يفتح مقال سعيد يقطين، في هذا الباب الذي يكتبه خصيصا للكلمة، آفاقا جديدة أمام الثقافة العربية لتفكر في الأسئلة الكبرى التي تطرحها علينا متغيرات العصر. وتدعو الكلمة الكتاب لحوار موسع حول ما يطرحه

آفاق جديدة: الكلمة ـ الصورة: سؤال الكتابة

سعيد يقطين

الكلمات المفاتيح: الكلمة ـ الصورة ـ الوسائط المتفاعلة ـ العلوم المعرفية ـ الكتابة العربية.

1. في البدء كانت الكلمة:

1. 1. الإبداع اللفظي، لأنه يتحقق بواسطة اللغة، جزء أساسي من الإبداع الإنساني، إن لم نقل إنه أهم إنجازاته. هذا التشديد على كونه الأكثر أهمية لا يقلل من أهمية الإنجازات الإبداعية الأخرى التي مارسها الإنسان منذ أقدم العصور، وسيظل يمارسها (موسيقى، رقص، إيماء، حركة، رسم، تصوير،،،). لقد ظل الإنسان يتوسل باللغة كأسمى أدوات التعبير والتواصل والإبداع عن مكنوناته ومختلف أحاسيسه وتأملاته وأفكاره. ورغم توظيفه، في ذلك أيضا، لعلامات أخرى مختلفة عن اللغة، يظل الأساس اللغوي هاما في كل ما يريد الإنسان التعبير عنه. ألهذا السبب مُيِّز الإنسان عن غيره من الكائنات بأنه "حيوان ناطق"؟ أو لهذا قيل قديما "في البدء كانت الكلمة"؟

عرفت اللغة باعتبارها أداة أساسية للإعلام والتواصل تطورات شتى خلال صيرورة طويلة من التاريخ، أنتج الإنسان خلالها إبداعات تتحقق عبرها تمثلاته وتصوراته للذات والعالم والكون. كما أنها اغتنت، من خلال عملية توظيفها في مختلف شؤون الحياة، برصيد غني من الأشكال والأنواع التعبيرية حتى صارت كل لغة تتضمن عدة لغات: طبيعية واصطناعية وفنية.

1. 2. تنوعت أشكال التعبير الفني بواسطة اللغة بالاستفادة من أشكال تعبيرية غير لغوية، وتم تكييف اللغة لتتلاءم معها أو تدمجها في بنيتها الخاصة.

1. 2. 1. بواسطة اللغة مارس الإنسان "الموسيقى"، فشكل عبر اللعب بأصوات الكلمات وطريقة تنظيمها إيقاعات خاصة تتنوع بتنوع أحاسيسه ومشاعره، فكان الشعر والسجع والفاصلة والقافية ومختلف الأضرب البلاغية المتصلة بالصوت والإيقاع وصلات موسيقية خاصة أدواتها مكونات اللغة من وحدات صوتية وتركيبية.

1. 2. 2. بواسطة اللغة أيضا، مارس الإنسان "الرسم" و"التصوير" للعوالم الطبيعية الخارجية وللأحاسيس والانفعالات الداخلية. فكان الرسم بالكلمات مجالا واسعا استعمله الإنسان لتمثيل العالم، وجعله مرئيا وقابلا لـ"الرؤية": فإذا بنا حين نقرأ ما يتصل بالوصف في الشعر أو السرد أمام لوحات وتشكيلات صورية لا تختلف عن الفنون البصرية المختلفة إلا في الأدوات الموظفة، وهي لا تخلو من الألوان وتدرجاتها وظلالها وتجعلنا فعلا نتصور ما يقدم إلينا وكأنه رسوم أوتزيينات تصويرية.

1. 2. 3. بواسطة اللغة مارس الإنسان "المعمار" أيضا، فأقام من خلال القصيدة والقصة بناءات تأخذ مختلف أشكال العمران التي أسسها للانتفاع بها أو للتزيين أو للذكرى من الخيمة إلى التمثال، فإذا القارئ أمام ضرورة تمثل البناء والعمل على إعادة تشكيله ليتأتى له تصور عوالمه الإدراكية واستخلاص دلالاته ومعانيه. بواسطة اللغة مارس الإنسان الحركة والسكون، والإيقاع بمختلف مستوياته في السرعة والبطء، ووظف الألوان والظلال، وجسد الزمان وأقام المكان.

الكلمة تخاطب كل مدارك الإنسان وحواسه: الأذن والعين والحس والعقل. فماذا بقي مما لم تتخذه اللغة مجالا للتواصل والتعبير؟ ظلت الكلمة أبدا عصية على الإحاطة والشمول. إننا لم نستنفذ بعد "سحر" الكلمة ولا "سر"ها، وهي تنضم إلى شقيقاتها ( الصورة ـ الحركة،،،) لتشكيل العوالم الكائنة والممكنة. على مر التاريخ ظهرت علوم وتصورات للإمساك بذلك السحر والكشف عن هذا السر. وما يزال السحر متأبيا والسر قائما. وكلما تطورت أشكال التعبير بواسطة اللغة، وظهرت علوم جديدة ومعارف جديدة قريبة أو بعيدة تطورنا في فهم الكلمة، وتقدمنا في ملامسة سحرها وأحطنا ببعض أسرارها ووجدنا أنفسنا نقترب من عوالمها الدفينة التي تزري بنا، والتي لم نكن قادرين على الانتباه إليها في حقب سابقة.

لكن مع ظهور الصورة واحتلالها موقعا هاما في حياتنا، صار الكل يتحدث عن عصر الصورة الذي بدأ يأخذ مكانة الكلمة ويخطف بريقها تحت تأثير توظيف الوسائط المتعددة Multimédia والمترابطة Hypermédia، وشرع يغزو المجالات المختلفة في الإعلام والتواصل.

2. عصر الصورة:

2. 1. مع التطور الذي طرأ على مستوى الوسائط المتعددة وظهور الحاسوب الشخصي والفضاء الشبكي (الإنترنيت)، ابتدأت الصورة بمختلف أشكالها تحتل موقعا هاما على مستوى الإبداع والتلقي. لم تبق الصورة حبيسة التلفزيون والسينما والفيديو بل إنها غزت الشوارع والساحات العمومية، وصار الفضاء مثقلا بالصور بمختلف أوضاعها وأحجامها (ثابتة، متحركة، ملونة،،،). كما أن مختلف المجالات التي كانت مخصصة في فترات سابقة للنص فقط (الصحافة، الكتاب، الرسائل، بطاقات الزيارة،،،) صارت الصورة تحتل فيها فضاء أيقونيا موازيا، بل وفي أحيان عديدة مزاحمة للنص المكتوب ومهيمنة عليه.

2. 2. أوجد التطور الذي حصل على مستوى الصورة تطورا كبيرا على مستوى الآلات الخاصة بالتصوير وتنوعت المنتجات المتصلة بها وصارت شعبية بعد أن كانت حكرا على الخبراء والمحترفين. وعندما ارتبط التصوير بالهواتف المحمولة صارت الرسائل الصورية جزءا أساسيا من التواصل، بل إنها أحيانا باتت تعوض الرسالة الصوتية أو المكتوبة. لقد لفت هذا الاستعمال الجارف للصورة العديد من الباحثين والعلماء في الإنسانيات والاجتماعيات وتكنولوجيا الإعلام والتواصل إلى قيمة هذا التحول وآثاره القصوى على الحياة العامة. كما أنهم مجمعون على أننا نعيش عصرا جديدا، وندخل بوابة حضارة جديدة قوامها الصورة (1).

أمام ازدهار الصورة وهيمنتها في مختلف مجالات الحياة بات التمييز واضحا بين ما قبل عصر الصورة وما بعده. ولما كان هذا التمييز وليد عصر المعلومات والتكنولوجيا الجديدة للإعلام والتواصل فإن ربط الصورة بالتطور التكنولوجي أضحى السمة الفارقة للعصر الذي نعيش فيه.

2. 3. حتى الأدب الذي كانت وسيلته الوحيدة هي اللغة، بات مع ظهور الحاسوب والبرمجيات الخاصة بالرسم والتصوير يُشغِّل بدوره الصورة والصوت وكل ما تمده به الوسائط المتعددة والمترابطة. وكأني ب " الأديب الجديد " في عصر المعلومات يرى لزاما عليه تطوير إنتاجه الأدبي ليتلاءم مع العصر من خلال استثماره منجزاته التكنولوجية في تطوير إبداعاته فيدمج في إبداعه الأدبي الصورة والصوت بمختلف الصيغ والأشكال التي تفتح له آفاقا جديدة في الإبداع والتعبير. بل صار الأدب وقد انفتح على صيغ تعبيرية غير لغوية موضوع تساؤل: هل هو أدب جديد؟ أم فن جديد لا علاقة له بالأدب كما كنا نتصوره إلى حقبة قريبة جدا؟

حتى الفنون البصرية نفسها (الرسم ـ السينما ـ ألعاب الفيديو ـ المسلسلات التلفزيونية ـ الأغنية المصورة ـ الرسوم المتحركة الثلاثية الأبعاد،،،) صارت بدورها أكثر تطورا مما كانت عليه قبل حصول التطور المذهل على مستوى البرمجيات الجديدة. ويكفي أن نشاهد الآن الأفلام الجديدة، مثلا، التي تستثمر آخر أجيال صناعة الصورة بواسطة برمجيات الحاسوب لنقف على حجم الإنجازات المذهلة التي تحققت على هذا الصعيد. ويبدو أن التطور مفتوح على مصراعيه لإعطاء الصورة موقعا أكبر مما نشاهده الآن تحت تأثير التطور غير المتوقف لتكنولوجيا الإعلام والتواصل.

2. 4. لكن هل يمكن للصورة، رغم المكانة التي صارت لها في واقعنا الحالي، أن تنوب عن النص، أو تعمل على إلغاء الكلمة من الوجود لفائدتها؟ هل جاءت الصورة فعلا لتعوض الكلمة وتقوض حضورها؟ قد يذهب الحماس ببعض أصحابه إلى اتخاذ مواقف متطرفة من الصورة أو الكلمة. لكننا، ومن موقف من يؤمن بأن لكل علامة خصوصيتها، ولكل وسيط إمكاناته الخاصة، أرى أنه لا يمكن للصورة أن تنوب عن الكلمة، ولا الكلمة أن تحل محل الصورة. إن كلا منهما يوظف وفق آليات محددة وشروط خاصة. وأساس التمييز يكمن في رأيي في القدرة على تجسيد ما تريد الصورة توصيله، أو تبغي الكلمة تبليغه. وقد يكون ذاك التوصيل أوْفى، كما يمكن لهذا التبليغ أن يكون أبلغ. ولهذا فالمفاضلة التي يمارسها المتحمس أو المنتصر لشيء ضد آخر لا معنى له، ما دام لا يأخذ بالحسبان "الكيفية " التي تقدم من خلالها الأشياء.

2. 5. إن التطور الذي تحقق على مستوى الصورة وتكنولوجيا الإعلام والتواصل بصفة عامة، وهذا هو الدرس الأساس الذي يمكننا استخلاصه، ونحن نبحث في الكلمة، جدد كيفية التعامل مع العالم وفهمه والتعبير عنه وأعطى زخما متجددا للعمل والتفكير. كما أن اختراع وتطوير وسائط جديدة هو تطوير للأدوات التي نحصل من خلالها المعرفة، وهو من ثمة تطوير للمعرفة أيضا. كما أن تطوير أدوات التواصل والتعبير الأدبي والفني قمين بتطوير أشكال التعبير والتواصل.

يمكننا، وهذه هي الخلاصة الأولى، الاستفادة من التطورات الحاصلة في مجال الوسائط المتفاعلة في إعادة التفكير والبحث في "الكلمة"، وسنجد أن الكثير من الملامح الخاصة التي تختزنها الكلمة يمكننا الآن الانتباه إلى أهميتها، فيكون ذلك مدخلا للالتفات إلى بعض أسرارها والكشف عن بعض تجلياتها السحرية التي ظلت أبدا مثار البحث والسؤال. كما أن وضع الكلمة في إطار الوسائل الجديدة للتواصل كفيل بتطوير نظرتنا إلى الأدب وتوسيع مجال رؤيته وقد امتد، وسيمتد ليشمل ما هو صوري أو بصري، ويفتح آفاقا، لا حصر لها، ولا يمكن التكهن بها حاليا.

3. معرفة جديدة لعصر جديد:

3. 1. ما دام العصر الجديد (عصر المعلومات والمعرفة) أوجد وسائط جديدة للإعلام والتواصل، فمن الضروري أن يطرأ تغيير على مستوى المعارف التي تؤطر وتفكر في هذا العصر. ولا يمكن لهذه المعارف إلا أن تكون بدورها جديدة لتتلاءم مع هذه الشروط الجديدة.

تسعى هذه المعارف الجديدة إلى تغيير مسار التفكير الذي كان موجودا قبل ظهورها، وهي تأخذ بعين الاعتبار كل تاريخ الفكر البشري لأنها وليدة هذه الصيرورة. إنها تغير المسار لتلائم نظرتها مع المستجدات وقد اتخذت أبعادا مختلفة لما كان في الماضي. ولهذا السبب نتحدث عن إبدال (Paradigme ) جديد. وإذا أردنا فعلا تطوير معرفتنا بأي حقل من الحقول التي نشتغل بها لا بد من وضعه في سياق التطور المعرفي المتحقق. ولهذا، ونحن نتحدث عن الأدب والإبداع اللفظي، لا مناص للتصورات المشكلة لدينا عن الإبداع اللفظي من أن تتغير بدورها، وتعمل جاهدة على التطور من خلال معانقة الأسئلة الجديدة، والعمل على الاجتهاد في بلورة تصورات جديدة وفق الأفق المعرفي الجديد.

ليست المسألة، كما قد يتوهم البعض، مسألة موضة أو تقليعة، ولكنها مواكبة للتطور، لأنه لا يمكننا ممارسة التفكير والعمل الملائمين إلا في نطاق المعارف المتحققة والمتطورة في العصر الذي نعيش فيه. هذا، إذا كنا فعلا، نؤمن بالمواكبة ونأمل في المشاركة في العصر.

3. 2. كان الاهتمام منصبا في العلوم الإنسانية ودراسة الأدب قبل ظهور الوسائط المتفاعلة (وهو المصطلح الذي نختزل من خلاله كل المنجزات المتصلة بعصر المعلومات، وسنخصص للتعريف به دراسة خاصة لاحقا) على محاولة تفسير النص وفهم آليات إنتاجه سواء بالتركيز على مكوناته الداخلية أو الخارجية.

يصدر جان بيير شانجو كتابه "عقل ومتعة"(2) بمقدمة يُحملِّها عنوان "الفن وعلوم الأعصاب" يبين فيها أن العلوم المتصلة بالدماغ عرفت منذ القرن الثامن عشر إلى اليوم تطورا كبيرا رغم المعارضة ذات البعد الإيديولوجي التي كانت تعوق هذا التطور، وخاصة في فرنسا حيث هيمنت في العقود الأخيرة (صدر الكتاب سنة 1994) ثلاثة أنظمة تحليلية تلغي الدماغ نهائيا من تقديرها، وهي:

ـ البنيوية التي اهتمت بالتحديد الشكلي للدوال وتصنيفها.
ـ الماركسية التي ركزت على علاقة التاريخ بالاقتصاد.
ـ علم النفس التحليلي الذي تعلق بالذات واللاشعور.

وبعد إبرازه الدور الإيجابي الذي قدمته هذه الأنظمة الثلاثة، يؤاخذ عليها كونها تعاملت مع الفكر واللغة والتاريخ وكأنها تحققت في صيرورات يستقل فيها بعضها عن بعض. وبعد إشارته إلى الأصوات التي لم يسمع صوتها في القرن التاسع عشر في فرنسا حول أهمية الدماغ يخلص إلى أن العلوم الإنسانية والاجتماعية صارت الآن أكثر وعيا بضرورة الاتحاد مع علوم الدماغ.

3. 3. لقد تحقق هذا الوعي بسبب الانتقال من التأمل الفلسفي إلى التجريب العلمي في المجالات الإنسانية والاجتماعية مع ظهور السيبرنطيقا وعلوم الأعصاب والعلوم المعرفية التي كانت وراء الثورة المعلوماتية التي نشهدها الآن(3). وكان الأساس الذي بني عليه هذا الانتقال هو أن دماغ الإنسان آلة كيميائية مذهلة، وما حصل من نتائج في دراسته أدى إلى محاولة صناعة آلة (الحاسوب) باعتباره دماغا اصطناعيا. تولدت عن مقايسة الحاسوب بالدماغ ثلاث شبكات من الاختصاصات وهي: الذكاء الاصطناعي وعلوم الأعصاب وعلم النفس المعرفي (في اتصاله بالسيكولسانيات). ومن هذه الاختصاصات الثلاثة ظهرت العلوم المعرفية (sciences cognitives) التي تتأسس على ركيزة محورية هي أن الظواهر المعرفية تتصل اتصالا وثيقا بالآليات الدماغية.

تبحث العلوم المعرفية (4)، كما يحددها لومير، عن إجابات للأسئلة المركزية التالية:
1. كيف يحصل نظام طبيعي (بشري ـ حيواني) أو اصطناعي (الروبوت مثلا) على معلومات من العالم الذي يوجد فيه؟
2. كيف يتم تمثيل أو تمثل هذه المعلومات وكيف تحول إلى معارف؟
3. كيف تستعمل هذه المعارف لتوجه انتباه النظام وسلوكه؟

إنها أسئلة جديدة لأنها ترمي البحث في علاقات من نوع جديد بين الإنسان والألة والعالم، وتسعى إلى الكشف عن كيفية تحقق العلاقات بينها. وأهم السمات التي تبرز لنا من خلال هذه العلوم الجديدة هي ترابطها بمختلف المجالات والقضايا التي تتصل بالإنسان والمعلومات. ولعل هذا هو ما جعل التقارب حاصلا بين مختلف الاختصاصات، ونجد في أمريكا وكندا وأستراليا، ونسبيا في أوربا باحثين من اختصاصات علمية دقيقة يشتغلون بالعلوم الإنسانية والأدبية والفنية. إن إقامة الصلات مع هذه الاختصاصات الجديدة على فضائنا المعرفي والأكاديمي (رغم أن بعضها تأسس مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية) من أولى الأوليات التي تمكننا من تطوير وعينا بالكلمة وبالصورة معا، أي بكلمة أخرى، تمكننا من إدراك "الترابط" بين الأشياء من منظور جديد ومحفز على الاجتهاد والبحث وبطريقة مختلفة لما مارسناه إلى الآن في فهم الظواهر وتفسيرها.

4. الكتابة العربية: طرح الإشكال:

4. 1. ما يزال دخولنا عصر المعلومات متعثرا وبطيئا، ولا يواكبه نقاش معرفي يمكن أن يوجهه ويؤطر مساراته، ويجدد من ثمة رؤيتنا إلى طرائق تفكيرنا وتساؤلنا بصدد مختلف القضايا التي تهمنا. إنه لا يعقل أن ندخل عصرا جديدا بأفكار قديمة وبلغة قديمة. وأول سؤال يفرض نفسه علينا في هذا الإطار هو: هل علينا أن نفكر ونعمل في عصر المعلومات، وفي الفضاء الرقمي بالكيفية التي كنا نتعامل بها مع الأشياء قبل هذا العصر؟

لقد بدأت علاقتنا بتكنولوجيا الإعلام والتواصل عن طريق استيراد هذه التكنولوجيا، وبدأنا نتعامل معها وكأنها، فقط، قطع غيار أو وسائل نعوض بها غيرها لأنها غدت متجاوزة وتقليدية. لكننا ما زلنا بمنأى عن استيعاب حركية هذه التكنولوجيا في نمط التفكير والحياة ونتجاوز كونها فقط "وسيلة" جديدة، فلم نفكر فيها بالصورة التي تحدث تحولا على مستوى تعليمنا وتربيتنا وإنتاجنا الأدبي والفني ونقدنا الأدبي والفني وثقافتنا والعلوم التي ما نزال لم نعمل على ترسيخها وتجذيرها في تربتنا العربية.

إنه بدون فتح هذا النقاش الذي يجب أن ينخرط فيه المثقفون والعلماء والباحثون في مختلف الموضوعات لا يمكننا الاستفادة من الأدوار التي تضطلع بها في إحداث نقلة نوعية على صعيد الفكر والعمل.

4. 2. نريد المساهمة بإثارة مثل هذه القضايا، والدعوة إلى التفكير فيها ومناقشتها بهدوء وبدون حماس زائد أو رفض متطرف. ويهمنا في المجال الذي نشتغل به وهو "الخطاب الأدبي" لخصوصيته في بنائنا الثقافي العربي أن نطرح بصدده مجموعة من الأسئلة هي وليدة هذا السياق الذي ندعو إلى الانفتاح عليه والاشتغال به.
أول سؤال: كيف يمكننا تجديد إبداعنا الأدبي وبحثنا فيه ودراستنا له في ضوء هذه التحولات؟

لا شك أنه سؤال هام وله مشروعيته في هذا النطاق، اللهم إلا إذا كنا نرى أن وضعنا الأدبي والنقدي خاصة والثقافي عامة سليم ولا يحتاج منا إلى طرح مثل هذه الأسئلة. ويبدو لي أن أي متتبع للساحة الثقافية العربية من خلال مختلف وسائطها وأشكال تعبيرها لا يمكنه إلا أن يتفق معي على أننا نعيش وضعا مزريا على هذا المستوى: فالفقر الفكري والمعرفي واللغوي والمنهجي مهيمن على الواجهات كافة. ولا شيء غير " الكلام المهلهل" الذي ما يزال يعتمد بلاغة الإفحام لا الإقناع، ودجل البداهة لا عمق التفكير.

قد تكون هناك قسوة وتعميم في التشخيص، غير أن مبررها يكمن في أن نقط الضوء المفيدة في هذا المشهد قليلة وضئيلة، بينما الواقع العام لا يحبل إلا بما يكرس واقع التخلف الفكري. يكفي لتأكيد هذه الصورة أن نتأمل واقعنا التربوي والتعليمي في مختلف أسلاكه لنجد شبه اتفاق على تدني المستوى وتراجعه. ويكفي أن نحضر المؤتمرات الثقافية والمهرجانات العربية لنلاحظ الموضوعات المستهلكة والتحليلات الجاهزة والحوارات الصماء. ويكفي أن نتأمل المنشورات والمعروضات من الجريدة إلى الكتاب وإلى الفضائيات مرورا بالمواقع والمدونات والمنتديات لنعاين، إجمالا، الضحالة والرضى بالمرغوب فيه لدى الجمهور. فالكل من مُعدّ البرنامج إلى الناشر، ومن مصمم المواقع إلى المشارك في المنتديات يعمل على دغدغة عواطف الجمهور والنزول عند رغباته، لأن الكل صار يفكر، ليس في الرسالة ولا في محتواها، ولكن في كيف يتلقاها الجمهور، وهل تعجبه أم لا؟

كما أن الانطلاق من أن الجمهور العربي يرغب في الموضوعات المتصلة بالثالوث المحرم يوجِد المبررات للاهتمام بهذه القضايا وبالطرق التي تخلو من أي عمق نظري أو معرفي، وذلك مراعاة ل" خصائص " هذا الجمهور؟ لكن الارتقاء بوعيه الديني والسياسي والجنسي إلى مستوى أعلى مؤسس على البحث العلمي فهذا "ثقيل" على جمهورنا؟ وتقدم تبريرات الأمية وضعف القدرة الشرائية والنفور من القراءة، لتسويغ الرضى بالواقع، والاقتناع والإقناع بأن ليس في الإمكان أبدع مما كان؟

تترابط القضايا التي يعاني منها المجتمع العربي، ولا يمكن فصل أي منها عن غيرها. والطريقة التي نفكر بواسطتها في الأدب هي عينها التي نمارس بها التحليل السياسي والديني والاجتماعي. وأي تطور في تحليل " خطاب " ما كفيل بتطوير الخطابات الأخرى.

4. 3. إذا أردنا تقديم تصور محدد لما يتصل بالخطاب الأدبي (باعتباره نموذجا للخطابات الأخرى)، فإننا نرى أن المدخل الطبيعي إلى ذلك هو العمل على صياغة الأسئلة المتناسبة مع المرحلة التي نعيش فيها، والتي تقدمتنا العديد من المجتمعات في الأخذ بأسبابها، بهدف وضع استراتيجية للبحث والتفكير تمكننا من مراكمة إجابات ملموسة عنها، والانخراط في مناقشتها بقصد التعرف عليها وفهمها وتفسيرها.

ولعل أهم سؤال يمكن أن نسوقه هو: هل يمكننا تجديد فكرنا العربي عموما، والأدبي خصوصا، بدون تجديد الكتابة العربية؟

إن تجديد الكتابة واللغة لتتلاءم مع الوسائط المتفاعلة هو رهان أي تحول لأنه يضعنا مباشرة أمام مطابقة تفكيرنا وأدوات هذا التفكير مع الوسائط الجديدة باعتبارها، ليس فقط أدوات ووسائل، ولكن أيضا، طرائق تفكير. تكمن أهمية هذه الدعوة إلى تجديد الكتابة العربية في كونها:

أ. حافزا للتفكير والبحث في الكتابة العربية الكائنة (في الماضي والحال) والممكنة (المستقبل).
ب. دافعا لربط هذه الكتابة بالعلوم الجديدة التي تحققت مع ظهور الوسائط المتفاعلة.
ج. مطورا لإنتاج كتابة جديدة يمارسها "كاتب" جديد، ويتوجه بها إلى "متلق" جديد.

تتضافر هذه الدوافع مجتمعة لانتهاج تصور جديد للعمل والنظر يجدد رؤيتنا لإنتاج "الكلمة " و"الصورة " وأي خطاب كيفما كان جنسه أو نوعه، كما أنه يطور وعينا بطرائق تحليل هذا الخطاب في ضوء ما يتراكم لدينا من معارف جديدة في صلاتها بما هو متحقق على المستوى الإنساني، وبذلك يمكننا أن نضع أنفسنا في المسارات التي تدفع في اتجاه التطور والتجديد.

يدفعنا مثل هذا التصور، الذي نقدمه للنقاش والحوار، إلى إعادة طرح أسئلة قديمة تتعلق بـ: "كيف نكتب؟" لنجيب عليها، إجابات جديدة في ضوء متطلبات الإنتاج اللفظي والصوري الجديدة التي تفرضها الوسائط المتفاعلة. وما دام السؤال يتصل بـ "الكتابة" المتحققة والممكنة، فإن التقدم في الجواب عنه، في أفق معرفي جديد، سيمكننا من التقدم في إدراك أسرار "الكلمة" (القديمة / التراث)، كما أنه سيفتح أمامنا المجال لتوليد أسئلة جديدة تتصل ب"النص" الرقمي الممكن (والذي تترابط فيه الكلمة بالصورة والصوت والحركة،،،) والذي لا بد لنا منذ الآن من التفكير فيه، والبحث عن آليات تجليه وتقنياته.

وفق هذه التحديدات، سنجد أنفسنا أمام صيرورة جديدة، وآفاق جديدة من التفكير والسؤال.

لنجعل نقطة البدء التي ستمكننا من الذهاب إلى المستقبل، والرجوع إلى واقعنا الحالي، للتفكير والبحث في " الكتابة العربية " المتحققة والممكنة التحقق، هي:
فن الكتابة الرقمية. وسيكون ذلك موضوعنا القادم.
said@wanadoo.net.ma
www.yaktine-said.com

__________________________________________
1.R.Kearney ,The wake of imagination:toward a post-modern culture,Ruteldge,1998,P.1 وانظر بالعربية كتاب: ـ عصر الصورة: السلبيات والإيجابيات، شاكر عبد الحميد، عالم المعرفة، الكويت، رقم 311 يناير 2005
2. J-P.Changeux, Raison et Plaisir,édi.Odile Jacob, Paris, 1994, P.15
3. سعيد يقطين، من النص إلى النص المترابط، مدخل إلى جماليات الإبداع التفاعلي، المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء، 2005، ص. 87 وما بعدها.
4. Patric Lemaire, Psychologie Cognitive. Bruxelles-Paris, De Boeck Université,1999,P.13