يقوم الشاعر والتشكيلي الليبي بترحال وسفر حواري في عوالم "شاعرة" تحب الناس والأشياء. كما يحب هو أن يخط الأشياء ببصيرة اللون والمادة، ليتمم الشاعر بياضات التشكيلي. مع أن النص الشعري يحتفظ بشجنه الغامض حيث يسأل "امرأة" ما تتلبس القصيدة عن الحياة وتعبها، وعن التذكر الذي يجعل الكتابة أشبه بطقس العقاب.

بقيّةُ مقتولٍ بين الكنايات: فروغ فرخزاد..وبقعة الأمس

الكيلاني عون

منجمُ بساطةٍ والتباسات فخٍّ له عناقيد دم يوزعها ذاهلاً بالغيم السكران/كأنما الغيم سجين كفٍّ تستبدل المطرَ بعرقِ القبضة فتنمو أزهارٌ تتكلّم يحسبها الصيّادُ جنّاً لأنها تسكن ماءَ البحر ويراها ثانيةً بالغابة، وعندما يتضرّع للموجة، تكون علامةَ نصرٍ، كأنه ذاهب للقتال وكأنه سيعود للجنِّ يسأله: هل ما تزال الأرغفة تباع بنفس السعر؟ هل النوافذ لا تنطفئ كالقناديل المجروحة بالحب اليائس؟

كأن حزناً سيدخل الجنّة مليئاً بأطفال المدارس وشمس العاشرة صباحاً، كأن الهرّة تلج القلب وتهرش بنايات الرقص، كأني بها تضحك بغروبٍ لا يراها مسدلةً ستائرَ نومٍ يحرس بابَ الرجفة كصوفيٍّ لا شرقيّ ولا غربيّ لكنه جاهز للقتل/جاهز لوظيفة السائلين عن الله والأنبياء والشهداء، وجاهز للجنون العظيم، آخر المحرّضين على همهمة الوجد والعشق.

كأني بها ترتق فستان طفلتها/تأكل أصابعَ النهار والليل كنذيرٍ بالعاصفة فلا تركض الذئابُ الأخيرة ولكن اصطفاقة بابٍ بعيد ترنّ كذهبِ السكوت في مستعمرات الذهول وترجمات الحمّى.

ستخلط أصباغَ المارين بكناياتٍ تستدرج نباتَ القصيِّ علانيةً فيذهبون في قطار الحاجة مشمولين بالبكاء المرِّ ، تراهم فتأخذ الدمَ لفسحة الزفير وتتذكّر نشيدَ إنشادها : أمس الصورة قبل أن تصير الشوارع بعيدة ، فتغزل من رفات الحرقة ثوباً يلتفت لبقيّة مقتولٍ بين الكنايات وبين مواد الحلم :

تلك الأيام مثلما نباتات تفسخت في الشمس،

من أشعة الشمس تفسخت

وضاعت تلك الأزقة التي

كانت سكرى من عطر الأكاسيا،

ضاعت في شوارع اللاعودة المليئة بالصخب.

والبنت التي لونت خديها يوماً

بأوراق الشمعدان،

الآن امرأة وحيدة

الآن امرأة وحيدة

ليس بمقدورنا اختصار النص الشبيه بدمعةٍ تصير زقاقاً آخر الأمر، وليس هناك اقتراف للمجاراة الكسيرة، هناك دائماً تداعياتٌ لأمسياتٍ بحذافير براءتها ترتسم في الخطوات التالية نحو المستقبل الغامض بأسراره وطواحينه الملتبسة :

وجودي كلّه آية مظلمة

تكررك دائماً في نفسها

ستأخذك إلى سَحَر الدهشة

والعود الأبدي

أنا تأوهتك في هذه الآية: آه...

أنا، بهذه الآية، ربطتك بالشجر

والماء

والنار.

لعلّ الحياة شارع طويل تجتازه امرأة كل يوم بزنبيل

لعلّ الحياة حبل يعلّق به رجل نفسه من غصن.

لعلّ الحياة طفل يعود من المدرسة.

لعلّ الحياة

إشعال سيجارة في برهة ارتخاء متعانقين

أو مرور عابر سبيل دائخ

يرفع قبعة عن رأسه

قائلاً لعابر آخر بابتسامة فارغة:

صباح الخير.

لعلّ الحياة

تلك اللحظة المغلقة

التي تحطم نظرتي نفسها

في امتناع عينيك

وفي هذا الشعور الذي سأمزجه

بفهم القمر

وإدراك الظلام.

في غرفة بحجم عزلة

قلبي

الذي بحجم الحب

ينظر لأعذار السعادة البسيطة

لزوال جمال الزهور في المزهرية

للشتلة التي غرستها أنت في حديقة بيتنا

ولغناء الكناري

المغرد بحجم نافذة.

آه...

هذا نصيبي

هذا نصيبي

نصيبي سماء أخذت مني إسدال ستارتها

نصيبي نزول من سلّم مهجور

والوصول إلى شيء في التفسخ والغربة.

نصيبي نزهة ملوثة حزناً

في حديقة الذكريات

وفي حزن صوت محتضر

يقول لي: "أحب يديك".

أغرس يدي في الحديقة

أخضر ، أعرف ، أعرف ، أعرف

بأن السنونوات ستضع بيضها

وفي خُفَر أناملي المصبوغة بالحبر

أعلّق على أذنيّ قرطين

من كرزتين حمراوين توأمين،

وألصق على أظافري

أوراق زهرة داليا.

ثمة زقاق

صبيانه هناك كانوا مغرمين بي

ما زالوا بالشعر المشعث ذاته والأعناق النحيفة

والأرجل العجفاء يفكرون بابتسامات الفتاة البريئة

التي، في ليلة ما، أخذتها الريح معها.

ثمة زقاق سرقه قلبي

من حارات طفولتي

سفرُ حجم من خط الزمان

وبالحجم الذي لقح خطَّ الزمان الجاف

حجم من صورة عارفة

ترجع من ضيافة المرآة .

وعلى هذا النحو

أحدٌ ما يموت

أحدٌ ما يبقى

ليس هنالك صياد يصطاد اللؤلؤ

من جدول صغير

يصب في حفرة

أنا أعرف ملاكاً صغيراً حزيناً

مسكنه المحيط

وقلبه يعزف بهدوء... بهدوء

وفي ناي صغير.

ملاك صغير حزين.

يموت بسبب قبلة في الليل

ويولد، بقبلة، وقت السحر.

وعندما تهجع الأنسام فأوراق الأشجار تظل تتقدّم كأشخاص لتقرع الباب ، نسمع هسيساً لذيذاً، يوهمنا الطرقُ الخفيف بزائرين لهم رغبة السمر والتذكار، نفتح / أو تفتح الشاعرة الباب:

إذا ما جئت إلى بيتي

أيها العطوف

فهات مصباحاً ونافذة

لأرى ازدحام الزقاق السعيد

نهرع/تهرع لزاوية الفكرة حيث تجتمع النوافذ ويلوك العابرون وحدهم الأمكنةَ كالريح وتتداعى صورُ الأمس الصغير بأنامل برتقالية، الحوانيت وأصوات الباعة، المسحوقون والمكابرون، الأشقياء في الرغيف والدمعة، المنسيون كصخور نائية، المرئيون بشحوب أمتعتهم ، والذين صاموا طويلاً عن الضحك/ لم يتعلّموا سوى ثبوت الرحيل، يتوافدون جميعاً زجاجاً يجرح أقدامَ الروح الجوّالة بين سطور الأنفس:

قلبي منقبض

قلبي منقبض

أذهبُ إلى الإيوان

وبأناملي أمسح بشرة الليل المديد

مصابيح العلاقات مطفأة

مصابيح العلاقات مطفأة

لا أحد سَيُعِّرِفَني على الشمس

لا أحد سيأخذني إلى ضيافة العصافير

ضع الطيران في خاطرك

فالطائر ميت لا محالة.

هدوء مربك ومرتبك بضالته المستوحدة بموسيقا التمائم، شكٌّ إبلاغيٌّ يهندس ممرات الجملة الباكية أو المرتجفة كخفقة ندم، لكن الأشياء تعبر  الكائنات وتفاح السهرات الحالمة ، الجيران والجنازات وعربات الأقرباء، يمرّون خطفاً وأيضاً يتجمّدون في لوحة شعرية تعترف بأن الحزن أمير قاسٍ له جيوش من الجنِّ والعفاريت :

ملاك صغير حزين.

يموت بسبب قبلة في الليل.

ويولد، بقبلة، وقت السحر.

نارٌ تبتهل لغروبٍ يتوقّف عن الاستمرار بمنهجه القديم، ربّما تنضج الغواية العليمة فتنزل الصور من قطار الزمن الراحل/ ربّما تجلس امرأةٌ وحدها تخيط لطفلها منديلاً للمدرسة ، ربّما يهجم إفطارٌ فاخر على موائد الفقراء ، ربّما العصافير تشرب من عينٍ قصيّة ٍ فيندمل الجرحُ دفعةً باكيةً وتموت مضاهاة الرعدة .

"فروغ فرخزاد" شاعرة إيرانية أكثر حزناً ممّا يمكن، تنعس تماماً حيث بقعةُ الأمس لا تنمحي وتبدو منشغلةً بحبِّها المرير والغريب للناس والأشياء، عقابها الذكرى وهو عقاب الشعراء جميعاً.

سقفٌ يتهاطل، هرّةٌ تموء، بينما جارتنا الراحلة تركت نافذتها مشرعةً للهواء، أنظر إليها كلّ يومٍ  أتذكّر عيداً بكتْ فيه أنَّ أحداً لا يزورها: أخيراً ذهبتْ تبحث عن شارع جديد وآخرين ربّما لن يفهموا حزنها الغامض.

أبتكر لها قرابةً ما وفروغ القائلة:

عيني تنعكس على كل الأشياء

وتشربها كحليب طازج..

 

شاعر من ليبيا