بعد طبعته الأولى العام 2004 عن دار المستقبل العربي، عادت دار صفصافة القاهرية العام الماضي لتصدر طبعة ثانية مزيدة من كتاب "بين كتَبَة وكُتّاب: الحقل الأدبي في مصر المعاصرة"، للأكاديمي الفرنسي ريشار جاكمون، ومن ترجمة بشير السباعي وعبد الرحيم يوسف. والكتاب الذي يسعى لكتابة سيرة للحقل الأدبي في مصر منذ العام 1967، كان ثمرة لرسالة لجاكمون، من جامعة "آكس أون بروفانس" في العام 1999. لذا كانت الطبعة الأولى مقتصرة على الفترة بين النكسة ومطلع الألفية، بينما تزيد الطبعة الثانية فصلين يغطيان العقد الأول من الألفية بحيث تصبح ثورة يناير الفاصل بين مرحلة وأخرى. وكما تشي كلمة "الحقل" في العنوان، فإن كتاب جاكمون يستلهم نظرية بيار بورديو واسعة التأثير بشأن الحقول.
في المقدمة يكشف جاكمون عن هدفه النهائي، أي إقناع القراء بعالمية "أشكال عظمة المثقف عموماً والكاتب خصوصاً، وبؤسهما". تلك العبارة موجهة في الأساس إلى قارئ الأصل الفرنسي، بمعنى أن الصورة التي يرسمها للساحة الأدبية في مصر ليست مشهداً إيكزوتيكياً، بل هي مشهد مألوف لا يختلف كثيراً عن الساحة الأدبية في فرنسا. وفي هذا السياق العالمي، فإن المفارقة الحادة بين عظمة الكاتب وبؤسه تنبع مما يطلق عليه جاكمون "خرافة المكتوب" أي هذا الإيمان شبه الغيبي بالسلطة المبالغ فيها للكتابة. والحال أن جاكمون في حين يفصل علاقة الكاتب بمثلث الدولة والحقل الاجتماعي والحقل الدولي، ويتتبع تشكل الحقل الأدبي المصري في علاقته بمفهوم الاستقلال الفكري والمادي والأخلاقي ويحلل التيمات الكبرى للعقيدة الأدبية المصرية، فأنه يصور بشكل حاد دراما الكاتب المصري المعاصر، أي الهوة الواسعة بين طموحاته النبوية والصعوبة الشديدة التي يواجهها في ترويج إنتاجه أو نيل الاعتراف.
لا يقدم جاكمون تأريخاً أدبياً بالضرورة، وإن اشتمل على تحقيب للزمن الأدبي في مصر وتجييل له، ويتوقف عند أحداثه الكبرى وعند أحداث السياسة التي واكبتها، ويربط بينهما أحياناً ويرفض الربط بينهما أحيانًا أخرى، متكئاً على الديناميات الداخلية للحقل الأدبي أكثر من السياسة بوصفها العامل الفارق في التحولات الأدبية الجمالية. في المقابل، يقدم لنا قراءة سوسيولوجية للحقل الأدبي، بطموح كبير لعمل مسح شامل له بمعايير السياسة والاقتصاد والأخلاق والجماليات والبنية الداخلية. وفي هذا السياق ينظر في علاقة الكتّاب أو "جيش الآداب"، كما يسميهم، بالنظام السياسي والدولة وجهازها البيروقراطي. وكذا في أنواع الرقابات والرقباء، على ضوء الطبيعة المزدوجة للكاتب بوصفه "مثقفاً عضوياً"، وفي الوقت نفسه "كاتباً مستقلاً". وحين يرسم خريطة لسوق الأدب، لا تقتصر حدودها على سوق النشر، بل يوسع تخومها لتشمل السينما والدراما التلفزيونية والأغنية والصحافة.
وفي تحليله لتبنّي الكتّاب المصريين المعاصرين دور "ضمائر الأمة"، يلفت جاكمون نظرنا إلى أن الجميع منخرطون في إعادة كتابة دائمة لـ"وصف مصر"، ويرجع هذا المشروع الجماعي الموسوعي إلى الفشل النسبي للأساليب الأخرى لتكوين المعرفة الاجتماعية، ولذا يتلبس الأديب دور "المؤرخ المستتر" أو"عالم الاجتماع الموازي". أما حين يتعرض للغات الأجنبية والترجمة، فيشير إلى الطبيعة الهجينة للأدب القومي في مصر، حيث تعايشت العربية إلى جانب الإنكليزية والتركية والفرنسية، قبل أن يتم تسييد العربية وحدها بوصفها لسان هذا الأدب.
يتعرض جاكمون أيضًا لتيمة الأدب والهوية، على محك "الخطيئة الأصلية للأدب القومي" وهو المولود ولادة غير شرعية من عناصر مستقاة من الآداب الأوروبية، متتبعاً محاولات تأصيل الأشكال الأدبية عربياً والنجاح النسبي في تأصيل مضمونها. وفي تناوله للهوامش والحدود، يقدم مسحاً لهوامش الحقل الشرعي، بداية من الجيش الاحتياطي من الهواة، إلى الأدب الإيروتيكي الخفيف. ولا يفوت جاكمون تحليل الانقسامات الجمالية والأجناس الأدبية، مركزًا بالأساس على الشعر، مشيرًا إلى أنه ليس ثمة معارك جيلية في مجال الرواية على خلاف الحروب المستعرة في الشعر، فالرواية هي "النوع الأدبي المضاد لمفهوم النوع الأدبي".
في النهاية، يستخلص جاكمون أن المدهش ليس التغيرات التي لحقت بالحقل منذ عقد الستينيات، بل الديمومة، أي تجدد الجدال حول التيمات نفسها، اللغة والهوية والعلاقة مع الآخر والالتزام والرقابة. لكنه، مع هذا، يشير إلى تحولات عميقة لحقت بالأدب، وفرة الإنتاج، وتأنيث الحقل بحضور واسع للكاتبات النساء، وتدويله بالوصول إلى موارد المجال الأدبي العالمي عبر التَّرْجَمَةً والجوائز. أما في ما يخص العقد الأول من الألفية، وعبر التأمل في ظاهرة "الأكثر مبيعا"، فيعلن موت ظاهرة الجيل ونهاية الكاتب الكبير، فهناك ترتيب جديد للحقل الأدبي يتمحور حول المنطق الاقتصادي الموجه للسوق، أو كما يقول: "مؤلفون جدد، وأماكن جديدة، وجماهير جديدة".
المدن