الحديث عن اشكاليات اليسار العربي يعني الحديث عن مراجعة العلاقة بالتاريخ وسردياته، وبالأطر الحاكمة عبر السلطة والايديولوجيا، وعبر طبيعة السياسات التي ارتبطت بهذا التاريخ، وبالمفاهيم التي صاغت ما هو ايديولوجي، وما هو ثوري، فهذا اليسار القومي أو الأممي ليس بعيدا عن "المثالية" ولا عن "اليوتوبيا" ولا عن فكرة "البطل الأخير" الذي كان يتوهم بصلاحية مطلقة للأفكار وفضيلتها في صناعة كليات ثقافية وسياسية وايديولوجية..
عقدة السيطرة على التاريخ هي الرهان الصعب على استمرارية الأفكار، وربط الايديولوجيا بالأخلاق، وبمفاهيم الحرية والثورة والديمقراطية، فبطء نمو الأفكار في الايديولوجيا، يجعلها أكثر عرضة للجمود، ولسرعة تحولها الى مركزيات، والى انماط دوغمائية في الإدارة والحكم، وفي صناعة القطيعة ما بين الايديولوجيا والثورة، وبالتالي وضع المجتمع العام، بما فيه مجتمع النقابات والجماعات الثقافية والسياسية إزاء اشكاليات ضاغطة للتعاطي مع التغيير، وإزاء ما تنتجه من مفارقات تتوزع بين الانجذاب الى التمرد على الحلم الايديولوجي، وبين التموضع في غواية لا واعية لرومانسية استبداد الرموز والايقونات التي وقع بها اليسار العربي القومي والأممي..
المراجعة تعني النقد، مثلما تعني البحث عن اسباب فشل احزاب اليسار العربي في صناعة "سلطة" وصياغة تصورات واقعية عن "مجتمع ليبرالي" يمكنه التكّيف مع المتغيرات الصادمة التي واجهها مسار الصراع السياسي والايديولوجي، والذي ارتبط بكوارث وطنية ونهايات فاجعة لكثير من تجارب تلك الاحزاب اليسارية، الناشئة في بيئات مغلقة، أو في ظل سلطات مستبدة، وتغولات دينية تنظر الى مفاهيم الحرية والثورة بارتياب شديد..
من جانب آخر فإن ازمة هذه الاحزاب، كانت تعبيرا عن وجود ازمة في البيئات الثقافية على مستوى تأمين استعدادات لتمثيل فاعلية الافكار في المناهج الدراسية، وفي العمل النقابي، وفي التمثيل العميق للنظرية السياسية، في اطارها الفلسفي والمعرفي، والتعرّف على مدى التعاطي مع استحقاقاتها، وكذلك على مستوى مواجهة الاختلافات التي يتقوض فيها التماسك السياسي/ الحزبي، والقبول الاجتماعي، والنظر الى علاقة ذلك بالسلطة، لا سيما في ظل غياب حقيقي للمؤسسات الديمقراطية، مع غياب أي منظور لمفهوم الاصلاح والتنوير، فضلا عمّا يعتورها من رثاثة في " ارادة التغيير" وفي عطالة ادواتها وفاعليها الحقيقيين، إذ غاب عنها ما سمّاه هيغل بـ " ادراك العصر في الفكر"1 وتعطلت قدرتها على ربط التمثيل السياسي/ الحزبي بالتطورات التاريخية، وبمدى حاجة البيئة السياسية الى قوة الايديولوجيا، والى الاعتقاد بأن الاحزاب اليسارية ستحمل معها مشروعا للخلاص، ولمواجهة مكتملة الادوات للقوى المهيمنة، بما فيها قوى الاستعمار والرجعية والاستبداد..
هذا ما جعل فاعلية النقد تتعثر إزاء التعقيدات الكبيرة التي يصنعها الواقع السياسي العربي، وازاء محدودية صناعة السرديات التي تعزز فاعلية التخيّل السياسي، في تحفيز القبول بالنظرية السياسية الثورية، وبفاعلية الحساسية النقدية، وجدتها في اعادة النظر بكثير من المفاهيم، والأطر التي ارتبطت بـ "اليسار القديم" في صيغته الجدانوفية، وبالتالي تهيئة العتبات الثقافية والنقدية للبحث عما يليق بـ "اليسار الجديد" على مستوى الافكار والمفاهيم، وعلى مستوى الوعي النقدي بها، والتعرّف على مدى صلاحيتها، واهليتها في اعادة النظر بـ "جهاز المفاهيم" التقليدية التي ارتبطت بقاموس الاحزاب اليسارية، مثل الاشتراكية، والمركزية الديمقراطية، والصراع الطبقي وفائض القيمة والطبقة العاملة والامبريالية وغيرها..
اليسار الثوري واليسار ما بعد الكولنيالي.
لم تكن فكرة اليسار العربي بعيدة عن اطروحات التجديد والتقدم، ولا عن الأطروحات التي اطلقها رواد النهضة العربية، وتصوراتهم حول قيم التنوير والاصلاح، فاغلب الافكار توزعت بين ما هو استعادي من الامجاد العربية، وبين ما هو "تقليد للغرب" ولـ "حرية المرأة" و"الاستقلال" والجدال حول "الحريات العامة" وهو ما أفرز افكارا جديدة حول الأمة والهوية والتاريخ والحقوق والمساواة، اصطنعت لها نوعا من الوعي القومي المضادة للخطاب الكولنيالي، ولما كرسه من وافكار ومراكز للهيمنة، استدعت الدعوة للشروع بالكفاح من اجل الهوية والحرية والاستقلال، وهو ما جعل جماعات القوميين العرب تستأثر بكثير من هذه المواقف، وبهذه المشاريع التي سرعان ما تعرضت الى صدمات عميقة، بدءا من عامي 1936 و1948 وما كرستاه من فشل في مواجهة التوسع الصهيوني، ونشوء كيانه في فلسطين، وصولا الى فشل الوحدة العربية بين مصر وسوريا عام 1961، ومأساة هزيمة حزيران عام 1967 التي انهت مرحلة "الرومانسية القومية" وبطلها القومي" في أنموذجه الناصري، مما مهد لانقلابات عسكرية في الفضاء العربي مثل الجزائر والعراق وليبيا واليمن، مقابل صعود تيارات راديكالية داخل الفضاء الفلسطيني، مثل حركة فتح، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والجبهة الديمقراطية، وحركات العاصفة وجبهة التحرير وما تلاها من تشظيات في هياكلها التنظمية والايديولوجية، لكن الأخطر في هذا التشظي هو ما حدث داخل الاحزاب الشيوعية، التي حملت تأصيل النضال اليساري العربي منذ ثلاثينيات القرن الماضي، عبر اطروحات للنضال الأممي وللنضال الطبقي، والتحالف التاريخي مع "الاتحاد السوفيتي" السابق، ومع احزاب ودول المنظومة الاشتراكية، ومع عدد كبير من الاحزاب الشيوعية العربية، وفي افريقيا واسيا واميركا اللاتينية، حيث كانت واجهات المنظمات النسائية، والحركات الطلابية والنقابات، والاتحاد الافرواسيوي وغيرها عناوين بارزة للوظائف والفاعليات الثقافية والايديولوجية للجماعات الماركسية..
إنّ انهيار الأحزاب، والحركات القومية وتحولها الى احزاب للسلطة المستبدة، اوقعها في سياقات عمل مضطربة، على مستوى علاقاتها السياسية والايديولوجية، وعلى مستوى موقفها من الصراع العربي الصهيوني، فضلا عن مواقفها إزاء قضايا التنمية والتقدم والحريات والحقوق والعدالة، فكان الانهيار البنيوي لهذه المنظومة هو العلامة الفارقة في تشوه وفشل احزاب اليسار القومي، وبؤس شعاراتها المُضللة، كما أنّ تحول هذه الاحزاب الى "قوى يمينية" والى عناوين للاستبداد والديكتاتوريات السياسية، جعلها اكثر خصومة وعنفا مع احزاب اليسار الشيوعي، حيث قامت تلك الاحزاب بحملات دموية ضد خصومها، كشفت من خلالها عن "عقدة التحول الكافكوي" في بنيتها الايديولوجية، فما جرى في العراق والسودان واندونوسيا وتشيلي من جرائم ارتكبتها "احزاب السلطة" ودعاماتها العسكرية التي انخرطت في أطرها، جعلها اكثر فشلا في تمثيل فكرة اليسار، واكثر دوغمائية في التعبير عن مفاهيم الدولة والامة والتنوع والاشتراكية، إذ تشوه معها مفهوم "الحزب السياسي" في صيغته اليسارية، أو في توصيفه الثوري والاجتماعي والتنظيمي.
وإنّ انهيار منظومات التحالف والتعايش بين الاحزاب اسهم في انهاء منظومة السلم الأهلي، والدخول في تواطؤات مشبوهة، أدّت الى الانخراط في بنية "الدولة المستبدة" إذ تحولت هذه الدولة الى "دوستوبيا" سياسية وايديولوجية، فرضت خطابها عبر مؤسسات وجماعات العنف، وعبر المصالح والسياسات النفعية، مما دفع الى فرض سياسة "التطويع" على الاحزاب المعارضة، او الى التشظي داخل هذه الاحزاب، فما حدث في الحزب الشيوعي العراقي والحزب الشيوعي اللبناني والحزب الشيوعي المصري والحزب الشيوعي السوري، والحزب الاشتراكي اليمني من انشقاقات دفعت الى اضعافها وتعويق برامجها الثورية، وفي ترسيم حدود علاقاتها الاقصائية مع الحكومات المستبدة، وكذلك علاقتها النفعية مع التحالفات الدولية، ومن ضمنها الاحزاب الشيوعية العالمية، والتي كثيرا ما بدت وكأنها جزء من خطاب دوغمائي للمركزية الايديولوجية التي كانت تم فرضها عبر "صيغ الأمميات" وبياناتها وسياقات عملها..
هذا الفشل اليساري لم يكن فشلا في الأطر الادارية والتنظيمية فقط، بل كان فشلا في سياق تمثيل الأزمة الفكرية التي دخلتها احزاب اليسار، فبقدر ما فشلت احزاب اليسار القومية في تمثيل وجودها التاريخي في استعادة فكرة الأمة ومرجعياتها، فإن فشل احزاب اليسار الماركسية كان أكثر تعبيرا عن تلك الأزمة الفكرية، وعن الطابع المركزي الذي يحكمها، وعن اليوتوبيا والمثالية التي استغرقتها في التعاطي مع افكار فوقية تخص مفاهيم "الصراع الطبقي" و"ديكتاتورية البروليتاريا" ومع العلائق التي تخص تبعيتها للمركزية الايديولوجية التي كان يمثلها "المعسكر السوفيتي"، وهو ما ترك انعكاساته الفاجعة على "البيئة السياسية العربية" التي تعاني اصلا من أمراض بنيوية عميقة، تخص ازمتها الوجودية مع انظمة سياسية مركزية، واقتصادات رثة وريعية، لم تستطع وضع تطورات حول المجتمع السياسي، والمجتمع المدني، وحول الحريات والحقوق، فما كان يستغرقها من مظاهر للرثاثة- الفقر، الجهل، الاستبداد، العنف الاجتماعي، الاستبداد السياسي، النظر القاصرة للمرأة، الشعبوية الدينية - كان من أكثر العوامل الذي اسهمت في تغويل الصراع ما بين واقعيات الأنظمة السياسية وبين الحلم الثوري بالتغيير..
اليسار الحزبي ومركزيات الايديولوجيا والسلطة:
تعثر نمو اليسار الحزبي كان اكثر التشوهات تعويقا لنمو بيئة اليسار الساسي، وهذا التعثر لم يحدث عفو الخاطر، ولا بسبب تضخم الهجنة السياسية في المنطقة العربية، ولا بسبب التعقيدات الهيكلية في تلك الاحزاب، بل كانت له اسبابه الموضوعية والذاتية، الخاصة ببيئات النشوء، وبطبيعة تمثيل مرجعياتها واستحقاقاتها في الادارة السياسية، وفي علاقتها الوطنية مع القوى الأخرى،، وفي ترسيم فاعلية حضورها في النظر الى قضايا إستراتيجية تخص مفاهيم الدولة والسلطة والحرية والتنوع والتنمية والأمن، وهذا ما جعل من ظاهرة "الحزب السياسي" تواجه مشكلات هيكلية، انعكس على فقدانه للهوية وللسمات الثقافية الواضحة، مقابل التورط في اسقاطات لعبة "الهويات المضطربة" وتضخم ظواهر السلطة والايديولوجيا والعسكرة، والتي افضت الى تضخمات مجاورة مثل القومية والطائفة والجامعة والعشيرة والعائلة، ولعل ما اشار اليه "حنا بطاطو" في دراسته لصعود الحركات والاحزاب السياسية "سمحت له بتفسير سبب فشل الطبقة الوسطى العراقية في تأسيس بديل ديمقراطي اشتراكي" 2
ازمة السياسي والايديولوجي في هذا الاحزاب هي ازمة وجودها في السياق الاجتماعي، وفي مجتمع غير مكتمل النضج الحضاري، والدخول في شبكات معقدة من الاعتقادات والصراعات، وفي مواجهة غير متوازنة ومتكافئة مع مركزيات الدين والقبيلة والمقدس والمعسكر والثروة والميتافريقيا، وعلى نحوٍ جعل عمل الحزب محدودا ومهددا وسط جمهور عمومي منهمك بخصوصياته العامة، وبأوهامه عن الخلاص، مما جعل "النخبة الحزبية" تخوض نضالها السياسي والثقافي بكثير من العُسرة، والتوتر، والتردد إزاء المهيمنات القهرية والعصابية التي تتحكم بالجمهور، وبالسلطة ايضا، فامتزج النضال بالتخيّل والحجاج، واحيانا بالخوف والمواربة والتقية، لاسيما وأن هذه النخبة كانت اكثر تمثيلا للبرجوازية الوطنية، وأن وعيها التاريخي كان مرتبطا بما هو نظري أكثر مما هو عملي، على مستوى التعاطي مع المشكلات السياسية والاجتماعية والانسانية، وعلى مستوى علاقة الأفق النظري مع الفكرة الحزبية بالواقع، وبمفاهيم المواطنة والحقوق الفردية، وبإشكالية تحويل "التنوع الثقافي العراقي المتجذر تاريخيا الى حقيقة منصهرة في بنية الدولة المدنية، وفي صورة تعددية ثقافية متفاعلة على ارضية سياسية مخصبة ومنتجة، في مقابل تجنب تحول التعامل مع فكرة التعددية الى مناسبة للتناحر والاقتتال الاهلي" 3
اليسار العربي ومحنة الحرية والديمقراطية:
ارتبط الحراك الحزبي بوصفه مجالا سياسيا بالانخراط في صراع معقد ومفتوح، في بيئات محلية صعبة ورثة، ليس لها شبكة علاقات حقوقية، ولا سياسية، فالبرنامج الداخلي مرهون بالطرح النظري للفكرة الثورية، وبطبيعة الصراع واشكاله الغامضة وبقواه المتداخلة، والتي جعلت من التمثيل السياسي للعمل الحزبي مكشوفا على "سوء فهم السلطة" وسرانية نظامها الرقابي، ومركزية نظرتها للحريات ولقيم الديمقراطية وللخصوصيات الفردية، لاسيما مع وجودها الانقلابي/ العسكري في "المجتمعات المغلقة التي تسود فيها انظمة تحكم وسيطرة شمولية، تحرص السلطات بمختلف اشكالها بدءا من الاسرة والعشيرة والمؤسسة الدينية والمدرسة وحتى المؤسسات السياسية على الحد من غلواء النزعة الفردية لصالح ابقاء الفرد جزءا سلبيا مطواعا من المنظومة الاجتماعية القائمة" 4
العمل الحزبي في اليسار العربي لم يتحول الى عمل مؤسسات، فبقدر ما كان سريا ومحاصرا، فإنه انخراط في تمثيل نظري للصراع الاجتماعي والطبقي والسياسي، وهو ما جعله مشوشا إزاء البيئات السياسية والاجتماعية، لا سيما البيئة العراقية القاسية في تحولاتها، وفي تاريخها وفي علاقتها بالانقلابات العسكرية التي شهدت اول انقلاب عسكري في الشرق الأوسط عام 1936، وهذا ما جعل احزاب اليسار تعيش نقائض هذا الواقع ومفارقاته، فضلا عن ضغط التاريخ ذاته، وتوهمات سردياته التي تشبعت بوجهة نظر سوداوية عن اليسار الشيوعي بشكل خاص بأنه يسار الالحاد والكفر والمروق وغيرها، وهو ما جعل كثير من الحزبيين يدفعون ضريبة نضالهم واحلامهم وبحثهم عن "الحقيقة" والخروج من غرائز القطيع الاجتماعي الى التنظيم والأنسنة والطاقة الحيوية الايجابية..
لقد تعرض "الجسد الحزبي" الى تراجيديا القسوة، فجعلت من بعضه جسدا خائنا، طيعا، مستسلما، خانعا، وجعلت من بعضه الآخر جسد بطلا، مضحيا، قربانيا، انتحاريا، متمردا.. هذه النقائض غابت كثيرا عن مرجعيات الدرس الانثربولوجي، وعن علاقته باستقراء محمولاته الرمزية، والتعرف على مظاهر الزيف الاستعراضي، وعلى العجز الذي جعل من تاريخ الاحزاب العراقية مجالا مفتوحا لمقاربة اضحيات الحلم الثوري، والادلجات المتعالية، واستيهامات المراقبة والضبط والتحكم والقمع والتغييب في السجون وفي المنافي..
ظل ارتباط "الجسد الحزبي" بالسلطة هو العنوان المخفي، في السياق، وفي التاريخ، فما صنعته السلطة القامعة للجسد تجوهر في موضوع الاخصاء الرمزي، ليظل خارج الاستعمال، أو لقتله على افتراض محوه من المشهد، كما حدث بإعدام الشيوعي المصري "شهدي عطية" واغتيال الكتاب اللبنانيين، مهدي عامل و حسين مروة، والمناضل التونسي شكري بلعيد وغيرهم، وكذلك ما فعلته السلطة في العهد الملكي العراقي بإعدامها لقادة الحزب الشيوعي العراقي – فهد، صارم، حازم" عام 1949 مثلما فعلته السلطة في العهد الجمهوري ايضا، من خلال إعدامها الغرائبي لقادة الحزب الشيوعي العراقي- سلام عادل، جمال الحيدري، وغيرهما" عام 1963 وكذلك جريمة صناعة مشهد "قطار الموت" الذي كان يحمل عددا من سجناء الحزب الشيوعي العراقي في 3تموز 1963، وكذلك مقتل الشاعر خالد احمد زكي في معركة "هور الغموكة" فضلا عن ما حدث عام 1978 بعد فشل الجبهة الوطنية بين حزب البعث، والحزب الشيوعي من جرائم قتل عمومي واعدامات علنية، كشف عن زيف الشعارات اليسارية للحزب القومي، مقابل احتيازه على شهوة السلطة ووضع الجسد الضد في السياق المختلف، تمهيدا لقتله، وتغييبه والنزوع الى صناعة ظاهرة الاستبداد والديكتاتور..
اليسار الجديد وخيارات الليبرالية:
مراجعة المفاهيم من اكثر التحديات اثارة للأسئلة، وأحسب أن البدء بمقاربة مفهوم "البيريسترويكا" الاصلاحي والخاصة بـ "اعادة الهيكلة" لمعالجة ازمة الدولة والحزب الشيوعي السوفيتي السابق، لا تقل اهمية عن مراجعة مفهوم " غلاسنوست" الذي يعني الشفافية في الادارة وفي التنظيم، يمثل مدخلا لمراجعة مفهومية واسعة للقضايا الاشكالية التي انعكست بشكل أو بآخر على فشل انموذج الحزب الشيوعي، في مركزيته، وفي اطروحاته، وفي سياق عمله التنظيمي والنضالي، ولأن العوامل الموضوعية والذاتية لم تشفع للحزب الأممي البقاء وسط تحديات دولية اقتصادية وسياسية وايديولوجية، فإن الغياب التاريخي لهذا الحزب، دفع الى ما يشبه "لعبة الدمينو" التي سقطت من خلالها مركزيات حزبية واسعة في اوربا، وفي غيرها، لكن ذلك لا يعني "موت اليسار" والثقة باطروحة فوكوياما حول مفهوم "التاريخ الاخير"، بوصفه مفهوما ايديولوجيا، ولا القبول بمفهوم "صراع الحضارات" كما تخيله صموئيل هنتغتون، وهذا ما جعل فاعلية المراجعة تكمن في مجالها النقدي، وفي تعاطيها مع أطروحات المتغير والجديد، وباتجاه اعادة توصيف مفهوم "اليسار" بعيدا عن ذاكرته الطوباوية، وعن تعقيداته الايديولوجية وشعاراته، واوهامه في الخلاص الليبرالي، إذ يستدعي هذا المفهوم وعيا مفارقا، وممارسات سياسية تنحاز الى ما سمّاه ريتشارد رورتي ب"التخيلات الواعية" التي تدرك من خلالها النخبة اليسارية الحاجات والمصالح في المجتمع الواقعي، وليس المجتمع المثالي، واعادة النظر بالشعارات الفائقة، واطروحات النقد الزائف، واسمائه الايقونية، وكذلك بالتحالفات النمطية، حيث "كان مثقف اليسار ينام ويصحو على خطابات نقد الرجعية العربية سليلة الإقطاع الفلاحي أو البورجوازية الكومبرادورية؟ وكان لا يتوقف عن سلخ الأنظمة الملكية وأشباهها من أنظمة التوريث السلالي، يسهر على أغاني مارسيل خليفة والشيخ إمام وخالد الهبر، ويعتبر أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ومحمد عبدالوهاب والموسيقى الأندلسية ثقافة بورجوازية يجب محاربتها، فهي سبب تردي الذوق وسبب انتشار الوعي الزائف وسبب هزيمتنا في حرب 1967" 5
اعادة صياغة مفهوم اليسار الجديد لا يعني الذهاب الى اطروحات النيوليبرالية، والى مجالها المفاهيمي الخاص بالحرية والعولمة، فاليسار رغم تقوض مرجعياته الايديولوجية القديمة، إلّا أنه ظل مجالا مفتوحا لتداولية يتشبك فيها الثوري بالعقلاني، والنقدي بالمعرفي، والطبقي بالحقوقي، وهي ثنائيات باتت تفرض وجودها على صياغة اجندة اليسار الجديد، في أوربا أو في الشرق، أو في اميركا اللاتينية، ولعل ما حققته الاحزاب اليسارية من فوز ساحق في الانتخابات الاخيرة في فنزويلا وبيرو وتشيلي وكولومبيا والمكسيك وغيرها دليل على معطى هذه التحولات في وعي المتغير والحاجة الى اليات عمل تتسق وطبيعة المجتمعات، والحاجة الى قيم تحفظ الهويات الوطنية، بعيدا عن الهيمنة الغربية، والعولمة الاميركية، والسيولة النيوليبرالية التي تسعى الى اعادة انتاج مفهوم القوة عبر الحروب والاقتصادات والاستثمارات والثقافات الناعمة، فضلا عن طبيعة المتغيرات الضاغطة عبر صعود احزاب اليمين المتطرف، وبروز شعارات العنصرية والنزعة الاوربية، وبما يجعل من احزاب اليسار أمام معطيات نقدية وحقوقية، ترتبط برهاناتها على مواجهة التهديدات، وعلى تجاوز العقدة الايديولوجية للاحزاب التقليدية، والى مواجهة تحديات الواقع الجديد، عبر نضالات اجتماعية وحقوقية ونقابية وانسانية تهدف الى افشال اهداف احزاب اليمين وسياساتها في تغذية افكار التطرف ونزعات العنف وكراهية الآخر...
الجديد في اسئلة احزاب اليسار:
الجديد في اسئلة احزاب اليسار، يعني التجديد في قاموسها النظري وفي ادبيات منهجها السياسي، وفي سياق تعاطيها مع مفاهيم التنافس والتعايش والتحالف، وهي ضرورات باتت ملحة، وفي مراجعة دائبة، على مستوى تجديد آليات العمل السياسي، وعلى مستوى التفاعل مع فاعليات الاصلاح، بما فيها الاصلاح الايديولوجي والتنظيمي والخطابي، لاسيما الاصلاح في الجهاز المفاهيمي، والاصطلاحي، فالعدالة الاجتماعية يمكن أن تكون نظيرا للاشتراكية، والتنوع والتعدد والتنافس الايديولوجي يمكن أن تكون نظيرا لديكتاتورية البروليتاريا، مقابل العمل على تبيئة القيم الثقافية ومفاهيم التنوير والاصلاح، لأن مفهوم اليسار الجديد يرتبط ب " الحركة الشبابية التي ظهرت في غرب أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، في أواخر خمسينات القرن العشرين لتمييزها عن الاتجاهات اليسارية التقليدية السابقة عليها. حيث وصلت ذروة تطورها واشتهار نفوذها في أواخر الستينات وتدنت أحوالها في السبعينات، ويجزم زعماؤها أن الطبقة العاملة قد أذعنت لعملية التحول إلى البرجوازية، ولم تعد قوة ثورية هامة، وإنّ على المفكرين الراديكاليين أن يوفروا القوة الثورية الجديدة الدافعة لتغيير الواقع الاجتماعي" 6
فضلا عن علاقته بمنظومة الافكار التي يُعبّر عنها، في سياق التغير الحادث في كثير من مجالات الصراع السياسي، وعلى نحوٍ يهدف الى "تغيير القيم الثقافية، من خلال محاولته لإيجاد قيم أخرى بديلة تمثلت في اهتمامه بأدوار الفنانين وعملهم، باعتقاده أن عملهم يتضمن نقداً حاداً للقيم التقليدية السائدة. وينبثق أيضاً اهتمامه بالفن والجوانب الجمالية بصورة عامة في إيمانه بأن ما يحتاج إليه المجتمع في ذلك الوقت قدر كبير من التغيير الثقافي أكثر من التغيير المادي" 7
جدل اليسار العربي سيظل مفتوحا، وسيظل توصيفه الثقافي والسياسي أكثر اثارة، وأكثر بحثا عن الجدة، لا سيما مع تجدد وتوسع تحديات الحزب السياسي، على مستوى اشكالات السلطة والنظام الاجتماعي، وعلى مستوى التعاطي مع تحديات السلم الأهلي والحروب والبيئة والمناخ وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية، وربما مع اطروحات الاستشراق وما يتعلّق به من قضايا تخص محنة الهويات "القاتلة والمقتولة" ومع الاوبئة وتعقيداتها الاجتماعية والاقتصادية، لاسيما مع فشل الدولة "الحديثة" في مقاربة اشكالات المرحلة المقبلة، وتداعياتها، لاسيما بعد فشل حركات الربيع العربي، وتشوش صورة الحزبي النمطي- اليساري والقومي والاسلامي- ودخول الاحزاب الجديدة الى ما يشبه الصدمة الايديولوجية التي قادت بعضها الى التموضع في برغماتية سياسية، وفي علاقات طارئة وهشة، لا منطق داخلي لها سوى الحصول على امتيازات برلمانية، أو مغانم سياسية، تراجعت معه الصورة الثورية للحزب اليساري، مثلما تراجعت معه القدرة على صناعة ايقونات رمزية فاعلة وجاذبة، حتى بدا الأمر وكأن فشل الاحزاب اليسارية في "استعادة وعيها" نظير لفشل السياسات العربية، وتشوه انماط حاكميتها واغترابها عن مفاهيم الدولة الدستورية، والدول الناجحة، وعن رؤيتها للمستقبل ولتحدياته في ظل تحول الصراع التاريخي مع الكولنيالية ومع سردياتها الايديولوجية الصراع اكثر غموضا والتباسا مع "الليبرالية الجديدة" ومع اشكال الصراع والتطور باتجاه عالم لها رساميله المرعبة، مثلما له احزابه الحالمة التي تحاول أن تصنع سياساتها على وفق ما تميله سيرة الجمر والرماد...
1. ريشارد رورتي/ المتهكم الليبرالي/ ترجمة فتحي المسكيني/ دار صفحة 7/ المملكة العربية السعودية/ 2022 ص 131
2. دنيا رزوق خوري / تاريخ العراق ومجتمعه بين حنا بطاطو وعلي الوردي/ مجلة عمران/ العدد 26 لسنة 2018
3. سعد محمد رحيم/ موقع الهوية/ السلطة، الجسد، المكان، العنف/ دار ميزوبوتاميا/ بغداد 2018 ص41-42
4. ذات المصدر ص52
5. أمين الزاوي/ جريدة العرب/ في 23 نوفمبر 2023
6. عبد الوهاب الكيالي: موسوعة السياسة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الجزء 7، 1994، ص 412.
7. ألفن جولدنر: الأزمة القادمة لعلم الاجتماع الغربي، ترجمة وتقديم: علي ليلة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، المشروع القومي للترجمة/ العدد:667، ط1، 2004، ص 595).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*علي حسن الفواز ناقد أدبي وروائي وباحث إعلامي من العراق، عمل محررا في عدد من الصحف والمجلات العراقية، ثم أصبح رئيسا لتحرير جريدة الصباح الصادرة عن شبكة الإعلام العراقي، ثم انتخب رئيسا للاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، وما زال يواصل عمله المهني في الاتحاد. وهو خبير استشاري في عدد من الصحف والمجلات الأدبية في العراق، ودار الشؤون الثقافية العامة. له عدة كتب في النقد والرواية وعشرات المقالات في الشأن السياسي العربي والدولي.