يتابع محرر (الكلمة) هنا تناوله السنوي لمهرجان أفينيون الذي تشكل متابعته علامة مميزة على النشاط الثقافي كل عام، خاصة وأن مسرح اللغة العربية كان ضيف شرف هذه الدورة من المهرجان. ويتناول هنا قراءته للبرنامج، ثم بعض مشاهداته الأولى فيه، وسوف تعقبها مشاهدات أخرى في عدد قادم.

مهرجان أفينيون التاسع والسبعون 2025

مهرجان أفينيون وإشكاليات مسرح اللغة العربية

هل كانت الاستضافة للغة أم لمسرحها؟

صبري حافظ

 

حينما أعلن مدير مهرجان أفينيون في ختام مهرجان العام الماضي – في دورته 78 – أن مسرح اللغة العربية سيكون هو ضيف شرف المهرجان القادم، تفاءلت بالأمر خيرا. وطلبت من المكتب الصحفي وسيلة للاتصال المباشر به، كي أقترح عليه بعض ما يجب أن يتضمنه برنامج العام القادم من فرق تعكس مدى ما في المسرح العربي من طاقات درامية خلاقة، في كل من المسرحين الفلسطيني والتونسي. خاصة وأنني تابعت طريقته في إدارة المهرجان، منذ أن أوكلوا له إدارته عام 2023، فاستضاف المسرح الانجليزي وهو الأمر الذي كان لي تحفظاتي عليه حينها. ثم استضاف في عامه الثاني مسرح اللغة الإسبانية. وها هو يريد أن يستضيف مسرح اللغة العربية، وهو أمر مهم. وبالفعل كتبت له في سبتمبر أو أكتوبر من العام الماضي ببعض المقترحات. صحيح أنه لم يرد على رسالتي له، لكني تصورت أنه وضع تلك المقترحات أمام فريق إعداد جدول برنامجه الجديد للنظر فيها. لكنني ما أن قرأت البرنامج الذي أرسله لي قبل أكثر من شهرين، حتى صُدمت. ولم تبدد قراءتي التفصيلية للبرنامج، ولا حتى للملف الصحفي الموسع الذي بعث به المهرجان لي، من وقع هذه الصدمة بل ضاعفتها. لأنه باستثناء عمل أو اثنين سيكون من الصعب أن نرى فيه مسرحا، بالمعنى التقليدي للمسرح والذي ينهض على نص درامي مكتوب.

والواقع أن ما يكشف عنه البرنامج، وما يقوله المهرجان، وهو أن هيئة تنظيمه، حرصت على أن تمنح عروض اللغة المستضافة – أي اللغة العربية – 30% من مجمل عروض المهرجان التي بلغت 42 عرضا، يعمق من وقع هذه الصدمة على متابع للمهرجان مثلي. وإن كان ما خفف من وطأتها قليلا أن فيه شيئا من الجدية التي سيضعها تناولنا للمهرجان حينما أذهب إليه، محل الاختبار. خاصة وأن المهرجان عاد لموعده الطبيعي الدائم من 5 – 26 يوليو – وسوف أكتب للقراء عنه. ويحرص البرنامج على استخدام كلمة عرض Spectacle، بدلا من مسرحية، لأن عروض الرقص الحديث أو تلك التي تمزج بين أكثر من جنس فني، تحظى بقدر كبير من الاهتمام فيه. وهو الأمر الذي حرص على تحقيقه في الاثنتي عشر عرضا التي مثلت فيه مسرح اللغة العربية. وقد آثرت إدارة المهرجان تحقيق ذلك من خلال التعامل مع هيئة أخرى شبه رسمية، هي معهد العالم العربي في باريس. وهو أمر لا يخلو من إشكاليات ينتمي أغلبها إلى إشكاليات المهجر المزمنة، والتي تتمثل أولاها في المدير الحالي لمعهد العالم العربي، وهو شاعر عراقي محدود القيمة بمعايير الشعر العراقي نفسه. كما أنه أمضى جل حياته العملية في المهجر، ولا أظن أنه يزعم أي معرفة بالمسرح العربي، وخاصة في البلدان التي يزدهر التجريب فيها.

أما الإشكالية الثانية، فهي أن معهد العالم العربي لم يُعرف عنه، على مد تاريخه الذي تابعته عن كثب منذ إنشائه في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، أي انشغال بالمسرح العربي. لقد انشغل طويلا بالسينما، وبالفنون التشكيلية، وحتى بغيرهما من فنون الكتابة المختلفة، لكن اهتمامه بالمسرح بقي في أضيق الحدود، إن لم نقل معدوما. لهذا نجد أن تعاون المهرجان مع معهد العالم العربي كان عبئا على البرنامج، وليس أداة لإرهاف اختياراته وتعزيز قدرته على استقطاب أفضل التجارب العربية. وقبل أن نتريث قليلا عند أثر هذين الأمرين على اختيارات مهرجان هذا العام لمسرح اللغة العربية، دعونا نبدأ بكلمة مدير المهرجان التي يقدم بها برنامجه.

وقد عنون تيجو رودريجز كلمته الافتتاحية بـ«معا» واستهلها بمقتطف دال من شعر محمود درويش «أنا أنت في الكلمات» وهي الكلمات التي جعلها شعار مهرجان أفينيون لهذا العام. حيث يقول: «اليوم كما الأمس تسمح لنا كلمات، وحركات، وأصوات، وصور الفنانين أن نكون الآخر. لتكشف في الإنسان هذا الكائن المتغير والساطع. نحن لا نروي القصص فقط للنجاة، مثل شهرزاد في (ألف ليلة وليلة). نحن نرويها للعيش سوياً، ولنتعلّم كيفية فعل ذلك بشكلٍ أفضل. أن نكون معاً يعني الاختلاط. من باريس أو بيروت، من كيغالي أو برلين، من أورليان أو مراكش، يلتقي الفنانون والتقنيون من 15 بلداً تقريباً خلال هذا الصيف في أفينيون لمقابلة الجمهور وبناء يوتوبيا عابرة للحدود، ولكن حقيقية جداً: أن نكون معاً هذا التجمع البشري، هو هوية المسرح. نحن نتذكر، ونتنبأ، وننقل، ونتساءل، ونشك، ونترجم، ونتخيل، ونرغب. كلّ ذلك بصيغة المتكلّم الجمع، مهما اختلفنا الواحد عن الآخر. التنوّع هو كنز. نحن نقدّر هذا الحوار في مهرجان أفينيون، لأنه يتيح لرؤى مختلفة عن العالم أن تتواجه وتتحاور.»

وبعد أن يحدثنا عما يدور في مدينة أفينيون في أوقات السنة الأخرى، خاصة وأن هذه المدينة قد اختيرت هذا العام – عام 2025 – كي تكون مدينة الثقافة المحلية، أو بالتعبير الفرنسي المنتقى أرض الثقافة Avignon, Terre de Culture 2025. حيث تحتفل فرنسا بالثقافة على مد العام في مدن محافظاتها المختلفة، وتستثمر فيها على الدوام. لأن ما كان يدور فيها طوال العام كان نوعا من الاحتفال بالفضول، وهو أمر مغاير لما يسعى المهرجان أن يحققه. حتى ولو أخذ الفضول المدينة حتى تخوم المستقبل، كي تعيد تأكيد زخم اللامركزية، والمبادرات المحلية، والديموقراطية، والاستثناء الثقافي الذي تميزت به هذه المدينة بعد الحرب العالمية الثانية، وحتى الآن. ويعتبر أن ما جرى في أفينيون طوال العام «حركةٌ غير مكتملة لكن ثمينة، أتت ثمارها وتستحق أن تستمرّ بتوحيدنا. في عالم يزرع فيه الاستبداد الحرب، ويهدّد الديمقراطية، وينكر الطوارئ المناخية، ويعتّم على كلّ فكرة عن المستقبل، لنستفيد من كلّ لحظةٍ. لأن مهرجان أفينيون هو نقيضها معاً. لنفكّر بمسارات جديدة. إنّ المسرح دائماً ما يعيد اكتشاف المستقبل فيه. خلال شهرٍ، خلال حياةٍ كاملة، فلنكن أحرار ومبدعين. فلنحتفل، من دون أن ننسى مآسي الماضي والحاضر. فلنحتفل، لأن المستقبل ينادينا. فلنكن الآخر في الكلمات، لأنها أجمل طريقةٍ لنكون فعلاً أنفسنا. معاً

والواقع أن أبرز ما استوقفني في كلمة رودريجز الافتتاحية تلك، هو أنه – وبشكل ضمني مراوغ – يطرح المسرح/ الدراما في مواجهة السرد كنوعين فنين مختلفين من حيث المنطلق الفكري والفلسفي العميق. لأن السرد في تجليه الشهرزادي الأهم يدرأ عنا بطبيعة لعبة الزمن الضمنية والمراوغة فيه عوادي الموت، ويجسد سعينا للنجاة من فخاخ الحياة المختلفة. أما المسرح/ العرض/ الدراما فإنها بطبيعتها الحوارية تتطلب منا أن نعمل معا! وأن نحتفي باختلافاتنا وتفردنا في الوقت نفسه، وبما يستطيع كل منا أن يضيفه إلى الآخر. وإن كان من مفارقات هذه الملاحظة أن العمل الأول – ضمن ما يعتبره البرنامج من أعمال اللغة العربية المستضافة – يعتمد على (الف ليلة وليلة) وإن جرّ استقصاءاتها إلى مجال الرقص الحديث. لكن البرنامج يعترف بأهمية استضافة مسرح لغة ما في كل دورة. لأنها تعني «في المقام الأول، تقبّل حقيقة عدم قدرة أي برنامجٍ كان، على استنزاف ثراء أي لغة وتنوعها. كما تعني العثور، في هذه اللغة، على إلهامٍ يحرّكنا، ويدفعنا إلى الشروع برحلات، واكتشافات، واستقصاءات جديدة؛ وإلى بناء جسور الحوار، وإلى الذهاب لأصقاع لم نكن نفكر في ارتيادها من دونها. إذ تأتي اللغة العربية في المرتبة الخامسة بين اللغات الأكثر تداولاً في العالم، وفي المرتبة الثانية في فرنسا، وقد أثبتت وجودها على الصعيد الأوروبي والعالمي. على عكس الإنجليزية والإسبانية، اللتين تمت استضافتهما خلال دورات المهرجان السابقة، واللتين توسعتا من أوروبا إلى بقية العالم. لأن اللغة العربية تحمل في طياتها تحركات، ورحلات، وروايات مختلفة

والواقع أن اختيار اللغة العربية لمهرجان هذا العام كان أمرا بالغ الأهمية والتوفيق، فما أشد حاجتنا لإرهاف الحوار بين رؤانا وإبداعاتنا وبين العالم الغربي خاصة بتحيزاته العميقة ضد اللغة العربية والإسلام معا. لأن اللغة العربية، وهي لغة المعرفة والحوار والتواصل، عانت طويلا من وضع الغرب لها في سياق التطرف. ورهنها لدى تجار العنف والكراهية الذين ينسبونها إلى مفاهيم الانغلاق والانطواء على الذات، والأصولية، وصدام الحضارات. لذلك «تمثّل استضافتها في المهرجان، اختيار التصدي إلى التعقيدات والصعوبات السياسية عوضاً عن تفاديها، والوثوق بقدرة الفنون على خلق مجالات للنقاش والتبادل المشترك. وسيمثل اللغة العربية مبدعون ومبدعات من تونس، وسوريا، وفلسطين، والمغرب، ولبنان، والعراق ... لدى كلٍّ منهم صلة قوية بدولةٍ، ومنطقةٍ، وإقليم. فيربطوننا، عبر لغاتهم ولهجاتهم، بوقائع مختلفة، ويدفعوننا إلى التفكير بقدرة الكلام – عبر تغيير إدراك الواقع – على  تغيير تاريخ الشعوب لذلك علينا أن نتريث قليلا عند من اختارهم المهرجان للقيام بتلك المهمة الصعبة في التصدي لكل ما يُطرح حول اللغة العربية والثقافة العربية من  كراهية وتشويه.

عروض اللغة العربية:
تبدأ المفارقة من أن أول عرض في تلك العروض المنسوبة للغة العربية في برنامج المهرجان، والذي سيفتتح المهرجان به عروض هذه الدورة في أهم فضاءاته، وهي ساحة الشرف في القصر البابوي، ليس عربيا بأي حال من الأحوال. لأنه وإن كان يستلهم أبرز أعمال الأدب العربي، وهو كتاب (الف ليلة وليلة)، فإن مبدعته، والبلد الذي جاء منه وهي (الرأس الأخضر Cap Vert) لا تتكلم اللغة العربية، بل البرتغالية، وربما كان هذا سر شغف مدير المهرجان البرتغالي بأعمالها. واستضافته لها كفنانة المهرجان القديرة. صحيح أن مبدعته مارلين مونتيرو فريتاس Marlene Monteiro Freitas من أبرز مصممي الرقصات الذين أثبتوا موهبتهم على الساحة الدولية، ومن أكثرهم اهتماما بمزج المسرح بالرقص بالموسيقى وبغيرها من أدوات العرض المسرحي، في محاولة لمحو الحدود بين الدول والجماليات والهويات، فإن المبرر الوحيد لإدراج عملها المعنون NÔT ضمن أعمال اللغة المستضافة هو استلهام العرض لألف ليلة وليلة، واحتفائه بشهرزاد التي استطاعت البقاء في وجه سطوة الموت والاستبداد المهددة لكل ما في الحياة من عرامة وخصب.

لكن إذا ما نظرنا إلى بقية العروض الإحدى عشر سنجد إشكالية الهجرة التي طرحتها تواجهنا فيها من اللحظة الأولى. لأن ستة منها جاءت من أوروبا (فرنسا وبلجيكا)  أما الخمسة الباقية فقد جاءت ثلاث منها فقط من العالم العربي. يتقدمها عملان لمسرحيين سبق أن شاركا أكثر من مرة في دورات المهرجان السابقة: ألا وهما بشار مرقص الذي جاء بعمله الجديد من فلسطين بعنوان (حاضر يا أبي)، وعلي شحرور وهو من أبرز العاملين في مجال الرقص الحديث في لبنان بعمله الأخير (عندما رأيت البحر). وقد سبق أن شاهدت – في مهرجان أفينيون في دوراته السابقة – أكثر من عرض لعلي شحرور، وهي عروض جيدة تسعى لخلق لغتها / وأجروميتها الحركية والبصرية الخاصة. أما بشار مرقص، والذي يجيئ هذا العام بعمل مشترك مع خلود باسل، فقد سبق وكتبت بالتفصيل عن عرضه المدهش (Milk) الذي استغنى فيه كلية عن اللغة المنطوقة، واستطاع عبره أن يستحوذ على انتباه المشاهدين لساعتين، دون أن يستخدم فيه كلمة واحدة. وقد ملأ المسرح بالحركة والدراما الحقيقية التي يعيشها الشعب الفلسطيني، وخاصة المرأة الفلسطينية تحت وقع أبشع احتلال واستعمار في التاريخ الحديث.

أما العمل الثالث الذي جاء من العالم العربي، فقد جاء من تونس، ليس بأحد فرقها المسرحية الشهيرة مثل التياترو أو فاميليا أو غيرها من الفرق والتجارب التي أضافت الكثير لضمير المسرح العربي. وإنما بعرض فلكلوري يوّصفه البرنامج بأنه «عمل إبداعي راقص ووثائقي يسلط الضوء على مهارات النساء صانعات الفخار بمنطقة سجنان بتونس، عندما تصبح الحركة رمزا للمقاومة». بعد ذلك نلاحظ أن بقية الأعمال التي صنفها البرنامج على أنها من أعمال اللغة المستضافة جاءت كلها من المنفى الأوروبي. حيث جاءت المغربية بشرى وزكان بعمل من الرقص الحديث بعنوان (دائما ما يعودون) تجلب فيه مجموعة من الهواة من الإقليم المحلي للأداء في الفضاء العام وتتناول فيه مواضيع أثيرة لديها مثل الغرابة والحب والنسيان. بينما يطرح المسرحي ا لسوري وائل قدّور من منفاه الفرنسي في عمله المعنون (الفصل الرابع  Chapitre quatre) حق المسرحي في الفشل والتجريب، خاصة في ظل الظروف الإنتاجية التي يعيشونها في المنفى؛ من خلال استعادته، لتجربة مسرحية عاشها في سوريا قبل النفي، حينما وفد إليها المسرحي السوداني ياسر عبداللطيف لتقديم عمل استقاه من مسرحية هنريك إبسن الشهيرة (عدو الشعب).

ويقدم مصمم الرقصات التونسي محمد طوكابري الذي يعييش في بلجيكا عرضا فرديا راقصا يمزج فيه لغة الرقص الحديث والهوب -هوب والقصة الشخصية والذكريات الجمعية بعنوان (كلنا نعرف ما سيجلبه الغد، لأننا نعرف ما حدث بالأمس). أما رضوان مريزقة وهو المغربي الذي يعيش ويعمل في بلجيكا فقد جاء بعرض بعنوان (سحر Magec)  يستكشف عبره معرفة الصحراء، وينسج الألحان بالحركة والرقص والقصص، ليطرح أسئلته حول علاقتنا مع الزمن والطبيعة، ومع الثقافات التي تسكن الصحراء. وهناك عمل للمخرج المغربي/ الفرنسي محمد الخطيب أعده مع إسرائيل جالفان بعنوان (إسرائيل ومحمد) لم يدرج ضمن مسرح اللغة المستضافة، وإنما صنف ضمن الأعمال الأوروبية التي جاءت من أسبانيا التي يعيش فيها أولهما وفرنسا التي يعيش بها ثانيهما. وعلى نفس ا لمنوال يجيء عرض تمارا السعدي – والذي يصنف في البرنامج  على أنه قادم من فرنسا، وسيدور باللغة الفرنسية التي تعمل بها السعدي في مسرحها. وهو بعنوان (أخرس  Taire)  يخبرنا البرنامج الذي لا يشير إلى أن تمارا السعدي من العراق، وإن نشأت في فرنسا، بأنها عن محاولة السعدي سبر أغوار واحدة من اللقطاء وأوجاع الحياة في مؤسسات الرعاية الاجتماعية أو الأسر البديلة، من خلال المزاوجة بين شخصيتها عدن وأمشاج من مأساة «أنتيجوني».

كما أعلن البرنامج عن عرضين باسم معهد  العالم العربي – تؤكد طبيعتهما ما سبق وذكرته من إشكاليات عدم معرفة معهد العالم العربي بالمسرح. أولهما بعنوان (أم كلثوم) صُنف على أنه قادم من مصر وفرنسا، ولا أدري ما هو إسهام مصر فيه. وأُتيح له العرض وإن لليلة واحدة في ساحة الشرف بالقصر البابوي. وهو عرض ستقدم فيه فرقة موسيقية يقودها زيد حمدان، وهو للمفارقة موسيقي لبناني، لا علاقة له من قريب أو بعيد بمصر او بأم كلثوم أو تراثها أو ومن عملوا معها من الموسيقيين. أما العرض الثاني بعنوان (ليلة نور Nour) فإنه كما يقول العنوان الفرعي احتفال بشعرية اللغة العربية، أو بالأحرى سهرة يحتفي خلالها موسيقيون وشعراء وممثلون وراقصون وفنانون بالثراء الاستثنائي للغة العربية. ولا أريد أن استبق الحكم على ما سيطرحه علينا هذا البرنامج بالقول بأنه لا يمثل المسرح العربي بأي حال من الأحوال، ولكني سأؤجل الأمر حتى أشاهد بعض هذه العروض حينما أذهب إلى أفينيون.

لكن برنامج المهرجان لم يقتصر بالطبع على استضافة اللغة العربية، فقد استضاف مسرحيين من 21 دولة، وأكثر من عشرين فنانا فرنسيا،  كما حرص المهرجان على أن يكون تمثيل إبداعات المرأة فيه مساويا للرجل. وأن يتوازن فيه تمثيل أوروبا – النصف تقريبا – مع بقية البلدان الأخرى من أفريقيا والأمريكتين. لذلك سيكون لفرنسا نصيب الأسد في المهرجان كالعادة – فالاهتمام بجديد المسرح الفرنسي وتطويره أحد أهداف المهرجان الأساسية – حيث استقدم فرانسوا تانجاي François Tanguy الذي فرض نفسه على ساحة الجدل والنقاش في المسرح الفرنسي في الأعوام الماضية. وسيجيء بمسرحيتين أولاهما (معا Item) التي يعتبرها البرنامج إحدى المغامرات الفنية الأكثر تميزا في السنوات الأربع الأخيرة، وثانيهما بعنوان (Par autan) ليتيح له الكشف عن لغته الإخراجية المتميزة في أكثر من عمل. كما جاء من الكوميدي فرانسيز الشهير بمسرحية بول كلوديل (حذاء الشيطان Le Soulier de satin) التي يعيد بها المخرج المرموق إريك روف تقديم هذا العمل الصوفي الضخم في ساحة الشرف بالقصر البابوي بتأويل إخراجي جديد. ومن فرنسا أيضا ستجيء جين كانديل بعمل بعنوان (صواريخ Fusées) يمتزج فيه السرد بالتمثيل بعمليات استكشاف الفضاء. وجوريس لاكوست Joris Lacoste بعمل بعنوان (جوهر العبادة Nexus de l’adoration) ينطلق من طرح سؤال افتراضي: إذا تم إنشاء ديانة جديدة في وقتنا الحاضر، كيف يا ترى ستبدو طقوسها؟ وكلارا هيدوين التي مسرحت رواية جان جيونو Jean Giono القصيرة (استهلال Prélude de Pan) التي تتناول العلاقة المعقدة بين الإنسان والطبيعة. وإيميلي روسيت التي جاءت بعمل مسرحي بعنوان (شؤون عائلية Affaires Familiales) يمسرح عددا من القضايا العائلية من مختلف أنحاء أوروبا في سعية لمعرفة طبيعة العدالة، وتحولها إلى ساحة لصراع الخطابات المختلفة.

أما بلجيكا فقد جاء منها أكثر من عرض، أولها بعنوان (بريل BREL) مستلهم من أغاني المطرب الشهير جاك بريل، يعيد حضوره المسرحي والاحتفاء بميراثه الموسيقي. وثانيها مشترك مع الدنمارك بعنوان (ليلة هذيانية Delirious Night) مستوحى من هستيريا الرقص في العصور الوسطى. وثالثها بعنوان (النار الأخيرة Derniers Feux) يدور بالرقص قبل انطلاق الألعاب النارية في إحدى المناسبات العامة. وجاء من سويسرا كرستوف مارثالا بعمل بعنوان (القمة Le Sommet) يتناول ست شخصيا تسعى كل منها للوصول للقمة في مجالها، وبطريقتها الخاصة التي يمتزج فيها المسرح بالرقص والموسيقى. أما ألبانيا فقد جاء منها ماريو بانوشي Mario Banushi بعمل بعنوان (أمي/ جدتي MAMI) يتقصى فيه مختلف تجليات الأمومة وحقيقة دور الأم في حياة الفرد، في محاولة لفك عقدة إرثنا العاطفي الذي لا نهاية له. ومن أفغانستان جاءت سمية صدّيقي بعرض بعنوان (غرفة خاصة في كابول One’s own room Inside Kabul) مستوحى من كتاب فرجينيا وولف الشهير الذي يؤكد استحالة استقلال المرأة وتحققها، دون أن يكون لها غرفتها الخاصة، أو مكانها الخاص بها في المجتمع ككل.

وسوف يعود المسرحي الألماني المتميز توماس أوسترماير Thomas Ostermeier مدير مسرح الشوبونه Schaubühne الشهير في برلين بعرض لمسرحية هنريك إبسن الشهيرة (البطة البرية). كما سيعود المسرحي السويسري البارز ميلو راو بعمل جديد بعنوان (الرسالة LA LETTRE) يبحث فيه عما يمكن أن يكون مسرحا شعبيا في وقتنا الحاضر. أما مدير المهرجان تياجو رودريجز فقد برمج لنفسه  عملا بعنوان (المسافة La Distance) يدور في عام 2077 حيث يعيش سكان كوكبنا تحت وطأة  الهشاشة الاقتصادية والتغيرات المناخية، في محاولة لسبر العلاقة بين أب وابنته التي هاجرت إلى كوكب المريخ. كما برمج عملا آخر لثنائي برتغالي راقص بعنوان (تشغيل بالعملة Coin Operated) عن تسلل الآلية إلى حياتنا الحديثة. وأخيرا فنحن هنا بإزاء برنامج على درجة كبيرة من الثراء، ويطرح من الأسئلة – كعادة الاستقصاءات الفنية المهمة – أكثر مما يقدم من الأجوبة، وسوف اشارك قراء الأعداد القادمة من (المسرح) مشاهداتي فيه.

إنطباعات ما بعد الوصول:
إذا كنت قد عبرت عن خيبة أملي عقب تلقي برنامج المهرجان الذي استضاف مسرح اللغة العربية في دورته الحالية – الدورة 79 لعام 2025 – فإنه من الضروري أن أبدأ، وعقب وصولي إلى أفينيون بالحديث عن إيجابيات تلك الاستضافة. لأن لظهور اللغة العربية في كل أنحاء تلك المدينة التاريخية، وعلى أبواب مسارحها، وعلى صفحات برامجها وإعلاناتها، وهي مليئة بالسائحين والباحثين عن المتعة المسرحية، بهجة خاصة لكل عربي. ليس فقط لإشعاع هذه اللغة التاريخي الذي احتفل به المهرجان بطريقته، واستخدامه لجماليات الخط العربي في ملصقاته، ولكن أيضا لما ينطوي عليه حضورها الغامر ذاك من دلالات فكرية وسياسية لا تخفى على الكثيرين، في تلك اللحظة الفارقة من تاريخ عالمنا العربي. بصورة جعلت لحضورها في المدينة نوعا من الحضور النوعي للثقافة العربية بكل رموزها. فقد كان ثمة أكثر من معرض فني يستلهم تلك المفردات الرمزية، ويعي تغير طبيعة المشهد التشكيلي العالمي حيث أضاف عددا من الصيغ الجديدة، ولم يعد يكتفي باللوحة أو التمثال الصامت، وإنما استفاد كثيرا من التصوير الفوتوغرافي بصورتيه الثابتة والمتحركة – في فيديو أو أفلام وثائقية قصيرة. فضلا عن تلك الأعمال التي تستخدم وسائط تشكيلية جديدة مثل الزجاج. فقد كان بها أكثر من معرض لكبار فناني الزجاج الفرنسيين، استضافت أعمالهم بعض قاعات المتاحف الدائمة في أفينيون، وخاصة عملا فنيا يستلهم الكعبة، من خلال بناء مشيد من الطوب الزجاجي الملون، والذي تتغير ألوانه مع تغير زاوية الرؤية واختلاف درجات الإضاءة، ومزين بالكثير من القلائد والأقراط الزجاجية يحتل مكان الصدارة في قاعة متحف يضم عددا من المقتنيات النادرة من الحضارتين الفرعونية المصرية والأشورية البابلية القديمة. وكأنه يكشف عن تغير إشعاعات الإسلام وألوانه مع مختلف الثقافات التي اعتنقته.

عمل فني مستلهم من الكعبة في متحف أفينيون

وكان من أهم تلك المعارض، معرض كبير في فضاء «دير الآباء السماويين» الشهير لأعمال عدد من الفنانين العرب المعاصرين وفي طليعتهم مصوّر من غزة هو تيسير باتنيجي Taysir Batniji سجل بعدسته الحساسة عمليات الدمار التي تركتها عملية أو بالأحرى حرب «الرصاص المصبوب» عام 2009 على قطاع غزة، كما سجل في قاعة أخرى مختلف أبراج المراقبة العديدة التي تحيط بها دولة الاستعمار الاستيطاني غزة، وتحولها إلى أكبر سجن في العالم. وكان في المعرض أيضا فيلمان قصيران  للفنانة اللبنانية مروة أرسانيوس Marwa Arsanios أولهما بعنوان: «من يخاف الايديولوجيا» عن معنى المكان بالنسبة لكثير من فقراء لبنان، وثانيهما بعنوان «هل قتلت دبا من قبل» عن مختلف تمثلات المناضلة الجزائرية الشهيرة: جميلة بوحيرد في الصور الصحفية ولدى من حاولن تمثيل دورها في أعمال سينمائية. وهو الأمر الذي يتصادى مع عرض مهم في المهرجان الهامشي عن محاميتها الشهيرة «جيزيل حليمي Gisele Halimi». كما كان به عمل من فيلمين قصيرين عن مسحراتي بعينة في بيروت صورته شيرين فتّوح عام 2011، ثم مرة أخرى بعد أن أدركته الشيخوخة عام 2019 وما عاد يستطيع الدوران في الشوارع بطبلته لإيقاظ النائمين للسحور، وإنما يجلس في الجزء الخلفي من شاحنة صغيرة مفتوحة لممارسة مهنته.

وكان هناك فيلم للأمين عمار خوجة وهو فنان جزائري يقيم في فرنسا صور فيه وقائع عودته إلى قريته الجزائرية بعد ثمانية أعوام من الغياب، بصورة تكشف أن للغربة بعدها المكاني والزماني في آن. وآخر للمهدي ميداسي المغربي عن الوحدة والغربة في المكان الحميم، بعدما تبدل الزمن وتغيرت العلاقات، وثالث لرندا مدّاح عن الأفق المسدود يُسائل الحرب والمنفى والفقدان في قرية عين فيت – وهي قرية مولدها – في مرتفعات الجولان المحتلة. ورابع للفنان اللبناني غسان حلواني الذي يهيم بعدسته في أنحاء لبنان يفتش عما بقي في جغرافيا المدن من آثار للحرب الأهلية اللبنانية، وعن موقف الناس منها. وخاصة حينما يؤدي الحفر في بعض أنحاء مدينة صيدا لتعرية تواريخ مطمورة وظهور عدد من الجماجم وبعض الأسلحة. وهو معرض يكشف عن العلاقة الحميمة بين الفن التشكيلي المعاصر وعمليات التمسرح المختلفة، بعدما أصبح تسجيلا لوقائع وتواريخ، وشذرات من حيوات ومواقف إنسانية دالة. كما يكشف عن العلاقة التفاعلية – كما يحدث كثيرا في المسرح – بين العمل الفني والجمهور من خلال اللعب بين الواقعي والمتخيل/ أو المخترع.

بوستر مهرجان هذا العام واسلهامت الخط العربي

بل إن تأثير استضافة المهرجان الرئيسي وجعل اللغة العربية ضيف الشرف فيه امتد إلى المهرجان الثانوي Avignon Off أو التجريبي فقدم عددا من العروض التي استخدمت اللغتين العربية والفرنسية بالتبادل، كما جرى مثلا في عرض رائعة راسين «بيرينيس Berenice» لماري بيناتي Marie Benati. ناهيك عن أن شعار مهرجان هذا العام كله: «أنا أنت في الكلمات» قد أُخذ من بيت من أشعار أكبر شعراء فلسطين محمود درويش. لكن ما عزز من أهمية هذا الحضور أن المهرجان اتخذ من البداية موقفا بالغ الشجاعة من قضية فلسطين: قضية العرب الأساسية. موقف يؤكد أن الفن منارة العقل والضمير، وأنه لا يتحقق إلا بالالتزام الأخلاقي بالقضايا الإنسانية الأصيلة. خاصة وأن المهرجان يعي أنه يصدر عن الواقع الفرنسي الذي عاش في الشهور الأخيرة انقساما حادا بين مثقفيه بشأن الموقف من حرب الإبادة الوحشية التي تشنها دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين على أبناء غزة. واستماته اللوبي الصهيوني الفرنسي القوي والمتشعب في الحفاظ على تأثيره القوي على العقل الفرنسي الجمعي في خدمة دولة الاستيطان الصهيوني. فبينما سعى اليمين الفكري الموالي للحركة الصهيونية إلى الحفاظ على تأثيره السياسي على الخطاب السائد، والفعل السياسي الصادر عن المؤسسة الفرنسية، وهو الخطاب الذي دعم دولة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين بالحق والباطل على مر العقود الماضية. ويرعبه تغير الخطاب بعد انكشاف سوءات هذا الاستعمار الاستيطاني وعدوانيته المدمرة بكل وضوح للعالم أجمع.

حينما هبّت كل الدول الاستعمارية القديمة منها والحديثة لنجدته بعد صدمة السابع من أكتوبر الكبيرة. فأخذ يصك عددا من التعريفات الغريبة والشائنة بحق العرب ومن يؤيدونهم. تعريفات تهدف في المحل الأول إلى الحد من تأثير الخطاب الجديد الذي تخلص من آثار غسيل المخ الصهيوني المتواتر، وأخذ يدافع عن حق الفلسطيني في أرضه، ويعيد النظر في تصوره لدولة الكيان الصهيوني، كمستعمرة استيطانية للغرب الاستعماري، وأداته في قهر شعوب المنطقة وتعويق نموها. تعريفات مثل المصطلح الاستشراقي/ الاستعماري القديم «العربي الإسلامي Arabo-Muslman»، والذي كان يسعى لتهميش الفرنسيين من أصول مغاربية وعزلهم. وبدأ الكثيرون في السخرية منه، والكشف عن عنصريته منذ تعرية إدوار سعيد للخطاب الاستشراقي والكشف عن توظيفه في خدمن الاستعمار. لكن عملية طوفان الأقصى دفعت اللوبي الصهيوني في فرنسا للعمل الدؤوب، وصك مصطلح جديد هو «الإسلامي اليسارجي Islamo-gaushiste». خاصة بعدما بدأ اليسار الفرنسي، ومعه أطياف واسعة من الوسط، في تعرية ذلك الخطاب الصهيوني من كل ما كان يتستر وراءه من ادعاءات أو قيم إنسانية؛ بطريقة أفقدته الموقف الأخلاقي الأعلى، وجردته من كل ادعاءاته السابقة، وكشفت عن وجهه القبيح كنظام استعمار استيطاني وفصل عنصري فظ.

وسط هذا الانشقاق الدائر في الساحة الفكرية والثقافية الفرنسية – بل وفي الساحة الأوروبية الأوسع من ورائها – قرر المهرجان أن يستعيد صفحة من تاريخه المشرق القديم، وأن يتخذ موقفا جريئا ومهما. فقد أصدر فنانو ومبدعو المهرجان، يوم افتتاحه، بيانا واضحا يدين بلا تردد أو مواربة عملية الإبادة الجماعية والتجويع الدائرة الأن في غزة، ويطالب بوقف فوري لإطلاق النار والتطهير العرقي في غزة العزة والإباء. ويستذكر موقف المهرجان قبل ثلاثين عاما – وبالتحديد عام 1995 – حينما أصدر بيانا مشابها ضد التطهير العرقي في «البوسنة» وهو البيان الذي لعب دورا مهما في تغيير مواقف الدول مما كان يدور في «البوسنة» وقتها؛ خاصة حينما أشاد الرئيس الفرنسي «جاك شيراك» بالبيان عند صدوره، وجعله موقف فرنسا الرسمي من تلك القضية. لذلك ما أن انقضت على إصدار بيان مهرجان هذا العام أيام خمسة دون أن يصدر عن فرنسا الرسمية موقف مماثل لذلك الذي اتخذه شيراك، حتى تجمع الفنانون ونقاد المسرح والمشاهدون بأعداد ضخمة في الساحة الكبيرة المواجهة للقصر البابوي، وصدر عن تجمعهم ذاك بيان جديد من خمس لغات، يتضمن نداء واضحا للرئيس الفرنسي إيمانيويل ماكرون ليفعل ما فعله سلفه «شيراك» عام 1995. وقد تضمن البيان الجديد إدانة شاملة لجرائم الحرب التي ارتكبتها وما زالت ترتكبها دولة الاستعمار الاستيطاني في فلسطين، وإبادتها الجماعية للفلسطينيين وتجويعهم الممنهج، وجرائمها ضد الإنسانية. ويطالب بوضوح دول الاتحاد الأوروبي بوقف تطبيق الاتفاقات المشتركة معها. ويؤكد البيان في نهايته أنه من المؤلم أن يحتاج المهرجان، وبعد ثلاثين عاما من بيانه الأول ضد الحرب العنصرية في البوسنة، للتذكير بأن حياة الفلسطيني تساوي حياة كل أنسان آخر على وجه الأرض.

جدل الكشف عن سحر اللغة وحجب المسرح

وإذا كان لحضور اللغة العربية وقضية فلسطين العادلة هذا التأثير العام، فإن ما فعله معهد العالم العربي حينما دعاه مهرجان أفينيون للمشاركة في احتفاله باللغة العربية يوشك أين يكون عملا من أعمال التناقض. لأن فهم هذا المعهد لدوره في نشر الثقافة العربية والاحتفاء بها في الواقع الفرنسي، وهي بالمناسبة اللغة الثانية في فرنسا، حيث يتجاوز عدد سكان الجالية المغاربية فيها ستة ملايين – كشف عن غياب كامل في هذا الفهم للمسرح بكل معانيه الدرامية والاستعراضية. وإن اكتفى بجانب واحد من جوانبه، وهو الحفل الذي يستخدم الكلمة والموسيقى في استقطاب الجمهور. وقد سبق أن ذكرت أن مسيرة المعهد في الاحتفاء بالثقافة العربية لا تؤهله بأي حال من الأحوال للقيام بهذا الدور المسرحي، لغياب المسرح النسبي من اهتماماته وفعالياته الكثيرة. وها هو العرض الأول الذي شاهدته في مهرجان هذا العام، والذي كان معنونا بـ«صوت النساء: احتفاء بمرور خمسين عاما على رحيل كوكب الشرقLa Voix des Femmes: Une Celebration des 50 Ans de la Disparition de L’Astre d’Orient» أو باختصار «أم كلثوم»، يحتفي بالفعل باللغة العربية حينما تُغنى. وبأيقونة من أشهر ايقونات هذه اللغة في القرن العشرين. ولابد أن تقديم معهد العالم العربي لهذا العرض، واقترانه باسم «أم كلثوم» هو الذي جعل المهرجان يخصص له أكبر ساحاته، ألا وهي ساحة الشرف في القصر البابوي. كما أن سمعة «أم كلثوم» في فرنسا لا تقل ذيوعا عن صيتها في البلاد العربية. لذلك فقد بيعت كل تذاكره التي يقترب عددها من الألفين، وكانت هناك طوابير تنتظر تغيب أي ممن اشتروا تذاكر أو من لم يتسلموا تذاكرهم المحجوزة فيه. وقد أعلن البرنامج زورا أن هذا العرض جاء من فرنسا ومصر، وإن لم يشمل العرض أي وجود لمصر فيه، اللهم ألا واحدة من مغنياته. صحيح أن جل نصوصه – وهي نصوص أغاني أم كلثوم – وألحانها جاءت من مصر فعلا، لكن إسهام مصر ينتهي عند حد كونها مصدر أي فن في العرض، أي الكلمات والموسيقى. أما التقديم والسينوجرافيا وغيرها من الأمور المشهدية فقد كان من إعداد وإخراج الموسيقي اللبناني زيد حمدان وأسامة عبدالفتاح ونتاشا أطلس.

من عرض أم كلثوم

وما أن يدخل المشاهد إلى ساحة الشرف حتى يجد أن مسرحها الرحب قد وضع في الجانب الأيمن له – بالنسبة للمشاهدين – حيث أن خط النظر الأول في المسرح الأوروبي هو من أعلى الجانب الأيسر وصولا إلى أسفل الجانب الأيمن حسب اتجاه الكتابة – أربعة مقاعد على كل منها أو بجانبه أحد آلات التخت الشرقي الأساسية الأربعة: العود والقانون والكمان والرق. أما الجانب الأيسر – وحسب علاقات القوى في المشهد المسرحي – فقد خُصّص لأكثر من جيتار كهربائي، ولعازف الإيقاع الغربي بطبوله الجلدية ومقارعه النحاسية. وما أن يبدأ العرض حتى ندرك أن العرض كله يتم بقيادة زيد حمدان الذي عزف على مختلف الجيتارات الكهربائية، وقد صاحبه عازف الطبول والمقارع النحاسية الحديثة، وأن اختيارات الموقع على الخشبة ليست اعتباطية بل مدروسة حيث تعطي الهيمنة الصوتية منها والموسيقية للجانب الغربي الذي يقوده زيد حمدان بموسيقاه الحديثة. وقد سعى عبرها إلى إقامة نوع من الحوار بين موسيقى أغنيات «أم كلثوم» المختلفة، وخاصة المقدمات الموسيقية لبعض تلك الأغاني، وبين ما يؤلفه هو من موسيقى حديثة، أو استلهامات جديدة لتلك المقدمات الموسيقية المشهورة.

بينما يصاحب التخت الشرقي مختلف المغنيات اللواتي تغنين مقاطع مختلفة من أغنيات أم كلثوم. لا أدري – أو لعلني لم استطع اكتشاف – ماذا كان منطق تعاقبها، أو اختيار تلك الأصوات بعينها. لأننا نستمع، بشكل شبه عشوائي، إلى مقاطع من أغنياتها القديمة منها والحديثة، وعبر أكثر من مغنية/ صوت/ أو أسلوب في الأداء، بما في ذلك بعض الأصوات الرجالية التي تؤدي بعض أغانيها. نستمع إليها دون أن يكون لتتابعها أي نوع من التسلسل التاريخي لتلك الأغنيات، أو لمدارس ملحنيها المختلفة. ومع أنه من النادر أن نجد مغنية لها حلاوة صوت «أم كلثوم» وعمقه وقوته، وندرك جميعا أنها كانت موهبة استثنائية ونادرة، إلا أن هناك الكثير مما كُتب حولها كان بإمكان معدي هذا العرض توجيه المغنيات المختلفات اللواتي اختارهن إلى الوعي بشيء منه، وخاصة بضرورة إشباع كلمات الأغاني بالدلالات والمشاعر التي تعبر عنها، ناهيك عن التعلم من قدرة «أم كلثوم» الفذة على ملء كل مفردة – بطريقة نطقها لها وتنويعاتها التطريبية على النطق – بما تحمله، أو بالأحرى تختزنه من دلالات ومعانٍ. لكن العزاء كان أن زيد حمدان ارتدي قميصا مكتوب عليه بالإنجليزية وبخط ضخم من أجل غزة، وأن العرض في نهايته طالب بوقف همجية الإبادة الجماعية الجارية الآن في غزة، وفتح المعابر لكل احتياجات سكانها.

من عرض أم كلثوم

ليلة للشعر وجماليات اللغة العربية:
أما العرض الثاني الذي كان معهد  العالم العربي مسئولا عنه فكان أكثر توفيقا من هذا العرض، وإن لم يتح له حظ العرض في ساحة الشرف في القصر البابوي بمقاعدها الألفين، وإنما عرض في ساحة ليسيه سان جوزيف التي تتسع لأقل قليلا من نصف عدد المشاهدين في ساحة الشرف. وهو عرض شعري وموسيقي بعنوان «ليلة النور: احتفالا شعريا باللغة العربية Nour: Une Celebration Poetique de la Langue Arabe» يدعونا في برنامجه الذي يوزع على الجمهور إلى ليلة يحتفل خلالها موسيقيون وممثلون وشعراء وراقصون وفنانون بثراء اللغة العربية الاستثنائي. كما يؤكد لنا جاك لانج – أحد أشهر وزراء الثقافة الفرنسيين، ورئيس معهد العالم العربي – في صدر ذلك البرنامج «أن أحد أهدافه الأساسية في العمل الثقافي هي تأكيد التعدد اللغوي، وإبراز أهمية اللغة العربية والثقافة العربية وإسهاماتها الشعرية والموسيقية التي لا تبارى بالنسبة لفرنسا.» ويبدأ العرض بأن يلقي علينا ممثل تلك الكلمات الشعرية «أنا لغتي والأنا معلقة/ معلقتان/ أنا من قلت للكلمات كوني ملتقى جسدي مع الأبدية الصحراء/ لا أرض فوق الأرض تحملني، فيحملني كلامي متفرعا مني/ هذه لغتي قلائد من نجوم/ حول أعناق الأحبة/ فهاجروا/ أخذوا المكان وهاجروا.» ثم يقوم ممثل آخر بقراءة ترجمة فرنسية لتلك المقدمة، وإن كانت تظهر في أعلى المسرح ترجمة انجليزية أيضا لها، ولاستطراداته بعدها في تقديم ما تعنية «ليلة النور» تلك وهي ليلة للشعر والموسيقى والرقص من حولنا، تسعى لدفعنا لتأمل ما سيدور ويدور دوما في اللغة، ودورها في تجسيد المقاومة وتأسيس الحرية. وأن «ليلة النور» هي ليلة الضوء الذي يكرس العدل والحرية، ويرفض التعصب والقهر، وهي أيضا ليلة من أجل فلسطين، وضد الصمت المفعم بالقهر والتخلي والضعف.

من عرض ليلة النور

بعد ذلك ولمدة ثلاث ساعات كاملة يتفتح أمامنا العرض بالتدريج، وفي معزوفة احتفالية تمزج بين الشعر والرقص والموسيقى، وتمتد تاريخيا من الشعر الجاهلي وحتى أشعار أغنيات «الراي» الجزائرية والمغاربية، ومن المقام الموسيقي التقليدي وحتى إيقاعات «الراب» السريعة، ومن الاشعار الصوفية والتخت الأندلسي وحتى الأغاني الشعبية، ومن العوالم الأسطورية إلى وقائع الحياة اليومية. في محاولة للكشف أمام الجمهور عن مدى غنى تلك اللغة شعريا وفكريا على السواء، وثرائها البصري والموسيقي معا. وكيف يحتل الشعر مكانا محوريا في اللغة العربية، والثقافة العربية من ورائها. وقد سعى العرض إلى أن يبني تتابعاته الشعرية على مد تلك الفترة الزمنية الطويلة حول مجموعة من الثيمات الأساسية التي تخللت مسيرته: من الحب وحتى القضايا الروحية، من التغني بالطبيعة، وحتى الحض على الفعل والمقاومة. وهي الثيمات التي وضعت اللغة في مركز الاهتمام، ولكنها أغنت عملية تقديمها باستخدام الإضاءة الحاذق، وتقنيات الفيديو المختلفة، والتصوير اللحظي الذي يعرض بعض ما يدور أمامنا على شاشات مكبرة في خلفية المسرح. وكأن المشاهد قد دُعي إلى أكثر من حفل في وقت واحد: عروض سينمائية قصيرة، وقراءات شعرية، وغناء، وموسيقى. ولذلك فقد اعتمد على عدد كبير من الممثلين والمغنيين والموسيقيين بلغ عددهم 24 شخصا ملأوا خشبة المسرح بالحيوية والشعر والرقص والتمثيل والغناء. واستطاعوا جميعا الاستئثار باهتمام المشاهدين، بصورة جعلتنا لا نشعر بثقل مرور الوقت كما جرى الحال في عرض «أم كلثوم»، رغم أنه كان أقصر من هذا العرض من حيث الزمن.

وإذا كان هذا كله احتفاء باللغة العربية وبالشعر فيها خاصة باعتباره الجنس الأدبي المحوري والعريق: سواء في صورته الشعرية الخالصة أو المغناة، فإن من الضروري في مهرجان مسرحي بهذا الحجم أن نوجه اهتمامنا إلى ما يمكن اعتباره بحق مسرحا عربيا. وهو الأمر الذي كان ممثلا في اعتقادي في أفضل صوره في مسرحية واحدة هي (حاضر يا أبي) لبشار مرقص وخلود باسل من فلسطين المحتلة، وهي المسرحية الوحيدة التي عرضت بالكامل باللغة العربية، مع ترجمة للغتين الفرنسية والانجليزية. كما تمثل إلى حد ما في مسرحية العراقية/ الفرنسية تمارا السعدي (أخرس Taire) التي عرضت بالفرنسية مع ترجمة للغة الانجليزية، وفي مسرحية (إسرائيل ومحمد Israel & Mohamed) لمحمد الخطيب، وهو مسرحي مغربي/ فرنسي يكتب المسرح ويمارسه في فرنسا باقتدار حقق له حضورا متفردا فيها. وهي المسرحيات التي سأقدمها للقراء في المقال التالي في الشهر القادم.