أثارت رواية علاء الأسواني عمارة يعقوبيان ضجة إعلامية واسعة انتهت بتحويلها إلى فيلم سينمائي حشد له أكبر عدد من النجوم وأنفقت الملايين علي ترويجه. هنا يكشف لنا صبري حافظ في تحليل نقدي مفصل مدى تواضع هذه الرواية، وحقيقة النص الأيديولوجي الرجعي الذي تنطوي عليه فكريا.

عمارة يعقوبيان وأدب التلسين السياسي

التنميط السردي وأدب التلسين السياسي

صبري حافظ

زفت هذه العمل إليّ الضجة الكبيرة التي أحاطت به، وباسم مؤلفه منذ صدوره، والأخبار الإعلامية المتتابعة عن تحويله إلى فيلم سينمائي. فقد سمعت باسم الكاتب قبل أن أقرأ له، وهذا من الأمور النادرة بالنسبة لكتاب التسعينات الذين تتأخر أسماؤهم عن أعمالهم، ولا تسبقها كما هي الحال مع هذا الكاتب الذي يحيط نفسه، حتى قبل صدور كتابه باهتمام إعلامي واضح. ولكني وبرغم عدم الثقة في الأعمال الأدبية التي تثير عنها الصحافة ضجة واسعة، لسقم ذوق هذه الصحافة، ولإعراضها عن جل أعمال جيل التسعينات الجيدة، قررت قراءته ضمن اهتمامي بالرواية المصرية الجديدة. وبما يصب في نهر تيارها المتدفق الذي راكم مجموعة متميزة من الروايات الجيدة. وأسس لسرد جديد بحق يقطع بالرواية المصرية، والعربية من ورائها، خطوات فسيحة في طريق جديد واعد بأخصب العطاء. فرواية التسعينات الجديدة تفرض على القارئ التعامل معها بقدر كبير من اليقظة، بل وتتطلب منه جهدا كبيرا في تلقي مفرداتها، وفك شفراتها السردية المعقدة. لأنها غيرت قواعد الإحالة التقليدية التي كانت تنهض على المحاكاة ومضاهاة الرواية ـــ بنية ومعنى ـــ للواقع الذي تصدر عنه، كما كان الحال مثلا مع روايات نجيب محفوظ الواقعية التي تطابق فيها بنية (زقاق المدق) الروائية جغرافيا الزقاق الواقعية والذي استعارت منه عنوانها. ليس فقط لأن نجيب محفوظ نفسه ـــ وهذا من أسرار عظمة كاتبنا العملاق ـــ قد تجاوز هذه القواعد عدة مرات عبر مراحله الروائية المختلفة. واستبدل بقواعد الإحالة القديمة قواعد جديدة تقيم علاقة استعارية مع الواقع الذي تصدر عنه، وتدير عبر استعاريتها تلك جدلها الخلاق معه. ولكن أيضا لأن رواية التسعينات الجديدة قد مضت بتلك العلاقة الاستعارية خطوات أخرى للأمام، بعدما حققت قطيعتها السردية معها. هذا هو السياق الذي أقرأ فيه روايات التسعينات الجديدة التي تواصل مسيرة السرد الروائي العربي، لا كما حققها نجيب محفوظ أو جيل الستينات من بعده، وإنما كما بلورتها كتابات هذا الجيل الجديد وهي تمضي بالرواية العربية للأمام من حيث توقفت بها آخر إضافات الأجيال السابقة. هذا فضلا عن أنني وجدت أن "صيت" هذه الرواية قد بلغ طلابي في "جامعة هارفارد" حينما زرتها في الفصل الدراسي الماضي، وحثوني على تناولها في المحاضرة العامة التي طلبوا منى إلقاءها لكل طلاب دراسات الشرق الأوسط.

وما أن بدأت قراءة كتاب علاء الأسواني (عمارة يعقوبيان) حتى شجعني عليها الاستهلال الذي يشكر فيه كاتبه الصديق الأستاذ علاء الديب، وهو كاتب أحب أعماله وأثق في ذائقته الأدبية، حيث يقول إنه "يدين له بالفضل في كل ما يحققه في مجال الأدب". صحيح أنه يشكر كذلك الدكتور جلال أمين الذي لا أثق في ذائقته النقدية التي توقفت عند الطيب صالح، ولم تتطور بعده. فقد قاد حملة ضارية على واحدة من روايات التسعينات الجميلة وهي رواية سمير غريب علي (الصقار) قبل عدة سنوات. ومع ذلك رجحت كفة علاء على كفة جلال ـــ ربما بشفاعات محمد إبراهيم مبروك ومحمود الورداني، ومكاوي سعيد الذي كنت قد قرأت روايته البديعة (فئران السفينة). وقرأت النص. لكن قراءة (عمارة يعقوبيان) خيبت أملي في تسعينيتها، ورجحت كفة ذائقة جلال أمين التقليدية، وردتني من جديد إلى روايات الأربعينات القديمة والساذجة منها خاصة بقواعد إحالتها الواقعية، بل والطبيعية في هذه الحالة، التي تحرص على المضاهاة الكاملة بين النص والواقع. بل إن هذا العمل يقدم لنا أثناء السرد عددا من "الأمارات"، بالمعنى العامي المصري للمصطلح، على أن محاكاته لهذا الواقع دقيقة إلى أقصى حد. لكنه لايستطيع أن يقنع قارئه بهذه المضاهاة، لأن المحاكاة المقنعة للواقع تتطلب خبرة عميقة به، قادرة على اختيار أكثر تفاصيله قدرة على اقتناص جوهره. وتتطلب معرفة دقيقة بشخصياته تتجاوز حدود الخبرة السماعية إلى الخبرة الإنسانية التي تمكن القارئ من التماهي مع الشخصية، أو الاقتناع بواقعيتها. وعلاوة على ذلك، فأن النص يرتد بنا منذ صفحاته الأولى إلى عالم المؤلف العليم بكل شيء، المسيطر على كل ما في نصه بطريقة ذهنية خالصة. بصورة لا يتيح معها للنص أن يحقق استقلاليته، بل يتخذه مطية لبث آرائه وحكمته في كل ثناياه، وهي في معظمها آراء بالغة السذاجة لاحكمة فيها ولا بصيرة، وإنما تعميمات مليئة بالتناقض وفقدان المعرفة والخبرة بأبسط قواعد الكتابة الروائية الجيدة. وهو أمر تجاوزته الكتابة الروائية في العالم وفي مصر على السواء قبل عدة عقود. صحيح أنه أحيانا ما يتصنع عدم معرفته بكل شيء عن شخصياته ـــ على عكس المبدأ الأول في الكتابة الروائية الذي يتطلب معرفة حميمة بالشخصية والموقف واستبطان لرؤيتها ومنظورها ـــ كأن يقول مثلا "فنحن لانعرف ماذا كان يصنع قبل سن الأربعين"(ص37) ولكن هذا التصريح الذي تتصدره "نحن" المؤلف السامية ليس من نوع استراتيجيات الكتابة الشكية أو الاحتراسية، وإنما هو جزء من التلخيصات الذهنية التي تشكل عماد الكتابة السردية عنده.

لذلك قررت الاعتذار عن إلقاء محاضرة عن مثل هذا النص الردئ. ولكني بعد تأمل للقرار أدركت أن من الضروري الكشف عن لا أدبية هذا النص قبل أي شيء، والتصدي لما حمله معه من انتكاسة لصورة الأدب المصري في الخارج. لأن الاهتمام به رافق لدى هؤلاء الطلاب الأمريكيين نكوصا إلى التعامل مع النص الأدبي بقواعد سوسيولوجيا السياسة، وكأنه مجرد شهادة صحفية على حوادث موقوته، ولا قيمة أدبية له خارج هذا الإطار. أو كأنه تلخيص لإشاعات المقاهي عن الواقع المصري ينوب عن أي معرفة حقيقية به. بعدما كافح كثير من أساتذة الأدب العربي في الغرب لإخراج هذا الأدب من إسار هذه النظرة الدونية له، والتعامل معه كأدب لا يقل أدبية وكثافة وشاعرية عن أي من الآداب الغربية الأخرى، وهو الأمر الذي ساهمت روايات التسعينات الجيدة في تدعيمه، بكشوفيها وبنياتها التقنية العالية. وحرصا علىالصورة المضيئة للأدب المصري، قدمت هذه المحاضرة التي تكشف للطالب عن عري مثل هذه النصوص من القيمة الأدبية، وعجزها حتى عن أن تكون مرآة لما يدور على المقاهي من ثرثرات وتلسين سياسي.

يبدأ النص بتقديم شخصيته النمطية الأولى، "زكي بك الدسوقي" من الخارج. والتنميط من سمات الكتابة الطبيعية التي تقدم لنا صورا تلخيصية لحالات نمطية، لاشخصيات إنسانية من لحم ودم، يمكن أن نتعاطف معها، أو نجد في تناقضاتها شيئا من تناقضات الواقع الذي صدرت عنه. فهو نموذج للرجل الغني "الغندور" الذي ولد وفي فمه ملعقة من ذهب ـــ فهو ابن عبدالعال باشا الدسوقي، القطب الوفدي المعروف ـــ تعلم الهندسة في فرنسا وعاد منها في الأربعينات، يعد نفسه أو تعده أسرته لكي يلعب دروا سياسيا مرموقا، لكن قيام الثورة سلب منه هذا الدور المرتجى. فقرر الاهتمام بلذاته الحسية وحدها، والتمركز على ذاته، وهذا الأمر الذي بلوره من قبل كاتبنا الكبير نجيب محفوظ في تلك الشخصية الجميلة "حسني علام" في (ميرامار): شخصية من أنجبته طبقته وقاربها موشك على الغرق، فقرر الانغماس في اللذات، ولكن أين الثرى من الثريا؟ و"زكي" الآن في الخامسة والستين من عمره، لايزال متصابيا كمراهق مسحور بعالم المرأة الذي لايستطيع الانفلات من غوايته. ويحكي لنا النص، بأسلوب سردي مراهق، ما يتوهم الكاتب أنه عالم المرأة بتنويعاته المغوية كما يفترض أن تراه الشخصية. لأن النص لايرينا هذا العالم كما تراه الشخصية، وإنما كما يراه الكاتب الذي ينوب عنها، وعن كل الشخصيات، بلغته النمطية الواحدة ومنظوره المسيطر على النص. فابن الذوات الذي تعلم في فرنسا لا يفرق في شغفه بالمرأة بين النبيلات والساقطات، يضاجع سيدات المجتمع والفلاحات وخادمات البيوت، بل يعتبر متسولة التقطها مرة وهو سكران، واكتشف أنها "صنعت ملابسها الداخلية من أكياس الأسمنت الفارغة" وهذه من عناصر ما أدعوه بالخبرة السماعية المقحمة، كأن يسمع شخص قصة طريفة فيقرر تضمينها عمله، "من أجمل من عرفهن وأكثرهن حرارة في الحب"(ص14).

أما عن نظرياته "البلدي" في المرأة، فحدث عنها ولاحرج، ليس فقط لأنها "بلدي" لاعلاقة لها بخلفية الشخصية أوثقافتها الفرنسية، ولكن أيضا لسذاجتها ـــ التي تعتبر "نطق المرأة لحرف السين بالذات يدل على مدى حرارتها في الحب"(ص14) ـــ وضحالتها التي تربط بين تقاطيع المرأة ذات "الشفاة المكتنتزة الحسية المنفرجة غير مضمومة والملامح غليظة شهوانية"(ص15) وبين الجريمة والشهوة التي لاترتوي. وهي آراء مستقاة من نظريات لامبروزو البيولوجية البالية التي عفى عليها الزمن وأثبت خطأها. ولو كان هذا كله قد قدم من منظور الشخصية لكنا أرجعناه لمحدودية ثقافتها، واكتشفنا عبره تناقضاتها، لكنه مقدم من منظور الكاتب وبلغته النمطية الركيكة. لأن النص لايرينا زكي وهو يدلي بمثل هذه الآراء الساذجة، ولكنه يلخصها لنا تحت عنوان "بقيت معلومات مهمة عن زكي الدسوقي" (ص11). وسيكون مثل هذا التلخيص، لا السرد أو التجسيد، هو منهج الكتاب في تقديم بقية الشخصيات النمطية، وحتى بقية الأحداث الأساسية فيه. فهذا العمل لايصدر عن تجربة خاصة أو عامة أو عن شخصية أو مجموعة شخصيات خبرها الكاتب وكتبها بشكل فني يستقطر لنا فيه جوهرها، وإنما عن تخطيط ذهني يسعى لتقديم أمثولته رمزية، أو ما يعرف بالأليجوريا allegory عن الواقع المصري في التسعينات، ويقدم شخصيات يحسب أنه يعيد عبرها خلق شخصيات عامة معروفة في السياسة أو الصحافة المصرية، ويتصور أن معرفة الناس بها باعتبارها شخصيات عامة تغنيه عن أن يرسم هذه الشخصيات بدقة، ويخلق حركتها من خلال دوافعها، ويقنعنا روائيا بمنظورها وتصرفاتها. لكن التخطيط الذهني لهذا العمل لايتيح له أن يكون رواية بالمعنى الدقيق للكلمة، ولكنه أقرب ما يكون إلى المعالجة المكتوبة لعمل سينمائي، أو لميلودراما تليفزيونية مترعة بالفواجع وملطخة بالدم الذي تضرج فيه عددا من شخصياتها قبل أن تنتهي ـــ ككثير من الميلودرامات السينمائية ـــ بنهاية سعيدة، وإن كانت غير منطقية. فماذا يقدم لنا هذا العمل؟

بنفس المنطق الذي تعرفنا على بعض ملامحه في تقديم الشخصية الأولى يقدم لنا بقية الشخصيات. فإذا كان "زكي الدسوقي" هو نمط ابن الذوات الخائب، برغم خفة دمه، وحب الناس له، فإن "طه الشاذلي" هو النمط المناقض كلية لزكي بك ـــ فالثنائيات المتعارضة هي السمة الثانية للسرد المولع برسم المتناقضات. فقير كادح لاينفعه اجتهاده وتفوقه الدراسي في عالم فاسد. فلايجد أمامه ـــ والحتمية الميكانيكية هي السمة الثالثة لهذا السرد ـــ إلا الانخراط في نهاية المطاف في تيار الإسلام الأصولي الذي سيمكنه من أن يحقق ثأره الشخصي من المؤسسة الفاسدة التي أحبطت أمله في أن يصبح ضابط شرطة له جاه وسلطان، فانضم إلى أعدائها. هكذا تسير الأمور من النقيض إلى النقيض في هذا العمل الغريب. مع أن "طه" شاب مجتهد حصل على "مجموع 89% أدبي"(ص57) وهو مجموع يمكنه من الالتحاق بأي كلية يريدها في الجامعة، لكنه التخطيط الذهني الذي يتصور أن عقد الفقر والهوان تحتم عليه أن يبحث عن السلطة، حتى ولو أودت بحياته في نهاية الأمر. لكن قبل أن نصل معه إلى النهاية الفاجعة التي يقوم فيها بعملية إرهابية ناجحة للقصاص ممن عذبه في السجن، سرعان ما يحولها إلى عملية فاشلة تنتهي بقتله هو الآخر بسبب تسلط شهوة الانتقام عليه. علينا أن نتعرف على شبكة الأحدات التي يقدم لنا العمل من خلالها أمثولته الرمزية. وهي أحداث يقدمها لنا من خلال منهج التنميط في رسم الشخصيات، والتخطيط الذهني في تخليق العلاقات بينها، والثنائيات التبسيطية المتعارضة، والحتمية الميكانيكية التي تتحكم في مسار الأحداث والشخصيات معا. فلأن طموح العمل الظاهر أكبر من إمكانيات كاتبه السردية، فإن هذا الطموح يطفو على سطح الأحداث ويثقلها، بدلا من إضماره في طواياها فيغنيها. حيث يقدم لنا العمارة باعتبارها بديلا لمصر، ولا أقول تجسيدا لها. ويقدم منطقة "وسط البلد" باعتبارها مدار أحداث عمله، وإن كان قد أخذ إحدى شخصياته إلى منطقة "طرة الأسمنت" التي يطرحها كجغرافيا بديلة في مواجهة جغرافيا الفساد الذي سيطر على وسط البلد عنده. فالبديل عنده ـــ على مستوى أيديولوجيا النص التي سأعود إليها في نهاية هذه الدراسة ـــ هو تلك الواحة الصحراوية المتقشفة في فيافي طرة والتي يعمرها الحب والإيمان.! فتصور.!

فالنص مشغول من البداية بخلق نوع من التوازي بين تقديم شخصياته النمطية، وكتابة فضاء أمثولته الرمزية التي اختار أن يدير أحداثها في منطقة وسط البلد، حيث تقع "عمارة يعقوبيان". فيسرد علينا تاريخ العمارة التي بناها المليونير "هاجوب يعقوبيان" عميد الجالية الأرمنية في مصر عام 1934. وهو سرد يعتمد هو الآخر على نفس منهج التلخيص. حيث تسعى الرواية إلى قسر العمارة على أن تكون رمزا مفضوحا لمصر كلها، وذلك من خلال الربط بين تاريخ العمارة وتاريخ ما انتاب مصر في السنوات التي مرت منذ تشييدها. سكن الأثرياء القدامى بها، من عينة "زكي بك"، ثم استيلاء الضباط على شققها بعد الثورة، ثم تأجير بعض شققها مفروشة للسياح العرب، مع مطلع الانفتاح، وأخيرا حلول أثرياء الانفتاح وأصحاب الثروات المشبوهة التي راكمها الفساد وتجارة المخدرات فيها، كما هي الحال مع الحاج محمد عزام وهو يستخدامها جرسونيرة بالحلال له وزوجته "سعاد جابر" الاسكندرانية. لذلك يخضع رسم المكان لنفس منطق ثنائيات العوالم التبسيطية: عالم العمارة الذي تتابعت عليه أنواع مختلفة من الطبقات الثرية، وعالم السطح الذي يضم الفقرا ء والخدم وصغار السماسرة ومستحدثي المهن الجديدة. وحتى يدير النص أحداثة بين العالمين فإنه يدخلنا في شبكة مجموعة من المصائر المتقاطعة لحكايات خمس: هي حكاية "زكي الدسوقي" وأخته "دولت" وما ألت إليه طبقته برمتها؛ وحكاية "طه الشاذلي" نمط الشاب النابه المحبط الذي يدفعه الفساد إلى أحضان الجماعات المتطرفة؛ وحكاية "بثينة السيد" التي بدأت حبيبة لطه، وانتهت زوجة لزكي بالرغم من فارق العمر الكبير بينهما؛ وحكاية "حاتم رشيد" وعشيقه "عبده" التي تنتهي نهاية دموية فاجعة؛ وحكاية الحاج محمد عزام وشبكة الفساد الأخطوبوطية التي يتزعمها الرجل الكبير نفسه؛ وأخيرا كان من الضروري أن تكون ثمة عناصر قبطية حتى تكتمل فصول الأمثولة الرمزية، وإن لم تصنع هذه العناصر حكاية مستقلة، ولكنها تحوم على هامش الحكايات الثلاث الأولى في تصور يكرس هامشية قبط مصر ويقدمهم بشكل سلبي. وتزودنا بهذة العناصر شخصيات متعددة تبدأ بـ"سناء فانوس" إحدى عشيقات "زكي" الكثيرات، التي جلبت له خادما هو "أبسخرون خلة" وطلبت منه توظيفه تكفيرا عن شعورها بالإثم لعلاقتها به، فقد كان "أبسخرون" على قائمة الإحسان بالكنيسة، فجلب هو بالتالي بقية الشخصيات القبطية، من أخيه "ملاك خلة" إلى "فكري عبدالشهيد" المحامي وكيل عمارة يعقوبيان. وكلها شخصيات سيئة بدرجات متفاوتة مما يكشف عن طائفية النص المقيته، على صعيد الأمثولة الدلالي خاصة.

والواقع أن كل حكاية من هذه الحكايات الخمس كان باستطاعتها ـــ لو أحسن استثمارها، وكتبت بشكل جيد أن تقدم لنا رواية مقنعة ـــ لكن إصرار التخطيط الذهني على حشرها جميعا في عمارة واحدة بغض النظر عن استحالة ذلك واقعيا، هو الذي انتهى بها جميعا إلى أن تصبح تلخيصات حكايات، وليست رواية بالمعنى الحقيقي لهذا المصطلح. أول هذه الحكايات بالطبع هي حكاية زكي التي لو عولجت بشكل جيد لكانت نموذجا جيدا لضحايا التحول الاجتماعي الذي جاءت به ثورة 1952 واعتمادها على أهل الثقة وتضحيتها بأهل الخبرة بادئة بذلك مسيرة هدر طاقات الوطن المدمرة، حتى أدت هذه السياسة السقيمة إلى زلزال 1967 الذي لم تفق مصر من قعقعاته الرهيبة حتى الآن. فقد أعدته طبقته أفضل إعداد. ومكنته من دراسة الهندسة في فرنسا. وما أن اكتمل تعليمه وأخذ يستعد لممارسة دوره حتى غير الانقلاب الناصري قواعد اللعبة برمتها. فعاش بقية عمره مهمشا. لم ينتظر كأغلب أبناء طبقته مرحلة التغيير الساداتي التالية حتى يستأنف الدور الذي حرم منه، ولكنه ولأن في نفسه قدر من التعالى على الصغائر انغمس في شهواته، وعاش حياة لذات حسية هيدونية خالصة. وأخذت حياته في التدهور في السنوات الأخيرة بعدما نال منه التقدم في العمر، وانتقلت أخته "دولت" التي نالت هي الأخرى حظها من تعاسات طبقتها لتعيش معه، وتنغص عليه حياته، بعدما تخلى عنها ولديها بالهجرة. ووجدت لها عونا في هذا التنغيص من الذين أحسن إليهم "زكي" فردوا له الإحسان إساءة، من أمثال "ابسخرون" وأخيه "ملاك" الذي حرض "بثينة" على الحصول على توقيعه خلسة على عقد يمكن "ملاك خلة" من الاستيلاء على شقته بعد وفاته مقابل خمسة آلاف جنيه. وقد وافقت هي في البداية على ذلك بمنطق أن زكي "يطلب الجنس وهي تريد المال"(ص263)، ولكن طريقة زكي الإنسانية في التعامل معها، أسرتها فلم تستطع في نهاية الأمر خداعه، فقرر الأخوان الانتقام منهما معا. في مشهد جارح يقتحمون عليهما فيه الشقة بشرطة الآداب، ويعرضانهما معا "للبهدلة" والبلطجة والإهانات الجارحة التي تبرع الشرطة فيها. ولكن الخير الكامن في شخصيتي زكي وبثينة ينتصر في نهاية الأمر على هذا الشر المتأصل في "دولت" وأعوانها الأقباط "الأشرار"، لتنتهي قصتهما معا يرغم المؤامرات نهاية سعيدة ـــ وإن كانت غير معقولة وغير متوقعة ـــ بالزواج.

أما حكاية "طه الشاذلي" ابن البواب المتفوق والذي أحب في مراهقته "بثينة" بنت الطباخ التي تسكن هي الأخري معهم على السطح، وتعاهدا على الزواج، ورسما لأنفسهما مستقبلا سعيدا، فهي حكاية أحلام الفقراء البسيطة التي يسحقها الواقع الفاسد بقسوة. وهي حكاية نمط الشاب الذي يدفعه الفقر والفساد باستمرار إلى أحضان التطرف ويجعله وقودا سهلا له. لاينفعه ذكاؤه الحاد الذي مكنه من التفوق الدراسي، لأن النص ثبت هدفه على كلية الشرطة، ولما تلقى الطعنة المصمية في اختبار الهيئة، وبعدما اجتاز كل الاختبارات، بسؤال اللواء عن وظيفة أبيه "موظف أم حارس عقار؟!"(ص83) ينهار عالم أحلامه إلى غير رجعة. ولا تنفعه الشكوى التي يدبجها لرئيس الجمهورية حيث يجيئه الرد التقليدي "تبين لنا عدم صحة موضوع الشكوى"(ص112). ولا تنفع محاولات "بثينة" في انقاذه من الاستسلام لاحلام "الشاب الفقير المجتهد الذي سيحقق كل آماله بالكفاح"(ص68) فيصبح فريسة سهلة للإسلاميين منذ التحاقه بكلية القمة: كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، التي كان يمكن لها أن توفر له مخرجا مغايرا من أزمته. فيعلن عضو الجماعة الأسيوطي خالد عبد الرحيم "لقد قررت أن اكسب فيك ثوابا"(ص130) ويأخذه إلى أميره "الشيخ محمد شاكر بمسجد أنس بن مالك". وبقية الحكاية نمطية ومعروفة، من تزعم المظاهرات بالجامعة، إلى الاعتقال والتعذيب والاعتداء عليه في السجن "لقد أذلوني يا مولانا. أذلوني لدرجة أنني أحسست أن كلاب الشوارع عندها كرامة أكثر مني، تعرضت إلى أشياء لم أكن أتصور أن مسلما يفعلها أبدا" فيرد عليه الشيخ "ليسوا مسلمين بل هم كفار بإجماع الفقهاء" (ص236) "هتكوا عرضي عشرمرات يامولانا"(ص238) وتصل به السذاجة إلى القول "لو أنني اعتقلت في إسرائيل ما فعل بي اليهود مثل ذلك"(236) لأن اليهود يفعلون في المعتقلين الفلسطينين أكثر من ذلك بكثير، ولكنها المبالغات السردية والتعميمات الساذجة. فيدرك فقهاء الظلام أن الشرطة التي أغلقت في وجهه أبوابها، قد جهزته بالتعذيب وشخصنة الكراهية، لاستخدامه عجينة طيعة في أيديهم للقيام بعملياتهم الإجرامية. فيأخذونه لأحد معسكرات التدريب بطرة، ولا يفوت النص الفرصة ليستعرض لنا معلوماته عن طرة وشركة الأسمنت بها التي أنشأها السويسريون في العشرينات كذا (ص270) ويزوجونه من "رضوى" الحفية الخبيرة كي ينسى "بثينة" كلية، ثم يجهزونه للانتقام ممن هتك عرضه، العقيد صالح رشوان "الذي يتلذذ بالإشراف على تعذيب الإسلاميين، وهو المسؤول المباشر عن مقتل أخوة إسلاميين في المعتقل"(ص340)، فيقتله ويقتل كما تقدم. وتنتهي حكايته النمطية بنفس النهاية النمطية لمثل هذه الحكايات.

أما حكاية "بثينة السيد" فإنها اكثر تعقيدا، وهي لذلك أكثر حكايات هذا العمل الغريب تسعينية. لأنها حكاية بنت تعاني من الأفق المسدود أمام جيلها بأكمله، ومن النضج اليائس الكلبي cynicism قبل الأوان، الذي حرمها من أن تعيش شبابها، وانتقل بها من الصبا إلى الكهولة والمرارة. مات أبوها غيلة ضحية البلهارسيا، وترك أمها وأخوتها لها كي تعولهم جميعا بعدما حصلت على دبلوم التجارة. لكنها سرعان ما اكتشفت أن العمل الذي تريد منه أن تقيت أسرتها ليس إلا غابة عليها أن تدافع فيها عن شرفها، وكانت كل مرة تخسر المعركة، وتطرد من العمل، فتعنفها أمها "أخوتك في حاجة إلى كل قرش من عملك، والبنت الشاطرة تحافظ على نفسها وشغلها" وظلت حائرة في حل هذا اللغز "كيف أحافظ على نفسي أمام صاحب شغل يفتح سرواله"(ص 62) حتى لقنتها "فيفي" أبنة صابر الكواء أصول اللعبة "أنت عبيطة يا بت! أكثر من 90% من أصحاب العمل يفعلون ذلك مع البنات العاملات لديهم. وأن البنت التي ترفض تطرد وتأتي بدلا منها مئة بنت تقبل. ولما همت بثنية بالاعتراض سألتها فيفي ساخرة: حضرتك خريجة جامعة أمريكية إدارة أعمال؟ الشحاذون في الشوارع معهم دبلوم تجارة مثلك"(ص63) هذا هو منطق المرارة الكلبية اليائسة التي انتقلت بهذا الجيل من الطفولة للكهولة دون المرور بأحلام الشباب الوردية. وعلى العكس من "طه" الذي ظل مصرا على حلمه ومثاليته، سرعان ما تعلمت "بثينة" كيف ترضي أصحاب العمل، وتستخدم مواهبها الجسدية، وقد حباها الله جمالا وجسدا شهيا يسيل له لعاب أصحاب الأعمال، وتحافظ على نفسها "بنت بنوت"، بل وترفع أجرها في الوقت نفسه. ويستمر الحال على هذا المنوال، حتى يقرر "ملاك خلة" أن يستثمر جمالها ويرفع مرتبها في الوقت نفسه. فيقدمها هو وأخيه لزكي بك كي تعمل عنده، ويستخدمها "ملاك" في الوقت نفسه كي تحصل من "زكي" بالخداع على توقيعه على عقد شركة وهمي يستطيع بمقتضاه الاستيلاء على شقتة بعد وفاته. لكنها ترفض كما سبق بعدما يأسرها زكي بمعاملته الإنسانية الراقية، "ياعم ملاك أنا متأسفة مش حا أقدر أعمل اللى اتفقنا عليه"(ص265). فينتقم منها شر نقمة، بتيسير دخول "دولت" للشقة مع شرطة الآداب لتضبطها مع زكي عريانين. وتتحول "بثينة" إلى النقيض الكامل لـ"دولت" في التعامل مع "زكي" حيث تحبه بصدق وتصبح هي أخته الحقيقية، وزوجته برغم فارق العمر.

وبنفس منطق الثنائيات المتعارضة الذهني الجاف يقدم لنا النص الحكاية الثالثة من خلال ثنائية "حاتم رشيد" وهو كما يقول لنا الكاتب "صحفي معروف ورئيس تحرير جريدة Le Caire التي تصدر باللغة الفرنسية في القاهرة"(ص55) و"عبدربه" الصعيدي المجند في الأمن المركزي. وهي ثنائية تتيح له أن يقدم لنا عدة صفحات ساذجة أخرى ـــ كتلك التي قدمها عن تاريخ مصر الاجتماعي منذ قيام ثورة 1952 (ص 22-24) ـــ عن عالم الشذوذ الجنسي المصري (ص 51-56) وبعض عاداته وأماكن تجمعه. لكن أغرب ما تتيحه له هو نفس الفلسفة الساذجة عن أصول الدافع الجنسي، وكيف يتحول السوي إلى شاذ. فحاتم عنده، وهو من أسرة ارستوقراطية هو الآخر ـــ من أم فرنسية وأب مصري ـــ عانى منذ صغره من "الشعور بالاغتراب والتشوش الذهني الذي يعاني منه أبناء الزواج المختلط"(ص106)، لاحظ هذا الحكم القاطع الغريب على أبناء الزواج المختلط! ثم تحول للشذوذ ـــ كما يقول لنا الكاتب (ص104- 109) ــ بسبب إهمال أبويه له، وخيانة أمه لأبيه مع المسيو بينار (ص257)، واعتداء "أدريس" السفرجي النوبي عليه وهو طفل. مع أن الثابت علميا ـــ وما أكثر الدراسات الآن عن الجنسية المثلية في الغرب خاصة ــــ أن كل الذين يعتدى عليهم جنسيا في الطفولة يكرهون الجنس، ولايتحولون إلى شواذ. ولكنها الحتمية الميكانيكية التي تحكم كل تفاصيل هذا العمل السردي الغريب. لكن الأغرب في هذه الصفحات نفسها أن الكاتب يكشف عن جهل فاضح بتاريخ مصر الثقافي، لأنه وهو يدس والد حاتم بين أعلام مصر يقول: "وهو مثل طه حسين وعلى بدوي وزكي نجيب محمود وغيرهم واحد من مثقفي الأربعينات الكبار الذين أتموا دراستهم العليا في الغرب، وعادوا إلى بلادهم ليطبقوا ما تعلموه هناك بحذافيره في الجامعة المصرية ... وكان لديهم أيضا ذلك التجاهل لتراث الأمة والاحتقار لعاداتها وتقاليدها، باعتبارها قيودا تشدنا إلى التخلف وواجبنا أن نتخلص منها حتى تتحقق النهضة"(ص105) وهو كلام غريب يلقى على عواهنه. ففضلا عن أن طه حسين ليس من مثقفي الأربعينات، بل العشرينات حيث لمع نجمه بعد معركة كتابه الشهير (في الشعر الجاهلي) عام 1926، وبعد مواقفه الشجاعة من تدخل حكومة إسماعيل صدقي في الجامعة في مطالع الثلاثينات، فإن مثل هذا الكلام الغريب عن تجاهله لتراث الأمة واحتقاره له يكشف عن أن الأسواني لا يعرف أن لطه حسين وحده أكثر من عشرة كتب في تراث هذه الأمه الذي يتهمه بتجاهله واحتقاره! وأن من هذه الكتب كتابا ضخما من ثلاثة أجزاء بعنوان (على هامش السيرة)! وأن دراسته الرائدة عن (الفتنة الكبرى) مازالت حتى اليوم من أهم الدراسات عن هذا الموضوع الشائك المعقد في التاريخ الإسلامي بعد انصرام عقود على كتابتها! لكنه الجهل والتعالم معا وخلط الأوراق التي تضع هذه الأسماء التي تنتمي لمراحل مختلفة ومجالات متعددة في سلة الجهل الواحدة.

فالكاتب مولع بالحديث عما يجهل، والحديث عنه بثقة مفرطة، إذ يحدثنا عن أن حاتم، ابن الفرنسية، يشرب مع عشيقه "قبل الحب زجاجة كاملة من النبيذ الفرنسي القوي"(ص110)، وكأن هناك نبيذ قوي وآخر ضعيف! (نسبة الكحول في كل أنبذه العالم شبه ثابتة) لكن هذا تصور الكاتب المغلوط للنبيذ، وليس تصور أي شخص له أدنى معرفة به، ناهيك عن ارستقراطي أمه فرنسية من أرقى البلاد المنتجة للنبيذ. لأنه فيما بعد يحدثنا وبنفس الثقة الجاهلة عن "النبيذ السويسري"(ص185). ولكن دعنا من هذه التفاصيل؛ ولنتابع مع القارئ التعرف على بقية حكايته، فهو شاذ سلبي، منذ اعتداء إدريس عليه، ويسمونه كما يقول لنا في هذه الأوساط "كوديانا" التقط "برغلا" أي مقابله الإيجابي هو "عبده" من جنود الأمن المركزي. ويحرص على الاستمرار معه في علاقة مستقرة كي يتجنب "البهدلة" التي كثيرا ما سببها له التردد على أماكن الشواذ المشبوهة. لكن عبده الصعيدي ليس "برغلا" محترفا، لأنه متزوج من "هدية" وله طفل رضيع منها، هو "وائل". وكأي مجند يريد إنهاء مدته والعودة لهما في الصعيد بعد انتهاء تجنيده. وهذا غير ما يريده له "حاتم" الذي يوفر له مستقبلا مأمونا في القاهرة باستئجار كشك يعمل فيه، وتوفير سكن له على سطح "عمارة يعقوبيان يجلب فيه زوجته وابنه. ومنذ بداية هذا الاستقرار يجد عبده نفسه بين مطرقة "حاتم" وسندان زوجته "هدية" التي حدست بحسها الأنثوي طبيعة علاقته بحاتم، تعضدها في هذا الصراع غير المتكافئ بعض الروادع الدينية التي تحذر من عواقب اللواط الوخيمة. وسرعان ما استمرأ عبده حياته الجديدة الرخية مع حاتم. حتى يمرض ابنه الطفل ويموت، ويتصور أن موت ابنه عقاب له على خطيئته. فيقرر التخلي عن الغرفة والكشك والرحيل، بعدما يترك مفتاحيهما لحاتم. ويفتح رحيل عبده هوة الضياع والبهدلة من جديد أمام "حاتم" الذي يصر على العثور عليه مهما كلفه الأمر، ويظل يبحث عنه حتى يجده في إحدى مقاهي الصعايدة في امبابة. وكانت حاله قد ساءت، وتراكمت عليه الديون، ولم يعد بعدما اعتاد على الرفاهية مع حاتم قادرا على تحمل العمل في "الفاعل" كبقية الصعايده. ويدرك حاتم هذا كله فيغريه بشيك بألف جنيه يسدد به كل ديونه، ووظيفة بواب بالمركز الثقافي الفرنسي بمرتب خمسمئة جنيه في الشهر يؤمن بها مستقبله، شريطة أن يعود معه لقضاء ليلة وداع أخيرة. ويقبل عبده على أن يتوب بعدها، ولكن ما أن يصلا للبيت ويفرط في الشراب، يقرر تركه بعد الممارسة الجنسية العنيفة بدلا من قضاء الليلة معه حسب الاتفاق. وتدور مشادة بينهما يهدده حاتم بإيقاف صرف الشيك وإلغاء الوظيفة، فيهجم عليه في سورة غضب ويضربه بعنف حتى يقتله.

أما الحكاية الخامسة فهي الحكاية التي تريد أن تؤطر هذه الحكايات كلها في إطار الحاضر السياسي والاقتصادي الذي يحكم مصر بأكملها، أو بالأحرى في إطار الفساد الذي يسيطر عليها من الرأس وحتى أخمص القدمين. لأن هذه الحكاية من أقل الحكايات الخمس اشتباكا ببقية الحكايات في (عمارة يعقوبيان) وليس بينها وبين بقية الحكايات أية وشائج روائية أو حتى موضوعية. إنها حكاية الحاج محمد عزام المليونير الذي لايعرف له "أصل ولا فصل" ككل مليونيرات الزمن المصري الردئ. "بدأ من ثلاثين عاما مجرد نفر سريح نزح من محافظة سوهاج إلى القاهرة بحثا عن الرزق ... بدأ بتلميع الأحذية وعمل فترة فراشا في مكتبة بابيك. ثم أختفى أكثر من عشرين عاما وظهر فجأة وقد حقق الثروة"(ص71) وهاهي الثروة قد نمت "محلين كبيرين للملابس أحدهما أمام الأمريكين والآخر أسفل عمارة يعقوبيان. حيث يقع مكتبه. ومعرضين لبيع السيارات، وعدة محلات لقطع الغيار في شارع معروف بخلاف عقارات كثيرة"(ص70) وثمة شائعات بأن كل هذا الثراء مصدره تجارة المخدرات، و"أن نشاطه التجاري مجرد واجهة لغسيل الأموال"ص(72). ولكنه أصبح بفضل ثروته، مهما كان مصدرها، كبير سليمان باشا، وترسخ نفوذه بانضمامه للحزب القومي. هكذا يقدمه لنا النص، ثم يقول لنا أنه منذ مايقرب من عامين تحركت شهوته واشتدت حتى صارت عبئا ثقيلا على أعصابه. فاستشار "الشيخ السمان، الفقيه الشهير الذي يعتبره عزام إمامه ومرشده في كافة أمور الدنيا والدين"(ص74) فأشار عليه بالزواج، و"تولى مشكورا إقناع أولاده الثلاثة فوزي وقدري وحمدي"(ص75) وبدأ البحث عن عروس وعثر عليها في "سعاد جابر" الإسكندرانية ـــ التي تعمل بهانو بعدما غاب زوجها في العراق، واعتبر ميتا ــ وتريد تربية ابنها. ولكنها كمخلوقات هذا الزمن الردئ لاتريد تربية ابنها بكدحها وكفاحها، وإنما ببيع نفسها في الحلال لثري مراهق عجوز مثل الحاج عزام. لذلك قبلت شروطة الجائرة بأن يظل الزواج سرا، وفي حالة معرفة زوجته به يطلقها، وألا تنجب منه، وإذا حملت يعتبر ذلك فسخا للعقد. وهي شروط تجعلها مجرد عشيقة في الحلال لا زوجة. ويواصل معها إشباع شهواته بمنطق رجل الأعمال المصري، أي منطق المنفعة الفجة. لكن هذه الحكاية هي بمثابة فواتح الشهية، فقد فتحت شهيته للإقبال على الحياة، وشجعته على ترشيح نفسه لمجلس الشعب الذي يعج بأمثاله من غاسلي أموالهم بالسلطة الفاسدة، والذي يرى فيه بطبيعة الحال تعزيزا لمكاسبه، وتنمية لثروته "عارفة ياسعاد لو دخلت المجلس، أعمل شغل بملايين"(ص80).

ولأنه من أثرياء الزمن الردئ فإنه يعرف أن طريق مجلس الشعب يمر بكمال الفولي حارس بوابة الفساد السياسي والاقتصادي معا، والذي "نشأ في أسرة فقيرة للغاية من شبين الكوم. وكان برغم الفقر في غاية الذكاء والطموح حتى حصل على الثانوية العامة عام 1955 ... وانخرط في العمل السياسي بمجرد التحاقه بكلية الحقوق. انضم كمال الفولي إلى كافة تنظيمات السلطة بالترتيب: هيئة التحرير والاتحاد القومي ثم الاتحاد الاشتراكي والتنظيم الطليعي، وبعد ذلك منبر الوسط وحزب مصر وأخيرا الحزب القومي"(ص114) ولا يكتفي النص بكل هذه المعلومات التي تكشف لأي قارئ عن حقيقة الشخصية العامة التي يعد كمال الفولي قناعا لها من اسمه الأول وموطنه حتى عمره التقريبي، وإنما يواصل تقديم المزيد من التفاصيل "صار إسم كمال الفولي يستدعي في ذهن المصريين معنى الفساد والنفاق. وقد ترقى في المناصب الحزبية حتى صار أمين التنظيم في الحزب القومي، وصار المتحكم الأول في الانتخابات في مصر كلها. ويشرف بنفسه على تزوير الانتخابات من الإسكندرية إلى أسوان، ويتقاضى رشاوي كبيرة من المرشحين"(ص115) ثم يتبع كل هذه المعلومات التي لا تختلف كثيرا عن إشاعات المقاهي، ويقصر ترميزها العنين عما تكتبه الصحف غير الحكومية التي يطفح بها الشارع المصري اليوم، بمشهد يجسد فيه تقاضي هذه الرشاوى ويؤكدها، حينما يذهب إليه الحاج محمد عزام طالبا مباركته لترشيحه. ويطلب الفولي الثمن: مليون جنيه مؤكدا "المبلغ ده لا آخذه وحدي، أنا بوسطجي آخد منك وأوصّل لغيرك"(ص119). وتنتهي المساومة بأن يدفع الحاج المبلغ، ويقرأ المشاركين في هذه المهزلة الفاتحة على هذا الفساد. ويفي الفولي بجانبه من الصفقة، وينجح عزام في الانتخابات، ويبدأ فعلا في إبرام الصفقات التي دخل المجلس من أجلها وبالملايين، وأولها صفقة توكيل سيارات تاسو اليابانية.

وكان الفولي قد ساعده في المجلس ليكون له شرعية ومصداقية من خلال السماح له بشن حملة على إعلانات التليفزيون الخليعة "كان غرضي الناس تتعرف بك وانت نائب جديد في المجلس"(ص205) أتاحت له الظهور ويسرت له عقد صفقاته. ثم يطلب الفولي مقابلته، ويهنئه على صفقة التوكيل الياباني بطريقته "أقولك من الآخر. التوكيل دا ياحاج أرباحه تعدي التلتميت مليون جنيه في السنة. طبعا ربنا يعلم أنا اتمنى لك كل خير، بس اللقمة كده كبيرة عليك! ... ما ينفعش تاكلها لوحدك! إحنا عاوزين الربع، ربع الأرباح"(ص207). وحينما ينزل الطلب عليه كالصاعقة يسأل "أنتم مين؟" تكون الإجابة أنا " باتكلم بالنيابة عن الرجل الكبير. الرجل الكبير طالب يشاركك في التوكيل وياخد ربع الأرباح. وأنت عارف الرجل الكبير لما يطلب لازم ياخد"(ص208). ويحاول الحاج عزام أن يتملص من هذا الطلب الذي يعتبره نوعا من البلطجة، وقد نسي أن هذه البلطجة نفسها هي التي أوصلته إلى مجلس الشعب، ومكنته من عقد الصفقة برمتها. ويتصور بسذاجة الصعيدي الجاهل أنه مادام قد اشترى برشاويه عددا كبيرا من الصحفيين والمشاهير عندما قدم لهم "عشرات السيارات منحها كهدايا مجانية أو بأسعار رمزية"(ص277)، فإنه يستطيع تجاهل طلب الفولي بربع الأرباح. ويحاول التملص من هذا الطلب بشتى الحجج، ويضيق كمال الفولي بتملصه حتى يهدده صراحة "إنت بتلعب بالنار ياعزام. وأنا مندهش لأنك راجل ذكي لازم تفهم إن اللي دخلك مجلس الشعب يقدر يخرجك منه"(ص299) فيطلب منه كمخرج أخير أن يقابل الرجل الكبير بنفسه، تشككا في صدق الفولي، وربما يستطيع بالتوسل إليه تخفيض النسبة.

وتنتهي حكاية عزام بتلك المقابلة الهزلية مع الرجل الكبير التي يتعرض فيها عزام لكثير من المهانات بحجة الإجراءات الأمنية، وبعدما ينبهر بقصر الرجل الكبير وما يحيط به نفسه من أبهة، لا يعبأ الرجل الكبير حتى بمقابلته بعد كل هذه الآجراءات، وإنما يخاطبه بتأفف عبر دائرة تليفزيونية يراه فيها الرجل الكبير بينما لايراه عزام. وهي مخاطبة تنطوي على التوبيخ أكثر من الحوار. فبعد أن يتوسل إليه عزام راجيا تخفيض النسبة للثمن بدلا من الربع يجيئه الرد التوبيخي "أسمع ياعزام. أنا ماعنديش وقت أضيعه معاك. النسبة دي ثابتة عليك وعلى غيرك. أي بزينيس كبير زي التوكيل بتاعك ندخل فيه شركاء بالربع. والنسبة دي نحصل عليها مقابل شغل. إحنا بنحميك من الضرائب والتأمينات والأمن الصناعي والرقابة الإدارية، وألف جهة تقدر توقف مشروعك وتضيعك في لحظة. وبعدين انت بالذات أحمد ربنا إننا قبلنا نشتغل معاك أصلا لأن شغلك وسخ"(ص325) ولما يستنكر عزام هذه الإهانة بهمهمة وتململ يستفز ذلك الكبير الذي يواصل "إنت عبيط ولا بستعبط!؟ إنت مكسبك الأصلي من شغل وسخ غير التوكيل الياباني. من الآخر انت شغال في البودرة وإحنا عارفين كل حاجة. أقعد على المكتب، وافتح الملف اللي مكتوب عليه اسمك. تلاقي صور من التقارير عن نشاطك. تحريات أمن دولة ومكافحة مخدرات ومباحث عامة. كلها عندنا وإحنا اللي موقفينها. وإحنا برضه في لحظة واحدة نقدر نشتغل بيها ونضيعك. أقعد ياعزام واعقل واقرأ الملف. ذاكره واحفظه كويس. وفي آخر الملف حتلاقي نسخة من عقد الشركة بينا. لو تحب توقع عليه وقع. على راحتك"(ص326). هذه هي قمة البلطجة التي تبدو معها بلطجة عزام مع "سعاد جابر" حينما أسقط حملها عنوة، وطلقها وطردها من حياته عندما تصورت أنها تستطيع أن تنجب منه طفلا يضمن لها مستقبلها، أو بلطجة ضباط الشرطة الصغار وهم يسخرون من زكي وبثينة بعد القبض عليهما عاريين، نوعا من عبث الأطفال إزاء هذا الفساد الأصلي.

صحيح أن العمل مليء بشتى صنوف البلطجة والعنف المادي والمعنوي معا، والتي اصبحت شائعة في الواقع المصري في هذا الزمن الردئ، وهذا أمر يحسب له. من بلطجة "دولت الدسوقي" الشرسة المجردة من كل إنسانية بعدما هجرها ولداها وهاجرا، وطردها لأخيها من شقته، بل ومحاولتها للحجر عليه والاستيلاء على مكتبه، إلى بلطجة "رباب" البغي المحترفة التي تحقق كل ما تريد بالحيلة وتسرق زكي بك، وتكون سرقتها لخاتم دولت القشة الأخيرة التي ينبفجر بعدها غضب دولت وحقدها. ناهيك عن بلطجة "ملاك خلة" الذي يستخدم بثينة لخداع زكي الذي أحسن لأخيه، وحينما ترفض يعاقبهما معا. وإلى جانب هذه البلطجة الفعلية هناك البلطجة المحتملة التي ينصح المحامي زكي بأن يلجأ إليها لحل مشاكله مع أخته، وطردها من البيت وتغيير أقفاله، فاستئجار بلطجية يأخذون له حقه منها، أصبح باعتراف المحامي، ممثل القانون، السبيل الوحيد لحل مشكلته مع أخته، وكأن البلطجة هي قانون هذا الواقع الجديد. وهناك بالطبع العنف المعنوي الذي يتجلى في حرمان "طه" ظلما من حقه في دخول كلية الشرطة، ثم العنف الفعلي الذي يمارس ضده في المعتقل، والذي يرد عليه بعنف مماثل وإن تذرع برداء إسلامي. ويبدو أن سبيل الرواية للتعامل مع هذا العنف هو فضحه من خلال تأكيدها بأن ما تقدمه يضاهي الواقع الخارجي، ومن خلال تقديم العديد من "الأمارات" على مضاهاتها للواقع. وأغلب هذه الأمارات من نوع التلسين السياسي تارة والاجتماعي أخرى. فالنص يريدنا أن نعرف أن كمال الفولي الذي زور الانتخابات لمحمد عزام يضاهي شخصية سياسية بنفس الإسم، وأن "الشيخ السمان" الذي كان له برنامج تليفزيوني ناجح ويصدر الفتاوى للسراة الجدد، ويسوغ حرب الخليج والتحالف مع الأمريكان، يضاهي شيخ آخر صلى صلاة الشكر عندما انهزمت مصر، ومات قبل سنوات قليلة. وأن "حاتم رشيد" الشاذ السلبي "الكوديانا" ورئيس تحرير جريدة فرنسية يضاهي رئيسا لتحرير صحيفة فرنسية حقيقية في القاهرة. وغير ذلك من صنوف التلسين السياسي الرخيص، الذي نجد كثيرا منه في الصحف الصفراء.

فهناك فرق كبير بين كتابة عمل أدبي يعري آليات الفساد التي تتغلغل في المجتمع المصري من الرأس حتى القاع، ويكشف عن تأثيرها المدمر على مصر والمصريين؛ وبين مثل هذا التلسين السياسي الذي يقوم بوظيفة عكسية، وهي التنفيس عن السخط الذي يعمر النفوس بسبب هذا الفساد الخانق الذي يدمر الشخصيات الهشة والرقيقة معا. فتخليق الرموز في الأعمال الأدبية لا يتم أبدا بتلك الطريقة الذهنية أو التبسيطية. ولكن من خلال معرفة عميقة بالتفاصيل وخبرة دقيقة بها، تمكن النص من إدارة حواره الجدلي الخلاق مع الواقع. وتحيل الشخصية إلى نموذج إنساني قادر على التأثير والفاعلية خارج السياق الزمني المحدود الذي صدر عنه النص. بينما سيفقد مثل هذا العمل أي قيمة بتغيير كل من لسن عليهم. لكن يبدو أننا بإزاء معالجة لفيلم ميلودرامي ردئ ينتهي كجل الأفلام الريئة بالنهاية السعيدة التي تجمع أطيب شخصيات النص في الحلال "زكي" و"بثينة"، مهما كان هذا الجمع منافيا للمنطق، حيث يتزوج "زكي" الذي جاوز الخامسة والستين من "بثينة" التي كان يمكن أن تكون حفيدته. كما أن النص يسرد لنا تاريخ العمارة مثلا بشكل مخل وملئ بالتناقضات. فإذا كانت العمارة من عشرة أدوار، وبها خمسين شقة، فكيف يكون بكل شقة "ثماني أو عشر حجرات على مستويين يصل بينهما سلم داخلي"(ص22) بينما يقول لنا أن بالسطح خمسين غرفة من الغرف الحديدية، "لاتتجاوز مساحة الغرفة مترين" (ص21)، أي مئة متر. فإذا ما تصورنا هذه المئة متر تشكل نصف مساحة السطح أو حتى ربعه، لأنها في ناحية، وفي الناحية الأخرى "حجرتان بمنافعهما لإقامة البواب وأسرته"(ص21). فكيف يمكن في هذه المساحة أن تقام خمس شقق، كل شقة بها من ثماني إلى عشر حجرات؟ هذه بعض التفاصيل التي تكشف عن استهتار الكتابة بدلالاتها وعن سيطرة الخبرة السماعية على منهجها. وبنفس المنطق الذهني المترع بالتناقضات والكاشف عن خلل في معرفة الكاتب بموضوعه، يكتب لنا تاريخ وسط البلد (راجع ص47-51) ولو قرأ أي كتاب من الكتب المتاحة الآن، خاصة بعد ترجمة الكتب الفرنسية العديدة عن الموضوع إلى العربية، أو حتى لو قرأ رواية رضوى عاشور (قطعة من أوروبا) لما وقع في كل ما وقع فيه من تبسيطات مخلة.

إن العمل الأدبي يحتاج إلى أن يستمد مصداقيته من داخله، وليس من مضاهاته لما هو خارجه. ويتطلب أول ما يتطلب فهما عميقا لشخصياته، وتقديمها من الداخل، والتعاطف معها. وليس تقديمها من الخارج واتخاذ مواقف أخلاقية أو وعظية منها. ناهيك عن السخرية منها وإهانتها، لا من الآخرين، بل من الكاتب نفسه الذي يصف لنا كمال الفولي "بألوان ثيابه البذيئة غير المتناسقة. وشعره المصبوغ بطريقة فجة، ووجهه المكتنز الغليظ، ونظراته الوقحة الشرسة الكاذبة، وطريقته السوقية في الحديث"(ص118) إلخ هذا السباب الذي لايمكن أن ندعوه وصفا، والذي يتكرر مع أكثر من شخصية وأكثر من موقف. لكن أخطر ما في هذا النص الذهني الغريب هو أيديولوجياه المتخلفة. فالنص يتيح لأكثر شخصياته تحضرا وتعففا عن الولوغ في الفساد، ألا وهو "زكي الدسوقي" أن يقدم لنا أهجيته التفصيلية الموتورة في عبدالناصر، وأن يحمله مسئولية التدهور الذي يعاني منه الواقع بعد رحليه بأكثر من ثلاثين سنة. "عبدالناصر أسوأ حاكم في تاريخ مصر كله. ضيع البلد وجاب لنا الهزيمة والفقر. التخريب اللي عمله في الشخصية المصرية محتاج سنين طويلة لإصلاحه. عبدالناصر علم المصريين الجبن والانتهازية والنفاق ... الضباط الأحرار كانوا مجموعة عيال من حثالة المجتمع ... حكموا مصر وسرقوها ونهبوها وعملوا ملايين. طبعا لازم يحبوا عبد الناصر لأنه رئيس العصابة"(ص229) هذا الكلام الغريب الذي يلقى على عواهنة، مترعا بالغل والحقد، ليس مجرد رأي لشخصية ولكنه موقف النص الأيديولوجي الفاسد من مرحلة كاملة من تاريخ مصر. ذلك لأن النص لايفوت فرصة لتشويه عبدالناصر بمثل هذه الأكاذيب إلا وانتهزها، بالرغم من أن نهب مصر وصناعة الملايين حدثت بعده وليس في زمنه. :ما أنه يسكت إلى حد الخرس عن السادات الذي بدأ الانفتاح والفساد والثراء غير المشروع في عهده، وشجع التيار الإسلامي للإجهاز على التيارات الناصرية واليسارية في الواقع المصري. بل يبدو النص الأيديولوجي في هذا العمل وكأنه صادر عن هذا التيار الإسلامي ورؤياه. لأنه يضع مقولاته المهمة كلها على لسان الشيخ "شاكر" زعيم هذا التيار فيه. فهو الذي يفسر لنا سر التردي بأن "الشريعة الإسلامية معطلة في بلادنا المنكوبة. ونحن محكومون بالقانون الفرنسي العلماني الذي يبيح السكر والزنا والشذوذ مادام يتم برضا الطرفين. بل إن الدولة نفسها تتكسب من القمار وبيع الخمور. ثم تضخ مالها الحرام على هيئة مرتبات للمسلمين، فتصيبهم لعنة الحرام، وينزع الله البركة عن حياتهم. والدولة الديموقراطية المزعومة تقوم بتزوير الانتخابات واعتقال الأبرياء وتعذيبهم لتستمر الزمرة الحاكمة في سدة العرش إلى الأبد"(ص134) وهو أيضا الذي يقول لنا "لو تعامل النظام الكافر بهذه الوحشية مع اليهود، لكانت القدس تحررت من زمان"(ص307). كما أن تصوير الشخصيات في الرواية كلها ــــ لو سلمنا بأن ثمة تصوير للشخصيات بها ـــ يصم معظمها بالفساد ال سياسي أو الاقتصادي أو حتى الأخلاقي، ما عدا هذا الشيخ "شاكر" وجماعته المرسومة على غرار فكر التكفير والهجرة وتشييد مجتمع جديد في العراء. كما أن "طه الشاذلي" الذي يتبعه هو الشخصية البريئة الضحية غير الفاسدة في العمل كله. وما يدعم هذه الأيديولوجية الآسلامية للعمل ليس فقط هجاء عصر عبد الناصر والتغاضي عن عصر السادات الذي أتاح لللإسلاميين الازدهار، وأنما أيضا تلك الطائفية المقيتة التي اتسم بها تصوير قبط مصر بطيريقة فجة ومتجنية في هذا العمل الردئ. وكأن النص يقدم لنا تصور الإسلاميين المتطرفين لهم على لسان الكاتب وعبر صوت المؤلف المباشر، لا الضمني. لذلك كله ليس غريبا أن يحظى مثل هذا العمل الردئ بالذيوع، في زمن انتشار مثل هذه الأيديولوجيا السقيمة الفاسدة.