في طبعة جديدة، وأنيقة صدرت رواية (فساد الأمكنة)* لصبري موسى عن سلسلة نصوص مميزة، التي تصدرها دار الشروق، وتُعْنى بالأعمال القيمة المنسية في ذاكرتنا، وتُعدُّ رواية (فساد الأمكنة) واحدةً من أقدم الروايات التي جعلت الصحراء فضاءً لها، وبذلك تعد نموذجا لرواية الصحراء بامتياز، فقد تجلّى المكان الصحراوي بكل سماته على مقومات العمل السردي، وظهر على وجه الخصوص على الشخصيات التي تمثّلت لقيم المكان، وأنساقه، ورغم أنها قادمة من بقعة مغايرة - وعلى الأخص شخصيتي نيكولا، وابنته إيليا - حاولت الامتثال لأنساق المكان، وأيديولوجيته التي فرضتها على قاطنيه، فقاد الأب في جو مفعم بالأسطورة المشبعة بروح الصحراء حفيده (ثمرة الخطيئة)(1) التي لم يحتمل وخزها، ثم قاد ابنته إلى الموت (بعد شعوره بأن الخطيئة تلاحقه)؛ امتثالا لهذه الأعراف، بعدما فشل في الانتحار- أكثر من مرة - لتخطيه هذه الأنساق .
(1)
يقدم لنا النص حكاية ذلك القوقازي (نيكولا) ذلك الأوروبي الهارب من زيف الحقائق، والمتطلع إلى "الانزواء في براثن دفء مكان واحد"(2) (ص: 132). حيث حاجته إلى مكان يختلف عن تلك الأمكنة التي ارتادها من قبل هي التي جعلت علاقته بالمكان (جبل الدرهيب) منذ اللحظة الأولى تبدو نوعا من الانتماء؛ فهو ينظر إلى جبالها من السيارة في وجل، وتوقير، وهذا الانتماء جاء نوعا من "الشغف الرقراق، الشغف الظامئ للمستحيل" (ص: 309). لدرجة أن هذا الشغف جعل المكان يستولى "على حواسه المضطرمة بالرغبة في التحليق" . وما أن يقترب من المكان يرتجف مهابة، وخشوعًا، وقد استولى المكان على حواسه المضطربة بالرغبة في التحليق ؛ لما له من قدسية، ورهبة، "وشعر بأنه يوشك أن يحدَّد مكانًا يرغب في الانتماء إليه...". وهذه الرغبة في الانتماء تُسيطر على فكره، ويسعى للتوحد مع المكان مثلما توحد الجد الأكبر لهم "كوكالوانكا"، أو الحلول في المكان مثل "أبى الحسن الشاذلي" ؛ ذلك الصوفي الذي تَفَلَ في الماء، فأصبح البئر عذبًا، لكن فكرة الحلول بعيدة عنه لعقيدته الأوروبية.
يستولي المكان بهالته، وقدسيته على روحه، وداخله، وإن كان قبلها قد استمع إلى إغراء صديق له (مهندس تعدين)، كان يلوح له بأرض عريقة، يشقها النيل، ويمتد بها إلى حافة البحر قادمًا من صحراء هائلة، بها جبال تحوي ألوانًا متنوعة من كنوز المعادن، أرضٌ لا يملكها أحدٌ، وما إن يستخرج تصريحًا بالحفر، والتنقيب حتى يصبح مالكًا واحدًا من هذه الجبال العظيمة التي لا يملكها أحدٌ، وهكذا يستجيب الرجل إلى إغراء صديقه – بعدما فشلت زوجته القوقازية أن تسمره إلى جوارها، ويرحل إلى جبل الدرهيب؛علّه يجد ما يبحث عنه، فقد ظل دائما يبحثُ عن المعرفة، أما صديقاه اللذان رافقاه (خليل المصري، وماريو) فقد كانا يبحثان عن الذهب، وبدأ يهيئ المكان للعمل، فأقام على البحر ميناء، ترسو به السفن قادمة إلى الجبل، وإلى جانبها أقيمت ثلاثة بيوت خشبية، وعنبر للمخازن وللطعام، ودورات خشبية للمياه، وورشة لإصلاح الآلات، والأدوات، وأقيمت كبائن الراحة على الشاطئ، وعمت المكان حياة، كما أرادها نيكولا، بأن يشيّد مدينته الحلم، وأصبح لهذه المدينة الصغيرة مولد كهرباء، وخزان كبير لحفظ المياه ... إلخ. وها هو واقف في نشوة، يَرقْبُ العمال، وهم يستخرجون خامة التلك، واستمر العمل في مشروعه مع شريكه، حتى ترك له المشروع الأول، ثم عمل مع (الخواجة أنطوان)، والحاج بهاء في المشروع الثاني، وتبدّل الحال، فأراد صديقه أنطوان أن يمنحه المشروع المال والوجاهة؛ ليتقرب من ذوي السلطان طمعًا في أن يحصل على اللقب (باشا)، وفي ذات الوقت يتمنى أن يحظى بـ(إيليا الصغرى)، ابنة نيكولا ذات الستة عشر ربيعًا، وقد كانت جاءت مع أمها إيليا الكبرى؛ ليعود معهما إلى الحضر، حيث مشروعهما (إنشاء كازينو في أعلى الجبال)، ذلك المشروع الذى تركتْ له من أجله جسدها في أول لقاء؛ لتستأنسه، وتربطه بمشروعها، لكن نفسه التواقة للبحث، والتجوال، أبتْ أن تخضعَ، حتى عندما أرادت أن تسمره إليها، بأن تنجب له ولدًا، تكرره به، فأنجبت بنتًا، فكرّرها هو، وأسماها باسمها (إيليا)، حاولت إغراءه بجسدها، فاستجاب لها لحظة، ثم انقلب إلى إغوائه الوحيد إخصاب الصحراء، التي يعرفها، وهرب إليها، وتوحدت نفسه مع جبالها، فأنّى له أن يتركها، حتى حدثتْ الفاجعة، التي لم يكن ينتظرها، فأربكته، وأرقته، ثم أفجعته بإقدامه على قتل نفسه، وابنته، فمع تنامي شعور الطمع لدى صديقه (أنطوان)، الذي لم تفتر همته في أن يحظى بلقب (الباشوية) مهما دفع لها، وفي سبيل ذلك راح يتقرب إلى عُلْية القوم، فدعاهم إلى زيارة مشروعه، فقدِموا من المدينة حاملين شرورها معهم، فأصابت لعنتها الجميع (نيكولا، إيليا، إيسا، عبدربه كريشاب)، بل حتى المكان حلت عليه اللعنة.
هبطوا المكان، تسبقهم خلاعتهم، وعريهم، وفجرهم، مُحملِّين بصناديق الويسكي، وفي زيارة أخرى اجتذب هؤلاء الرفاق ملكًا شرِهًا أكولا، كان يبحث في دأبٍ عن اللذات في طول مملكته، وعرضها، هبط إلى الموقع، تحوطه مظاهر تبجيل، وتقدير، تتنافيان مع ما هو قاْدم عليه، وقد أصابت هذه الاحتفالات نيكولا بضيق، وحنق حقيقيين، عبّر عنهما لصديقه أنطوان، الذي استغل نهم الملك الجائع لتلك الزهرة البرية الآسرة؛ فقدمها له قربانًا على عطيته التي سوف يمنحها له (لقب الباشا)، ثم ليكسر حاجز الخمس والثلاثين سنة الفارق بينه، وبين تلك الزهرة البرية التي استعصت عليه، فيكون اعتداء الملك عليها هو المذلل لتمنعها عليه.
هكذا جرت الأحداث على غير ما تمنى نيكولا في مدينته الحلم، التي أرادها شيئًا، ورأى فيها الماجنون مكانًا غير مألوف، يمارسون عليه نزقهم، وعربدتهم (لاحظ موقف الملك من فرضه على عبد ربه كريشاب مضاجعة عروس البحر أمام الملأ، وفعل إقبال هانم الفاضح مع نيكولا داخل جبل الدرهيب)، فما أنْ عادت إليه ملكته، ومعشوقته في (الحلم) خجلة، حتى يُغرقَ نفسه في شرب الخمر؛ علّه يموت. وبالفعل يتحقق مأرب أنطوان، فيحظى بلقب (الباشوية)، وقبلها يرضخ صديقه لطلبه القديم، الزواج من إيليا، إلا أن الأمر لدى نيكولا الذي توحدت روحه مع الجبل لم يكن حادثةً، وانتهت بزواج أنطوان بإيليا؛ فالأب يشعر في قرارة ذاته أنه هو الذي قدَّم ابنته للملك، لا أنطوان، فيعاقر الخمر، فيهذى عليه، ويختلط الحلم بالواقع، في مشهد درامي ملحمي، حيث حَلُم أنه ملكٌ آشوري قديم، يرفل في أبهة الملك، وعظمته، يحتفل مع عظماء قومه بموسم الزرع، والإخصاب، وفي الاحتفال تسللت إليه عجوز، حدثته عن فتاة في سن ابنته، تضوع نضارة، وجمالا، كما أخبرته أن زوجته الملكة ستغيب عن فراشه أيام الاحتفال، فما ضرّ لو قادت إليه الصغيرة التي شغفت به، وبينما الملك نيكولا يستعر شهوة، حتى يجد تلك التي هام بها في مخدعه "مختبئة في حريرها الدمشقي، تنضو عنه ثيابه، وتحمله على أجنحة عطائها، فيستسلم لها بأكمله، وتستسلم هي له، حتى تتوحد نشوتهما، وتتقد، فتأخذهما الغيبوبة السحرية معًا".
ويا ليته ما أفاق !.. حتى شعر بجرمه، فيصرخ في الباحة، صرخةً تتوحّدُ مع صرخة أوديب، يوم أن ضاجع أمه . فكلاهما دنسّا المحارم، وعليهما معاقبة نفسيهما، وقد فعلها أوديب قديمًا بأن فقأ عينه، وها هو الدور على نيكولا لأن يعاقب هو الأخر نفسه، فيُقْدمُ على الانتحار بالسباحة إلى مواطن سمك القرش المفترس، فيُنْقَذُ من موت محقق، إلا أن العقاب كان له بالمرصاد، فقد أخبره الطبيب "ستنجو من الموت، لكن عجزًا سوف يسلبك رجولتك". ويحتمل العقاب راضيًا، حتى تحمل الابنة، وما أن تلد يُنْكر أنطوان نسب الابن له، فمدة الزواج غير كافية لنمو الجنين، وهنا يعترف الأب بأن الثمرة، هو منشؤها، فيفقد صوابه، ويهتدى إلى قتل الثمرة، حيث يختطف ثمرة الخطيئة، ويقدمها قربانًا للصقور، فيلتقفها صقرٌ كان يحوم في السماء. لكن الأب المسكين ما أن يرى إيليا أمامه، حتى تتجسد له الخطيئة أمامه، فيهرب، حيث المنجم في باطن الجبل، يختبئ فيه بعدما فشل في مواجهة البشر إثر تخلصه من الوليد، فيبحث عنه العمال ترافقهم إيليا، وقد توقف العمل بحثًا عنه، وما أن يعثروا عليه داخل المنجم، اندفعت إيليا إليه، مادةً نحوه أصابعها المرتجفة، فيرتجف الأب المرتعب، فتضرب قدمه سنّادة خشبية، كانت تسند صخرة كبيرة، فانزلقت السنّادة، وسقطت الصخرة، وحبست إيليا داخل الكهف، وأخذت تصرخ دون أن يجيب أحد صياحها، فانطلقت روحها تخترق جدران الكهف والدرهيب، حتى حلقت عاليًا في فضاء الصحراء الواسع، وبعدها هَجَرَ العمال المكان، ولم يبقَ فيه سوى نيكولا لينشئ على الجبل الذي اغتمره إحساس بالدفء،عندما نظر إليه من السيارة في بداية الرحلة، صلبان عذابه وتكفيره، ويجتر عذابات آلامه التي حاوطته في مدينة الحلم، التي صارت مدينة الموت بالنسبة له، بعدما فقد رجولته فيها، واغتصب ابنته، ووأد ثمرة خطيئته، ودفن فيها ابنته التى أنست وحشة المكان، ورفضت العودة مع أمها.
هذه هي الحكاية التي يقدمها صبري موسي، مغلفة بروح أسطوريه، وتراجيديا إغريقية، وفوق هذا وذالك صراع الإنسان والطبيعة، صراع غير متكافئ رغم الإعداد الجيد لاستغلال خيرات الطبيعة، فتطاوع أحيانًا، وتأبى أحايين لأن تنصاع أو تطاوع. دون أن ينسي أن يقدم لوحة فنية زاخرة عن أناس يعيشون على الفطرة، بعاداتهم وتقاليدهم، التي لا يضاهيهم فيها أحد، والتي تعد قانونًا يسيرون على هديه ويمتثلون لأنساق القيم فيه،على نحو ما فعل إيسا وعبد ربه كريشاب وأبشر، جزاءًا لأفعال لا تتسق ونسق القيم الذي عاشوا على هداه، ومن ثمة لا نستغرب أن يموت إيسا، وهو يحاول أن ينقذ أصدقاء له سقطوا في فوهة البئر، ولم يستطيعوا الصعود إلى السطح، أو يهيم عبد كريشاب في الصحراء على غير هدى، بعدما كذّب ولم يفِ بوعده لأهله الذين قتلتهم عروس البحر.
(2)
فنيكولا ذلك الشخص القادم من روسيا وهاجرت عائلته وهو طفل في العاشرة، ثم أسطنبول ثم إحدى المدن الإيطالية، وتعرف على قوقازية قالت له "سأكررك يا نيقولا" .فعلى الرغم من التحليق المستمر، يأتى إلى الصحراء راغبًا في "أن ينشئ في هذا الجبل مدينة عامرة بالخصوبة والحركة" (ص: 246). وتنبهر روحه الهائمة في الأمكنة بهذا السكون، فتستقر في ذلك الدرهيب الموحش، لكن هذا السكون يتطلب منه أن يتطهر من آثامه. فيجاهد لكي يتطهر من خلال طقوسه، وعذاباته اليومية فيعتريه "إحساس شمولى قد احتواه في تلك اللحظات الملهمة مزجه في المكان وأذابه فيه" (ص: 182). وما أن يتوحد جسده مع طبيعة الجبل الصوفى حتى تُصبح الأشياء لديه لا قيمة لها .. فلا قيمة للاشتهاء، حتى مع إغواء وإغراء إقبال هانم له داخل السرداب، فُيقبل عليها لكن بلا شعور بلذة، وكأنما يفعل واجبًا فلم "يشعر برجفة الترقب الداخلية تصاحب الشهوة .. "بل أنه بعد الانتهاء من هذا الواجب يشعر وكأنه عاد إلى طبيعته المكتسبة من المكان ونسى كل شيء عن هذه المسألة." (ص: 242).
كما يحل الجبل محل إيليا الكبرى (زوجته)، فهو داخل المكان "يتخفف من أحمال الجسد الداخلية، ولم يشعر بحاجته إلى امرأة، فقد كانت الطبيعة من حوله امرأة عُظمى، احتوته، واستأثرت بجموحه وحيوته". وفى حديثه مع النفس يقول "قد جعلت من الدرهيب زوجتك وأولادك وبيتك، وأقمت فيه حياة عائلية جديدة على المستوى الرجولى عائلة كبيرة كلها من الرجال . حياة جديدة خشنة جافة وقاسية، ولكنك تعودتها شهراً بعد شهر حتى صارت حياتك التي كانت لك قبل ذلك نوع من الوهم الغامض والخيالات.".(ص: 242) بل إن قانون الصحراء يُرغم نيكولا على التأقلم بأعرافه والاحتكام إلى عُرف جماعته، فهو المتحرر الذي ضاجع امرأته قبل أن يتزوجها، بمجرد أن التقى بها في مطعم أبيها، نراه بعدما أكسبته الصحراء خصالها، يخشى على إيليا الصغرى ـ ابنته ـ من الجماع الجماعى الذي يرتكبه الملك وحاشيته، وعندما يضعه أنطوان صديقه في موقف مريب، فيقدم "إيليا" هدية للملك تصحبه في رحلته للصيد. فوقع هذا الخبر على مسامعه يؤكد سلطة الصحراء وقانونها بل إن آثار الخبر مظهر من مظاهر تشكل نيكولا بالصحراء. فقال له "إن الرحلة تؤرقه". كما أخذ يحلم "بأحلام مفزعة". مما دفعه هذا إلى محاولة الانتحار من خلال إغراق نفسه، وتعد هذه المحاولة نوع من العقاب الغريزي الذي أكسبه له المكان. فلقد أخلَّ بالفضائل البدوية، ومن ثمَّ وجب عليه معاقبة نفسه.
هذا الموقف يُدْهش أنطوان صديقه وشريكه فيقول له "لم أكن أعرف أنك إيطالي فالإيطاليون متحررون "لكنك قوقازي عنيد، هذا القوقازي الذي ينتسب إلى هؤلاء القبائل" (ص: 318). وعندما يفشل في محاولة قتل نفسه، يعمد إلى قتل تلك الثمرة نتاج هذا الجماع، فَيُلْقِى بهذا الابن طعاماً للصقور والذئاب .. فينتهي به المطاف إلى قتل الإثم نفسه ـ إيليا ـ في ذلك المكان الذي أراد أن يكون حُلمه / مدينته التي يحلم بها . فهو ليس بأقل من أوديب الذي فقأ عينه عندما ضاجع أمه، فهو أيضاً حلُم أنه ضاجع ابنته .
*****
وفي مقابل نيكولا الذي أجهد نفسه في التوحد مع طبيعة الجبل والانصهار والذوبان فيه، نرى إيليا تشب "زهرة برية" وكأن الصحراء شكلتها حتى في ردائها الصحراوى . فتتآلف مع المكان، وترفض العودة مع أمها، وتبقى في القاهرة لتزور والدها في مدينته الحُلم . وتصبح "زهرةً بريةً" تخفّف من وحشة الصحراء. فتأنس بالصحراء، ويأنس بها أهل الصحراء، وتتخذ منهم رفقاء. كما تذوب أيضًا في المكان روح إيليا بعد أن فقدت الأمل في أن تجد مخرجًا لها، وعند عودتها من الرحلة الأليمة، وتقترب من بيوت الصفيح التي صنعها والدهاـ وأراد أن تكون نواة تأسيسية لمدينته الحلم ـ فتطمئن للمكان "الأليف بعد الرحلة المؤلمة".فإحساسها بالاطمئنان على الرغم ما حدث لها يشير إلى تآلفها مع المكان ونفسيته . كما انقيادها خلف أبيها، للمصير المحتوم، هو شعور أخر بالإحساس بعادات المكان وعُرْف الجماعة لذا استسلمت في الحالة الأولى "للنوم والنعاس" وفي الحالة الثانية "للموت دون مقاومة". ولا يقتصر الأمر على تشكيل المكان لهاتين الشخصيتن، اللتين تآلفتا مع المكان، فنجد أيضًا،الخواجة أنطوان الذي يغير ملته / دينه، حتى يستطيع أن يخترق ناموس الصحراء بالزواج من إيليا، وهذا ما يجعله يذهب إلى الحاج بهاء في أدفو ليُخَلّّص له الأمر. وتتم الإجراءات لكن عن طريق المحكمة .. ويتزوجها .. بعد أن توافقَ مع ناموس الصحراء. ويذكر صلاح صالح أن من إسهامات المكان في تشكيل الشخصيات "اختيار الكاتب لأسماء بعض شخصياته "إيسا، أبشر، كريشاب، كوكالوانكا" كأنما يعطى المكان العجائبي دوره الطبيعي في تكوين شخصيات عجائبية بأسماء عجائبية.."(3).
وإذا كان المكان قد أسهم في تشكيل الشخصيات، نظرًا لطبيعته. مثلما رأينا، فإن الشخصيات هنا تسهم بطريق موازٍ في تشكيل المكان .. ومرجع هذا إلى أن بيئة الصحراء بكرُ نقية في حاجة إلى فضً بكارتها. فعندما يأتي نيكولا ليحفر ليستخرج مسحوق " التلك"، تستسلم له وتطاوعه . كما يُغيِّر في معالمها حيث تُبْني البيوت من الأحجار والبراميل. ومن ثم بدأ يُشيّدُ صرح مدينته "الحالم بها" على هذه الأرض، وأقام من أجل ذلك على البحر ميناء ترسو به السفن قادمة إلى هذا الجبل الضائع في متاهة الصحراء .بالإضافة إلى ما فعلته إيليا في المكان، فقد بددت وحشته، وأصبحت "زهرة المدينة الخشبية الجديدة.... فنسقت الباحة ورصفت .. وزرع جانب منها بالشجيرات" .
(3)
وتأكيدًا لأثر المكان على قاطنيه سواء من أبنائه أو من قَدِموا إليه، يُقدِّم لنا السارد، في هذا النص الكثير،عن أبناء القبائل وعاداتهم، حيث الالتصاق "بصخور هذه الجبال في إصرارٍ، يتكاثرون فيها وينقسمون إلى فروع وقبائل"(ص: 232). ومع هذا الانقسام والتعدد إلى فروع وقبائل شتى، إلا أنهم يتمسكون بعاداتهم التي هي بمثابة الهوية التي تُعرِّفهم للآخرين. ومن هذه العادات التي حفلت بها الرواية . شي الأسماك، وتجفيفها على شمس الصحراء ومناداة الضائع في البئر، وامتحان المشي على الجمر للمذنب. وأيضًا قوانين الزواج التي تفرض عدم قبول الغريب(4). والتحقير ورفض الزواج لمن يرتكب جُرمًا، مثل ما حدث مع الحاج بهاء عندما أراد الزواج من أقاربه في الصحراء، قوبل طلبه بالسخرية والتحقير "والرفض" جاء لأنه خالف قوانين الصحراء، فاُعتبر كالغريب، وعٌومِلَ معاملته. وهذا الفعل يشير إلى التمسك بالهوية، والاحتفاظ بالخصوصية والاستقلال دون الاندماج مع الآخر . ومن هذه العادات، عادة الذبح طلباً للبركة .. حيث إراقة الدم تمثل طقسًا فرعونيًا، لطرد الأرواح الشريرة من المكان، ويأتي أيضًا كنوع من الهبة أو القرابين في الشريعة الإسلامية. أما هؤلاء البدو الذين يعيشون في المكان، فشعورهم بالتآلف طبيعي فلو لم يتآلفوا لما استطاعوا العيش فيه . والتآلف مع المكان ولّد إحساسًا لديهم بالنفور من الغرباء ـ لتعارض عاداتهم مع الغريب - فيرفضون التعامل معهم ويتجنبونهم، وإنْ كانوا " يعملون كأدلاء يقودونهم بخيامهم ومعداتهم في دروب الصحراء". وقد أكسبهم المكان فضائل تمنحهم قدرةً على الصفاء، فيمتلك البدوي حسِّا غرائزيًا مشبعًا بالطمأنينة " يُضئ في عقل البدوي، حينما يضيع منهم الطريق في رمال الصحراء الساخنة الناعمة، فيهتدي إلى طريقه، وتجعل قلبه يدق له إنذارًا بالخطر وهو نائمٌ في ليل الصحراء السحري، حينما يقترب من جسده عقرب أو ثعبان"(ص:183)
فانتماؤهم للصحراء أكسبهم تمائم وتعاويذ، بشأنها تَقيهم أخطار الصحراء .. وهذا بشأنه يشير إلى علاقة التماهي بين نفسية البدوي ومكانه، فكلاهما ممتزج في الأخر . هذه الفضائل التي يحملها البدوي تقوم بدور الموجه له إذا حاد عن الطريق ـ أو كاد ـ فهي نفسها التي تجعل "عبد ربه كريشاب" يَهيمُ في الصحراء، بعد أنْ فقد عقله، لا لمضاجعته عروس البحر أمام الملأ . وإنما لأنه شعر بكذبه عليهم، لأنه لم يقتلها كما أدعى، وفاءً لدين قديم لعائلته . وهي نفسها التي قادت نيكولا للانتحار مرات بعدما أحسَّ بالألم بذهاب ابنته في صحبة الملك وهو يعلم جيدًا مغزى الرحلة .... وهذا الإحساس بالبشاعة، متّولد لتآلف نفسه مع مفردات المكان. كما غرست الطبيعة الصحراوية في نفوسهم مجموعة من الفضائل مُتمثِّلة في عدم السرقة والكذب والزنا لإحساسهم بالتفوق كاعتقاد "انتفاء السلالة". وتقديس العلاقات العرقية المتمثلة في صلة الرحم / الدم، والالتزام بالواجبات والحقوق. ومن يتخطَ(*) واحدةً "يُحْتَّقر وترفض البنات الزواج منه.." . ومن أجل ذلك أخذوا "يشّهرون من هذه الفضائل سلاحاً يواجهون به مخاطر حياتهم اليومية"(ص: 182).
"فالحاج بهاء" عندما غادر الصحراء، لم يتزوج من أبنائها، وإنما تزوج من "أدفو"، وإيسا عندما يسرق، لا يسرق لمجرد السرقة "فليست السرقة من شيمته وأخلاقه"(ص: 122). فهو في السرقة لا ينسى عرف الجماعة الصحراوية، فهذا الفعل الذي فعله إيسا "نوع من الغضب الغريزي يجرى في دمائه البجاوية القديمة" (ص: 123). وقد جعله هذا الفعل "يقف مرتجفًا مقشعرًا .. في ذلك النهار بباحة المنجم كأنما هو مطالب من قوى قدرية بعمل لا يدرى كنهته بعد" (ص: 135). فهو أراد تأكيدَ سلطانه على جباله الخاصة، "في مقابل أن يكسر سلطان هؤلاء الأغراب ويُفزِع زهوهم الطاووسي" (ص: 139). هذا الفعل الفطرى باعثه فطرته التي تشكَّلت وفق مفردات الصحراء . فعند أخذه للسبيكة لم يكن في نتيه الاحتفاظ بالسبيكة، وإنما أخذها في رحلة عبر دروب الصحراء من بئر رنجة مرورًا بحماطة ورأس نكرات ومدينة برانيس الأثرية، وخليج بناس الشهير إلى بئر الشلاتين إلى "الجبل الأبيض حيث روح جدهم الأكبر "كوكالوانكا". كل هذه الرحلة ليقف ويُشْهد جدّهم على فعلته مؤكدًا له أنهم أي (أحفاده) "ما زالوا يملكون السلطان على الصحراء وجبالها.."(ص: 161). ومن ثَمّ ينْصاعُ لأوامر الجد الحاج على، المتمثلِّة في الاحتكام لشريعتهم "وهي المشى على النار.." فعندما علم بالأمر "زلزلة الأمر فلجأ إلى الجبل مُنكسًا خزيانًا..". وأمر بأن يحفروا حفرة ويشعلوا نارًا .. هذا التزلزل يعكس الرفض الغريزي لفعل إيسا. ويمشى إيسا على النار وفق طقس أسطوري، يتوازى مع قصص أسطورية لأشخاص عوقبوا بنفس العقاب / سيدنا إبراهيم "عليه السلام" ويخرج سالماً مادًا رجليه ؛ ليُشهد الجميع على براءته، فالسرقة ليست من شيمتهم. وعبد ربه كريشاب عندما يكَذُب ويدًّعى أنه قتل عروس البحر وفاءً لدين قديم بالانتقام لعائلته (ابن عمه / خاله / وأخوه) . فيؤُمر بمضاجعتها وسط طقس فجَّ كعقاب لهذا الكذب الذي يتنافى مع أخلاقيات الصحراء التي غرستها في نفوس أبنائها . فيمتثل للأمر فهو آتٍ من سلطة عليا / الملك .. ويأخذ في البكاء أثناء الفعل .. "ثم ينزوي بنفسه، إلى أن يمشى في الصحراء هائماً من جراء كذبته.." (ص: 167).
(4)
ينتمي عنوان (فساد الأمكنة) إلى المكوّن الحدّثي، حيث تُسيّطر الأحداث بجملتها على العنوان / فساد الأمكنة، فيُقرر السارد ـ معممًا حكمه ـ بأن الأماكن جميعها فاسدة. (فنيكولا) ذلك القوقازي القادم من أوروبا بجسده الأبيض النحيل يَلُّوذ بمكان غير المدينة، ولا يمكن أن ينشد هذا المكان الأسطوري إلا في "جبل". فيلُّوذ به، حيث الطهر والنقاء، المتمثل في سكونها الصوفي المشحون بالتوتر الباعث للنشوة على التخفيف التلقائي من أحمال الجسد الداخلية. ومن هنا يَختارُ "الرهبان في جبال تلك الصحراء صوامع عبادتهم"(ص: 152). هروبًا من فساد المدينة وطغيانها، فالمدينة زحام والزحام فوضى، وتنافس وهمجية، ولكنهم في الصحراء قلة، والخطايا الصغيرة تُصبح واضحة تُطارِدُ مَنْ يَرتَكِبُها، وتُصْبحُ خباياها على النفس أشد كثافة وثقلاً. والفساد هنا نتج عن "مجموعة البشر (الشرائح الاجتماعية العليا) صبغتهم إنسية ولكن يصنفون إلى أصناف الطفيليات والفطريات والبكترية التي تسبب معيشتها على الخلايا الحيّة فساد الخلايا وتلفها وموتها"(3). لكن للأسف خاب المسعى فلم يتحقق مأربه فجميع الأمكنة فاسدة حتى الصحراء التي لاذ بها، ولاذ بها من قبله الرهبان، والذي أفسدها الإنسان نفسه، المتحضر/ المتطلع، الذي فضّ بكارة الجبل والصحراء، واعتدى على مظهر من مظاهر طهرها ونقائها. وعلى الرغم من أن نيكولا / المأساوي يهرب من ضجيج المدن، وشرورها وفسادها، باحثاً عن ملاذ نهائي في قلب الصحراء، إلا أنه واحد ممن أفسدوا المكان (البكر)، وذلك من خلال اقتحام أمن هؤلاء البدو، بالتفجيرات للبحث عن التلك والسبائك الذهبية، لكن الفاسد الحقيقي هو "غزو المدينة" المتمثل في "الباشا خليل وأنطوان بك، وماريو" ونهمهم للثروة والذهب، وإقبال هانم وشهوتها التي تتشدق بالشبق الجنسي، وينُتهّك جسدها العاري على رمال الصحراء تارة مع ماريو، وأخرى داخل السراديب مع نيكولا.
وأخيرًا ـ وأهمهم ـ الملك ذاته وما تفعله حاشيته من سكر وعهر ومجون، وفضه لبكارة (إيليا الصغرى) و إرغامه لعبد ربه كريشاب بمضاجعة عروس البحر / الميتة، إرضاءً لنزواته . كل هذا يتنافى مع طبيعة الصحراء، التي خلق جوّها الصوفي، رغبةً للرهبان والمتصوفة أن يسكنوها من قبل. إضافة للفساد الخُلقي المتمثل في طمع (أنطوان) من الحصول على الباشاوية، وفي سبيل هدفه الدنئ، قدّم إيليا "لفراش الملك" عربوناً لذلك . وبذلك يكون النفي المطلق للعنوان قد شمل الصحراء أيضًا، هذا الاحتواء / التضمين جاء وفقًا لفساد البشر أنفسهم الذين انتقلوا من المدينة إلى الصحراء فلوّثوا طهرها فالعنوان "فساد الأمكنة" شمل ضمنيًا "الصحراء" أيضًا.
(5)
يعمد الراوي بناء نصه، على نظام التداخل، متوازيًا في هذا البناء مع طبيعة الصحراء حيث التداخل بين الجبال والهضاب والوديان والتلال .. لتنتظم الطرق المؤدية إلى دروبها . وبهذا الشكل يتبنى المؤلف إستراتجية بنائية تعمد إلى عدم فصل شكل نصه عن المادة التي يقدمها . فمع أن الراوى منذ شروعه في الكتابة / الاستهلال، يُعلنُ أنه سوف يحكي عن سيرة ذلك المأساوى في ذلك الزمن البعيد، في بلدة لم يَعُدْ يستطيع أن يتذكرها الآن. ويُقدِّم لنا نهاية الرواية المفجعة إلا أن الراوي، يُعيدُ توزيع أحداثه مرة ثانية عبر أزمنة متداخلة/ سابقة ومتلاحقة . فالموت الذي يقدمه لنا الراوى / لابنته إيليا الصغري، يأتى حتى قبل ذكر خبر زواجه أصلاً .. فالأحداث متداخلة عبر أزمنة متداخلة .. وقد يكون الحدث مُستشفًا من زمن مستقبلي. بل أن هذه الفجيعة تتداخل مع فجائع ليست أقل منها منزلةً وقسوة. مثل فجيعة أبشر في رجال البئر.
فالأزمنة تتداخل الحاضر في الماضي والمستقبل يستدعيه الحاضر . فزمن موت إيليا الصغرى ـ ابنته ـ يأتى قبل زمن ولادتها الذي هو سابق للقاء أبيها بأمها في مطعم والدها ـ قبل أن يتعرفا ـ كما تتداخل أزمة موغلة في القدم مع أزمة حاضرة . فإيسا عندما يسرق يذهب إلى الجبل حيث قبر جده "كوكالوانكا" فهو يستدعى بذهابه إلى قبر هذا الجد الأكبر ـ ليطلعه على ثمرة الجبل / الذهب ـ زمنًا قديمًا، ومثلما تتداخل الأزمنة يتداخل الواقعي مع الأسطوري مع الصوفي .. وتتداخل أيضًا على الحدث عناصر، تُسهم في بنائه وتشكيله .. فتتداخل مأساة ذلك الهارب من ضجيج المدن وشرورها / فسادها ـ الذي لم تستطع زوجته القوقازية أن تسمره في الأرض ولا أن تحول دون تحليقه "المستمر من مكان إلى مكان". الباحث عن ملاذ نهائي في قلب الصحراء، الحالم بمدينة غير المدينة .. لكن تأتي إليه المدينة بشرورها وفسادها (كل هذه الأحداث) تتداخل مع مأساة إيسا عندما سرق ـ كما اعتقد الخواجة ـ مع مأساة أبشر بوفاة هؤلاء الرجال في البئر وفق طقس أسطوري. يوازيه طقس موت إيليا الصغرى داخل الدرهيب .. ومن قبلها ابنها ـ ثمرة فساد المدينة.
كل هذه الأحداث تتداخل مع مأساة نيكولا الهارب من مكان إلى مكان ـ مُعْتمدًا الراوى/ الموازي لنيكولا على السرد المتوحد المتمثل في نصوص من التوراة وأخرى صوفية، تُسهم هذه العناصر المتداخلة في خلق نص موازٍ لهذه النصوص المتداخلة ليكون بديلاً عن مأساة نيكولا أو بمعني آخر يقلل من تلك المأساة التي أعلن عنها الراوي في المهاد الاستهلالي إلى أن سيطر عليه الحلم الكابوسي بمضاجعته لابنته، وإلقاء ثمرة مأساته (طعاماً للذئاب والضباع) . ويأتي التداخل من زاوية أخرى بين الحلم مع الجنون . حُلم نيكولا ـ الهارب من ضجيج المدن وفسادها ـ بأن يُشيد مدينته الحلم .. هذا الحلم الذي نشده في الصحراء النقية البكر . إلى أن أصبح تائها في دروبها ـ بعد أن حدثت مأساته ومن قبل كانت فاجعته في "كثرة اندهاشه". حالمًا هذه المرة .. بأن يتحول إلى محض "صخرة مقدسة داخل هذا الدرهيب". ولا يقتصر التداخل أيضاً على مستوى الأزمنة فقط، بل يشمل أيضاً الأمكنة فتتداخل أماكن فاسدة/ المدنية في أماكن طاهرة/ الصحراء فتفقدها بكارتها. فنزوح الملك وأعوانه/ وهم يمثلون "المدينة" بفسادها وشرورها . إلى الصحراء يفقدها نقاءها، وطهارتها وبكارتها، بشرورهم ودنسهم. بل أنهم عندما غادروا الصحراء تركوا خلفهم، ثمرة فسادهم / ثمرة في رحم إيليا الصغرى . وقد أخذت تنمو لتشير في تحد واضح إلى كبر المأساة، التي بدأت تؤرق نيكولا ويودُّ أن يتخلص منها ـ الثمرة ـ خاصة بعد أن سيطر عليه هاجس مضاجعته لابنته فيحلم ـ هذه المرة ـ أن يتحول إلى "محض صخرة مقدسة داخل الدرهيب" . وكانت من قبل توحدت ذاته مع داخل الجبل.
تتجمع هذه العناصر في بؤرة واحدة ـ قبل المشهد الختامي ـ بعد أن كانت موزعة في جميع النصوص السابقة/ الفصول، لتعود "عودًا على بدء" في المشهد الختامي "محكومة بقوة جذب من جديد "لتعلن نهاية المأساة، الموزعة حدثيًا وزمنيًا، عبر الفصول التي أعلن عنها قبل بداية الفصل الأول ـ التمهيد ـ" أحكي لكم سيرة ذلك المأساوي في ذلك الزمان البعيد" .
(6)
تفرض بيئة الصحراء نوعية الراوي الذي يروي فبيئة الصحراء تحتاج إلي سارد خاص له وضعية معينة فالصحراء كما يقول مصطفي الضبع " تتطلب ساردًا مضمرًا يقدم المكان أكثر من تقديمه لنفسه، يترك لها حرية حركة الظهور على حساب ذاته وأن يتيح لنفسه أن يكون صوت المكان، لذا فالغالب أن يكون السارد بضمير الغائب، ذلك الضمير الذي يجعلنا نري الصحراء من موقع يكشفها لنا"(4) . وبالإضافة إلي الاستعانة بضمير الغائب يتقمص الراوي سمات الراوي في السردية الشفاهية (السيرة الشعبية ) حيث الراوي ينتظم في نمطين " راو مفارق لمروية يتدخل دائماً فيما يروي، وأخر يروي متماهٍ بمروية، يترك للمروي أن يروي دونما تدخل مباشر فيه".(5) يتقمص الراوي في فساد الأمكنة منذ الاستهلال المبدئي للراوية سمات الراوي الشعبي حيث يدمج أكثر من وظيفة في بنية الحكاية ومن ذلك: " أسمعوا مني بتأمل يا أحبائي، فإني مضيفكم اليوم علي وليمة ملوكية، سأطعمكم فيها غذاءً جبليا لم يعهده سكان المدن، بينما نيكولا .. هذا العجوز الذي أعطته أمه اسم قديس قديم حين ولدته، أحرك لساني الضعيف، وأحكي لكم سيرة ذلك المأساوي في ذلك الزمان البعيد، في بلدة لم يعد يستطيع أن يتذكرها الآن. ذلك الذي كانت فاجعته في كثرة اندهاشه، وكان كل شيء يحدث أمام عينية جديداً يلقاه بحب الطفل، لدرجة أنه لم يتعلم أبدا من التجارب"(ص: 128) .
يستلهم – هنا – الراوي سمات الراوي الشعبي راوي السيرة الشعبية بدءًا من مفرداته (اسمعوا … أحبائي) حيث الراوي الشعبي – عادة – يكون محاطا بجمهور يستمع لحكيه لذا - دائما – يوجه لهم خطابه مباشرة في بداية الحكي ليشحذ أذهانهم فهو يستحضر من يحكي لهم المروي عليهم، بالإشارة إليهم بقوله (أسمعوا / أحكي لكم) وتحية هذا الجمهور/ المروي عليه بقوله: يا أحبائي … وضرورة الإنصات إليه (بتأمل) ثم تمجيد صاحب السيرة/ سيرة ذلك المأساوي.
ومن سمات الراوي المفارق لمروية، التدخل فيما يروي، وتدخله يأتي للانتصار لقيم أخلاقية ودينية، أو لتأكيدات خاصة بطبيعة (المروي)، فيؤكد الفعل من خلال تدخله بمؤكدات مثل "كذلك يفعل نيكولا كل يوم" (ص: 142) . ليؤكد تلازم الفعل لشخصية نيكولا، وهو أشبه بالعادة لديه. وقد يتماهى الراوي بمروية، حيث يقوم الراوي بتأصيل(6) مرويه في التاريخ والثقافة العربية/ الصحراوية، زيادة في إيهام المتلقي بالواقع .. فالسادر يقدم المروي بكل تفصيلاته، ويؤكد هذه المعرفة بطبيعة المروي فيستخدم جمل يبثها في السرد من شأنها كشف هذه المعرفة، ومن ذلك:-
"ولكن .. حتى الصقور نفسها تمتنع عن الطيران والشمس في كبده السماء"
" تموت أنثيات الإبل أحيانا من عنف الجماع" .
" المكان هنا حافل بمخلقات البشر " .
"لقد وقف نيكولا في جوف الدرهيب ملايين المرات على مدى السنين" (ص، ص: 124: 126) لاحظ المؤكدات (لكن تفيد الاستدراك، لإضافة شيء على السابق وأحيانا/ هنا/ مخلفات البشر). كل هذه المؤكدات تدل على مدى ثقافة الراوي ومعرفته بطبيعة المروي عنه. ومن ضمن وظائف الراوي في السيرة التي يستغلها الراوي- هنا – في (فساد الأمكنة) وظيفة الاستباق، حيث يقوم الراوي بالإعلان عن أحداث ستقع، ولم يكن سياق السرد قد منحها تحققا بعد، فيبدأ الراوي بنهاية المأساة، ليشحذ عقول المروي عليهم، فيتلقوا / المروي بشغف، ويقيم معهم حلقة اتصال بين المروي عليهم والراوي عن طريق التساؤل: كيف وقعت هذه النهاية ؟! المأساة التي أعلن عنها منذ البداية أنه سيحكيها "سيرة ذلك المأساوي" فإشارة الراوي.. للمأساة التي تحدث بـ (ذلك) اسم الإشارة عائد على (نيكولا) هو استباق للحدث الذي يحدث في الثلث الأخير من الرواية … ويأتي تفصيل المأساة في مشهد تال يقول: "فليس منهم من ضاجع ابنته في باحة هذا الجبل، على وسادة من صخوره، وأولدها طفلا، ثم سرقه منها وهي نائمة ليطعم منه الذئب والضبع، وليس منهم من قادة تلك الابنة في سراديب الجبل المظلمة ودهاليزه الحارة الباردة، ومضي يدفعها أمامه في مسيرة جنائزية حتى تنتهي السراديب المطروقة، وتبدأ السراديب المهجورة، تلك التي لم تطرقها قدم من مئات السينن فيتركها هناك بعد أن يغلق عليها كهفا .. وتصاب بانهيار صخري غادر .. لقد صرخت إيليا وهي تري الصخر ينطبق عل باب الكهف ويحبسها بداخله، وأخذت تهبش الصخور في محبسها بأظافرها الجذابة الملونة بينما صرختها تتسرب عبر السراديب، وتترد فيها حتى بعد أن امتلأ حلقها بتراب الانهيار وكفت عن هبش الصخور، وبدأت تهبش في عنقها (الجميل) بأظافرها الجملية قبل أن تسكن حركتها، كانت الصرخة ما تزال تترد .. فيسمعها نيكولا خلال هرولته المذعورة في السراديب، وكأنها تطارده لتمسك به وتعيده إلي إيليا وكأنما الألم المفعم باليأس والدهشة في تلك الصرخة المفجوعة تعاتبه وتدعوه للبقاء معها … كأنها تلوح له بعالم سحرهما كفيلان بخلقه في تلك الصخور الصماء يعيشاه معا .. جنباً إلي جنب كما كان دائما رجل وابنته، أو رجل وأمه .. أو رجل وامرأته المعشوقة والمفضلة (ص: 128).
قدم الراوي في هذا الجزء تلخيصًا لمأساة ذلك المأساوي المدعو نيكولا. دون خوض في تفاصيل يأتي بها الراوي إلحاقاً للسرد، حيث يقوم الراوي بتوزيع محاور هذه الوحدة الحكائية حسب وقوعها في الزمان أو حسب علاقتها بالشخصيات ثم ينظم تتابع الوقائع في كل محور بما يجعلها وقعا متوازيا وكأنها تحدث في زمن واحد(7). في بعض الأحيان يأتي الراوي متقمصا للراوي/ الشاهد العيان، حيث يكشف من خلال عين هذا الراوي تفصيلات خاصة. فهو يتبع ينكولا وابنته داخل السراديب المظلمة ودهاليزها، ليفصح عن أحداث موتها الأليم، فلولا تقمصه هذا الراوي/ الشاهد العيان، ما رأي هبشها للصخور بأظافرها الجميلة الجذابة إلي هبشها لعنقها الجميل حتى سكون حركتها .. لاحظ (في المقطع السابق التأكيدات). وعلي الرغم استعانه الراوي بضمير الغائب، الذي يحيل فعل الرؤية أو الإدراك إلي راوٍ مفارق لعالم شخصياته وأحداثه. إلا أن بعض الكلمات التي وضعنا تحتها خط مثل (أمامه – تنتهي – تبدأ – يتركها هناك .صخري يحسبها بداخله .. تتسرب عبر السراديب …) تذيب هذا الوهم. وتشير إلي أن ثمة تطابقًا (concurrence) أو تماثلا وتوحدا (identity ) بين العالمين(8) .. عالم الراوي المفارق لمروية .. والمروي عنهم (نيكولا .. وإيليا (ابنته)) كأن الراوي باستخدام هذا الضمير صار واحدا ثالثًا يلازمهما الحركة داخل السراديب. وهذا يجعل الراوي في بعض الأحيان يوازي بينه وبين شخصية ينكولا، فعندما يرصد لنا حادثة سرقة سبيكة الذهب، يري الراوي/ المتوازي مع شخصية نيكولا. أن هذه السرقة من جانب (إيسا ) جاءت لتأكيد "سلطانه على جباله الخاصة مقابل كسر سلطان هؤلاء الأغراب، ويُفْزَع زهوهم الطاووسى .." وهو ما يدفعه إلي أخذ السبيكة إلي جدّه لُيْشِهَده على فعلته، فالراوي يشير إلي فعل "إيسا" انه مرتبط بفعل الجماعة البدوية كلها "فكلما ألّم بهم أمر وأعياهم حملوا هموهم وأفعالهم إلي الجبل الشامخ في السماء.." (ص: 162)
وتمثل الراوي للراوي في السيرة، لا يقف عندما سبق أن ذكرنا، وإنما يتمثل أيضا في سرده للأحداث لا حسب ترتيب حدوثها، وإنما حسب أهميتها، فمشهد سرقة السبيكة الذهبية لأهميته يورده في الحدث مقدمًا ثم يأتي لتحليل الحدث في بؤرة أخرى. تتناسب مع وضعيه الأشخاص. فما يهمه هو رؤية (إيسا) للحدث المروي حيث لا يعتبره سرقةً بقدر ما يعتبره تأكيدًا لسلطانهم على الجبل وكنوزه . كما أنه لا يترك الحدث الجلل يمر دون تدخل منه من خلال طريق التأكيدات أو بث نصائح ومقولات أشبه بالأمثولات. ففي سرده عن أثر السرقة على الباشا خليل يقول:
"كان الباشا قد انشرح لعودة الذهب. لم يعد ما يجرى بعد يهمه في شيء إلا بالقدر الذي يحفظ مهابته وسلطانه أو يبعث في نفسه البهجة أو التسلية، ولعله بخبث أراد أن يستفيد من دفاع نيكولا الملحوظ عن إيسا ليترك ظلال الشك فترة تحوط "ماريو" باحتمال اشتراكه في تدبير الحادث .. وأن نيكولا ليعلم ذلك جيدا الآن بل أنه متأكد منه .. فبعد مرور تلك السنوات يمكن يكون متأكدا من أن الباشا لم يأمر عبثا بحبسه مع إيسا ومراقبتها معا" (ص: 173) . فعلي الرغم تمثل الراوي لضمير السارد الغائب إلا أننا نجد تماثلا بين الراوي والمروي عنهم .. لاحظ (لعلة بخبث .. الآن .. أنه متأكد).
ومن سمات الراوي أنه عندما يعرض للشخصيات بالوصف، يتدخل، بقدر ما يعطي هذا التدخل إنصافًا للشخصية أو التحامل عليها، فالإنصاف لكونها مظلومةً والتحامل لكونها ظالمةً، ووقفة الراوي أمام الشخصية المروي عنها، ينعكس على المتلقين/ المروي عليهم، فإما يتعاطفون مع الشخصية أو ينفرون منها(9). فعندما يعرض لنا طقس (فض بكارة إيليا)، تظهر هذه السمة السابقة حتى نتعاطف مع إيليا الصغرى، وفي نفس الوقت نحتقر (فعل الملك) الذي غرر بفتاة (بكر) فيقول: "دخلت إيليا عالم المحظورات دون توقع أو شغف، فلم يتح لروحها الطفلة أن تترقب أو تتوقع فحتى دنيا المراهقة التي يصفها زميلاتها الأكبر عمرا في المدرسة أخذت منها موقفا محايدا، فلم يشغفها يوما شيء قدر شغفها بإنتهاء المدرسة للقفز فوق زميلاتها وفوق المدرسة وفوق بيت العم أنطوان في (جاردن سيتي) للقفز فوق هذا جمعيه وعبر المدينة العاصمة كلها إلي الصحراء .. إلي الدرهيب حيث يقيم بابا نيكولا وحيث يُتَاح لجسدها الطفولي وروحها البرئية أن تتحرر وتنطلق كبنت أنثوية شديدة البقاء والنعومة على جسدها.. "
ومشهد فض البكارة "كانت مسحورة بالرحلة .. مسحورة بالصفوة من حاشية القصر المحيطة بها .. مسحورة برعاية الملك واهتمامه بها .. مسحورة بالخمر التي كرر الجميع رشف نخبها" (ص: 320). حاول الراوي استدرار عطف مستمعية/ المروي عليهم لإيليا حيث الفعل الذي فُعِلَ بها لا يتلاءم مع طبيعتها، حيث انجذبت بالسحر الذي هيّأه الملك لكي يغرر بها هو وأفراد حاشيته الذين ألبسوها منذ البدء ذلك الجو النفسي الخاص بملكة فعاشته ببراءتها .. وعليها الآن أن تدرك أنهم خدعوها به، ليساعدها الوهم "على تكريس جسدها الصغير لفعل لم يتهيأ له" (ص: 320). بهذا الروي / الحكي يُقِّدم الراوي اللوم للجميع، الذين غرروا بها .. ونفس اللوم يوجهه للمتلقي / المروي عليهم .. وفي نفس الوقت التحسر والألم ؛ لما آلت إليه الفتاة وهذا يشير إلي تماهي شخصية الراوي مع شخصياته المروي عنهم ويعلن تحسره علاينه لا خفية فيقول "واحسرتاه على تلك الفتاة الصغيرة – إيليا .. وحيدة هي في بحر الحياة الزاخر بالمنافع المتضاربة والشهوات الفاجعة والحوادث المضنية التي لا تكون في الحسبان .. "(ص 126). ويتماهي الراوي معها حزنًا عليها، فالكل غرر بها، وانتهزها حتى صارت ضحية لوغز ضمير أبيها – نيكولا – فيقتلها وابنها الرضيع/ ثمرة الفاجعة، ويكرر حسرته مرة ثانية بصيغة أخرى فيقول: "صغيرة على كل ما يواجها"(ص 344).
ونفس الحال يتكرر مع مأساة عبد ربه كريشاب. وعلى النقيض يفعل مع (إقبال هانم) فيقف عندها ليُنِّفر منها فيقول "كانت تصف لهم ما يحدث بطريقة ماجنة حافلة بالإثارة والتشويق، فكأنها تذيع عليهن مباراة هامة بين فريقين في الكورة.."(ص: 230). ومن السمات التي انعكست على الراوي هنا. أن الراوي الشعبي الذي يروي السيرة لجمهوره راوٍ شفاهي، يحكي بلسانه ويعبر عما يحكي من خلال نبرات صوتيه، تعلو وتنخفض تبعاً لحالة الحدث وأهميته، فتمثل الراوي هنا لهذه السمة، فعبر بالألفاظ عن حالة الشخص / المروي عنه. فعندما توجه تهمه السرقة لإيسا، ويقف صامتا دون أدني محاولة منه للدفاع عن نفسه، يسرد الراوي الحدث وأثره على نيكولا الذي يقف ولا بفعل شيئا، وهو الذي أنقذه من الموت سابقا. ويضع السارد جملة "عاجزا من أن يمد له يد العون" – بين شرطتي اعتراض، لتأخذ دلالةً بلاغية وليست نحوية (الحذف)، فقد أفادت هنا حالة الغضب الداخلي للراوي على نيكولا الذي يري صديقه مُتهمًا، وهو يعلم ببراءته دون محاولة للدفاع عنه، وبهذا يتخطي الراوي/ بصيغة الجملة الاعتراضية نيكولا إلي المروي عيلهم لاستمالتهم نحو (إيسا) والتعاطف معه، وفي ذات الوقت التحامل على صديقة الخسيس الذي هو ناكر للجميل، وفي إشارة خفية يقدم اللوم نيكولا، أو من خلال قوله "لقد ارتعش نيكولا بالغضب في لحظة – مغتاظا هائجا من صمته هذا الذي يتسربل" (ص: 174). فألفاظ "ارتعش – الغضب – مغتاظا – هائجا" توحي بالثورة الانفعالية البادية على الراوي الشفاهي وهنا في النص المكتوب أشارت إلي نفس دلالته، حيث في الشفاهي يتقمص الغضب والانفعال من خلال ملامح الوجه.
ذكرنا قبل أن الراوي لا يلتزم الحياد، وإنما يتدخل دائما – في السرد بالنقد واللوم للانتصار لقيم دينية وأخلاقية، ويتأتي ذلك من خلال أمرين:
الأول: تدبيح النص بحكم وأمثولات من شأنها إضفاء حكم قيمي.
الثاني: تقديم اللوم والانتقاد للشخصية إذا خالفت العرف السائد.
ومن النوع الأول: ما نراه في قوله " فالسؤال الممنوع هو عن الحياة والموت، وما الواجب الأساسي فهو العمل الذي لا مهرب منه، وما عدا ذلك فلا توجد أسئلة"(ص: 147) .
· "آلاف السنين قد مرت عليك من وقتها للآن، ولابد أنك قد تعلمت ما هو أخلاقي، وما هو غير أخلاقي."
(ص: 340)
· "أتريد أن تجاهد نفسك وأخذت تغريها بالشهوات حتى تغلبك إلا فقد جهلت، فالقلب شجرة تُسْقي بماء الطاعة .. فلا تكن كالعليل تتداوي لا يقول حتى أجد الشفاء، فيقال له لا تجد الشفاء حتى تتداوي بالجهاد، ليس معه حلاوة ما معه إلا رؤوس الأسنة فجاهد نفسك، وهذا هو الجهاد الأكبر.."(ص: 341) .
· "ولن يفيدك أبدأ أن تظل واقفا بين بين .. فاضبط نفسك .."(ص: 322).
· "المدينة زحام، والزحام فوضي وتنافس وهمجية .." (ص: 232).
· "تحتاج دروب الحياة في الصحراء إلي بصيرة صافية نفاذة لتجنب أخطارها"(ص: 402).
· "هكذا بدا له العقاب طبيعيًا .." .(ص: 180)
ومن النوع الثاني: ما نراه من محاكمة الراوي / لنيكولا على جريمته النكراء في حق ابنته، فالراوي الذي يتوازي مع شخصية نيكولا، تشعر وكأنه يخاطب شخصًا أمامه يحاكمه وفي هذه المحاكمة التى هي أشبه باللوم للشخصية انتصافًا لقيم دينية وخُلُقية في المجتمع فيقول له:
· "ألم يخامرك الشعور بالخطر في لحظة بينما يسطع فجأة على ساحة الميناء ذلك الضوء الباهر المنبعث من كشافات عربات الحبيب الست المحيطة بسيارة صاحب الجلالة.."(ص: 282) .
بذلك يلوم نيكولا؛ لأنه لم يستشعر بالخطر منذ سطوع الضوء من سيارات الملك ويتمادي في لومه وكأنه تهاون في شرفه مع أن الشعور بالخطر ازداد داخله و "مضي يدق بإلحاح وأنت تري أشباح الحرس الملكي بشاراتهم النحاسية وأسلحتهم الملتمعة تحت ضوء الكشافات وهم يطأون بأحذيتهم الثقيلة رمال الباحة … والعظمة التي صنعها الجند والأضواء في المكان فجأة، حول هبوط ذلك الرجل السمين المنصب ملكًا". الراوي هنا يلومه على التفريط في شرفه وهو الذي استشعر بالخطر وهنا يحاول أن يهرب بالانتحار تارةً،والتيبس مع الصخرة تارة ثانية، فالخطر الذي لاح له عند دق الخواجة أنطوان لباب كابينتك، ليطلب إيليا للملك لترافقه في رحلة الصيد، هو شعور زائف لأنك أخذت تصغي لحديث أنطوان عن الشرف الذي استحقه بصحبه ابنته للملك وقد وقع المحظور الذي لا راد له، وكان بك أن تُلغي هذا المحظور منذ لاح ضوء كشافات سيارة الملك وحاشيته. وجاء مناسبًا – هنا – للراوي الشعبي أن يستخدم ضمير المخاطب (الأنت) فالأنت كما وضعه المنظرون يُتيح لنا وصف الشخصية كما يتيح لنا وصف الكيفية التي تولّد اللغة، وهذا ما أكده سارتر وغيره مثل هيسرل، حتى أن ميشيل بوتور عدَّ (ضمير الأنت) أقدر الضمائر على "تمثل العالم والوعي وجعلهما يمثلان في الذهن معا وفي لحظة واحدة" (10) والرواي هنا يتمثل لهذا الضمير (الأنت) ليواجه به نيكولا وأفعاله في آن واحد، حتى يفوت عليه فرصة التملص والهروب من جرمه، فالإدانة ملصقة به . فهو يحاول بتبريره التحامل على نيكولا أمام جمهوره، فهو لا يدينه ويتحامل عليه كنوع من المبالغة في الروي، وإنما لأفعاله. كما ساعده هذا الضمير على المصادرة على الحدث منذ البداية.
وفي الختام:
قدم لنا صبري موسى نصًا يتواءم مع أيديولوجيا هذه الصحراء وأعرافها، التي استطاعت أن تجرد النفس البشرية من زيفها، فنيكولا الهارب بكل آثامه، من شرور المدن وفسادها، إلى هذا الجبل اعتقادًا بعدما أحل ذاته في هذا الجبل، أنه سوف ينشد الطهر والنقاء، إلا أن المدينة/ شرورها وآثامها تعقبته وأرقته (في صورة الملك وفساد حاشيته، وعهر إقبال هانم) وجعلته يحلم أحلامًا كابوسية، ليست أقل من أحلام أوديب عندما ضاجع أمه وفقأ عينه انتقامًا من آثامه، فانتصفت شريعة الصحراء وحملته الوز هو لا غيره بدءًا من أنه جاء ليفسد الصحراء البكر بألته، ويستحوذ على سبائك الذهب، وما أعقب هذا من طمع صديقه أنطوان، حتى جاء إيسا ابن الصحراء، ليثأر من هؤلاء المختاليين بزهوهم الطاووسي، ويهرب بثمرة ما نقبوا ؛ ليقدمها قربانًا لجدهم الأكبر والحارس لهم، والمحافظين على تقاليده، فلا يشعر بأثم جرمه الذي عاقبوه على فعله دون أن يتألم أو حتى يشعر بالخزي لما فعل، بعكس نيكولا الذي حاول أن يتملص من فعله بقتل حفيده، وقتله ابنته .هذا الشعور التي تلبسه هو شعور أحلته عليه الصحراء التي جاء ناشدًا الطهر والخلاص على رمالها، فأبدلته أخر غير ذاك الأوروبي الذي استحل فروج النساء وضاجع امرأته في أول لقاء بينهما.
هوامش:
· فقد صدرت طبعتها الأولى ضمن سلسلة الكتاب الذهبي في 1979.
(1) هى هنا المدينة وشرورها التي فرّ منها لائذًا بالصحراء، فطاردته ودنست طهر الصحراء.
(2) اعتمدنا هنا في هذه الدراسة على طبعة الأعمال الكاملة " الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1987" رواية: فساد الأمكنة ".
(3) صلاح صالح: دراسة "المكان الصحراوي في فساد الأمكنة" . مجلة فصول، القاهرة . الهيئة المصرية العامة للكتاب، صـ 305.
(4) وتتشابه هذه مع عادات النوبة والصعيد، فأهل النوبة يرفضون الغريب (مثل رفض زواج حسن المصري كما في رواية الشمندورة لمحمد خليل قاسم)، وإن كانت رواية "بين النهر والجبل" تزوجت سامحة من الغريب وهذا لأسباب عدة ذكرها السارد، وهذا ما ورد في مونولوج لعبدون والد سامحه "ما العمل إذن والنجع قد نضب من الرجال" والأيام تجري تأكل ما بقى من العمر والبنت تكبر"، راجع بين النهر والجبل، صـ 73 . أما في الصعيد، فيفضلون زواج الأقارب .
* ومن وسائل التحقير: البصق عليه: قلب القهوة عليه في المجلس، كرغبة لعدم وجوده في المكان.
(5) صلاح صالح: "دراسة المكان الصحراوي"، مرجع سابق، صـ 303.
(6) د. مصطفي الضبع: "استرايتجية المكان: دراسة في جماليا المكان في السرد العربي "، كتابات نقدية، ع(79) الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، أكتوبر، (1998)، ص 193.
(7) د. عبد الله إبراهيم: "السردية العربية: بحث في البنية السردية للمورث الحكائي العربي"، المركز الثقافي العربي، بيروت ط. أولي، يوليو 1992ص 142 .
(8) عبد الله إبراهيم: مرجع سابق، ص 143.
(9) عبد الله إبراهيم: مرجع سابق، ص 143.
(10) شحاته محمد عبد المجيد: " بلاغة الراوي: طرائق السرد في روايات محمد البساطى" كتابات نقدية ع (III)، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، أكتوبر 2000، ص 88.
(11) لاحظ التعاطف مع شخصية عنترة، والنفور من شخصية عمرو بن مالك في "سيرة عنترة" .
(12) ميشيل بوتور: " بحوث في الرواية الجديدة "، ت / فريد أنطونيوس "، دار عديدات بيروت، ط (3)، (1986)، ص 89.