يرى الناقد المصري أن الساردة تهدف إلى الكشف عن مساحات التجريب، والتجدد، والتجاوز في وعي البطلة ببنية الحضور، أو بنية الآن الباطني الذي يقوم على التخييل، وإنشاء تفاسير تجمع بين الذات، والعناصر البيئية المرئية، واللامرئية في الكون الواسع الذي يبدأ من الخبرات الواعية الأولية داخل الشخصية

في رواية «ليل ينسى ودائعه» لجوخة الحارثي، مقاربة إدراكية بيئية

التأويل الحدسي الباطني لبنية الحضور

محمد سمير عبدالسلام

 

ليل ينسى ودائعه رواية تجريبية حديثة للروائية المبدعة جوخة الحارثي، تكشف عن نموذج الأنيما الأنثوية داخل البطلة في حالة من التوافقية الإدراكية – الروحية – البيئية الموسعة مع العناصر الكونية، والعلامات البيئية التي قد تتجاوز العناصر البيئية المجسدة باتجاه العناصر البيئية التي تقع في المسافات البينية للزمان والمكان؛ مثل الأطياف، والشخصيات الاستعارية أو الحلمية في وعي ولاوعي البطلة، ويتوافق خطاب البطلة، والساردة، وأحيانا بعض الجمل التي تنبع من لاوعي الآخر / البطل مع توجه البيئة العميقة في الأدب، والفن، والدراسات الفلسفية، والنقدية البيئية؛ حيث يتوافق تجسد البطلة الرمزي مع ضوء النجوم، أو مع فضاء لمعبد افتراضي قديم تتجسد فيه النغمات الكونية التكرارية المطمئنة مع حدس استعاري لفراغ مشحون بالتشكيلات المحتملة لنموذج الأنيما الأنثوية؛ والأنيما في تصور يونغ، وغاستون باشلار تمثل الطاقة الأنثوية التأملية الحالمة، والتي تتصل بعوالم ما وراء الواقع؛ وهو ما تمثله الصورة التجريبية الفينومينولوجية التجريبية للبطلة في رواية ليل ينسى ودائعه لجوخة الحارثي؛ فالذات تستنزف البنى المسبقة، وأشكال التجسد الفيزيقية المباشرة باتجاه فضاءات ممكنة تقع فيما وراء الواقع المادي، وتستنزف مركزيته، كما تتصل بضوء النجمة، وتتجسد في فراغات مكانية بيئية تقع بين الفراغ، والشكل الدينامي الاستعاري للأنثي، ولعب الأطياف التي ترتبط بالحضور الذاتي – البيئي الزمكاني الموسع؛ فالطيف دائما ما يستعيد الماضي السحيق، والأجواء القوطية القديمة داخل لحظة حضور بيئي يستنزف الذات الفيزيقية والاجتماعية باتجاه توحد خيالي فينومينولوجي بأطياف البيئة التي تتصل بتجدد الماضي في بنية الحضور الدائرية؛ ولأن بطلة جوخة الحارثي تعي بالتداخل البيئي الفينومينولوجي الخيالي مع النجمة، والفضاءات المكانية الباطنية، وطيف الأم، والطيف الزمكاني للمرأة الأخرى الميتة والتي تركت آثارها في المكان؛ فهي تجسد الذات الجمعية البيئية في توافقية الأنيما مع العناصر البيئية المجسدة، والطيفية، والحلمية، وكذلك العلامات المتجاوزة للواقعية في خبرات الوعي المباشرة أو الحدسية؛ والتي تعرف بالكواليا؛ أي طرائق تجسد العلامة وانطباعاتها الأولية فيما يسبق الحجاج والاستدلال الإدراكي في عوالم الوعي، وانطباعاته، وتتصل هذه الخبرات التفسيرية الحدسية داخل البطلة أيضا - في علاقة توافقية – بعمليات الاستدلال الإدراكية، وبناء الحجاج في خطابها السردي، وتجديد المخططات الاستدلالية الأسبق في الحالة الذهنية أنا – من قبل داخل الحالة الذهنية أنا – الآن ضمن نشاط المعمار الميتا إدراكي في الذاكرة العاملة.

تهدف الساردة – إذا – إلى الكشف عن مساحات التجريب، والتجدد، والتجاوز في وعي البطلة ببنية الحضور، أو بنية الآن الباطني الذي يقوم على التخييل، وإنشاء تفاسير تجمع بين الذات، والعناصر البيئية المرئية، واللامرئية في الكون الواسع الذي يبدأ من الخبرات الواعية الأولية داخل الشخصية؛ ونعاين مثل هذه التأويلات الحدسية الباطنية لبنية الحضور من خلال استخدام الساردة للتبئير الداخلي المتعدد وفق تعبير جيرار جينيت في خطاب الحكاية؛ حيث تروى الانطباعات عن الشخصية وفق أصوات البطلة، والساردة، والآخر / البطل؛ ونعاين مساحات التجاوز المعرفي داخل البطلة من خلال الانتقال من أجواء إدراكية، وروحية، وبيئية تشبه التناغم والأصالة الأولى في الفردوس المفقود لجون ميلتون؛ حيث الزمن هو الآن بدون عودة، أو تقدم، والأجواء الواقعية تتصل بفضاءات غير واقعية لها طابع تكراري مطمئن، وبهيج، والذات تتصل مباشرة بوعي بيئي موسع يشمل الرمال، والمياه، والزهور، والأشجار، والفواكه، والنجوم المضيئة؛ وأرى أن تضمينات الخطاب في بدايات الرواية توحي بفعل كلامي تمثيلي ضمني يؤكد إمكانية ذوبان نموذج الأنيما داخل الساردة في تمثيلات الوعي لتلك العناصر البيئية في حالاتها الحلمية اللاواعية الأولى داخل اللاوعي الجمعي؛ وكأنها لا تنفصل روحيا وإدراكيا عن الضوء أو الرمال المجردة، أو بهجة الزهور، أو الفضاء التكراري لفراغ المعبد وأصواته المطمئنة التي تشبه أمواج المحيط.

وأرى أن هذه الحساسية الإدراكية – البيئية التجريبية في روايات القرن الواحد والعشرين تتوافق بشكل ما مع تصور جيرزي جروتوفسكي عن المسرح الروحي – الفقير، وبعض التدريبات التي كانت تصل شخصية الممثل بالأشجار، والزهور، والنمور حسب ما يقتضيه دور الممثل في المسرحية في كتابه المعنون ب المسرح الفقير؛ وقد لا تصرح البطلة، أو الساردة بذلك الحضور الاستعاري الطيفي، ولكن الخطاب السردي يؤكد ذوبان صورتها الاستعارية في فضاء الأشجار الأخضر، أو شعورها الواعي بصوت المرأة الأخرى بداخلها؛ أي تمازجهما داخل طاقة الأنيما التأملية في المسافة البينية العابرة للواقع، باتجاه عوالم ما وراء الواقع، أو شعورها بتكوين الضوء في مساحة التجسد المحتملة؛ وكأن الوعي البيئي الموسع بضوء النجمة يتحول إلى خبرة بيئية فينومينولوجية تفسيرية لبنية حضور الذات في العالم؛ ومن ثم تشارك جوخة الحارثي في التأسيس لحساسية إدراكية بيئية جديدة، تقوم على التوسع في التداخل بين الحضور الذاتي الآني، والوعي البيئي التمثيلي المتجاوز لحدود الأنا.

ونعاين عبر تاريخ الأدب ذلك التمازج التجريبي بين حضور الذات الآني، والعناصر البيئية؛ وهو ما يؤكد – بصورة ضمنية لاواعية – جذور توجه البيئة العميقة؛ أي فاعلية العنصر البيئي الأساسية في السرد، وصيرورة الشخصية المعرفية، والإدراكية؛ ويمكننا أن نمثل لذلك بثلاث شخصيات فنية؛ وهي ميراندا في مسرحية العاصفة لشكسبير؛ والتي ارتبط وعيها البيئي بالجزيرة، والبحر، وأغاني الشبح أريل؛ وصارت رؤيتها للذات والعالم وفق ذلك التناغم الحلمي البيئي، وشخصية العجوز سانتياغو في العجوز والبحر لهيمنغواي؛ وحواريته العميقة الوجودية البيئية مع سمكة المارلين، والتي لا يمكن أن تنفصل عن وجود خبرة فينومينولوجية متخيلة فائقة للسمكة تقع ضمن تيار وعي العجوز، وطرائق تفسيره الواعية واللاواعية لذاته، وللعالم، وشخصية إسماعيل في رواية موبي ديك لميلفل؛ ويمثل إسماعيل الحكمة البيئية اللاواعية في تقديره الفائق للمحيط، والحوت الأبيض؛ وهو ما يعكس التقارب العميق بين إسماعيل والصيرورة السردية البيئية ونجاته في النهاية، ويفترض الخطاب أيضا تضمينا يؤكد أن إسماعيل لديه أخيلة فينومينولوجية أساسية واعية، ولاواعية إيجابية نحو الحوت الأبيض، والبحر من داخل منطق الصراع الطبيعي والوجودي الأسبق.

وتواصل ساردة جوخة الحارثي تكوين تلك الحساسية البيئية التجريبية التي تقوم على توجه البيئة العميقة في الأدب والفن، والذي يقوم على فاعلية العنصر البيئي في السرد؛ مثل شجرة السناجب الصاخبة في نهاية رواية الدب لوليم فوكنر، والحوارية الصامتة العميقة التي تجسد الهارموني البيئي الإيجابي، والانتقال إلى وعي النحن البيئي كبديل عن مركزية الذات الاجتماعية، وتتوافق رواية ليل ينسى ودائعه لجوخة الحارثي مع إنشاء خبرات واعية أساسية متخيلة بيئية فيما يعرف الآن باتجاه البيئة الفينومينولوجية، أو Eco-Phenomenology  واتجاه البيئة الطيفية أو ما يعرف الآن ب Spectral Ecology  فالذات حين تعي بوجودها كفضاء باطني يجمع بين الشكل المطمئن الافتراضي والفراغ تكون قد أنشأت حضورا آنيا بيئيا يقوم على الفينومينولوجيا وانطباعات الوعي الأساسية عن العالم؛ وحين تشعر بصوت طيف المرأة الأخرى الميتة بداخلها وتمثيلها لنموذج الأنيما الأسبق منهما وفق يونغ، وغاستون باشلار تكون قد دخلت عالما قوطيا قديما متجددا في الذات، ويقوم على التأثيرالأساسي لأطياف البيئة بداخل الوحدة الزمنية – المكانية؛ وهي غرفة الذات – الشبح أو المرأة الأخرى.

ويؤكد الفيلسوف البيئي آرني نايس في دراسته عن البيئة العميقة ضمن كتابه فلسفة الحياة أن البيئة العميقة تتضمن القيمة الجوهرية للكائنات والعناصر البيئية الطبيعية، والتعاطف الداخلي الموسع والإيجابي بين الذات وتلك العناصر، والذي يشمل الشعور العميق بالتناغم الداخلي البيئي والسعادة التي قد تتجسد في الوعي عند تسلق الجبل، والتأمل في عملية الصعود في مستوياتها الباطنية والبيئية معا. (1)

يوحي خطاب آرني نايس – إذا – بمجموعة من التضمينات التي تؤكد عمليات الفاعلية، والتداخل، والمشترك الروحي أو الحوارية الباطنية الصامتة المفتوحة مع العناصر البيئية مثل الجبل الذي يجسد بهجة الصعود الروحي، أو استعادة رمزية الشكل الهرمي، وإمكانية التداخل مع نغمات التكرار المستقر للروح المتجسدة في أصالة حضور الجبل، وتمثله الخفي للغموض، والعمق، ونغمة التعالى المتجاوزة للأنا التقليدي الفيزيقي أو الاجتماعي أو السردي باتجاه التجاوز المستمر الكامن في نغمة السعادة المتضمنة في رحلات التسلق أو الصعود المحتملة بمستوياتها الداخلية، والواقعية، والكونية معا.

وترى كلا من دانييلا فيردوتشي، ومايا كولي فيما يتعلق بإنشاء خبرات أولية ظاهراتية بيئية متخيلة – في كتابهما تطور الفينومينولوجيا البيئية – أن عمق الفينومينولوجيا البيئية يكمن في الانتقال من الذات المتعالية إلى الذات المبدعة، ومن وعي الأنا إلى وعي نحن وفق المفهوم البيئي الموسع، ومن الوجود في العالم إلى الوجود مع العالم، وأن العلاقة مع العناصر البيئية الطبيعية قد تشمل المشترك الروحي، والحدس، والخيال، والجانب الميتافيزيقي. (2)

هكذا تطرح دانييلا فيردوتشي، وما يا كولي خطابا بيئيا يقوم على الدور الأولي، والأصلي للوعي، وعملية تكوين الانطباعات الأساسية وحالة المعايشة التي تعرف بالكواليا؛ أي توليد انطباع داخلي خاص عن الشيء في بنية حضور الوعي؛ ونلاحظ ارتكازهما أيضا على الخيال والحدس، والجانب الميتافيزيقي الذي يميز خبرات الوعي الداخلية؛ وأرى أن هذا الجانب الميتافيزيقي من الخبرات الواعية الأساسية هو ما يميز توجه البيئة الفينومينولوجية في الأدب والفن من جهة؛ وهو ما يميز التجريب في تأويل الذات تأويلا طيفيا تجريبيا في رواية ليل ينسى ودائعه لجوخة الحارثي؛ فبنية حضور البطلة تتجاوز دائما الاختلاف الدرامي مع الحبيب في كونه يفكر بطريقة واقعية مجردة من الخيال، وتوجهها الإدراكي الروحي البيئي الموسع في المشهد الكوني، وتنشئ البطلة تكوينها الظاهراتي الاستعاري البيئي وفق التداخل، والتعاطف، وبهجة المشترك الباطني البيئي مع النجمة والزهور والحدائق والصحراء والأطياف، وتعايش وعي نحن بصورة ميتا واقعية.

ويقوم خطاب ساردة جوخة الحارثي على الصلة بين تجاوز الزمن الخطي، وولوج آنية الوعي، ونموذج الخلود في اللاوعي الجمعي، وإنشاء فضاء ممكن متخيل يقوم على الأخيلة الرؤيوية من داخل الفضاء البيئي؛ ومن ثم تصل بين الرمال، والكوخ، والقارب الشراعي وفضاءات اللاوعي الجمعي الرحيبة التي تتحد فيها الذات بالعناصر البيئية في هارموني كوني، وتصل الساردة بين شخصيتي البطلة، والآخر عبر مستويات اللاوعي، والخبرة الظاهراتية المتخيلة التي تقع فيما وراء حالة الانفصال في طرائق التفكير؛ فالآخر / البطل يشير إلى اهتمامها المفرط بالأحلام، والنجوم وأنها تتحدث عن امرأة الحلم بوصفها حقيقة مجسدة، وأن الضوء يتحد بجسدها ويخرج من الأطراف، وأن خيالها يتوجه نحو مواسم ازدهار الأشجار، ومآلات الأرواح والأطياف، وأنها تعانق صور الأشجار، وتشير البطلة إلى النجمة التي صاحبت لقاءاتهما القديمة، والتي تشبه كوكب الزهرة، ثم تتوسع البطلة في درجات اكتشافها للنور والظلام من خلال علاقتها بطيف الأم، وطيف المرأة الأخرى؛ والبطلة تمنح طيف المرأة الأخرى حياة فائقة ضمن خبرات الوعي الأساسية، وتقيم حوارا مع شبح الأم بأن تضع قنديلا على قبرها الافتراضي لأنها في الماضي كان لديها مخاوف لاواعية من الظلام. (3)

يكشف الخطاب – إذا – عن الصلة الروحية، والتعارض الدرامي بين صوتي البطلة، والآخر في آن، ويتوسع في العلاقة التوافقية الداخلية بين نموذج الأنيما الأنثوية داخل البطلة، والتجليات الواقعية، وما وراء الواقعية للعناصر البيئية؛ فالذات تراقب عبر الوعي الشاهد / المتأمل لحظات الحضور الآنية المتجاوزة للزمن الخطي حين تتحد بفضاء الأصوات الطبيعية والباطنية التكرارية المطمئنة، وحين تنشئ عالما افتراضيا يتصل بنماذج اللاوعي الجمعي ويتشكل من علامات الصحراء والبحر، والكوخ، ووفرة الفواكه، وحين تتحد بضوء النجوم فيبدو الجسد نفسه مثل ضوء متجسد في الفضاء البيئي الباطني من جهة، ويبدو وكأنه يقيم حوارية باطنية صامتة ممتدة مع النجوم من جهة أخرى؛ ويبدو مشهد ولوج البطلة للحديقة المزهرة والأشجار الخضراء وكأنه يتضمن خبرة فينومينولوجية خيالية فائقة تراوح بين التجسد الواقعي للبطلة، وتجسد طيفي بيئي آخر لها يقوم على إعادة تشكيل الصورة الذهنية للبطلة وفق تكوين الأشجار الخضراء الداكنة المزهرة في مشهد كوني متداخل ويقترب من عوالم التجريد، أو التجريد البيئي الكوني الحلمي؛ ويصير تجسد البطلة مسرحا افتراضيا للأطياف؛ ومن ثم ينتقل من توجه البيئة العميقة مثل فاعلية العنصر البيئي السردية التي قد تتجسد في النجمة التي تشبه كوكب الزهرة في توليدها للمجال اللامرئي من العلاقة بالحبيب في صورته الافتراضية إلى مستوى البيئة الطيفية حيث تتجدد صور الماضي ضمن استمرارية التأملات الآنية للوعي؛ ومن ثم تقوم البطلة بتعديل مخاوف الذاكرة الضمنية اللاواعية للأم بأن تضع على قبرها قنديلا مضيئا من الكيروسين، لتستنزف أخيلة الظلام؛ وكأنها تكمل حلما تأمليا للأم عبر عملية إدراكية واعية، وتأملية تؤكد المفاهيم الجديدة للاوعي فيما وراء التصور الفرويدي؛ والتي ترتكز على الوعي المراقب المتأمل لتيار صور اللاوعي العميقة؛ وهي تتحد بطيف المرأة الأخرى التي تؤكد قوة نموذج الأنيما الذي يصير مضاعفا حين تشعر البطلة بصوته الآخر عبر الطيف الذي صار ممثلا للذات، والآخر في آن؛ وكأن الساردة تتحد بنموذج الأنيما الممثل في صوت المرأة الأخرى عبر مستويات قوطية، وبيئية إيجابية في آن؛ فطيف المرأة يسكن الغرفة الأخرى، ويتحد بصوت البطلة عبر التأملات الواعية الممكنة في مشهد مكاني – زمني بيئي موسع.

وأرى أن الخطاب يتضمن حجة استدلالية رئيسية تتعلق بإمكانية تأويل بنية الحضور الآنية وفق مستويات من الحوارية، والتداخل مع الأطياف، والعناصر البيئية، ونماذج اللاوعي الجمعي، والعوالم الافتراضية الممكنة؛ وتتدرج الحجة في قوة الفرضيات وصولا إلى النتيجة وفق سلم ديكرو الحجاجي؛ وتقوم الحجة الاستدلالية على صحة الفرضية الأولى؛ وهي حالة                           التوافقية الطبيعية الكونية، والداخلية في وعي البطلة، وصحة الفرضية الثانية الأقوى في الدرجة وهي الحوارية المفتوحة بين الذات في بنية الحضور، والعناصر البيئية، وأطياف المكان وفق مستويات تجليها الواقعية، أو ما وراء الواقعية؛ أي المستويات المولدة كصور ذهنية داخل خبرات الوعي الأساسية، وانطباعات الكواليا الداخلية؛ ومن ثم تصير النتيجة هي إمكانية إنشاء حالات من التعاطف البيئي الإيجابي، أو تداخلات فينومينولوجية متخيلة، أو اتحاد افتراضي تمثيلي بين الذات والأطياف، والعناصر البيئية في صورها الذهنية المضاعفة، والمتجاوزة لحضورها الواقعي في العالم، وإمكانية التوسع في تلك الخبرات البيئية الداخلية الواعية كمقولات تفسيرية إدراكية، وميتا إدراكية.

ونلاحظ أن الخطاب يتضمن أيضا ثلاث استعارات إدراكية دالة؛ وتقوم الاستعارة الإدراكية الأولى على التشابه بين فضاء الإدخال الأول؛ وهو هنا تجسد البطلة الأقرب إلى نموذج الأنيما، والاتصال بالعوالم الطيفية، أو ما وراء الواقعية، وفضاء الإدخال الثاني، وهو عالم مكاني ممكن يجمع بين الفراغ، والتشكيل الدينامي للذات في تأملات الحضور، والأصوات الباطنية الكونية التكرارية المطمئنة؛ وتتشكل الروابط الدلالية بين الفضاءين الذهنيين عبر المراقبة التأملية الواعية، والتأويل الممكن، والمتولد عن وفرة الصور التأملية العميقة في وعي الآن، وتمازج الفضاءات الافتراضية المضاعفة التي تتصل بالتجسد داخل خبرات الوعي الخيالية الفينومينولوجية الفائقة، والمتراوحة مع التجسد الفيزيقي في آن في وعي ولاوعي البطلة؛ ومن ثم فالمجال العام لاستعارة هو فضاءات التجسد الممكنة الدينامية؛ وفضاء المزج الإدراكي هو التجسد الطيفي للبطلة ضمن جدران الفضاء القديم الذي يتشكل عبر الصوت، والعمق الروحي دون حدود مرئية؛ لأنه فضاء آني يحمل بداخله أخيلة الماضي، والنماذج الرؤيوية السماوية المتخيلة.

والاستعارة الإدراكية الثانية تتشكل من علاقة المشابهة بين فضاء الإدخال الأول تجسد البطلة كفضاء استعاري يمثل الأنيما في حضورها التأملي الخيالي الممكن في الوعي، وفضاء الإدخال الثاني، وهو ضوء النجوم، أو ضوء النجمة التي تشبه كوكب الزهرة المتصل بالأنوثة في الذاكرة الجمعية؛ وتتشكل الروابط السيمنطيقية بين الفضاءين الذهنيين من خلال النزوع التفكيكي الداخلي لمركزية التجسد، والرغبات الواعية، واللاواعية في الاتحاد بالضوء الكوني وشخصيات الحلم، ونماذج الأنوثة القديمة، والنزوع التجريبي نحو غياب مؤجل مملوء بتشكيلات الضوء الممكنة العابرة للزمن، والنهايات الحاسمة؛ ومن ثم فمجال الاستعارة العام هو الحضور التأملي الشفاف للذات؛ وفضاء المزج الإدراكي هو الضوء المحدود بأشكال هندسية وأنثوية حلمية مرنة، وقيد التشكل الجمالي التفسيري في وعي البطلة دائما.

والاستعارة الإدراكية الثالثة تقوم على علاقة المشابهة بين فضاء الإدخال الأول تجسد البطلة في العوالم البينية التي تقع في المسافة بين الغرفة، وغرفة المرأة الأخرى بوصفها مجالا استعاريا ينفتح على عوالم القبور القوطية، وتجدد الصورة الذهنية لطيف المرأة في الفضاء البيئي الموسع، وبداخل البطلة في آن؛ وفضاء الإدخال الثاني هو طيف المرأة الأخرى، وصوتها المتجدد ضمن تيار صور الوعي، واللاوعي داخل البطلة؛ ويتصل الفضاءان الذهنيان عبر رابط سيمنطيقي قوي؛ وهو نموذج الأنيما المضاعف وفق مستويات الأخيلة التأملية اللاواعية الشاردة وفق تعبير غاستون باشلار في شاعرية أحلام اليقظة، ومستوى الحضور التأملي ما وراء الواقعي للبطلة، ومستوى عودة الطيف المتحرر للأنيما عبر طيف له حضور أنثوي فائق ولامرئي في آن؛ وكأنه يمثل الحالة الذهنية أنا – من بعد أو في المستقبل المتجسد في بنية الحضور داخل البطلة؛ ويصير المجال العام للاستعارة الإدراكية الثالثة إذا هو التجسد الطيفي البيئي التأويلي الممكن؛ أما فضاء المزج الإدراكي فيصير تجسد ذاتي طيفي يعكس وعي نحن البيئي بصورة إيجابية بهيجة، أي ينفتح فيه الأنا على وعي بيئي طيفي موسع؛ وكأنه مسرح تجريبي للأطياف، وتجسدات الأنيما المضاعفة، والصور الذهنية التأويلية المتداخلة الاستعارية للبطلة؛ وكأنها مجال يشبه انفتاح غرفة المرأة الأخرى على عوالم الحلم، والأخيلة الرؤيوية ذات الطابع التوافقي المتناغم داخليا؛ فالذات هنا تعكس وفرة بهيجة للأطياف على مسرح افتراضي ممكن، ومتخيل ضمن الوعي البيئي التأملي الموسع للبطلة.

وارى أن مثل هذه التأويلات الاستعارية الباطنية - البيئية الممكنة لبنية الحضور الآني للبطلة في رواية جوخة الحارثي تقع في قلب النشاط الميتا إدراكي والعلاقة بين الحالات الذهنية أنا – من قبل، وأنا – الآن، وأنا – من بعد، وأنا – الميتا إدراكي أي في المستقبل داخل المعمار الميتا إدراكي في نطاق الذاكرة العاملة، وتأملات لحظة الحضور؛ والحالة الذهنية أنا – من قبل هي ذات البطلة التي تعاين الهارموني والتوافقية الكونية بدرجة أعلى نسبيا من اللاوعي؛ أما الحالة الذهنية أنا – الآن فهي الذات البيئية الموسعة التي تنشئ الحوار الصامت مع الآخر، والعناصر البيئية وفق بهجة المشترك الروحي، والخبرات الفينومينولوجية الخيالية اللامرئية والحاضرة بصورة فائقة في المشهد البيئي؛ ومن ثم تصير الحالة الذهنية أنا – من بعد أي تمثل المستقبل داخل وعي الآن هي توسع مضاعف لأطياف الأنيما، والصور الذهنية البيئية البهيجة التي تعكس ضمير نحن وفق مستوياته الداخلية العميقة.

وأرى أخيرا أن رواية ليل ينسى ودائعه لجوخة الحارثي قد أضافت منظورا بيئيا تجريبيا في سياق حساسية جمالية بيئية روحية قيد التشكل، والتطور في جماليات رواية القرن الواحد والعشرين.

*هوامش الدراسة /

(1)Read, Arne Naess, Life's Philosophy: Reason and Feeling in a Deeper World, translated by Roland Huntford  UNIV OF GEORGIA PR, 2008, p6:9

(2)Read, Daniela Verducci, Maija Kūle, The Development of Eco-Phenomenology as An Interpretative Paradigm of The Living World, Springer, 2022, p 8:12.

(3)راجع، جوخة الحارثي، ليل ينسى ودائعه، منشورات تكوين بالكويت، ط1، 2025، ص 18، 19، 35، 43، 44، 56، 57، 67، 68، 72.

msameerster@gmail.com