الحبّ في الخطاب الشعريّ قبل الرّسالة وبعدها
إنّ المسلّمات والبديهيّات تستفزّ العقل. وتستحثّه على التفكير. وما أكثرها في الثقافة العربيّة! وما أشدّ سطوتها! ولذلك فإنّ غايتي من إثارة موضوع الحبّ في الثقافة العربيّة هي مناقشة بعض هذه المسلّمات النائمة فينا السّاكنة الرّائجة بيننا. وأنا أعني بالتحديد ما اتّصل منها بشعر الحبّ في الأدب العربيّ، أو ما اصطلح على تسميته في النقد البلاغيّ القديم والنقد القَداميّ الحديث بشعر الغزل. وتطرّقي إلى هذا الموضوع بابه هو ما يثيره هذا النوع من الشعر من أسئلة متّصلة بعلاقته بمنظومة الأخلاق من جهة وبالدين من جهة ثانية.
قبل الإسلام، كان حظّ شعر الحبّ ضعيفاً في الخطاب الشعريّ، إذ كان يعدّ عنصراً ضئيل القيمة متخفّيا بين أبيات القصائد المطوّلات لا يكاد يظهر. ولا يكاد يكون له دور سوى إعلان ضمنيّ من الشاعر عن الحرص على الالتزام ببنية للقصيدة تكاد تكون ثابتة، ثباتُها محلّ اتّفاق بين الشعراء منذ "قفا نبكِ" من ناحية، وبينهم وبين متلقّيهم من ناحية ثانية. وكان مضمونه لا يتجاوز تعداد بعض أوصاف المرأة الحبيبة على عجل. ويتوسّل أثناءه الشاعر منتجُ الخطاب بما تتيحه أساليب المجاز من تشبيه وكناية واستعارة أساساً من إمكانات للتصوير. قلت على عجل يقدّم الشاعر هذه الأوصاف لأنّه يكون مدفوعاً بالرّغبة في بلوغ المرحلة الملحميّة من القصيدة؛ مرحلة الفخر أو المدح. وهي الأهمّ عنده وعند متلقّيه.
وقد تداول التفكير النقديّ في الثقافة العربيّة قديماً وحديثاً محاولات لتفسير نشأة شعر الحبّ. فمن القدامى ابن قتيبة (213ﻫ 276ﻫ) الذي حاول تفسير هذه الظاهرة بما يمكن أن نسمّيه باصطلاح اليوم شروط نظريّة التلقّي (la théorie de la réception). فالشاعر قد كان مشغولاً بمتلقّيه المفترض، يفكّر في الاستجابة إلى أفق انتظاره من جهة، وفي شدّ انتباهه لتلقّي خطابه الشعريّ الجماليّ، من جهة أخرى.
قال متحدّثاً عن موضوع الحبّ أثناء حديثه عن بنية قصيدة المدح: «قال أبو محمد: وسمعت بعض أهل الأدب يذكر أنّ مقصّد القصيد إنّما ابتدأ فيها بذكر الديار والدّمن والآثار، فبكى وشكا، وخاطب الرّبع، واستوقف الرّفيق، ليجعل ذلك سبباً لذكر أهلها الظاعنين عنها (...) ثمّ وصل ذلك بالنسيب، فشكا شدّة الوجد وألم الفراق وفرط الصبابة والشوق، ليُميل نحوه القلوب، ويصرف إليه الوجوه، وليستدعي به الأسماع إليه، لأنّ التشبيب قريب من النفوس، لائط بالقلوب، لما قد جعل الله في تركيب العباد من محبّة الغزل، وإلف النساء (...) فإذا علم أنّه قد استوثق من الإصغاء إليه، والاستماع له، عقّب بإيجاب الحقوق، فرحل في شعره، وشكا النّصَب والسّهر، وسُرى الليل وحرّ الهجير، وإنضاء الرّاحلة والبعير. فإذا علم أنّه قد أوجب على صاحبه حقّ الرّجاء، وذِمامة التأميل، وقرّر عنده ما ناله من المكاره في المسير، بدأ في المديح، فبعثه على المكافأة، وهزّه للسّماح، وفضّله على الأشباه، وصغّر في قدره الجزيلَ»(1).
ومن المحْدثين بطرس البستاني الذي تحدّث عن دواعي نشأة شعر الحبّ تفسيراً حضاريّاً يغلب عليه الميل إلى التبسيط المدرسيّ التعليميّ. قال: "تطوّرت الحياة في الإسلام بتأثير القرآن واختلاط العرب بالشعوب الأعجميّة من روم وفرس. فرَقّت الأمزجة والأذواق. وقوي الإحساس في النفوس. ففرغ الشاعر إلى نفسه يتفحصّها ويتبيّن خفاياها. وأصبح يلذّ له أن يعبّر عمّا يحسّ فيها من عاطفة وهوى وحزن وسرور. فلم يبق الغزل موضوعاً تابعاً لغيره من الأغراض الشعريّة. بل صار فنّاً مستقلاًّ بنفسه له أتباع تخصّصوا به ووقفوا عليه شعرهم. ولم يبق مقصوراً على الوصف الماديّ بل أضيف إليه شيء جديد ينبعث من الرّوح وهو وصف العواطف والأهواء وما يتّصل بها من التأثّرات النفسيّة"(2).
غير أنّ رأي الناقدين القديمِ ابنِ قتيبة والحديثِ بطرس البستاني لا يلطّف من لهب السؤال عن سبب نشأة شعر الحبّ غرضًا منفصلاً عن القصيدة الكلاسيكيّة واكتفاءِ القصيدة به. فما الذي جعل شعر الحبّ يكبُر بعد الإسلام، إذن؟ لماذا نما هذا الشعر فتحوّل من عنصر صغير في ركن النسيب في القصيدة القديمة قبل الإسلام إلى غرض مستقلّ تكتب فيه القصائد بله الدواوين بعد الإسلام؟ جيل كامل من شعراء الحبّ ظهر وانتشرت أشعاره. وتداولها النّاس. وتنافسوا في الريادة. من أشهرهم جميل بن معمر، وكثيّر عزّة، وعمر بن أبي ربيعة، وقيس بن الملوّح (مجنون ليلى)، وديك الجنّ، ووضّاح اليمن.
في ظلّ سلطة الأعراف القبليّة، كان شعر الحبّ كامناً في القصيدة. ولم يكن ساكناً. وفي ظلّ السلطتين الدينيّة والسياسيّة بعد نشأة الإسلام، خرج الحبّ من حال الكمون إلى حال الإعلان عن نفسه بقوّة وكثافة صادمتين كما في أشعار عمر بن أبي ربيعة (23ﻫ - 93ﻫ)، مثلاً. فما تفسير هذا التحوّل في منزلة شعر الحبّ؟ هل الأخلاق والقيم العرفيّة أشدّ صرامة من الأخلاق والقيم الدينيّة؟ هل مكّن الدّين شعرَ الحبّ من فرصة الاستقلال بذاته غرضاً منفصلاً مكتفياً بذاته؟ ولماذا يفعل، إن فعل؟ هل نستكين للتفسير البسيط فنقول إنّ الغزل قد رغب في الثأر لنفسه من الفخر والمدح والرثاء والهجاء، تلك الأغراض التي كانت قائمة بذاتها في الشعر القديم قبل الإسلام، فقرّر أن ينفصل هو أيضاً بقصيدته؟ وهل نستمرّ في التبسيط فنقول إنّ الشعر، باعتباره أدباً يرصد ظواهر عصره، قد عاين ظاهرة الحبّ وقد تأجّجت عاطفةً بين النّاس بفضل العامل الدينيّ، فرصدها؟
يبدو من المفيد للدارس الوقوف على خصوصيّات الحياة العربيّة في الجزيرة خلال القرن الأوّل الهجريّ، وهو الإطار الذي فيه نشأ هذا الخطاب. فقد شهدت حياة العرب تحوّلات عاصفة ناتجة كلّها عن نشأة العامل الدينيّ، يمكن أن نختزلها في ثلاثة؛ تحوّل حضاريّ وتحوّل ثقافيّ وتحوّل مُعتقَديّ. يتمثّل الأوّل في انتقال العرب من حياة البادية وشظفها وأعرافها إلى حياة المدينة ورخائها وقوانينها وأنظمتها. والثاني بيانه في نشأة خطابات أخرى جماليّة وغير جماليّة في الثقافة العربيّة تنافس الشعر، الذي كان أوحد فيما بلغنا من ثقافة العرب قبل الإسلام، منزلتَه باعتباره السيّد السّائد، لاسيّما الخطاب الدينيّ بنصوصه التأسيسيّة الشرعيّة التشريعيّة والخطاب السياسيّ المندغم في الخطاب الدينيّ المتخفّي في تلاوينه. أمّا التحوّل الثالث فيعني ظهور عقيدة التوحيد بديلاً صارماً للوثنيّة والشرك. هنا، في هذا الإطار، نشأ شعر الحبّ في الثقافة العربيّة نشأته الوجوديّة الكبرى.
الحبّ ليس الغريزة
ليس الحبّ مجرّد استجابة من الكائن لإلحاح الغريزة فيه. إنّ الإلحاح حمحمة تنطفئ بمجرّد الاستجابة لها. فتتراجع الغريزة من سطح النفس إلى أغوارها لأنّها لا تميّز إنسانيّة الإنسان. إنّما تأتي لتذكّره بأصله الحيوانيّ الذي يعمل جاهداً على نفيه. فبِالغريزة يشترك مع بقيّة رفقائه من الكائنات ذوات الغريزة نفسها. إنّها تلحّ عليه كما تلحّ عليها. فتستجيب لها تماماً كما يستجيب. وحالَ انطفاء إلحاح الغريزة بالاستجابة يحدث الانفصال الفظيع. فيعود الكائن إلى عزلته من جديد وحيداً منتظِراً نَفاقه تحت الشمس لا شيء معه سوى خوفه ولا شيء يقيه من الإحساس بسطوة المصير سوى وعيه الفاجع بالزوال.
فالحبّ غير الغريزة. إنّ الغريزة حاجة بيولوجيّة في الكائن كالطعام والشراب والنوم والبراز. أمّا الحبّ فاختيار وانجذاب ووعي. وكلّها نشاطات ذهنيّة يمارسها الكائن المحبّ أثناء ممارسة الحبّ أو الإعداد له. إنّ الحبّ فعل إنسانيّ بامتياز ينشد الوصل والالتحام بالآخر والاحتماء به من سطوة المصير. ومتى وُوجِه مسعى المحبّ إلى الاحتماء بنظيره وحبيبه بالمنع بفعل سلطان تمارسه سلطة ما، تكلّم الشاعر. وأدان هذا المنع وتلك السلطة التي تبرّره وتشرّع له.
الوجود والعدم
العدم يترصّد الوجود البشريّ. ولذلك فإنّ أشدّ ما يضني الإنسان هو وعيه الفاجع بالزوال. وما يضنيه أكثر هو عجزه عن تمثّل حتميّة هذا الزوال. لاسيّما أنّ حكم الزوال القاهر يقضي على الكائن بعزلة أبديّة في الصقيع تحت اللحود المبلّطة بحكمة الأحياء وعنايتهم. إنّ عون العدم هو الموت. والحبّ هو خادم الوجود. فالموت يبلي الكائنات. ويقضي بإنهاء رحلتها الوجوديّة. فيغيّب أجسامها. لذلك يلجأ الكائن إلى حبيبه صنوهِ الذي يلتحم معه ويحتمي به من الموت. فإن كان الموت قادراً على تغييب الجسم، فإنّ الحبّ قادر على حفظ الاسم في الوجود وإن ألحق الجسم بالعدم. معنى هذا أنّ الحبّ فعل وجود يضمن للكائن النّسل والدّفء واستمرار الذِّكر. فبِه يتّقي الكائن العزلة. ويتحدّى سطوة العدم. ويلاعب الموت.
فالحبّ من الآليّات التي وظّفها الكائن لتلطيف وطأة هذا الوعي الفاجع. فعَدَّ الشعرُ الحبَّ شيئاً غير مائت خلافاً للكائن الذي يمارسه. غير أنّ الطريف هو أنّ الكائنات المحبّة الميّتة لن تكون، بفعل الحبّ، وحيدة في قبورها. وإنّما ستحصل من الحبّ على الزيارة والرّفقة والأنس. نقرأ:
تعلّق روحي روحَها قبل خلقنا * * * ومِن بعدِ ما كنّا نِطافًا وفي المهدِ
فزادَ كما زدنا فأصبح ناميا * * * وليس إذا مُتنا بمنتقَضِ العهدِ
ولكنّه باقٍ على كلّ حالةٍ * * * وزائرنا في ظلمة القبر واللّحد(5)
إنّ شاعر الحبّ الذي عاش في القرن الهجريّ الأوّل، قرن الرّسالة والدّعوة الإسلاميّتين، مطّلع على أطروحات الخطاب الدينيّ التي حاولت الإجابة عن سؤال المصير بعد الحياة. وهو ما تدلّ عليه فكرة تعالق الأرواح في السماء قبل الخلق. والشاعر يؤكّد تواصل ذلك التعالق على الأرض بعد الخلق. وهذه فكرة مثاليّة قديمة معروفة. والشاعر المحبّ يردّد هذه الفكرة أملاً في تمثّل فعل الصبابة فيه، من جهة، فما يعتمل بين جوانحه أمر عظيم يحتاج إلى تفسير من حجمه، ويردّدها باعتبارها فعلاً مقاوماً لحدث المنع والتحريم الذي يلقاه الحبّ في الحضارة الإسلاميّة الناشئة في البادية وفي المدينة على السواء، من جهة ثانية. وكون ذلك فعلاً مقاوماً يعني أنّ الشاعر يعتقد بأنّ الحبّ أكبر من المنع لأنّ المنع وقفٌ على الحياة الدنيا. أمّا الحبّ فسيغمر الحبيبين بعد الحياة كما كان يغمرهما قبلها، وإن لم يجمعهما أثناءها.
كما كان الشاعر يعرف أنّ الخطاب الدينيّ التوحيديّ في الثقافة العربيّة يفصل بين حياتين فصْلَه الكائنَ نصفين؛ روحاً وجسداً. فيصف واحدة بأنّها عاجلة زائلة فيها يفنى الجسد، والثانية يراها آجلة غير أنّها دائمة فيها تخلّد الرواح بعد أن تغادر درن أجسادها. لكنّ اطّلاع الشاعر على هذه الأطروحة الدينيّة وإعلانه المتكرّر الإيمان بها(6)، لم يمنعه من خرقها. وهذا الخرق هو فقط ما يفسّر دعوة الشاعر ربّه أن يجعل حبيبته جارته في المقبرة. يقول جميل:
وجاوِرْ إذا ما متُّ بيني وبينَها * * * فيا حبّذا موتي إذا جاورت قبري(7)
ساعتها يطيب للكائن الشاعر المحبّ موتُه. ويتصالح معه. ويهدأ فزعه الشديد منه. أ لأنّه يعتقد باتّصال الأجساد في القبور أم لاعتقاده أنّ الأرواح تلازم أجسادها ولا تغادرها؟ أ لأنّه يرى الموت يميت الجسد في حين يظلّ الإحساس متيقّظا أم يرى أنّ الميّت فقط يغيّر مقرّ الإقامة ويحافظ على عاداته جميعها؟ ولكنّي أعتقد أنّ منع الحبّ وتحريمه يعسّران على المحبّ الانسجام مع أطروحات الخطاب الدينيّ القائمة أساساً على الوعد والتوعّد. فالشاعر المحبّ ما لم تنطفئ فيه الحمحمة ما ركن إلى برد الوعد ولا تردّد أمام عصا الوعيد.
هذا بالضبط ما تفعله هذه الصورة التمثيليّة القويّة لجميل بن معمر (40ﻫ - 82ﻫ) التي استلهم فيها مناخ الرعاة وبيئاتهم. فقد شبّه الشاعر شدّة شوقه لبثينة حبيبتِه، وهي في متناول يديه ويُمنع منها، بحاجة النوق العطاش الشديدة للماء وهي تراه وتحوم حوله، لكنّها تُمنع منه بفعل تلويح الرّعاة بالعصيّ. وقد وضعت الصورة الشعريّة مَن منع الحبّ في مرتبة العدوّ.
وما صادياتٌ حمْنَ يوما وليلة * * * على الماء يخشَيْن العِصيَّ حَوَانِ
لَواغِبُ لا يصْدُرْن عنه لوجهةٍ، * * * ولا هنّ من برد الحياض دَوَانِ
يريْنَ حَبابَ الماء والموتُ دونه، * * * فهنّ لأصوات السُّقَاة رَوَانِ
بأكثرَ مِنِّي غُلَّةً وصَبابَةً * * * إليكِ، ولكنّ العدوَّ عَدَانِي(3)
المعنى نفسه عبّرت عنه صورة لقيس بن الملوّح (ﺗ 68هـ). فقد وقف حرّاس الأعراف في القبيلة مانعاً أمام الحبّ. فكان الحلّ في استلهام ألعاب الطفولة في رسم هذه الصورة العجيبة، إذ يهيّئ المحبّ نفسه لتخيّل قدوم خيالها إليه. وإعداداً لعمليّة الاستحضار المتخيّلة للحبيبة يمارس طقوساً لا تخلو من طرافة، تتمثّل في أنّ المحبّ يغطّي رأسه حتى تظلم أمام ناظريه دون أن تكون به رغبة في النّوم. وهذا يعني أنّه يفعل ذلك نهاراً، فالليل مظلم. ثمّ ينتظر ويتهيّأ لعبور خيالها مخيّلته. يقول:
وإنّي لأستغشي وما بي نعسة * * * لعلّ خيالا منها يلقى خياليا(4)
إنّ عمليّة الاستغشاء هذه تمثّل نوعاً من المقاومة الرمزيّة لسطوة تسلّط الأخلاق القبليّة. فالشاعر المحبّ متى لم يقدر على مواجهة الأعراف والسلط والممنوعات بفعل سطوتها وغلبتها، عمل على مقاومتها رمزيّا. وهو حال قيس بن الملوّح وجميل بن معمر، كما تثبت ممارستهما الشعريّة.
الحبّ والعبادات
حرص الخطاب الدينيّ بمختلف مؤسّساته على أن يكون شاملاً مختلف أوجه الحياة. فالنصّ الإسلاميّ المؤسّس يجمع إلى تنظيم العبادات تنظيمَ المجتمع. ولذلك يُعَدّ النصُّ التشريعيّ الأساسيّ الذي منه تُستقى الأحكام والقوانين والتشريعات. ففي الجانب العقائديّ عمل النصّ على ضبط أحكام الصلاة والحجّ والجهاد. ومن الشروط اللازمة لأداء فريضتي الصلاة والحجّ الخشوع وغضّ البصر. لكنّ حمحمة الحبّ تعلن عصيانها للحدود والضوابط والتقنين: قال جميل:
أصلّي فأبكي في الصلاة لذكرها * * * لي الويل ممّا يكتب الملكان(8)
ثمّة جدل يعتمل في أعماق المحبّ. وهذا ما يدلّ عليه إقراره بالويل مآلا لأنّه عوض أن يذكر الخالق امتلأت ذاكرته بإحدى مخلوقاته. إنّ وعي الشاعر المحبّ متيقّظ آن الكتابة. وهو يضنيه لخرقه شرط الخشوع في الصلاة. لكنّ وعيه بمقرّرات الدين لم يطفئ صوت الحمحمة فيه.
هذا الوعي لم يغب في موقف الشاعر المحبّ من فكرة الجهاد. وهو مفهوم اشتقّته المؤسّسة الفقهيّة لتسمية حروب المسلمين وغزواتهم داخل أوطانهم ثمّ خارجها منذ الخلافة العُمَرِيّة. والجهاد واجب على كلّ مسلم كما تقرّر المؤسّسة. وبما أنّ الموت فيه نسبة فوزه عالية، فإنّ الجهاد مصحوب بهالة من التقديس كبيرة في الخطاب الفقهيّ. وقد تواترت في كلّ فروع الخطاب الدينيّ أنواع مختلفة من الوعود والإغراءات لمن يقضي أثناءه. فالشهيد موعود بأنهار اللذّة والغبطة والمتعة متى مات، وموعود بالغنائم والسبايا والثروات متع سلِم وعاد. وكتب التفسير الإسلاميّة تسرف في هذا.
لكنّ الشاعر المحبّ لم تغره الوعود المؤجِّلة للغبطة. وفضّل عليها، تحت إلحاح الحمحمة، اللذة العاجلة الحاصلة بحبّ النساء. وقد كان موقفه واضحا صريحا لا بلاغة فيه. ولا يحتاج إلى تفكيك ولا إلى تأويل. وهو يعتبر الموت في الحبّ استشهاداً تماماً كما تعتبر المؤسّسة الفقهيّة الموت في الجهاد. يقول جميل:
يقولون: جاهدْ يا جميل بغزوة * * * وأيّ جهاد غيرهنّ أريدُ؟
لكلّ حديث بينهنّ بشاشة * * * وكلّ قتيل عندهنّ شهيد(9)
وخطاب جميل ردٌّ على طلب، كما هو واضح في النصّ. وهو ردُّ محاجِجٍ يدافع عن موقفه من أطروحات الخطاب الدينيّ بتنويع الحجج والأساليب من الاستنكار إلى الإقرار. ولا يخفي، في النهاية، رفضه للجهاد العسكريّ المغلّف بعباءة الدّين والسياسة لأنّه يرى كفايته في جهاد الحبّ.
الموقف نفسه، تقريباً، نجده عند عمر بن أبي ربيعة. لكنّ الخطاب أجرأ. فعمر لا يعبّر عن موقفه من أطروحات الخطاب الدينيّ في نصّه. وإنّما يُفعّل هذا الموقف مغامرة. بمعنى آخر هو لا يقول إنّي أرفض موقفا ما أو لا أتّفق معه. وإنّما يتّجه إلى الممنوع فيُحلّه لنفسه، وإلى المحظور فيبيحه. ويعبّر عن كلّ ذلك في نصوصه. فبعض مغامراته وقعت في الكعبة زمن الطواف. وهو لم يولّ أنظاره شطر الخالق بل إلى مؤخّرات النّساء منتِجا خطابا وصفيّا إيروتيكيّا آن الجميع خاشعون. والطريف أنّ المرأة في مغامرات عمر لم تعد محبوبة. وإنّما صارت مُحِبّة راغبةً مشاركةً في مغامرة الحبّ مستزيدةً حاثّةً المحبَّ على الاستمرار في التحدّي منبّهةً إيّاه إلى المخاطر ليتجنّبها ويمضي قدما في إغرائها وإغوائها وتحرير صوت الحمحمة الكامن في أعماقها. نقرأ:
يا مَن لقلب متيّم كلفٍ * * * يهذي بخوْدٍ مريضة النظرِ
تمشي الهوينا إذا مشت فُضُلاً * * * وهي كمثل العسلوج في الشجر
أبصرتُها ليلةً ونسوتَها * * * يمشين بين المقام والحجر
بيضا حسانا خرائدا قطفاً * * * يمشين هونا كمشية البقر
قالت لترب لها تحدّثها * * * لنفسدنّ الطواف في عمر
قومي تصدّيْ له ليعرفنا * * * ثمّ اغمزيه يا أختُ في خفر
قالت لها : قد غمزته فأبى * * * ثمّ اسبطرّت تسعى على أثري(10)
الحبّ وغواية حرّاس المدينة
في الأدبيّات العربيّة ما يثبت أنّ حرّاس المدينة العربيّة الإسلاميّة الناشئة بحذر كانوا مواكبين نشأة شعر الحبّ. فحكّام بني أميّة، وبينهم رجال الدين وبهدي منهم، باركوا شعر الحبّ. وواكبوا عمليّة استقلاله بذاته وبقصيدته. فهؤلاء الحكّام، الذين ورثوا السلطتين السياسيّة والدينيّة عن منشئ الرسالة الإسلاميّة وخلفائه، كانوا يجمعون في بلاطاتهم المليئة برجال الدّين شعراءَ الحبّ لينشئوا بينهم المناظرات. وكانوا يكافئونهم بسخاء. ولم يكن الشاعر في هذا المقام يتردّد في تسمية المرأة التي يحبّها باسمها دون تكنية في حضرة الخليفة. وقد كان ذكرُ جميل اسمَ بثينة في شعره سبباً في تحالف السلطتين العرفيّة القبليّة والسياسيّة المدينيّة عليه(11). وكانتا وراء محنة المنفى والتغريب التي عاشها. وعن تحفيز السلطة السياسيّة شعرَ الحبّ، نقرأ هذا الخبر: "واجتمع جميل وكثيّر وعمر بن أبي ربيعة بباب عبد الملك بن مروان. فأذن لهم فدخلوا. فقال أنشدوني أرقّ ما قلتم في الغواني. فأنشده جميل (...) وأنشد كثير (...) وأنشد ابن أبي ربيعة المخزوميّ القرشيّ:
فيا ليت أنّي حيث تدنو مَنِيّتي * * * شممت الذي ما بين عينيكِ والفمِ
وليت طَهوري كان ريقَكِ كلَّه * * * وليت حَنُوطي من مُشَاشك والدّمِ
وليت سُليمى في الممات ضجيعتي * * * هنالكَ أم في جنّة أم في جهنّمِ
فقال عبد الملك لحاجبه: أعط كلّ واحد منهم ألفين. وأعط صاحب جهنّم عشرة آلاف"(12)
هذا النصّ دليل على مقاومة الحبّ للموت في سيل من الأماني المزلزلة لأركان الخطاب الدينيّ. فقدوم المنيّة لم يلغ رغبة المحبّ في الحبّ. والصورة مذهلة. فالشاعر في الأمنية الأولى يتمنّى أن يتطهّر بريق سليمى لا بالماء. وهو بتمنّيه يعصف بمقولات الطهارة كلّها رغم إلحاح الخطاب الدينيّ وبيانه. فكأنّه يتمنّى التقدّس بالمدنّس أو التطهّر بالإثم. ثمّ في الأمنية الثانية يطلب أن يكون كفنه مقدوداً من دم سليمى وعظامها. فإن كان العظم أبيض لا يختلف لونه عن لون الكفن فإنّ الدم أحمر لا يستجيب لبياض الطهارة. بل ينسف مفهومها أصلاً مع ما في الدم من دلالات على المقدّس والمدنّس معاً. والأمنية الأخيرة غريبة صادمة. فقد تمنّى أن تلازمه المُحِبّة في الموت كما لازمته في الحياة. غير أنّه سمّى رفقتها في الموت مضاجعة. والمضاجعة هي النقطة الأخيرة في كأس الحبّ.
هكذا حوّل شعر الحبّ الموت لذّة موعودة. وساعد الحبّ الكائن على تمثّل موته وألفته. لكنّ اللافت حقّا هو المعنى الذي ورد في ختام النصّ. فقد سوّى الحبّ بين الجنّة وجهنّم في المحبّ. لا فرق بينهما ما دام الحبّ. وما يثير الحيرة والاستغراب هو أنّ مساواة الحبّ بين الجنّة والنّار هي التي جلبت للشاعر تقدير السلطة السياسيّة المستخلَفة على دين النّاس ودنياهم. فبالغت في إكرام صاحبها بخمسة أضعاف. فهل في ذلك دلالة على أنّها سلطة تبطن غير ما تظهر أم على أنّ للحبّ غواية لا يقي من الوقوع في حبائلها تاج ولا عرش ولا وعد ولا وعيد؟
كاتب من تونس
Mustapha.kalii@yahoo.fr
الإحالات
(1) انظر: ابن قتيبة: الشعر والشعراء، تحقيق وشرح: أحمد محمد شاكر، الجزء الأوّل، دار الحديث، القاهرة، 2006، ص75 76.
(2) بطرس البستاني: أدباء العرب في الجاهليّة وصدر الإسلام، دار المكشوف ودار الثقافة، بيروت، 1968، ص283.
(3) جميل بن معمر: الديوان، دار صادر، بيروت، 1966، ص129.
(4) قيس بن الملوّح: الديوان، دار صادر، بيروت، د. ت، ص55.
(5) جميل بن معمر: الديوان، نفسه، ص42.
(6) عمر بن أبي ربيعة، مثلا، يُقسم بالبيت الحرام. يقول:
فأنتِ وبيتِ الله همّي ومنيتي * * * وكِبرُ مُنانا من فصيحٍ وأعجمِ
(ديوان عمر بن أبي ربيعة، شرحه: ضابط الحربيّة محمد العناني، مطبعة السعادة لمحمد أفندي إسماعيل، القاهرة، 1330 هجريّة، ص473).
(7) جميل بن معمر:الديوان، نفسه، ص 58.
(8) فسه، ص 129.
(9) نفسه، ص 39.
(10) عمر بن أبي ربيعة: الديوان، طبعة دار الجيل، بيروت، 1982، ص 270.
(11) نقرأ في الأغاني هذا الخبر عن محنة جميل: "خطب جميل بثينة إلى أهلها، وقد شاع غزله فيها، فرُدَّ خائبا، إذ كان من عادة العرب ألاّ يزوّجوا بناتهم من رجال تغزّلوا بهنّ. ولمّا تزوّجت بثينة من رجل آخر ظلّ جميل يلاحقها لا يردعه رادع حتى شكاه أهلها إلى الوالي مروان بن الحكم، فأحلّ قتله، فاضطرّ إلى الرحيل إلى مصر. وهناك قضى نحبه".
(12) ديوان عمر بن أبي ربيعة، شرحه: ضابط الحربيّة محمد العناني، مطبعة السعادة لمحمد أفندي إسماعيل، القاهرة، 1330 هجريّة، ص471- 472.