تراجعت في السنوات الخمس الأخيرة علاقاتي الاجتماعية مع الجيران بعد أن صارت العزلة سمة الحياة سيما حين ترافقت مع سيادة عصر الفيسبوك والتيك توك وما لحقهما من عبث رقمي. مضافاً الى ذك إحساسي بالوحدة خصوصاً بعد إحالتي على التقاعدبعد خدمة ثلاثين عاماً في التعليم الابتدائي. ومع ذلك كنت احتفظ بالحد الأدنى من التواصل معهم بمقدار تقديم واجب عزاء أو نحو ذلك من مجاملات العيد أو الزفاف. ومما يضاف الى ذلك أنني لم أتزوج لعدم قناعتي بالارتباط مع امرأة وإنجاب أطفال في هذا العالم القبيح. فيما كانت تسليتي الوحيدة قراءة الكتب ومشاهدة المحطات الإخبارية والوثائقية.
كانت حياتي هادئة وتسير بإيقاع متشابهوإيقاع جسدي البطيء. وكنت أعتمد على نفسي في قضاء حاجاتيحين أتسوق أسبوعاً لأسبوع من خلال ابنة أختي القريبة من بيتي الذي ورثته عن أبي، ومع ذلك كان لا بد من مكافأتها مع كل تسوق بمبلغ أعطيه طوعاً لقاء جهدها وللأمانة لم تكن تقبل بذلك، ولكنّ إلحاحي يضطرها القبول. وكانت أيضاً تخبز لي ما يكفيني لأسبوع. هكذا أحيا بشكل روتيني حتى جاء يوم شتائي عابر غيّر من حياتي.
كنا في فصل الشتاء وتحديداً في شباط منه حين طُرق باب البيت في وقت لم أعتده إذ كان في حدود السابعة صباحاً. البرد قارس ويحيل القلوب الى الإنجماد العاطفي والبشرة الى الإحمرار. وغالباً ما أكون بطبيعة الحال مستيقظاً في مثل هذا الوقت. خمنتُ بأنها ابنة أختي تُنبئوني بوفاة أحد ما ربما! أو لطلب حلّ لمشكلة تعرض لها أحدى أولادها في المدرسة في وقت سابق، أو سوى ذلك من مشكلات محتملة في الحياة، وهذا ما لم يحدث لأنني ببساطة حين فتحت الباب وجدتُ طفلة في حدود العاشرة تحمل كيساً رُتّب بعناية لئلا يبرد ما فيه من خبز، وقد عرضت عليّ شراء الخبز الحار. شكرتها وأغلقت الباب عائداً الى ملاذي دون أن تغادرني ملامح وجهها القانط حين رفضتُ الشراء. ولم يمر من الوقت سوى ثوان حين فتحت الباب مجدداً لأناديها بغية الشراء كنوع من التكفير عن خطيئتي تجاهها.
ابتسمت الطفلة وكأنها ستمتلك العالم ببضعة دنانير وضيعة. اشتريت منها ما يفوق حاجتي لأنني لم أضع ابنة أختي في الحسبان، اشتريت منها الخبز لإرضاء خيبة أملها وعدت مرتاح الضمير الى غرفة الاستقبال وصادف أنني خططت ليلة البارحة لإعادة قراءة رواية الخبز الحافي لمحمد شكري.
عدت محملاً بالخبز وبالرضا عن نفسي لأنني لم أخذل تلك الطفلة التي لا أعرفها من تكون؟ وتساءلت مع نفسي عن جدوى تكرار الحياة لأحداث رواية أو دراما أو حدث يرد في حكاية شعبيةأو فيلم سينمائي أو تقرير إخباري؟!وكم كنت أتمنى أن ينتهي سؤالي لأركن الى وحدتي لكن الحياة رفضت الإجابة دافعة إياي صوب البحث عن الجدوى.
فبعد ذلك اليوم تكرر مجيء الطفلة بنحو متواصل لأشتري منها الخبز بدافع الشفقة حتى صرتُ محل انتقاد من قبل ابنة أختي التي هددتني في حال شراء الخبز من تلك الطفلة فأنها ستقاطعني لأنني أبالغ في التعاطف معها. وهذا الأمر قد يضعني في تأويل الآخرين كوني منحرف أو ما شابه. غير أنني لم أرضخ لها وبقيت أشتري الخبز منها يومياً حتى كاد أن يصير بيتي مخبزاً من غير طحين ولا خباز!!
وبعد التقصي عن الطفلة خلال مطلع شهر نيسان اكتشفت بأنها تسكن مع أمها مضافاً اليهما أخ معاق قريباً من بيتي وكانوا قد استأجروا المكان بُعيد سجن الأب لتعاطيه المخدرات! عرفت ذلك من خلال جيرانهاأثناء تتبعي لها. ومن هنا بدأت حياتي تتغير فقد اضطررت الى الخروج للتسوق اعتماداً على نفسي، كما صرتُ أخرج لإيصال الخبز المتيبس الى أحد القصابين ممن يربون المواشي لعدم حاجتي له.
لقد آمنت بأن جدوى تكرار حكاية ما من شأنها أن تنقذ حياة إنسان أو تساهم في تعديل انحرافأو ليتعلم منها البشر شيئاً نافعاً. والغريب أنني لم أسأل ولا مرة واحدة عن اسم الطفلة سوى سؤال يتعلق فيما إذا كانت مستمرة بالذهاب الى المدرسة، لتجيب بالنفي.
استمرت الطفلة بالمواظبة على المجيء اليومي محملة بالخبز وبالابتسامة الدافئة، وصارت جزءاً لصيقاً بي، بل حاجة نفسية للتوازن، حتى انقطعت في يوم معتدل الطقس من شهر أيلول بعد ثمانية أشهر من دوام المجيء. وبعد الخروج للتقصي عنها صُدمت بخبر موتها بحادث دهس بينما كانت متوجهة الى السوق لشراء دمية لأخيها المعاق بعد طول انتظار وكدّ عمل طويل كُوفئتْ عليه لتدّخر ما وفرّته لهذا الغرض. عرفتُ ذلك من أمها التي قصّت لي بدموع ساخنات موت ابنتها. كما شددت على أنها كانت تنعتني بالرجل الرحيم. وقد دخلت نوبة اكتئاب شديد لشهر. كنت أنظر الى الباب بانتظار أن تأتي مرة أخرى ولكن ذلك لم يحصل فلن يطرق الباب ثانية. كنت أعيش على فرضية أنني أحلم لتلافي قسوة موت تلك الطفلة.
بعد هذا الشهر عاودت ابنة أختي الظهور في حياتي متعاطفة معي ومع عزلتي وحاجتي للاهتمام مبديةً أسفها على موت تلك الطفلة، وإن كان ذلك بعد فوات الآوان. طلبتُ منها أن تتواصل مع أمها ليكون بإمكاني الوقوف معها، داعماً لها، غير أنها رفضت في البدء خشية ألا يؤول اهتمامي بها كضرب من التقرب لامرأة بلا زوج رغم شيخوختي. لكنها أذعنت وذهبت اليها ثم عادت بخبر صعب وهو أن المرأة تركت البيت وغادرت برفقة طفلها المعاق الى جهة غير معلومة.
هنا قررتُ أن أكتب حكاية تلك الطفلة التي عاشت وماتت من غير أن تعرف لماذا؟ لقد تقصت ابنة أختي عن أحوال تلك المرأة للتثبت من حسن نواياي تجاهها لأنها ساءت بي الظن حين كنت أشتري كميات الخبز الكبيرة من ابنتها. واستطاعت أن تتعرف على قصتها حين روتها لي:
- بعد أن تقصيت من جيرانها التي روت لي قصتها كما سأرويها لك.. حيث تقول: حين روت لي حكايتها شككت فيها في البدء، ولكن مع مرور الوقت صرتُ مقتنعة بما روت سيما بعد مشاهدتي لأحد إخوتها يوم جاء مهدداً إياها بأن تكفّ عن الذهاب الى السجن لمقابلة زوجها بعد أن تمادى في فضائحه حين كان يتناهى الى سمعه ما يفعله نسيبه في السجن.
كانت أسماء فتاة طموحة وتحلم بتحصيل دراسي يعينها على عمل شريف ويمنحها الاستقرار سيما بعد موت أبويها لتقع تحت مطرقة الأخ وزوجته السليطة. غير أن أحلامها تأبى إلا أن تُقبر بعد زواجها القسري بابن عمها الوضيع، تلك الزيجة التي أُجبرت عليها تحت ضغط التقاليد.
كان زوجها أحميد كما ينادى عليه من قبل الناس، نزقاً، سافلاً، أمياً، أحمق بلا كرامة أو إحساس بالمسؤولية، وقد فكر الأخ بالتخلص من أخته بناءً على إلحاح زوجته المسخ، فزوّجها لهذا النذل الذي سرعان ما أنجبتمنه بنتاً وطفلاً معاقاً دون أن يخرج من انغماسه في التعاطي. وهكذا صار الى السجن وظل يمارس انحطاطه وسط بقاء أسماء كشجرة تقاوم رياح شديدة البأس تهددها بالاقتلاع في أية لحظة.
علمتُ بكل تلك الأحداث قبل أسبوع من حادث الدهس الذي تعرضت له سارة وها أنا ذا اشعر مثلك يا جارتي بالأسف على الطفلة وأمها.
أنهت ابنة أختي روايتها كما سمعتها عن جارة أسماء وغادرت البيت بهمّ كبير فيما بدأت روايتي التي سأكتبها عن طفلة أضاعت نفسها مرتين، مرة حين صارت مصادفةً ابنة لأب وضيع، ومرة لأنها كانت تحيا تحت ظل الفقر. ومع ذلك سأظل أحلم بمتى سيُطرق الباب؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حسين محمد شريف
قاص وروائي عراقي
نال عدة جوائز عراقية وعربية
عمل معداً لبرامج ثقافية في عدة فضائيات
عمل مسؤولاً للملحق الثقافي (تواصل) في صحيفة التآخي
ويعمل حالياً مدير تحرير في مجلة الأديب العراقي
نشر العشرات من القصص في الجرائد والمجلات والدوريات العراقية والعربية
الجوائز
1/ المركز الاول عام 2010 في مسابقة الزمان الابداعية
2/ المركز الثاني عام 2011 في مسابقة نبدع للولي
3/ جائزة افضل نص عام 2011 في مهرجان المسرح التجريبي الاول
4/ جائزة الشارقة للإبداع العربي 2013
5/ المركز الثالث عام 2016 في مسابقة اتحاد الادباء الدولي في امريكا
6/ المركز الاول عام 2017 مسابقة سافرة جميل حافظ
7/ المركز الثاني عام 2021 مسابقة نجمة القدس
8/ المركز الثالث عام 2024 مسابقة وزارة التربية العراقية فئة المسرح
طبع له
1/ عليك المكوث طويلاً داخل السؤال، مجموعة قصصية، وزارة الثقافة والإعلام في الشارقة عام 2013
2/ المحجوب بقمره الواحد رواية ، دار الفراهيدي ط 1 بغداد 2013
3/ صورة جانية للخريف رواية عن دار الجواهري
4 / فراشات العطار رواية عن دار تأويل السويد 2021
5/ وحيداً في ليلة النسيان، مجموعة قصصية، عن الاتحاد العام للأدباء الكتاب بغداد عام 2021
6/ صولوجماعي، رواية، عن دار السرد، بغداد عام 2023
7/ من هنا طار الحمام،مجموعة قصصية، عن مركز بينة للأمن الفكري والثقافي كربلاء عام 2024
8/ جامع الأغنيات الحزينة، رواية، منشورات الاتحاد للأدباء والكتاب بغداد عام 2024
9/ من أوراق المسافر السرية، مجموعة قصصية، دار السرد بغداد 2025