ليس هناك أدب أصيل في مجتمع يعاني بالخصوص من التخلف والاستعمار، ويجاهد من أجل تعرية الانتكاس والمرتدين، على مختلف المستويات محلياً وقومياً، إلا وهو أدب نضالي ثوري(1). فقد شكلت الرواية الجزائرية منعرجاً يحمل طابع المرحلة بإفرازاتها الاجتماعية والسياسية كتوجه انتقل من صيغة مباشرة في تسجيل الأحداث البطولية وفضح أساليب وجرائم العدو حيناً، والرمز لإعطاء الظاهرة بعدها الوطني والإنساني أحياناً أخرى، إلى توجه خضع للوعي الاجتماعي والخط السياسي. إذ تمسك هذا الجيل الذي نحسبه امتداداً لجيل التأسيس خاصة من واكب المرحلتين ونهج الخط الاشتراكي سياسياً واجتماعياً، وسحر الخطاب الإبداعي القصصي لتوضيح معالم رؤية وليدة معايشة لشرائح الطبقات الاجتماعية بعاداتها وتقاليدها ونمط معاشها، وسلطة حاكمة رفعت شعار المساواة وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية والأرض لمن يخدمها ومجانية العلاج. مفاهيم تعامل معها القاص الجزائري برؤية سجلت ملامح النظرة الواقعية للأحداث والظواهر، وعند بعضهم الموقف الانتقادي من تلك الممارسات وأنماط التسيير في جهاز الإدارة والسلطة وبذهنياتها المعرقلة لطموح الجماهير(2). فكان نضال الرواية الجزائرية على ثلاث مستويات، أو جبهات بلغت الصراع السياسي والعسكري في عصر التكتلات.
الجبهة الأولى
يتمثل فيها وجه الصراع مع الاستعمار وأذنابه من عملاء وخونة على المستوى الوطني إبّان الثورة، وهو الأهم والأكثر ثراءً حتى الآن.
الجبهة الثانية
نضال اتجاه الانتكاسيين والانتهازيين على المستوى المحلي، الذين قد يعظم نشاطهم بعد تحرير كل وطن عادة، فينشطرون للتسلل بين الوطنيين والمناضلين من أجل التمكين من فهم مستوردة تجهض الجماهير وطموحاتها.
الجبهة الثالثة
هو النضال في خضم القضايا العربية المشتركة بين أثرياء أمتنا العربية الواحدة تجاه التحرش الإمبريالي بمختلف أشكاله وألوانه وأقنعته، والذي يتلخص بالخصوص في حريته السوداء في جسم الأمة العربية (اسرائيل) التي صنعها الغرب وتعهدها بالرعاية، فنمت وترعرعت في ظل موت الضمير العربي(3).
إن هذه الجبهات، حتى وإن لم تكن لها قيمة مفيدة من حيث المضامين، تتجلى قيمتها الكبرى في كونها أعطت مبرراً لوجود الشكل الروائي في الجزائر، وسرعت في ظهور المدرسة الجزائرية في الخمسينات فما فوق مع محمد ديب وكاتب ياسين ومالك حداد وآسيا جبور، وغيرهم، هؤلاء أخذوا كل ذلك التراث وأصبغوا عليه مضامين جديدة، مضامين ثورية تحريرية. لقد جاءت كتابات هؤلاء الأدباء حاملة بين طياتها نبض آلام الشعب الجزائري، فكانوا شهوداً على إثم الاستعمار وإجرامه وموته في النهاية، وليس سراً إذن أن يكون محمد ديب عرافاً صادق النبوة في أعماله الروائية عموماً، والثلاثية خصوصاً، التي تنبأت بالثورة في سنة 1952 مع صدور رواية "الدار الكبيرة" التي تلتها "الحريق" و"النول" وبذلك ولدت الياذة الجزائر، أو كما يسميها الشاعر الفرنسي لويس أراغو مذكرات الشعب الجزائري، فاستحق محمد ديب اسم بلزاك الجزائر عن جدارة(4).
أما في فترة السبعينات، فقد شهدت الجزائر عدة أحداث وتطورات في المجال السياسي، الاجتماعي، الاقتصادي والثقافي كان له الأثر البالغ في ميلاد الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة العربية، بالرغم من وجود بذور لها ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية "يمكن أن نلحظ فيها بدايات ساذجة للرواية العربية الجزائرية سواء في موضوعاتها أو في أسلوبها وبنائها الفني، فهناك قصة مطولة بعض الشيء كتبها أحمد رضا حوحو سماها "غادة أم القرى" (1947) ثم تلتها قصة كتبها عبد المجيد الشافعي أطلق عليها عنوان "الطالب المكنوب" (1951) فهي ساذجة المضمون مثل طريقة التعبير فيها"(5).
وتعد رواية "ريح الجنوب" لعبد الحميد بن هدوقة والتي أنجزها في 5 نوفمبر 1980 باكورة الروايات الجزائرية، نظراً لأنها أول نص قصصي جزائري يخضع لمقومات الجنس الروائي(6)، فهي بداية فعلية ناضجة بلسان الأمة العربية. وجاءت بعدها رواية "ما لا تذروه الرياح" لمحمد عرعار(7). لتأتي بعدها رواية "اللاز" لطاهر وطار، والتي تعد انجازاً فنياً جريئاً ضخماً، يطرح فيها بكل واقعية قضية الثورة الوطنية بعيداً عن الشعارات التي تحتمي ورائها المواهب الهزيلة. بالإضافة إلى "حرائق البحر" لعمار بلحسين، وغيرها من الروايات. فقد شهدت هذه الفترة وحدها ما لم تشهده الفترات السابقة من تاريخ الجزائر على الإطلاق، فبالرغم من تناولها لموضوع واحد (الثورة) إلا أنها تمكنت من شغل مكان مرموق في المجال الفني، وأصبحت بذلك الجنس الأدبي أكثر مصداقية وأكثر تعبيراً عن الواقع السياسي والثقافي والاجتماعي(8).
وهذا تعداد بسيط لبعض الكتابات التي ظهرت في هذه الفترة، والتي تبرز بشكل واضح هذه الحقيقة:
- "اللاز"، "الحوت والقصر"، "عرس بغل"، "العشق والموت في الزمن الحراشي" للطاهر وطار.
- "نار ونور"، "دماء ودموع"، "الخنازير" لعبد الملك مرتاض.
- "قبل الزلزال" لعلاوة بوجادي.
- "ريح الجنوب"، "نهاية الأمس"، "بان الصبح" لعبد الحميد بن هدوقة.
- "طيور في الظهيرة" لمرزاق بقطاش.
وغيرها من الروايات التي عكست الواقع المعاش لهذه الفترة التاريخية.
أما المرحلة التالية فكان لها وقع في القلوب والعقول يعادل وقع الثورة التحريرية إن لم نقل يفقها، فقد دفعت هذه الفترة السوداء بالقاص الجزائري والعربي على حد سواء إلى تدوين المشاهد الدموية، التي ارتكبها هذا المجرم. فالإرهاب ليس حدثاً في حياة المجتمع، فهو لا يقاس بالمدة التي يستغرقها ولا بعدد الجرائم التي يقترفها، بل بفظاعتها ودرجة وحشيتها.
فإذا نظرنا إلى "الإرهاب في الجزائر فإن خطورته تقاس بتلك المقاييس جميعاً إذ استغرق مدة قصيرة، وارتكب جرائم كبيرة، وارتكبها بفظاعة بلغت أقصى ما بلغته الهمجية"(9).
هذا ما دفع بالروائيين أمثال الطاهر وطار، رشيد بوجدرة، واسيني الأعرج، ياسمينة صالح وغيرهم الكثير لتسجيل تلك الأحداث ونقلها للقارئ. وخلاصة لهذا فإن الرواية الجزائرية بعد الاستقلال وحتى اليوم، ورغم تنوع نماذجها وكثرة كتابها بالقياس إلى الماضي إلا أنها بحاجة إلى خطوة جديدة نحو النضج في شكلها وعمق في تحليل ظروفها المعاشة المليئة بالصراع وبالتفاؤل في آن واحد.
الهوامش
1- ينظر: عمر قنية، دراسات في القصة الجزائرية -القصيرة والطويلة -، المؤسسة الوطنية للكتاب، د. ط، لا تا، ص 15.
2- ينظر: حاج محجوب عرايبي، دراسات القصة الجزائرية المعاصرة، منشورات الإبداع، الجزائر، ط1، 1993، ص 59.
3- ينظر: عمر قنية، دراسات في القصة الجزائرية، ص 16.
4- واسيني الأعرج، اتجاهات الرواية العربية في الجزائر، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1986، ص 70.
5- عبد الله الركيبي، تطور النثر الجزائري الحديث، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1983، ص 92.
6- ينظر:.فوزي الزملي، شعرية الرواية العربية، ص 150.
7- ينظر: حاج محجوب عرايبي، دراسات في القصة الجزائرية المعاصرة، ص 59.
8- ينظر: حاج محجوب عرايبي، دراسات في القصة الجزائرية المعاصرة، ص.59.
9- مخلوف عامر، الرواية والتحولات في الجزائر، دراسات نقدية في مضمون الرواية المكتوبة بالعربية، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2000، ص 92.