديعة أمين، التي كتبت عن "كافكا والأدب الصهيوني"، وغالب هلسا (1932- 1989)، الذي ألف كتابًا في نقد الأدب الصهيوني، وآخرون غيرهم، قد سارت في أعقاب خطى كنفاني، وأضافت أبعادًا جديدة لهذا النوع من الدراسات في العربية، لم تتطرق لها دراسته.

لكن ما يميز كتاب "في الأدب الصهيوني" هو نظرته الشمولية، وطابعه النظري بالأساس، الذي يقوم بإجمال الملاحظات النقدية، والقراءات التفصيلية السريعة، ونظرة عين الطائر، للخروج بتصور يشرح لا موضوعات الأدب الصهيوني، فقط، بل يستعين أيضًا بدراسة الأدب للتعرف على جوهر الفكر والأيديولوجية الصهيونيين، وتطورهما، منذ العقد الرابع من القرن التاسع عشر، أي منذ أصدر بنيامين دزرائيلي Benjamin Disraeli (1804- 1881) روايته "ديفيد آلروي " The Wondrous Tale of Alroy، عام 1833. وهو، انطلاقًا من هذا التصور، حول الأدب الصهيوني، يجعل من الروايات التي صدرت، في اللغة الإنكليزية، وكذلك تلك التي كُتبت في اللغة الألمانية، ولغة الييديش، أساسًا لولادة هذا النوع من الأدب، في لغات أخرى غير العبرية، التي لم تكن قد أصبحت بعد اللغة التي ينتج بها الكتاب اليهود أعمالهم الأدبية. فتلك الأعمال الأدبية، روايات وأعمالًا مسرحية، أرست الخطوط الأولى التي ميزت الأدب الصهيوني، بوصفه أدبًا يوحد بين العرق والدين والقومية، ويبشر بالتفوق اليهودي، وعصمة الكائن العبري، ويدعو إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، قبل عقود طويلة من الدعوة الفكرية للحركة الصهيونية، وانعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في بال (بسويسرا) عام 1897.

يدرس غسان كنفاني في كتابه الرائد أعمالًا أساسية يعدها محطات مركزية، تطور من خلالها الأدب الصهيوني، كما تطورت الحركة الصهيونية السياسية، والفكر الأيديولوجي العنصري، الذي قامت عليه هذه الحركة. ويشير كنفاني أن الرواية التي وضعت اللبنة الأولى لهذا الفكر هي "ديفيد آلروي" (1833)، التي كتبها بنيامين دزرائيلي، اليهودي الذي أصبح رئيسًا لوزراء بريطانيا مرتين (2)وقد دعا في تلك الرواية إلى عدم اندماج اليهود في مجتمعاتهم التي يعيشون فيها، ونظر إلى اليهودي بوصفه كائنًا متفوقًا عرقيًا على الشعوب الأخرى. وهو يرى "أن كل شيء عرق.. ليس ثمة حقيقة أخرى". ويقول في "ديفيد آلروي": "إنك لا تستطيع أن تهدم عرقًا صافيًا، إنها حقيقة سايكولوجية، إنها قانون الطبيعة البسيطة" ... "إن العبريين عرق غير مختلط". (ص: 525- 526) ومن ثم، يستنتج كنفاني أن دزرائيلي، الذي يرفض اندماج اليهود في مجتمعاتهم (رغم أنه أصبح هو شخصيًا رئيسًا لوزراء بريطانيا)، مؤمن بأن "اليهود هم المهيأون الوحيدون لقيادة الكون" (ص: 526- 527). وهذه بالطبع نظرة عرقية، ترشح بالشعور المريض بالتفوق اليهودي، نجدها محفورة في الأدب والفكر والسياسة والاجتماع، لدى كل المؤمنين بالصهيونية، إلى يومنا هذا.

ينتقل كنفاني ليركز عدسته النقدية على الروائية الإنكليزية الشهيرة جورج إليوت George Eliot (1819- 1880)، التي رفضت دعوة دزرائيلي إلى عدم اندماج اليهود، لكنها طورت رؤيته الفكرية، العرقية، العنصرية، بصورة أكثر ذكاءً، وفنية، في روايتها "دانييل ديروندا " Daniel Deronda (1876)، فأعطت اليهودي أبعادًا كوزموبوليتية، وجعلته، بسبب تفوقه العرقي، و"دوره الرسولي" في العالم، يدعو إلى ضرورة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، ليتخذ من فلسطين قاعدة لنشر رسالته الحضارية. وهكذا تصبح رواية جورج إليوت، حسب كنفاني، لا مجرد عمل أدبي، بل خطة عمل صهيونية متكاملة، من أجل بناء وطن قومي لليهود، ودعوة إلى نقل رسالتهم إلى العالمين، وسعيهم إلى تحضير قارتي إفريقيا وآسيا المتخلفتين حضاريًا، بأيدي اليهود، العائدين إلى "وطنهم"، بعد ألفي عام من الغياب.

يرى بطل "دانييل ديروندا" أن: "فلسطين هي المكان الوحيد لتجميع اليهود من التيه". ويستنتج كنفاني أن إليوت نجحت في صياغة ما فشل فيه دزرائيلي، حين جعلت من الاضطهاد العنصري واللاسامية أساسًا لدعوة بطلها إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين (ص: 528). ومن ثم، فإن إليوت تقلب رؤية دزرائيلي على وجهها الآخر، فما يدفع اليهودي إلى الشعور بالتفوق هو شعوره بالاضطهاد. (ص: 538) لكن النتيجة واحدة، فالإحساس بالتفوق هو شعور عرقي، عنصري، شوفيني، في حالة الجماعات البشرية، بغض النظر عن الأسباب المقيمة في أساس هذا الإحساس.

يمكن، حسب كنفاني، استخلاص خطة العمل التي يطورها بطل رواية "دانييل ديروندا"، ويدعو إلى تنفيذها، من أجل جعل إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين أمرًا ممكنًا. فمردخاي، بطل "دانييل ديروندا" يرى أن رسالة اليهود هي "المساهمة في صنع مستقبل العالم، وإدراك قيمة التراث، والاتجاه إلى فلسطين." ومن الواضح أن بطل رواية إليوت هو "رجل سياسي وداعية اجتماعي"، لا يتكلم إلا عن دولة يهودية، ولا يجد أي تعويض يصلح بديلًا. وهو يؤكد أن الشعب اليهودي "المختار" "اختير في سبيل الشعوب الأخرى." (ص: 530- 531) و"إسرائيل هي قلب الجنس البشري". (ص: 535) ويقترح بطل إليوت خطة عمل، من أجل تحقيق الهدف المبتغى، وهو إقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين. وتتلخص خطة العمل كما يلي: توفير التمويل، والإعلام والدعاية، الاتحاد (الاتحاد الصهيوني كمنظمة)، شراء الأراضي، حملة الكراهية، رشوة الغرب بالإعلان عن تمثيل قيمه." (الهامش، ص: 538) ولا شك أن هذه هي الدرب التي سلكتها الحركة الصهيونية لتحقيق أغراضها، من أجل احتلال فلسطين، وإقامة دولة إسرائيل.

في روايته "الأرض القديمة الجديدة" The Old New Land (1902) يواصل ثيودور هرتزل Theodor Herzl (1860- 1904)  الدعوة الصهيونية، على خطى من سبقوه، من مؤسسي الصهيونية الأدبية، بدءًا من دزرائيلي، وصولًا إلى جورج إليوت. وهو يعترف أن هدفه من كتابة الرواية "لم يكن فنيًا، ولكنه كان هدفًا دعاويًا" (ص: 569). وهكذا، وكما يقول بطل الرواية، فإن أرض فلسطين "المضاعة كانت تستلقي بانتظار اليهود ليعودوا ويصلحوها ويسكنوها". كما أن اليهود، وهم "يعودون" إلى فلسطين، "يقدمون خدمة للعقل الغربي. فهم ينقلون المؤسسات المتحضرة التي كانت موجودة في البلاد المتحضرة في أواخر القرن التاسع عشر" إلى الأرض الجديدة (ص: 570). وبتعبير غسان كنفاني، فقد أصبحت "الصهيونية الأدبية تضبط خطواتها مع الصهيونية السياسية." (ص: 571) وقد توافر ذلك لهيرتزل لكونه روائيًا، وصاحب مشروع سياسي، وداعية متحمسًا للفكرة الصهيونية، وأول رئيس للمؤتمر الصهيوني.

لكن إذا كانت جورج إليوت تجعل من دعاوى بطلها اليهودي حول عالمية المشروع اليهودي، ودوره الحضاري، ونزعته الإنسانية الشمولية، نقاط ارتكاز للمشروع الصهيوني، فإن الكتاب الذين أنجزوا أعمالهم الروائية في القرن العشرين، وخصوصًا ليون أوريس Leon Uris (1924- 2003)  في روايته الشهيرة "الخروج " Exodus (1958)، التي تحولت إلى فيلم (1960) ساهم في انتشارها، هي تصوير كاريكاتوري للعصمة والقوة اليهوديين، والعنصرية الفاقعة، وكراهية البشر، من الأغيار (الغوييم، أي غير اليهود)، وطمس الحقائق حول فلسطين، وتقديم سردية كاذبة حول ما حدث عام 1948، وتشريد الشعب الفلسطيني من أرضه. يصدق الأمر نفسه على روايات أخرى، مثل "لصوص في الليل" Thieves in the Night (1946)  لآرثر كوستلر  Arthur Koestler (1905- 1983)، و"نجمة في الريح" A star in the Wind (1962)  لروبرت ناتان Robert Nathan (1894- 1985).

يرى غسان كنفاني في كتابه الرائد أن الصهيونية الأدبية قد سبقت الصهيونية السياسية، وأسست لها، ووضعت لها خطة عمل فيما أصبحت، فيما بعد، برنامجًا سياسيًا للحركة الصهيونية. وقد سعت تلك الحركة إلى إقناع مراكز القرار في الغرب الإمبريالي، وكذلك في دول العالم الأخرى، بضرورة مشروعها بالنسبة لليهود، وكذلك للاستعمار الغربي في المنطقة. وقد تبلور ذلك المشروع، بصورة جنينية، ثم نضج، وأصبح شديد الوضوح على ألسنة أبطال الروايات، سواء في أعمال بنيامين دزرائيلي (2) أو جورج إليوت أو ثيودور هرتزل، من بين آخرين من الكتاب الذين ناقشوا الفكرة الصهيونية، وأسسوا لها، يهودًا كانوا أو غير يهود. هكذا تقود الصهيونية الأدبية نظيرتها الصهيونية السياسية، وترسم لها خطة العمل. وبغض النظر، عن المغالطات المقصودة، في شرح المسألة اليهودية، والفكرة الصهيونية، وكذلك بغض النظر عن مستوى الأعمال الأدبية، التي نقلت الأفكار الصهيونية الأولى إلى مجال التخييل الأدبي، فإن المهم هنا هو الآثار، غير العادية، لانتشار تلك الأعمال بين القراء في الغرب. وهو ما جعل الفكرة الصهيونية مقبولة، ومحبذة لدى قطاعات واسعة من القراء، والكتاب، والصحافيين، والسياسيين، ورجال الاقتصاد، ممن أيدوا تلك الأفكار، وساعدوا على ولادة الصهيونية السياسية، بعد عقود قليلة، من كتابة تلك الروايات.

لا شك في أن الأدب الصهيوني قد اكتسب سمات وملامح جديدة، بعد قيام دولة إسرائيل، وصار ملزمًا بالخروج قليلًا من صيغته الدعاوية، والالتفات إلى مشكلات الدولة الوليدة، وصراعاتها الاجتماعية والسياسية، والأسئلة التي يطرحها عليها الحاضر الملموس. ويمثل غسان كنفاني على هذه النماذج الجديدة بروايتي "طوبى للخائفين" Envy the Frightened (1961)  و"غبار" Dust (1963) ليائيل دايان  Yael Dayan (1939- )، وقصص لبنيامين تموز Benjamin Tammuz (1919- 1989)، ويزهار سميلانسكي Yizhar Smilansky (1916- 2006)، ليرى إن كان هناك تحول في مسار الأدب الصهيوني، سواء ذلك المكتوب بالإنكليزية، أو العبرية. ويشير كنفاني إلى أن الأدباء الإسرائيليين، خصوصًا أولئك الذين ولدوا في فلسطين، قبل 1948، بدأوا يحاولون الإجابة على أسئلة صعبة، فيما يتعلق بعلاقتهم بالمكان، والتصورات الصهيونية، التي نقع عليها في الروايات الصهيونية الأولى، كما في الفكر الصهيوني نفسه، وأساطير العرق اليهودي غير المختلط، والتفوق اليهودي، والعصمة اليهودية، والبطل اليهودي غير القابل للهزيمة... إلخ. لكن المشكلة هي أن هؤلاء الكتاب "الإسرائيليين"، الذين يتبنون الفكر الصهيوني، يحاولون بشتى الطرق، والحيل الفنية، تجنب الإجابة على الأسئلة الأساسية بخصوص المشروع الصهيوني والدولة العبرية. فهم يضربون صفحًا عن وجود الفلسطينيين على هذه الأرض، ويتجنبون الحديث عن النكبة التي تسببوا بها للشعب الفلسطيني، وشرعية طرد شعب من أرضه، وإقامة دولة بديلة على تلك الأرض، وكل ما يتعلق بالمسائل القانونية والأخلاقية والإنسانية، التي تتصل بحلول شعب محل شعب، وسرقة أرض الآخرين، وإقامة مشروع استعماري كولونيالي إحلالي في بلاد الآخرين.

لا يرى كنفاني تغيرات عميقة في خطاب الروايات والقصص الصهيونية، التي كُتبت بعد النكبة، وقيام دولة إسرائيل. ورغم أنه يرى أن يائيل دايان تطرح بعض الأسئلة الصعبة حول نظرة اليهودي إلى نفسه، خصوصًا في روايتها "غبار"، إلا أن هذه الأسئلة لا تأخذها الروائية الإسرائيلية إلى نهاياتها. إن مشكلات أبطالها تدور في إطار مجتمعها اليهودي، ولا تتعداها إلى جوارها الفلسطيني، على أرض 1948، الذي قد لا يبعد عنها أكثر من مئات الأمتار. يحدث ذلك لأن الكتاب الصهاينة لا يجرؤون عامة على طرح السؤال الأساسي على أنفسهم: هل يجوز اغتصاب أرض الآخرين، وطرد أهلها، والحلول محل الفلسطينيين، الذين شتتت إسرائيل شملهم في كل جهات الأرض، وما زالت تضطهد أخواتهم وإخوتهم الباقين على أرضهم؟

ما يُحسب، إذًا، لكتاب كنفاني الرائد حول الأدب الصهيوني رؤيته الثاقبة، وقدرته على التنبؤ بمستقبل هذا الأدب. فبغض النظر عن المياه الكثيرة التي جرت تحت الجسر، وولادة أصوات أدبية جديدة كثيرة تكتب بالعبرية، تنقل اللغة المستعادة من لغة تراتيل وأشواق دينية، إلى لغة يومية متداولة، تُكتب بها الروايات والقصص والمسرحيات، فقد ظلت أساطير الصهيونية، حول العصمة اليهودية، والجندي الإسرائيلي الأكثر أخلاقية في العالم، والرسالة العالمية للشعب اليهودي، واستخدام الهولوكوست، واضطهاد اليهود في دول أوروبا الشرقية، أعذارًا يلجأ إليها الكتاب الإسرائيليون، ليبرروا قيام دولة إسرائيل، كوطن قومي لليهود، وإشاحة البصر عما فعله اليهود بالفلسطينيين (وما زالوا يفعلون)، هي الثيمات الأساسية في هذا الأدب. ورغم أن المستوى الفني لدى كتاب مثل يزهار سميلانسكي، وعاموس عوز Amos OZ (1939- 2018)، وأبراهام يهوشوع  A. B. Yehoshua (1936- 2022)، وديفيد غروسمان David Grossman (1954- )، لكن الإجابة على السؤال الأساسي المتعلق بالظلم التاريخي، الذي وقع على الفلسطينيين، بسبب المشروع الصهيوني الاستعماري، تظل مؤجلة. إن وجود الفلسطيني شبحي في الأعمال الأدبية الصهيونية. إن الفلسطيني يتربص في الظلمة (!)، مقطوع اللسان، غير مسموح له بالتعبير عن نفسه، كما يرى الناقد الإسرائيلي إسحق ليئور في دراسته الكاشفة "اللسان المقطوع" (3).

لقد كان غسان كنفاني في دراسته عن الأدب الصهيوني رائيًا، كما كان في رواياته وقصصه ومسرحياته. وإذا كان في أعماله الأدبية قد صور الفلسطيني، وهو يغالب الأقدار التي ساقه إليها قيام دولة إسرائيل على أرضه، فقد رأى في دراسته، عن تعالق الصهيونية الأدبية مع الصهيونية السياسية، وصدور الأخيرة منهما عن الأولى، الآخر الصهيوني مسجونًا في دائرته العنصرية، الاستعلائية، وأسطورة تفوقه، على الشعوب الأخرى، والعرقية البغيضة، لا يستطيع الفكاك منها، والتحديق في الجريمة التي صنعها شعب بحق شعب آخر. لا فرق هنا بين السياسي والمثقف، بين الجندي والكاتب، فكلاهما يتممان الدائرة الجهنمية المغلقة، لهذا المشروع الاستعماري، الذي يزداد توحشًا، وتطرفًا، وعلوًا، واستكبارًا، وإيغالًا في الجريمة.
تلك كانت رسالة كتاب كنفاني، وكشفه عن المنابع الحقيقية، والغايات العنصرية، للمشروع الصهيوني. وما زالت نتائج هذا الكشف، والسبر، واستخلاص النتائج، صادقة، إلى هذه اللحظة، رغم مرور ما يقارب ستين عامًا على صدور الكتاب.

 

هوامش:

  1. الكتاب منشور في: غسان كنفاني، الآثار الكاملة، الدراسات الأدبية، المجلد الرابع، مؤسسة غسان كنفاني الثقافية ودار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، 1977.
  2. أصبح دزرائيلي رئيسًا للوزراء في بريطانيا: 1868، 1874- 1880.
  3. يمكن مراجعة مقالة يتسحاق ليئور: "اللسان المقطوع"، ترجمة أنطوان شلحت، في مجلة الكرمل، العدد: 50، شتاء 1997، ص: 202- 234.

 

 

عن (ضفة ثالثة)