تسعى هذه القراءة النقدية للكشف عن مدى تراكب البنية السردية في رواية الكاتبة السعودية البديعة، وتضافر الدلالات، وتعدد القراءات فيها. وتميط اللثام عن عتباتها وبنيتها الزمنية وتحكم الرغبة المثلثة في اعلاقات شخصياتها.

تراكب السرد الروائي وكشف سوءات الواقع

قراءة في رواية ليلى الجهني «جاهلية»

صبري حافظ

تؤكد ليلى الجهني بروايتها البديعة (جاهلية) أنها كاتبة موهوبة لابد أن تعتد الرواية العربية بموهبتها الجديدة، وبقدراتها الروائية المرهفة التي برهنت في روايتها الأولى (الفردوس اليباب) أنها امتلكت قدرا كبير من أدواتها، وها هي تثبت في (جاهلية)، روايتها الثانية التي أقرأها لها، أنها تطوّر هذه القدرات بشكل كبير، وتتجاوز فيها عثرات البدايات، وتتمكن من أسرار السرد الروائي، وأدواته النصية، واستراتيجياته البنائية، لتقدم لنا رواية جيدة قادرة على إضاءة جوانب كثيرة من الواقع العربي الذي صدرت عنه، ومن النفس الإنسانية في آن. فقد استطاعت هذه الرواية أن تقدم لنا سردا متراكبا تتعدد فيه طبقات المعنى، وعتبات النص، ومستويات التأويل، ولغات القص، وتتعدد معها القراءات المحتملة للنص، بحيث يصعب اختزاله في قراءة واحدة، دون أن تطل عبرها بقية القراءات، تطلب من القارئ والناقد على السواء الاهتمام بها، وتسليط الضوء عليها.

فنحن هنا بإزاء رواية لا نحتاج معها إلى التذرع بأنها رواية «سعودية» ولابد من التعامل معها في سياق النشأة بعد أن تأخر بزوغ الرواية في هذا الجزء من الوطن العربي طويلا، أو التربيت الاستعلائي على كتفها، والذي يمارسه البعض إزاء أدب الجزيرة والخليج. ولكنها رواية عربية بحق، تنتمي إلى أحدث ما قدمته، أو اجترحته الرواية العربية من مغامرات واسترايتجيات نصية وبنيوية. لهذا فهي مفتوحة ـ كما ذكرت ـ على عدة قراءات، فليس ممكنا معها الاكتفاء بالقراءة النسوية feminist reading أو الجنوسية gendered reading التي تستمد سلطتها لا من موضوع هذه الرواية فحسب، وهو معاناة المرأة في مجتمع مغلق وشديد المحافظة تمارس فيه المرأة ـ الأم حارسة التقاليد ومكرسة سطوتها ـ قهر المرأة ـ الإبنة ـ بقدر ما يمارسه الرجل التقليدي المترع بالتناقضات، ولا من منظور السرد وأيديولوجية النص المشبعان بروح تلك المعالجة، ولكن أيضا من روايتها السابقة التي تحدد شيئا من أفق التوقعات، وطبيعة التلقي لدي القارئ الذي يعرف شيئا عن الكاتبة، أو قرأ عملها الأول.

أقول لايمكن الاكتفاء بهذه القراءة الأساسية للنص، وهي قراءة تكشف عن أهمية الرواية وعمق استبصاراتها وحساسية كشوفها، دون إلحاق الظلم بمستويات السرد المتعددة والمتراكبة في هذه الرواية الجميلة، والتي تطالب بقراءة سياسية لاتقل أهمية عن القراءة النسوية أو الجنوسية، تموضع ما يدور في الرواية في سياق ما يدور في العالم، عقب عاصفة الصحراء ومع حرب الصدمة والترويع، أو بالأحرى ما يحوكه العالم للمنطقة من أحداث. وتكشف عن الجدل الخلاق بين أيام العرب المعاصرة، وأيامهم القديمة في العصر الجاهلي، بين حاضرهم المزري في هذا الزمن الردئ وماضيهم المؤتلق العريق، دون أن تتسلل أدواء الحنين التقليدية لتلك المقارنة. أو بقراءة تناصية لا تقل أهمية عن القراءتين، تكشف طبيعة لعبة المرايا النصية التي تتخلل النص، وتمارس عبره دورها الجدلي في إقامة أكثر من حوار بين النص الروائي وأسلافه من النصوص العربية القديمة من ناحية، ومن النصوص الصحفية المعاصرة له من ناحية أخرى. وهناك أيضا إلى جانب هذه القراءات الثلاث قراءة اجتماعية رابعة تكشف عن لعبة العلاقات الاجتماعية والإثنية التي تتخلل بنية النص، وتضيء لنا جوانب كثيرة من دلالاته، وتعرى ما ينطوي عليه الوعي الجمعي فيه من عنصرية بغيضة، وهي تفكك بالسرد بنية علاقاته الاجتماعية الراسخة وتطرح عليها أسئلتها المدببة. ناهيك عن قراءة فنية خامسة تتطلب من الناقد خاصة وعيا باختينيا يتأمل دلالات تعدد الأصوات في هذه الرواية، ويكشف عما تنطوي عليه من جدل خلاق بين الأصوات والرؤى.

لكن أكثر ما ألح عليّ حينما قرأت (جاهلية) هو هذا الكتاب الفذ الذي قرأته منذ عشرات السنوات، وهو (فجر الضمير) لجيمس هنري بريستد(1)، والذي يثبت فيه من خلال دراسته الشيقة لمنظومة القيم الأخلاقية في مصر القديمة أن الإنسانية لم تتقدم ضميريا خطوة واحدة عما حققته مصر القديمة من قيم ضميرية وأخلاقية. وأنه بينما قطعت البشرية فراسخ واسعة في مجال العلم والتكنولوجيا، والسيطرة على الطبيعة وتسخيرها لخدمة الإنسان، فإنها لاتزال تعتمد ضميريا على منجزات مصر القديمة في مرحلة «فجر الضمير»الإنساني قبل أكثر من ألف عام قبل الميلاد، وهي المنجزات التي تميز الخير من الشر، والعدل من الظلم، والحق من الباطل، والفضيلة من الرذيلة، والتي رادت بدورها سعي الديانات التوحيدية الثلاث في هداية البشر، وتحديد قيم الخير والحق والعدل لهم. وخاصة منذ وصايا التوراة العشرة وحتى يومنا هذا. أقول ألح علي هذا الكتاب الجميل وتذكرت مقولاته المضيئة، لأن رواية ليلى الجهني تثبت هي الأخرى، بقوة الفن وسلطته أننا ـ في مجتمعاتنا العربية عامة وفي الجزيرة العربية خاصة ـ لم نتقدم قيد أنملة على صعيد التصورات الاجتماعية، وبنية العلاقات والمشاعر الجمعية، عن مرحلة الجاهلية الأولى بأي حال من الأحوال، بل إن جاهليتها المعاصرة التي تدور فيها الأحداث بعد مرور أكثر من عشرة أعوام على عاصفة الصحراء المشؤومة، وأثناء حرب الصدمة والترويع الأكثر شؤما، هي في حقيقة الأمر أشد تخلفا من الجاهلية الأولى، وأكثر منها بؤسا وفقرا ومرارة.

عتبات النص وتخليق القصة الإطار
ولنعد بعد هذه المقدمة التي طالت نسبيا ـ والتي لمست في نهايتها عتبة الرواية الأولى، وهي العنوان، وأهميته من حيث استثارته لمرحلة اتسمت في العقل والوجدان العربي بالجهل والجاهلية، ليجعلها مرآة لكل ما يدور في عالم النص والواقع الراهن معا ـ إلى الرواية نفسها، نتأمل بنيتها وطبيعة سردها المتراكب، وهو يعري الواقع ويكشف طواياه. فبعد عتبة العنوان الأولى التي تعيد لنا أطياف الجاهلية الأولى من خلال التنكير الذي هو كعتبة خير من التعريف في هذا المجال، يجيء الفصل الأول بعنوان لايقل أهمية من حيث براعة الاستهلال عن العنوان الأصلي، وهو «سماء تهوي»، وهو عنوان يطرح التضاد اللغوي الذي يجمع بين النقيضين السماء والهاوية، مدخلا لأحداثه التي تورط فيها الراوي/ البطل على عجل. وتتابع بعده عنواين فصول الرواية الثمانية باعتبارها عتبات مختلفة تستخدم فيها الرواية صيغا متعددة من التناقض كعنوان الفصل الأول و«جوجل يهذي» إلى الإخبار مثل «ولم ير ملائكة قط»، و«عطب»، و«الصمت والموت»، إلى الإيحاء والاستعارة مثل «رائحة الحزن» و«ما تحت اللون» و«صك الغفران». وتشكل هذه العناوين عتبات أولية لكل فصل، تأتي بعده عتبة ثانية لكل فصل هي ما أحب دعوتها بالعتبة التوثيقية التي تفتح عالم النص المغلق، برغم وثائقيتها، على العالم الأوسع، ثم تليها عتبة ثالثة هي العتبة الإخبارية أو الميقاتية التي تعلن علينا اليوم والتاريخ وأحيانا الساعة التي تدور فيها أحداث السرد.

فبعد العنوان يقدم النص عتبته التوثيقية التي يقتطف فيها نصا خبريا في كل فصل، يضعه وحده في صفحة العنوان مما يعني أنه يبرز أهميته. فهو نص منتقى بقدر من العناية والحساسية، بحيث يكتسب تتابع هذه النصوص العتبات وتراكمها بنيته الخبرية الخاصة، التي تروي قصتها من ناحية، لكن هدف هذه المقتطفات الأول في قراءتي هو موضعة السرد كله من ناحية أخرى في إطار تلك الخطة الأمريكية الجهنمية الخبيثة التي استهدفت احتلال العراق وتدميره. فالرواية تؤطر كل فصل من فصولها السردية بمقتطف صحفي يقوم بدور الإطار، ويمارس جدله الخصب مع ما يؤطره الفصل من أحداث، ويكشف عن حقيقة تتابعها. وتقنية التأطير السردي تعود بالطبع إلى النص السردي العربي البدئي الرائع (ألف ليلة وليلة). لكن ليلى الجهني لا تؤطر سرها بحكاية تتناسل منها الحكايات كما فعلت جدتها الأولى شهرزاد، وإن استفادت من بنية تناسل الحكايات في روايتها، كما أن لعتباتها التوثيقية حكايتها، وإنما تحرص على تأطير السرد ـ كل فصول السرد ـ بنص أو بالأحرى بنصوص صحفية، ذات طبيعة وثائقية وتوثيقية معا. تزود الفصل بمحدد زمني وبشظايا ذاكرة تاريخية مستباحة معا.

حيث يبدأ السرد في الفصل الأول بتلك العتبة التوثيقية الدالة، والتي تقرر في الفصل الافتتاحي «توقع إعلان البيت الأبيض، اليوم، بأن العراق انتهك قرارات الأمم المتحدة التي تطالبه بكشف النقاب عن أسلحته للدمار الشامل، حسبما أوضح مسؤولون كبار في الإدارة الأمريكية. وقال المسؤولون بأنه من المنتظر أن يبحث الرئيس الأمريكي جورج بوش هذا الأمر في اجتماع خاص لمجلس الأمن القومي قبل إعلان البيت الأبيض عن قراره بهذا الصدد» (ص 5). وما أن نصل إلى الفصل الثامن والأخير حتى يكون القرار المنتظر قد اتخذ ودخل حيز التنفيذ كما تقول لنا عتبته التوثيقية، والتي تتشكل من نص خبري آخر أطول قليلا يقول: «شنت القوات الأمريكية والبريطانية عدة غارات مدمرة مساء أمس وفجر اليوم على بغداد، التي تعرضت لموجات من الضربات الجوية، إضافة إلى عدة انفجارات هزّن مجمع الرئيس العراقي صدّام حسين، حيث ارتفعت أعمدة الدخان في السماء. وفي الوقت نفسه قال شاهد عيان من رويتر: إن صفارات الإنذاردوّت في مختلف أنحاء الكويت، محذرة من هجوم صاروخي محتمل من العراق. وفي هذه الأثناء تعرضت مدن الموصل وكركوك وأم القصرر إلى عدة انفجارات بفعل وابل من الصوارخ التي اطلقتها القوات الأمريكية.» (ص 173).

إذن فلهذه العتبات التوثيقية ـ وهي قصيرة ومركزة كطبيعة العتبات ـ بنيتها الخاص التي تحكي قصة موازية لما تنطوي عليه الرواية من سرد. وهي قصة التخطيط لاحتلال العراق واستعماره ونهب ثرواته النفطية. فعتبة الفصل الأول تقول لنا أن الرئيس الأمريكي يعقد اجتماعا لمجلس الأمن القومي لاتخاذ قرار بهذا الصدد، بينما تقدم عتبة الفصل الثاني أخبارا عن تحرك القوات الأمريكية ترفض وزارة الدفاع الأمريكية تأكيدها أو نفيها (ص 9)، وما نصل إلى عتبة الفصل الثالث حتى نقرأ عن إرسال عشرات الفرق السرية للتجسس وشراء الذمم تمهيدا للغزو المرتقب (ص 15). وتنزع عتبة الفصل الرابع عن هذه الاستعدادات قانونيتها وشرعيتها الدولية حينما تقتطف تصريحا لمدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية ينفي فيه امتلاك العراق لأي أسلحة محظورة (ص 47). ثم تكشف لنا عتبة الفصل الخامس التوثيقية عن تنامي حركة مناهضة الحرب ضد العراق، واكتسابها المزيد من الزخم في العالم وفي الولايات المتحدة معا (ص 101). وتواصل عتبة الفصل السادس نزع الشرعية عن تلك الحرب القذرة حينما تعلن لنا عن تحدي العراق الولايات المتحدة أن تظهر للمفتشين الدوليين المعلومات التي تقول أنها تمتلكها بشأن برامج التسليح العراقية المحظورة (ص 121). لكن هذ كله لم يثن الولايات المتحدة عن المضي في خطتها الجهنمية، إذ ثؤكد لنا عتبة الفصل السابع أن الحرب الافتراضية استعدادا لتوجيه ضربة للعراق قد بدأت، وأن الجيش الأمريكي المرابط في الكويت في جاهزية كاملة، وعلى أهبة الاستعداد للحرب (ص 133)، التي ما أن نصل إلى عتبة الفصل الأخير حتى تكون قد اندلعت بكل عنفوانها كما بينا أعلاه.

إذن نحن بإزاء مجموعة من العتبات التي تحكي قصة/ إطار ذات بنية تتابعية متسلسلة، قد تعترضها العقبات ولكنها تمضي إلى غايتها المحتومة. قصة تصوغ إطارها الذي تدور في داخله كل سرود الرواية الأخرى. وتتسم ببنية خطية تتقدم للأمام باستمرار، بنية تبدأ من التخطيط وتنتهي بالتنفيذ المدمر والصارم، برغم نزع الأمم المتحدة المشروعية عن المخطط الأمريكي، وبرغم المعارضة الشعبية له، والتي اندلعت حتى في الولايات المتحدة ذاتها. وهي بنية لابد من الوعي بالتوازي والجدل المستمرين بينها وبين بنية السرد الزمنية في القصة التي تدور داخل هذا الإطار، والتي تتسم ببنية زمنية مختلفة سنتعرف على طبيعتها المغايرة بعد قليل، وفي جدل مستمر ومضمر معها. جدل ينطوي على التماثل والتوازي بقدر ما ينطوي على التعارض والاختلاف. لكن قبل الحديث عن بنية السرد داخل هذا الإطار لابد من الإشارة للعتبة الزمنية الثالثة، وهي العتبة التي دعوتها بالعتبة الإخبارية أو العتبة الميقاتية التي تعلن علينا تواريخ الحدث السردي ومواقيته. وعلى العكس من العتبات التوثيقية التي تتفق عددا مع عدد الفصول، لأن لكل فصل عتبة واحدة منها، فإن في الرواية أثنتي عشر عتبة ميقاتية، صحيح أن أكثر الفصول بها عتبة واحدة ميقاتية، لكن الفصلين الثالث والسابع بكل منهما عتبتان، كما أن بالفصل الرابع ثلاثا. وقبل الحديث عن دلالة هذا التعدد وعلاقته بالبنية الزمنية للسرد، لابد من التوقف عند اختيار الكاتبة لاستخدام أسماء الأيام والشهور العربية القديمة، بدلا من الأسماء الحديثة والمستعملة حاليا لها. فهي تستخدم في التأريخ لأيامها، لا الشهور العربية كما هو الحال في الجزيرة العربية، ولا الشهور الأفرنجية كما هي الحال في بقية البلدان العربية، وإنما الأسماء العربية القديمة للشهور والأيام في العصر الجاهلي.

وهذه العودة للعصر الجاهلي تربط عتبة النص الأولى وهي العنوان بعتبته الميقاتية الثالثة تلك، بحيث لا يصبح العنوان مفصولا عن بنية السرد الزمنية، بل متغلغلا فيها ومتفشيا في جنبات السرد ومواقيته. يطالبنا بأن ننظر لتفاصيل الحدث كلها بعيون زمن مغاير دون التغاضي عن الجدل بين السرد والإطار التوثيقي الذي يموضعه في زمن العولمة الراهن، وميقات السيطرة الأمريكية على مقدرات المنطقة. فالعتبات الميقاتية هي التي تجذر العنوان في ثنايا النص، وتذكرنا به باستمرار. كما أنها وقد طرحت عن بنيتها الزمنية ـ بالنسبة للأعوام ـ التاريخ الهجري والميلادي معا، تؤسس تاريخها المرتبط عضويا بالعتبة التوثيقية، عتبة المخطط الأمريكي الذي يدور بعد اثني عشر عاما من عاصفة الصحراء. والواقع أن استخدام هذه الأسماء القديمة يلعب في هذا النص الروائي الجميل دور القناع أو التغريب المسرحي(2)، لكن النص ـ في حركة مسرحية بارعة ـ يخلع عن نفسه هذا القناع في فصله الأخير، ويقدم للقارئ مفاتيح أيامه وشهوره. وكأنه يطلب منه أن يعيد القراءة بعدما أماط النص اللثام عن أقنعته. وبعد أن قدم له مفاتيح إضافية يدخل منها إلى عوالم معانية ودلالاته المتراكبة. خاصة وأن خلع الأقنعة يدور في عام حرب الصدمة والترويع، بصورة تخلع معها الشهور أقنعتها، بعدما خلعت حرب الصدمة والترويع عن هذا الواقع كل أقنعته، وأرتدت به جاهليا قحا لا يحتاج إلى مواقيته القديمة، لأن راهنه أشد جاهلية منها وأكثر تخلفا.

بنية السرد الزمنية وتناظراتها الدالة
نعود بعد التعرف على دور العتبات وكيفية تخليقها لإطار توثيقي يدير حواره ـ على عدة مستويات زمنية ـ مايدور في الرواية من سرود إلى بنية السرد الزمنية، وهي البنية التي تقدم لنا بعد العتبات مفاتيح التأويل الأساسية. فقد حرصت الرواية على التركيز على تلك البنية الزمنية مرتين: مرة من خلال تلك الذاكرة التاريخية العامة التي تموضع السرد في زمن التخطيط الأمريكي لغزو العراق واجتياحه ظلما وعدوانا، ومرة أخرى من خلال هذا الاستخدام المتعمد للأسماء الجاهلية للشهور والأيام. لذلك علينا البدء بالتعرف على طبيعة هذه البنية الزمنية قبل أن نتطرق إلى الحدث وعلاقات الشخصيات.

تبدأ الرواية بفصل قصير، لايتجاوز الصفحتين، يدور في الثالثة صباحا من «مؤنس الخامس عشر من وعل، من العام الثاني عشر بعد عاصفة الصحراء» (ص 7) ـ أي بأيامنا الراهنة يوم الخميس الخامس عشر من شوال 1423، (المقابل لعام 2002م) ـ ففي الوقت الذي يخطط فيه البيت الأبيض لغزو العراق، كان هاشم ـ لاحظ دلاله اختيار الإسم الذي يردك لمكانة بني هاشم وقريش ـ يخطط مع رفيقه «أيمن»، الذي لا أثر لأي يمن في تصرفاته، لضرب مالك وأوشك أن يقتله(3)، وها هو يتساءل بعد أن شاهد جسده مطروحا على الأسفلت (هل مات؟) وقد دفعته فعلته النكراء تلك لأن يبكي، وهو الذي لم يتأثر ـ كما يقول لنا السرد ـ لبكاء سحر منذ أعوام مضت عندما تنكر لمسئوليته عما جرى لها، أو بالأحرى عما فعله بها، بقسوة شيطان صغير رجيم. تجاهلها كلية وهي تقول له «الدنيا سلف ودين يا هاشم، عندك أخت وبكرة تندم» (ص 24). ولكنه لم يندم(4)، فما يحركه الآن للبكاء ليس الندم، فهل له ضمير حتى يندم؟! وإنما هو الخوف من أن يدفع ثمن فعلته النكراء، «إن مات سيموت هو أيضا، أجل سيقتصون منه» (ص 8) لو مات مالك! الخوف إذن من القصاص، ومن شيوع الخبر، وما سيتقول به الناس عنه وعن اخته، هو سبب البكاء «وسيكون قد أضاف إلى السوء الذي ارتكبه سوءا آخر: الفضيحة» (ص 8).

ومن البداية أيضا يتأسس المنطق المغلوط المبني على وهم أهميته الذاتية: «إن مات ستموت أمه، لقد جعلت منه عمود حياتها، وما أن ينقصف حتى تهوي السماء فوق رأسها» (ص 8). إذن فهناك سلسلة شرطية تنهض على هذا المنطق: لو مات مالك، سيموت هاشم، ولو مات هاشم سينهار العالم فوق رأس أمه التي جعلته عماد حياتها وعمود خيمتها. وإزاء هذا المنطق المغلوط لا يفكر هاشم في غير الهرب، أو بالأحرى العودة إلى الرحم: «ود لو انطوى على نفسه وعاد جنينا إلى رحمها. أكان يجب أن تلده؟» (ص 8). فالرواية تبدأ بصوت هاشم وعبر رؤيته لما جرى، ولما فعل. وتؤطر هذه الرغبة المطلقة في الهرب بالعودة للرحم، بإطار إعداد البيت الأبيض للحرب على العراق. حيث تبدأ بإعلان البطل «هاشم» الاستنكاري/ الاستفهامي لنفسه «هل مات؟» عند بداية السرد، وهو الإعلان الذي توقته الرواية كي لاتفوت قارئها أهمية الإطار التوثيقي، في العام الثاني عشر بعد عاصفة الصحراء. فالزمن في الرواية لا يستخدم ـ كما ذكرت في تناول العتبة الميقاتية ـ التقويم الهجري كما هي العادة في الجزيرة العربية، ولا التقويم الميلادي كما هي العادة خارجها، وإنما تقويما خاصا بهذه الرواية يبدأ من عاصفة الصحراء/ حرب الخليج الأولى التي أدت إلى استعمار الكويت بدعوى تحريرها، وفتحت شهية الولايات المتحدة لاستعمار المزيد من الأرض العربية، وينتهي مع حرب الصدمة والترويع.

لكن هذه البنية الزمنية هي بنية الزمن الخارجي، بينما تعمد بنية السرد، والزمن الداخلي في الرواية إلى تخليق بنية زجزاجية مغايرة كلية لتلك البنية الخطية التي تتجلى في تتابع الشذرات التوثيقية، وأخذت الرواية توحي بها وتبلور آليات تتابعها المغاير في العتبات الميقاتية. فبعد الفصل الأول القصير «سماء تهوي» الذي يدور في مؤنس (الخميس) الخامس عشر من وعل، يرتد بنا الزمن في الفصل الثاني «ولم ير ملائكة قط» يومين إلى جبار (الثلاثاء) الثالث عشر من الشهر نفسه. وتتراجع الأحداث في الزمن وكأن التراجع في الزمن هو الموازي السردي، أو بالأحرى هو الشكل الأوفق لهذا التراجع العربي الاجتماعي والحضاري في الزمن الردئ، والذي يعود بنا إلى الجاهلية الأولى. ومع الارتداد من الخميس إلى الثلاثاء، يتغير الصوت السردي من صوت هاشم، إلى صوت مالك ـ الذي لايحق له في هذا العالم الردئ أن يمتلك حتى حلما بسيطا بالحب والتحقق ـ وهو يصارع الموت، بعدما «ضُرِب بقسوة، وفتت الألم روحه. الألم والمهانة والإحساس المرّ بالخديعة» (ص 13). وفي الفصل الثالث «الصمت والموت» يواصل الزمن السردي ارتداداته إلى الإثنين «أهون الثاني عشر من وعل» ونعود مع تلك الارتدادة إلى صوت هاشم، وإلى نوع من تعدد اللغات السردية مع سورات غضبه التي تجلب عاميته الفجة إلى السرد وتستدعي معها لغات شخصيات أخرى من خلاله. ومع تعدد اللغات تتعدد منطلقات السرد ومنظورات الرؤية فيه، حيث يتجاوز منظور هاشم مع منظور أبيه، مع منظور أخته «لين».

ومع تعدد الأصوات وتجاور المنظورات يحاول هذا الفصل إيقاف الزمن نسبيا أو الحد من تدفقه، في نوع من السرد بالسرعة البطيئة slow motion كما يقول مصطلح السرد السينمائي. لأن السرد بالسرعة البطيئة لا يتيح للنص أن يغوص في ثنايا الحدث فحسب، بل أن يقدم لنا جغرافيا المكان كذلك، وتضاريس المدينة التي يدور فيها الحدث: من شارع الملك فيصل وشارع الستين، إلى شارع المطار الطالع وشارع سلطانة، إلى شارع الحزام والملك عبدالعزيز، إلى شارع قباء النازل وقباء الطالع، إلى شارع قربان وغيرها من شوارع المدينة المنورة. ومع هذه الجفرافيا يدلف بنا السرد إلى خريطة تكوين هاشم النفسية والاجتماعية معا، وإلى طبيعة تفكيره في المرأة وفي العالم. والواقع أن الرجوع بالزمن في مستهل الرواية ليومين ثم التوقف النسبي به في الفصل الثالث، يشكل نوعا من الحفر السردي في أركيولوجيا الواقع الروائي، ترتد فيه الكاتبة إلى الماضي كي تكشف لنا عبره عن دلالات الحدث الأساسي الذي بدأت به، وهو ضرب هاشم وصديقه أيمن لمالك، وهو الضرب الذي أوشك أن يفضي إلى القتل، وترك مالك طوال الرواية معلقا بين الحياة والموت: وهو تعليق له دلالاته ذات المعاني المتعددة في الرواية.

لأن هذا الحفر السردي هو الذي نعرف من خلاله شخصية هاشم، الذي أخفق في دراسته، ولم يحصل في الثانوية العامة على مجموع يتيح له الالتحاق بالجامعة، وهو يبرر لنفسه، تبرير المخفقين «ثم ما الذي كان سيفعله بالشهادة؟ يضعها في مغلف من البلاستيك، يودعه درجا في غرفته مثل آلاف غيره، تخرجوا منذ أعوام طويلة وظلوا بلاعمل حتى اليوم؟» (ص 30). ثم كيف أخفق كذلك في عمله الأول الذي دبره له أبوه، فقدم له فرصة ثانية وهي العمل في محل للعطور. لكن عمله هناك لم يطل، إذ صرفه صاحب المحل ذات مساء وهو يقول له «دوّر لك على مكان تاني تلقط فيه رزقك» (ص 41). فلم يكن هاشم من الذين يستطيعون الفصل بين نزواتهم ومكان العمل أو حتى البيت الذي جلب له ذات يوم فتاة غرة، وضبطته اخته متلبسا، وقرّعته: «إتق الله في بنات الناس ياهاشم! وبلاويك خليها برا البيت، مو عشاني، عشان أمك وأبوك» (ص 39). وهذا الحفر السردي هو الذي يتيح لنا التعرف على طبيعة علاقته بشريكه «أيمن» في التخطيط لما يسمياه تأديب مالك، وهما أحوج منه للتأديب، فقد اكتشفنا أن هاشم لايراعي أصلا حرمة بيت أسرته، ويجلب له العاهرات القاصرات من الشوارع. ولكنه مع ذلك ومنذ أن اكتشف أن لإخته علاقة بمالك، وأثار هذا الاكتشاف نقمته، لايشغله شيء غير التخطيط مع صديقه أيمن لتأديبه.

بعد هذا الحفر نتقدم من جديد في الزمن إلى الثلاثاء «جبار الثالث عشر من وعل» يوم ضرب مالك، حيث تقدم لنا الرواية واقعة الضرب، لا في تفاصيلها الواقعية، وإنما في وقعها المتناقض على هاشم، حيث نجد أن تحقق الرغبة لا ينفصل عن نفيها، ونزع السحر عنها كما يقول لنا رينيه جيرار(5). فما أن «سمع طقطقة عظامه، حتى أدركك بغته أنه لم يرد له الموت» (ص 43). لكن فقدان رغبته في تأديب مالك لسحرها لايعود إلى أيه روادع أخلاقية، بل إلى آليات الرغبة المثلثة الداخلية، وإلى الخوف من مصير موسى الذي انتهى إلى السجن «إن مصير موسى غير بعيد عنه» (ص 43)، ومع هذا لاتزال دوافع الرغبة المثلثة توسوس له: «ما أدراه أن الذي خلفاه ـ أيمن وهو ـ مضروبا ملطخا بدمه قد ركب أخته؟» (ص 45). وأثناء هذا الجدل الداخلي يدرك لوهلة تناقضية وضعه: «فر طويلا من الصمت والموت، وها هو يدرك ـ بغتة ـ أنهاما أمامه دائما» (ص 45).

مع الفصل الرابع «رائحة الحزن»، وهو أطول فصول الرواية، تنحو البنية الزمنية التي ترددت بين التقدم والنكوص في مسار زجزاجي متعرج إلى الاقتراب من المسار الخطي المتطور. فقد تغير الصوت السردي، وسار السرد مع لين، بطلة الرواية ومحركة كل أحداثها المتضاربة، إلى الأمام: من الخميس « مؤنس الخامس عشر من وعل»، (ص 49). إلى السبت «شيار السابع عشر من وعل»، (ص 57). إلى الأحد «أول الثامن عشر من وعل» (ص 71). ويناظر هذا المسار الطبيعي أو السليم للزمن شخصية لين راويته، باعتيارها أكثر شخصيات هذه الرواية طبيعية وسلامة. حيث نعرف فيه الكثير عن حياتها ونتعرف عبره على عدد من حبكات الرواية الثانوية عبر قصة الطفل ابن الأعوام الست الذي جلب إلى المستشفى ميتا بعدما أغتصب بعنف، ورفض اهله التقدم لاستلام جثته خوفا من الفضيحة، وتركت جثته في مشرحة كلية الطب جامعة الملك عبدالعزيز (ص 60)، وعبر قصتي مزنة قصة مزنة التي اغتصبت بالحلال (وهربت حينما لم يعد باستطاعتها تحمل وجع الاغتصاب (ص 80 ـ 84)، وقصة شرف التي أشعلت النار في نفسها لما رفضوا تزويجها لمن تحب لأنه لايحمل صك غفران، وليس سعوديا (84 ـ 87). حيث يبدأ السرد في هذا الفصل بالعودة من جديد إلى لحظة البداية: الخميس «مؤنس الخامس عشر من وعل» (ص 49)، لكن بعد ساعة ونصف من البداية الأولى في الثالثة فجرا. ففي الرابعة والنصف ينقلنا السرد من غرفة هاشم إلى غرفة اخته الكبرى لين. ومن منظور لين نرى قصة الحب التي تخلقت بينها وبين مالك. ونرى أيضا كيف أن أقرب الناس إليها، وهو والدها لم يستطع أن يتفهم ـ برغم رحابة صدره وعقله معا ـ لماذا احبت رجلا أسود. وأكد لها «أن الناس لن تنظر إلا إلى لونه، وسيعاقبونك» (ص 51). وها هو العقاب يأتي من أقرب الناس إليها ـ أم تراه أبعدهم عنها؟! ـ أخيها. وتبدأ آليات الإحساس بالذنب عما جرى في التخلق داخلها، خاصة وأنها «لم تخبر مالكا أن هاشما رآها وهي تغادر الكامري بزرقتها الشاحبة، أو أنها وجدته يفتش في أغراضها، ويقرأ الرسائل التي تبادلاها طوال أعوام مضت» (ص 54).

ويمضي الزمن في التقدم نحو السبت «شيار السابع عشر من وعل» (ص 55)، ونحن لازلنا مع لين وهي تذرع ممر المستشفى مرتبكة، وأبوها يحوقل مطرقا، فنعرف أن أمل الأسرة كلها معلق بحياة مالك الذي تركه هاشم بين الحياة والموت. «كسرت ساقه اليمنى، ولوح كتفه الأيمن، وإثنان من أضلاعهز اقترب من الموت، لكنه لم يمت. كم روّعها أن يكون لأحد القدرة على أن يلحق بإنسان ـ أي إنسان ـ هذا الأذى! روّعها أكثر أن يكون هذا الأحد أخاها.» (ص 57). ويستمر الزمن في التقدم إلى الأحد «أول الثامن عشر من وعل» (ص 71). حين يطلب منها أبوها أن تكف عن زيارته. وحين تعلن أمها غضبها الشديد على زيارتها لمالك في المستشفى «ما عرفت أربيك! إنت ما تستحي على وشك؟ تبغي الناس تاكل وشّنا» (ص 73)، فتعلن لين تمردها على أمها، وتكشف لها نفاقها المكشوف.

مع الفصل الخامس «صك الغفران» يعود بنا الزمن القهقرى، شهرين إلى الوراء(6)، إلى الأربعاء «دبار الرابع والعشرين من عاذل» شعبان اليوم الذي صرح لها مالك فيه أنه لايملك «صك غفران»، برغم استمرار لين في السيطرة على منظور السرد. وهو إرتداد مغاير لترددات هاشم في فصول الرواية الأولى، لأنه يقدم العنصر المأساوي ـ الذي يضاعف من تأثير مفارقة الرواية التراجيدية ـ أم تراه خطأ مالك التراجيدي حينما أخفى عنها أنه لايملك صك غفران! وهو تعبير ورد في متن السرد للمرة الأولى في سياق مأساوي بحق، مقرونا بقصة شرف التي انتحرت بحرق نفسها حينما رفضوا أن يزوجوها من شخص لايملك صك غفران (ص 85 ـ 87). وما أن اقترن بقصة لين حتى جرّ عليها سخرية زميلاتها: «قلنالك تكروني ما فهمت، أهو طلعلك بمصيبة ثانية، وأنت آخر من يدري» (ص 105)، لا تدري، وهي المقولة المسلطة على رقاب النساء، والتي سعت لين طوال حياتها بثقافتها وقراءاتها ومعارفها لقهرا. لقد عايرنها بأنها لاتدري، ومكنهم ذلك من أن يطعنوها تلك الطعنة المصمية. وهذا ما يجعل خطأ مالك خطأ تراجيديا بحق. حيث أدى إلى الشرخ الأول في بنيان علاقة حبهما الوطيدة التي استمرا لأعوام، وبنيت على الثقة المتبادلة. كان طبيعيا إذن أن تشعر لين بالخديعة التي لم تنفع معها محاولات مالك المتعددة للتخفيف من أثر خطئه عليها. وكيف أنه كان ينتظر أن يمنح «صك غفران ممهورا بسيفين يجتثان نخلة» (ص 106). فالشرخ كان قد حدث، وأحالته محاولات مالك لتبريره بدلا من الاعتذار عنه إلى صدع، كمحاولات فريسة هشة علقت في شبكة عنكبوت حبار، لاتؤدي أي محاولة للخروج منها إلا إلى إحكالم خيوط الشبكة عليها.

لذلك كانت ضربة سرد موفقة أن تعود لين إلى الصندوق الملون التي جمعت فيه رسائلة «الصندوق التي ستجد هاشما بعد ـ بعد ذلك بأشهر طويلة ـ مكبا عليه يقلّب في الرسائل ويبعثر الصور» (ص 108). تقرأ رسائله وتضع خطوطا تحت كل عبارة «أظهر فيها احتراما لاختلافها وعقلها وقدرتها على الفهم» (ص 108). لأن مفارقات هذه العبارات هي التي عمّقت إحساسها بالخديعة، وأحالت الشرخ إلى صدع سرعان ما تحوّل إلى فجوة نفسية. فكلما فكرت في فعلته أدركت أنه كالآخرين، وهي التي احبته لأنه مختلف، وأنه «اختار طريقة الأفلام العربية الخائبة في التعامل معها... مستمتعا بدور الضحية» (ص 111)، وأنه حقا لم يعرفها، وأن كل رسائلهما تتكشف عن خلل عميق. ويكشف هذا القسم الذي يحلل لنا بداية تخلق تلك الفجوة في العلاقة، وتخثرها مدى حدة المفارقة الدرامية فيما فعله هاشم. لأن فعلته الخرقاء أبرزت مشكلة/ فضيحة كانت في طريقها للذبول والتلاشي، وتلك هي المفارقة التراجيدية في الحدث الرئيسي في الرواية.

في الفصل السادس «عطب» نعود إلى وعل، وإلى الإثنين «أهون الخامس من وعل» إلى ما قبل أسبوع من حادث الاعتداء على مالك، حيث يتغير الصوت السردي إلى صوت الأب، الذي نتعرف منه على صورة لين كما تتجلى في مرايا الأبوية البطرياركية الرؤومة، العاقلة والمغايرة لبطرياركية هاشم الغشيمة والجاهلة معا، والتي لاترى في لين إلا امرأة تركب وتجلب العار لأسرتها. فالأب واقع في حيرة حقيقية لأنه يدرك «أن الحياة لاتشبه أفكار» (ص 126). أبنته الأثيرة. فهو أب ورجل عركته الحياة بعدما تيتم مبكرا، وعرف الواقع معرفة حقيقية من خلال عمله في محكمة مثل تلك التي رفض شيوخها تزويج شرف من رجل لايملك صك غفران، وشاهدهم يرفضون تزويج امرأة من رجل أسود. وعاش الكثير من المتغيرات «دوران جاجارين حول الأرض والضجة التي رافقته، تنحية الملك سعود، بدء البث التليفزيوني، إول سيارة مستعملة ابتاعها، الحرب مع اليمن، النكسة، هبوط الأمريكان على سطح القمر، سفره بالطائرة لأول مرة في حياته» (ص 127). وبرغم كل حنكته وما عاشه من تجارب وخبرات، لم يستطع أن يرد على مالك حينما سأله إذا ما كان رفضه لطلبه يد ابنته لين: «عشنّي أسود يا عمي؟» (ص 130)، وظل العجز عن الجواب يؤرقه. «تساءل إن كان يرفض مالك لأنه أسود، أم لأن الناس سترفضه؟ وللحظة رأى أنه يخوض في الوحل مع الآخرين، وأنه لم ينظر إلا إلى اللون، لكن كيف له ألا يفعل ذلك؟» (ص 131). هنا يدرك الأب سطوة المجتمع الجاهلي المتخلف حيث «الناس هنا بألوانها وقبائلها وأجناسها وأعراقها، وهو لم يشذ عن القاعدة، ولم يستطع أن يفعل ذلك. تظن لين أن الناس ستضج قليلا،ثم ينشغل كل امرئ بحياته، لكنها مخطئة. لأنها ستظل تحت أنظارهم طوال الوقت وسيمرضها فضولهم وتلميحاتهم السمجة القذرة» (ص 132). وهو ما أدركت ابنته مدى تخلفه من قبل وبشكل أشد منه ـ لو يدري ـ وهي تتحدث عن «بلادها التي يقول الناس فيها ما لايفعلون، ويفعلون ما لايقولون. بلادها التي تتآكل الحيوات فيها لطول ما تدور حول نفسها تحت مستنقع آسن. بلادها التي تترامى مثل سطح غير مصقول من الفضة، خشن بارد صامت، يحتاج إلى جهنم صغرى كي تصهره وتطهره وتعيد تشكيله من جديد» (ص 109).

في الفصل السابع «ما تحت اللون» يمضي السرد زمنيا يومين للأمام، إلى الأربعاء «دبار السابع من وعل» كي نسمع صوت مالك بعد يومين من رفض الأب له حينما تقدم لخطبة لين. فبنية السرد تعمد إلى إلقاء حجر في المياه ثم تتبع أثر الدوائر التي يحدثها فيها. وحتى يكشف النص فداحة عجز الأب عن الإجابة على سؤال مالك الذي يلح على النص ويوسوس فيه، يلجأ السرد في هذا الفصل إلى بنية سردية مغايرة تعمد إلى اختيار نص سردي عربي قديم تضعه مرآة تعكس عليها تلك الدوائر التي تعكر صفو نفس مالك بعد إلقاء حجر الرفض في ساحتها. فتختار نصوصا من (المستظرف من كل فن مستطرف للأبشيهي، والبداية والنهاية لإبن كثير، والسيرة النبوية لإبن هشام، وشعر عنترة بن شداد، والكامل في التاريخ لابن الأثير، والأغاني لأبي الفرج الأصفهاني) تحيلها إلى مرايا تعكس عليها إفضاءات مالك، فنسمع صوته على خلفية من تلك التناصات التي ترهف وعينا بها، وتكشف عن تغلغل التفكير العنصري في العقلية العربية عبر العصور. فنعرف في هذا الفصل قصة مالك وقصة أبيه الذي جاء إلى أرض الله الحرام وجاور فيها قبل خمسين عاما، ولكنه لم يسع وراء صك غفران، فقد كان همه روحي خالص. وظل الإبن الذي ولد في تلك الأرض الحرام يعاني من عنصرية بنيها حتى طهرته منها لين: « تعلمت من حبك نبذ العنصرية! كنا أعاني من تلك الخصلة البغيضة، ولم تكن شيئا غريبا في مجتمع يرضعنا تصنيفاته منذ نولد: هندي رفيق، تكروني كور، بدوي صربي، حجازي طرش بحر، بنغالي مقطع، مصري نصّاب، لبناني قوّاد... إلى آخر قذارات طهرني منها حبك» (ص 108).

في هذا الفصل تكتب الرواية صورا من العنصرية والعذاب التي عانى منها مالك وعانى منه أخوه يوسف حتى أقدم على الانتحار. وتقدم لنا دراسة متأنية في آليات تلك العنصرية البغيضة التي تكشف مدى جاهلية مجتمعها قبل عامين من وصول أول رجل أسود إلى رئاسة القوة العظمى في العالم. حيث الأسود هناك «كور/ عبد/ تكروني/ كويحة/ بقايا حجاج» (ص 151). وغير ذلك من النعوت التي تهون أمام بنية الإهانات المؤسسية التي تدفع مساعد مدير المدرسة المتوسطة لأن يوبخه لاجتهاده بفظاظة عنصرية فجة ومنقطعة النظير «يقولو درجاتك عاليه، وأنا أسأل نفسي متّعب نفسك ليه؟ يعني انت عارف أكثر مني إنك إن حصلت فرصة تكمل الثنانية، ما راح تحصل فرصة تكمل جامعة، فعلى إيه وجع القلب؟ إعط الفرصة لغيرك من عيال البلد. ردّ الجميل على الأقل للبلد اللي آوتك انت وأهلك!» (ص 144). فانكسر شيئ في داخله وتحطم الأمل في أعماقه، وكف «عن نيل الدرجات العالية، وانتهت حيرته بين دراسة الطب أو الهندسة... هل صادف طول حياته التي مضت طبيبا أسود حتى يكون حائرا إلى هذا الحد بين الطب والهندسة» (ص 146). لكنه مع انكسار الأمل في داخله قاوم الانحراف حتى لا ينتهي به الأمر إلى مصير أمثاله من المحطمين «إبراهيم الذي اعطب شم الغراء دماغه، أو احمد الذي جرفته الكلمات المستفزة إلى قتل شاب في مشادة بينهما، أو حسين الذي اختفى ثم جاءت الأخبار بقتله على أيدي رجال مكافحة المخدرات، أو... أو..» (ص 146). ويمضي بنا الزمن في هذا الفصل يوما ثالثا بعد رفض أبو لين له إلى الخميس «مؤنس الثامن من وعل» يعود بنا التناص إلى فجر الإسلام وقصة بلال حتى نكتشف أننا لم نتقدم عن الجاهلية قيد انملة. وأن على مالك أكثر من بلال أن يعتصم بأحد أحد! لأن كل من حوله، حتى لو رضيت بها ورضي أبوها به «سيفكرون بأنه أقل من أن يكون جديرا بها لأنه أسود فقط... وسيبلغ بهم الأمر أن يمتنعوا عن تزويج أخيها أو الزواج من أخواتها ـ لو كان لها أخوات ـ لأن لونه كالجذام لا يصلح معه إلا الفرار منه» (ص 158). ومهما حقق بفضل جهده واجتهاده فلن يلقاه أهل البلد بغير السخرية ونبرة الاستنكار والاستهزاء التي تصادفه كل حين: «وكامري 2001 كمان؟ إش خليت لأهل البلد؟ غشيتنا بثوبك وغترتك ياخال!» (ص 167).

أما الفصل الثامن والأخير «جوجل يهذي» والذي يبدأ مع السبت «شيار التاسع عشر من المؤتمر» محرم في العام الهجري التالي، أي بعد ثلاثة أشهر من بدء السرد في شوال، فإننا نعود معه إلى صوت لين/ وقد اتحد بصوت الكاتبة وهي بأيام العرب وأسماء شهورهم من جوجل، لتخلع عن تلك الشهور أقنعتها، وتطالبنا بالتفكير في كل ما مر من صفحات، خاصة وقد بدأ ضرب بغداد وتغير التوقيت مما بعد عاصفة الصحراء إلى زمن حرب الصدمة والترويع.

محتوى الشكل وعلاقات الشخصيات
تكشف لنا بنية السرد الزمنية تلك أن للشكل في هذه الرواية الجميلة، كما في أي عمل فني جيد، محتواه. فبعد مؤنس الخامس عشر من وعل (شوال)، ترتد بنا إلى جبار الثالث عشر من وعل، ثم أهون الثاني عشر من وعل، ثم تعود مرة أخرى لجبار الثالث عشر من وعل، وبعده إلى مؤنس الخامس عشر من وعل، وكأننا نراوح في الزمن لانزال في الخمسين صفحة الأولى من الرواية. قبل أن نتقدم في الزمن يوما أو يومين، لتعود بعدها القهقرى شهرين إلى عاذل (شعبان) لتنتهي بنا بعد حفنة من الشهور مع مطلع العام التالي واندلاع حرب الصدمة والترويع في عام 1424/ 2003. فزمن الرواية هو الشهور الستة السابقة لاندلاع حرب غزو العراق، وإن كان مسرح أهم أحداثها هو أيام معدودات بلغت فيها الأحداث ذروتها الموازية لذروة الإعداد لغزو العراق، والانقضاض عليه، في نوع من التجاور أو التفاعل بين العام والخاص، بين السياسي والروائي. فالرواية تستخدم في بنيتها الزمنية، وفي بنيتها السردية معا استراتيجية التأطير المستمر لكل فصل، بصورة ينهض فيها الإطار بعملية توسيع سياق الحدث البالغ الخصوصية، وإدخاله في عملية جدل مستمرة مع الحدث العام الذي يبدو ظاهريا أنه لاعلاقة له به، في نوع من تكريس الغفلة التي هي صنو التخلف، والوجه الآخر له. وفي تقنية تتعمد أن يقوم فيها التجاور بين العام والخاص بإرهاف وعينا بحقيقة هذا الخاص ووضعه المزري في العالم. بينما يقوم العام بدور الذاكرة الداخلية للنص الذي يبدو أنه بلاذاكرة خاصة به. فما فعله هاشم بمالك، كان يمكن أن يدور في أي زمن مادام زمننا ـ كما تنبهنا الرواية في أكثر من موضع ـ سارد في جاهليته لايزال، لكن النص الروائي، وهو ابن العصر الحديث يعي أن هذا الزمن السادر في الجاهلية هو نفسه الزمن الذي عاد فيه الاستعمار بشكله التقليدي البشع إلى عالمنا العربي المعاصر. إذن فللبنية الزمنية التي تتأرجح بين التعرج والمراوحة في مكانها، وبين السير حثيثا للأمام قبل التقهقر مرة أخرى للوراء، دلالاتها الموضوعية التي تتكشف لنا حقيقة ما تنطوي عليه من مستويات متعددة للمعنى إذا ما شرعنا في تحليل العلاقة بين الشخصيات.

للدراسة بقية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ جيمس هنري بريستد، (فجر الضمير)، ترجمة سليم حسن، (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب) وقد نشر الكتاب في أصله الانجليزي عام 1934، وترجمه سليم حسن لأول مرة عام 1956، ونفدت طبعته منذ أمد طويل، ولكن أعيد إصداره ضمن مشروع مكتبة الأسرة قبيل سنوات.
(2) ـ ثمة استثناءات وقع فيها النص ربما بسبب الخطأ وعدم التدقيق في التصحيح، حينما يحيل دون مبرر فني إلى تواريخ عربية مثل «هاتفها كثيرا منذ كان منتصف شعبان» (ص 52 و ص 53)
(3) ـ تذكرنا هذه التقنية الذكية ببداية رواية رشيد الضعيف (تصطفل ميريل ستريب) التي تموضع هي الأخرى سردها في إطار إعلان بوش الأب عن ميلاد النظام العالمي الجديد، بينما يفتش البطل في ضمير زوجته، وينشغل بالتنقيب في طوايا ماضيها.
(4) ـ تستدعي قصة سحر، التي ترد عرضا في هذه الرواية، رواية الكاتبة الأولى (الفردوس اليباب) وتوشك أن تدير تناصها الداخلي الخصب والمضمر معها هنا. بصورة تغني فيها الرواية الأولى عن أي استرسال في قصة ما جرى لسحر في الرواية الثانية.
(5) ـ راجع رينيه جيرار Rene Girard, Deceit, Desire and the Novel: Self and other in Literary structure, trans. Yvonne Freccero (Baltimore: The Johns Hopkins Press, 1965).
(6) ـ يبدو أن ثمة خطأ في العام، أو حتى في الشهور. فالارتداد إلى «دبار الرابع والعشرون من عاذل من العام الثاني عشر بعد عاصفة الصحراء» إي من نفس العام يعني الارتداد من شوال إلى شعبان، مدة شهرين من الزمان. لكن هذه المدة لا تتسق مع إشارات سردية عديدة من نوع أنها فتحت الصندوق بعد أزمة صك الغفران، «الصندوق التي رأت هاشما ـ بعد ذلك بأشهر طويلة ـ مكبا عليه يقلب في الرسائل ويبعثر الصور (ص 108)، أو ظل بعد أزمة صك الغفران تلك «يلح عليها طوال أشهر كي يراها» (ص 115)، وغيرها من الإشارات التي لا تتسق مع مرور شهرين بين عاذل ووعل، شعبان وشوال. فإما أن يكون هذا التاريخ من عاذل في عام مضى، أي العام الحادي عشر بعد عاصفة الصحراء، وإما أن هناك خطأ في الحساب. وهو خطأ يدعمه أن الكاتبة وقعت في خطأ آخر وهو ذكر شعبان مرتين أو ثلاثة (ص 52، وص 53، وص 116) في السرد بدلا من معادله القديم عاذل.