بعد روايتها "الحريات الصغيرة"، تواصل جنتيليه مشروعها في الاحتفاء بالصغائر، كيف يمكن لحركة صغيرة أن تحدث فرقاً، وكيف يمكن للغة شفافة أن تقول ما هو عميق، تتخذ لورينزا جنتيليه من علاقة الإنسان بالأشياء اليومية التي تحيط به، نقطة انطلاق للتأمل في معنى الحياة ككل، والقدرة على التغيير.
تروي الكاتبة الإيطالية حكاية شابة تدعى جيا، تعود لميلانو من أجل الحياة مع جدتها، "لكن في الليلة التي سبقت وصولي ذهبت هي إلى النوم مبكراً بسبب صداع خفيف، ولم تستيقظ ثانية، وتركتني وحيدة في العالم بصحبة أحزاني وصندوق المعدات والإوزة الخشبية التي كنت أحتفظ بها في جيبي". تجد جيا نفسها مدفوعة إلى إعادة اكتشاف حياتها من خلال العناية بتفاصيل تبدو هامشية: مثل إصلاح الأشياء القديمة، ومنح الأشياء البالية فرصة جديدة، والاعتناء بما هو صغير وبسيط. لكن هذه التفاصيل الهامشية تتحول شيئاً فشيئاً إلى وسيلة عميقة لقبول الحياة وإعادة بناء الذات. تقول: "نحن نقضي وقتنا في القيام بأعمال لا نحبها لشراء أشياء لا نحتاج إليها في النهاية، يكفي أن يتحلى المرء بالذكاء كي نعمل أقل ونبتكر أكثر، يكفي القليل ليعيش المرء بمزاج جيد".
لغة خفية
لا تقوم الرواية على عقدة درامية كبرى، بل على سلسلة من التفاصيل اليومية التي تتحول معاً إلى بناء متماسك. نشاهد جيا، امرأة شابة تبلغ من العمر 27 سنة، تعيش في مبنى سكني في حي نافيلي في ميلانو، أمضت أعوامها السابقة في منطقة ريفية، مع والد متشائم حد الاستعداد للتنبؤ بنهاية العالم، ثم انتقلت إلى المدينة، لكنها تحتفظ بكثير من العادات التي نشأت عليها: الخوف من التبذير، والاعتقاد أن كل شيء قد يكون مفيداً، وعدم الثقة الكبيرة في الاستهلاك الحديث. تعيش جيا بمفردها، تقوم بوظائف بسيطة وتصلح الأشياء المهملة، تجمعها، تعيد استخدامها، وتمنحها حياة ثانية. لديها ما تسميه "اقتصاداً دائرياً حياً"، الإصلاح عند جيا ليس مجرد فعل عملي، بل لغة عاطفية خفية. كل كرسي قديم، كل كوب مشروخ، كل ترميم لشيء ما، يحمل في داخله حكاية، ويعيد ربطها بالحياة من جديد.
تهدي جيا الجيران الأشياء بعد أن تعيد لها بريقها، وتوزع على أبوابهم بطاقات صغيرة تحمل اقتباسات أو جملاً شعرية، وكأنها تبعث برسائل سرية تقول: "أنت لست وحدك".تقع الرواية أحياناً في فخ الكليشيهات العاطفية، لكن جاذبية الشخصيات ودفء السرد يطغيان على ذلك، ثم تصل الأحداث إلى ذروتها حين يهدد بالإغلاق متجر قديم للأغراض المستعملة، اسمه "العالم الجديد". بالنسبة إلى جيا، لم يكن المتجر مجرد مكان للبيع والشراء، بل ذاكرة حية، وفضاء للحكايات المشتركة. محاولة إنقاذه تتحول إلى معركة رمزية: معركة ضد النسيان، وضد استهلاك يلتهم كل ما هو هش وبسيط، وضد قسوة الوحدة.
يوجد في عالم جيا شخصيات أخرى، جار مسن، وامرأة تدير مطعماً صغيراً، وفتاة تحلم أن تصبح سائقة حافلة. جميعهم ينسجون شبكة من التضامن الصغير، إذ يصبح العطف المتبادل طوق نجاة. هذا المجتمع الصغير يكشف كيف أن الروابط الإنسانية تشكل شبكة أمان في مواجهة الوحدة.
استعارة التدوير
لا تحضر الأشياء في الرواية كجمادات، بل ككائنات تحمل ذاكرة وقيمة وجدانية، يمكن أن تكون مرآة تعكس حياة كاملة، أو جسوراً تربط الحاضر بالماضي. وهنا يتقاطع السرد الأدبي مع التصور الفلسفي: الأشياء ليست محايدة، إنها حاملة لقصص وتجارب، ولا يمكن فهمها إلا داخل شبكة العلاقات التي تنسجها مع البشر.بهذا المعنى، يمكن القول إن الأشياء التي تنقذنا تتبنى بصورة مباشرة فكرة أن الأشياء ليست صامتة، وأنها قادرة على أن تكون فاعلة في حياة البشر. إعادة التدوير أو الترميم، يصبح أداة للانعتاق من عبء الماضي. تقول "بالطبع لدي خطة سرية، ولكن لماذا لا أقوم بعمل جيد في هذه الأشياء؟ أنقذ شيئاً ما وهذا الشيء سينقذني يوماً ما". هذه العبارة تختزل فلسفة الرواية: إن إنقاذ الأشياء ليس سوى استعارة لإنقاذ الذات نفسها.
الرواية تعيد الاعتبار أيضاً لتفاصيل الحياة اليومية: صوت الخطوات، وملمس الغبار، أو حتى آلة كاتبة قديمة. فالأشياء هنا تصبح لغة بديلة، تعوض عجز الإنسان عن التواصل المباشر أحياناً. إنها تمثل مساحة مشتركة، منطقة آمنة يمكن أن ينطلق منها الحوار الداخلي، الذي يذكرنا بإنسانيتنا، وبضعفنا، وبقدرتنا على إعادة الابتكار. عبر هذه المقاربة، تثبت جنتيليه أن الرواية ليست فقط حكاية شخصية، بل أيضاً دعوة إلى إعادة النظر في معنى ما نمتلكه ويعيش معنا. جيا هنا ليست مجرد شخصية فردية، بل هي رمز لجيل كامل يعيش في مواجهة كوارث متعددة ومتزامنة: أزمات اقتصادية، وقلق بيئي، وهشاشة في سوق العمل، وتقلب العلاقات العصرية.
شواهد على التاريخ
عبر إعادة النظر في العلاقة مع الحياة، من أجل إيجاد صلة أكثر هدوءاً مع الذات والعالم، يتجلى البعد الفلسفي والأنثروبولوجي للرواية، إذ يمكن قراءتها أيضاً في ضوء ما طرحه الباحث آرجون أبادوري في كتابه المهم "الحياة الاجتماعية للأشياء" (The Social Life of Things)، إذ يؤكد أن الأشياء ليست كيانات ميتة بلا أثر، بل لها حياة اجتماعية، تتحرك بين الأفراد والمجتمعات، وتكتسب وجوداً في كل سياق. فهي تنتقل من شخص إلى آخر، من ثقافة إلى أخرى، محملة بالمعاني الرمزية والاقتصادية. الأشياء، في نظره، ليست مجرد أدوات تستخدم، بل هي شواهد على التاريخ الشخصي والجماعي. وإذا كان أبادوري يركز على حركة الأشياء في سياق التبادل الاقتصادي والثقافي، فإن جنتيليه تعيد هذه الفكرة لفضاء أكثر حميمية: غرفة صغيرة، وحياة امرأة واحدة، وصراعها من أجل أن تمنح معنى لحياتها. وفي عالم يزداد هشاشة، ربما يكون هذا هو الدرس الأكثر إلحاحاً وجمالاً.
يذكر أن الكاتبة لورينزا جنتيليه، ولدت في ميلانو عام 1988، ونشأت بين مدينتها الأم ومدينة فيرينزا، قبل أن تنتقل إلى لندن لدراسة فنون العرض في جامعة "جولد سميث"، ثم إلى باريس، حيث التحقت بمدرسة للفنون الدرامية. خبرتها في المسرح والفنون انعكست في كتاباتها التي تمزج بين الحس الدرامي والبنية السردية البسيطة. عملت فترة في مكتبة "شكسبير أند كو" الباريسية الشهيرة، وهي التجربة التي ألهمتها روايتها، "الحريات الصغيرة" عام 2021، إذ تستعيد فيها أجواء الكتب والبحث عن الذات. من خلال علاقتها بعمتها غير التقليدية، تبدأ البطلة رحلة استكشاف جديدة، تتعلم خلالها أن الحرية ليست شيئاً واحداً، بل هي مجموعة من الحريات الصغيرة التي يبنيها الإنسان لنفسه: حرية الاختيار، وحرية الخطأ، وحرية الحب، وحرية الحلم.
بدأت جنتيليه مسيرتها الروائية مع رواية "تيو"، التي حصدت جوائز أدبية عدة، لكن روايتها الأبرز تبقى "الأشياء التي تنقذنا"، مع تقديمها بطلة تكافح للعناية بالأشياء الصغيرة ضد عزلة المدن الحديثة.
اندبندنت عربية