ها هو الشعب يثبت أنه دائما في الطليعة، يجترح ما كان الكثيرون يظنون أنه من المستحيلات، أسقط بن علي، وها هو يطالب بسقوط مبارك، ونحن نلهث وراءه متابعين ما يفعله، نتمنى له النصر، ونحبس انفاسنا خوفا عليه من المؤامرات التي تسعى لإجهاض ثورته. لهذا لابد أن تتنادى الأصوات العربية الحرة لحماية هذه الثورة والزود عنها.

فجر الثورة العربية

مصر بعد تونس .. الخوف يبدل مواقعه

صبري حافظ

لايقل هروب الطاغية التونسي شين العابدين بن علي يوم 14 يناير 2011 أهمية عن سقوط الباستيل يوم 14 يوليو 1789 لو أخذ الحدثان في سياقيهما التاريخيين. ولا يقل ما يدور في مصر الآن ومنذ الخامس والعشرين من الشهر نفسه أهمية عما جرى في الثورة الفرنسية، بل يمكن ومن قراءة موسعة للتاريخ القول بأن زخم الثورة الشعبية المصرية وقد جاء في أعقاب الثورة الشعبية التونسية أشد عرامة وأكثر أهمية. لأننا إذا ما أخذنا المتغيرات العربية والتاريخية كلها في الحسبان، بما في ذلك استعداد فرنسا، بلد الثورة والحرية، حسب تصريح وزيرة خارجيتها المؤسف باستعداد بلادها لمساعدة الطاغية بن علي في قتل المزيد من أبناء شعبه وقمع انتفاضتهم، ناهيك عن صمت الولايات المتحدة المريب ودعمها المستمر له، وبما في ذلك أيضا عرض دولة الاستيطان الصهيوني على النظام المصري الكريه كل إمكانياتها الحديثة لمساعدته، وتدخل الولايات المتحدة المستمر في الموقف، والذي لم يتوقف حتى كتابة هذه السطور، لوجدنا أن هذا الحدث بكل ما أعقبه حتى الآن، تزيد أهميته عن أهمية سقوط الباستيل والثورة الفرنسية. كما أن ما يدور في مصر الآن، ساعة صدور هذا العدد في يوم المظاهرة المليونية، التي يمكنها أن تكون المظاهرة الحاسمة لسقوط نظام بشع يلفظ أنفاسه منذ أكثر من عقدين من الزمان، ويستأدي مصر ثمنا فادحا لموته البطيء، يؤكد أننا أمام فجر الثورة العربية الحقيقية. وهو مجرد فجر بدأت أشعته الأولى في البزوغ، وعلينا جميعا أن نحافظ عليها حتى يتألق اليوم وتكتمل بهرته وثورته.

أقول أننا إذا ما أخذنا الظروف والسياقات كلها في الحسبان سنجد أن ما يدور الأن في العالم العربي، بدءا بتونس واستمرارا بمصر، هو فجر ثورة مفتوحة، ثورة شعبية كبيرة بأي معيار من المعايير، وبأي مقارنة مع الثورات الكبرى من الثورة الأمريكية وحتى الثورة الفرنسية. ليس فقط لأن هذه الثورة فتحت طاقة للأمل في الأفق المسدود، والذي طال انسداده أمام الأجيال الجديدة في العالم العربي كله لأكثر من عقدين من الزمان، ولكن أيضا لأنها وهذا ما يميزها عن الثورة الفرنسية التي قادها المثقفون والمفكرون الفرنسيون ومهدوا لها بسنوات من فكر الاستنارة، وبلوروا رؤاها، تمت بجهد شعبي عفوي خالص، وفي غياب كثير من مثقفي الشعب العربي إما في المنافي أو السجون، وإما في دياجير الصمت، أو في متاهات الاحتواء الجهنمية والتدجين. بالصورة التي أصبح فيها مثقفو أنظمة القمع وكلاب حراستها عبئا فادحا على الثقافة وعلى شعوبهم، يساهمون بشكل فعال في تتشويه وعيهم وتيئيسهم من إمكانيات التغيير، وتشويش بوصلة رؤاهم ومشاعرهم، وتشتيت أفكارهم بمهارات جوفاء من ذرابة اللسان، وزعزعة إيمانهم بقدرتهم على الفعل والتغيير. لكن هيهات! فقد أثبت صمود الثائرين وتنامي ارتفاع سقف مطالبهم عبر مسيرة ثورتهم، سواء في تونس أو في مصر، أن سنوات الاحتواء والتدجين، وكل خطابات كلاب حراسة الأنظمة العربية الفاسدة والفاقدة للشرعية، لم تشوه بوصلتهم، ولم تشتت تفكيرهم. وأنهم كانوا يقومون بفلترة كل الخطابات المطروحة، أي تمريرها عبر ما أدعوه ببنية المشاعر الوطنية السليمة التي تدرك أن الحقيقة واحدة وأما الخطأ فمتعدد ومتلون كالحرباء. وأن خطاب المثقفين الحقيقيين برغم حصاره ونفيه والتعتيم عليه كان يصلهم، وكان يصوغ وعيهم المغاير، الذي تتجلى لنا آيات نضجه وحكمته كل يوم. فكثيرا ما كنا نردد أن الشعب دائما في الطليعة، وأن ما علينا إلا أن نستلهم روحه، وها هو الشعب يجترح ما كان الكثيرون يظنون أنه من المستحيلات، أسقط بن علي، وها هو يطالب بسقوط قرينه الأكبر مبارك، ونحن نلهث وراءه متابعين ما يفعله، ونتمنى له النصر، ونحبس انفاسنا خوفا عليه من المؤامرات التي تسعى لإجهاض ثورته.

فهي ثورة حقيقية تمت في ظروف أشد عداءا للحرية من تلك التي حدثت فيها الثورة الفرنسية، حيث تمت في وجه آلة بوليسية قمعية جبارة، لم يواجه مثلها ثوار الثورة الفرنسية برغم كل مقاصلهم؛ آلة مسلحة بأحدث ما في طاقة التكنولوجيا الأمريكية من منتجات فظيعة وأدوات قهر وقمع، (حيث يتجاوز عددها في مصر وحدها المليون ونصف المليون من شرطة ما يسمى بقوات الأمن المركزي، أي أمن عائلة الطاغية ومن يحيطون بها من طغمة الحلفاء، لا أمن الوطن). فقد أدى تفاقم أوضاع هذا النظام، (وأسميه تجاوزا بالنظام، فهو ليس إلا طغمة مستبدة حاكمة، أو عصابة نهب منظمة، ما أن استشعرت الخطر حتى بدأت رموزها بالهرب في طائرات خاصة محملة بما نهبوه من دم الشعب) ليس إلى «جعل الحكم بوليسيا فقط، بل جعل البوليس هو الحكم» كما يقول محمد حسنين هيكل. ووضعه فوق كل القوانين، وهذا ما يفسر لجوء الشرطة، في كل من تونس ومصر إلى استخدام بلطجيتها حينما قهرها صمود الشعب، في النهب والسلب، ونشر الذعر والهلع، فقد أنستها ممارساتها الطويلة في خذمة العصابة الحاكمة، أن هناك قانونا يعلو على سلطتها القامعة. ويعلو حتى على سطوة العصابة التي استشرى البوليس دفاعا عنها، واستمتاعا بفتات ما يسقط من مائدتها من تجاوزات على الناس والقانون.

فقد كشفت الثورة التونسية أن نظام الطاغية هش، نخره الفساد من الداخل، وأحكم التزوير حوله نطاق العزلة وهو يستمرئ التشبث بالسلطة، ويفاقم من كراهية الشعب له. لكنها كشفت أيضا للشعب المصري الذي تتواصل احتجاجاته ضد النظام المستبد الفاسد والفاقد للمشروعية منذ سنوات في مسيرة احتجاجية طويلة تمتد من حركة كفاية عام 2004 وحتى حركة شباب 6 أبريل والجمعية المصرية للتغيير عام 2010، إلى الحد الذي شهدت فيه السنوات الثلاث الأخيرة وحدها ثلاثة آلاف وقفة احتجاجية، أقول أن الثورة التونسية المجيدة كشفت لها ضرورة النفس الطويل، ومواصلة النضال حتى تتحقق للشعب مطالبه. فحركات الشعب المصري الاحتجاجية الكثيرة لم تلق أذنا صاغية، ولم يفهمها النظام الفظ الغبي معا، والذي واصل استفزاز الشعب، واستغلال صبره، حتى بلغ هذا الاستفزاز ذروة غير مسبوقة في عملية تزوير انتخابات مجلس الشعب الأخيرة والتي كانت بروفة فظة لانتخابات التوريث الذي كانت الطغمة المستبدة الحاكمة تمهد لها بعد شهور. لكن للصبر مهما طال حدودا. وما أن نفد الصبر حتى فر الوريث إلى بريطانيا مع أسرته وأخوه الأكبر البغيض الذي يجمع الشعب المصري على احتقاره وتمتلئ نكاته بالسخرية منه.

الخوف يبدل مواقعه:
لكن أهم ما أحدثته الثورة التونسية والثورة المصرية من بعدها، أنها احدثت نقلة جذرية ونوعية في مواقع الخوف. لقد حان الأوان لأن يبدل الخوف مواقعه، وأن ترتعد الآن فرائص الأنظمة الفاقدة للشرعية والمصداقية والتي فرضت الخوف على الجميع، وأذاقت شعوبها ويلاته لسنين. لقد بدل في هذه اللحظة التاريخية الخوف مواقعه حقا، وبدلا من الشعب الخائف، والخوف أمر بشري، والذي كان الطاغية يفسر خوفه على أنه خنوع وانصياع وقبول واستكانة، قهر الشعب مخاوفه، وقهر معها آلة نشر الخوف العملاقة، فانتقل الخوف ليعمر قصور الطغاة، ويملأها بالتخبط والتدليس والمخططات الشريرة. فقد كان النظام الاستبدادي، سواء في تونس أو في مصر، يعتمد على المبدأ المغلوط بأن القوة تجلب الشرعية، ولكنها لا تجلب في حقيقة الأمر إلا القهر والكراهية الشعبية للمستبد. وهو أمر يعيه المستبد وبطانته مهما طال أمد تجاهلهم له. لذلك فقد استولى الخوف على عصابة الطاغية وزبانيته، فسارعوا كفئران السفينة إلى الفرار، وقد حمّلوا طائراتهم الخاصة، المشتراة بمال الشعب المنهوب، بما خف وزنه وارتفعت قيمته. وامتد الخوف إلى مركز السلطة فملأها بالتخبط والبحث في دفاترها القديمة وإعادة ترتيب أوراق كوتشينتها المغشوشة. كما امتد الخوف إلى مؤسسة القمع الأمنية الفاسدة، فأطلقت كلابها وبلطجيتها لينشروا النهب والقتل والفساد، باستراتيجيات مدروسة، لم يكن غريبا أن تتكرر بحذافيرها في كل من تونس ومصر، فربما يتراجع الشعب عن ثورته، ويطلب حمايتهم. وهو أمر لم يحدث في تونس، ولم يحدث في مصر، برغم أن المخطط الشرير فيها أكبر وأكثر تعقيدا. لأنه لا يصاغ فقط في مصر، بل في أكبر مؤسسات الثورة المضادة في الولايات المتحدة الأمريكية أيضا. فقد أصبحت الثورة المضادة بفضل استثمارات أمريكا الطائلة فيها على مد عقود طويلة من الحرب الباردة وحتى الآن، أرقى العلوم الاجتماعية والإنسانية وأكثرها تطورا وتعددا في المناهج المتضافرة والمتكاملة من أجل إجهاض الثورة الحقيقية، وركوب مدها الكاسح. وهذا ما يجب أن تضعه الثقافة العربية الحقة، والمثقفون الشرفاء نصب أعينهم وهم يتابعون انبثاق فجر تلك الثورة، ويحرسون أشعته، حتى تتنتشر في الأفق وتضيء.

وكان الأمر العظيم في الثورة التونسية هو أن الجيش انحاز للشعب ورفض أن يتحول إلى أداة قمع في يد طاغية مكروه، وعصابة محتقرة ممن يسمون أنفسهم رجال أعمال، وهم أقرب إلى البلطجية واللصوص منهم إلى أي شيء آخر. وهو الأمر الذي نتمنى أن يفعله الجيش المصري الذي عانى طويلا من التهميش لحساب أجهزة الأمن والشرطة التي انفلتت من كل حساب وعقاب، وأصبحت بحق أكبر المؤسسات الخارجة على القانون في النظام الفاسد العاطل من أي قانونية أو مشروعية. وهذا أيضا ما فعله الجيش المصري الذي طالما ضحى بدمه من أجل الدفاع عن مصر في حروبها الطويلة، ولا أظن أنه يفكر في أن يلوث يديه بدم الشعب المصري، من أجل طاغية مكروه من شعبه، حتى ولو كان هذا الطاغية قد بدأ حياته محاربا فيه من أجل مصر كما يتذرع الآن، بعد سنوات من العبث بمصر واستباحتها،لأنه جيش هذا الشعب المكون من أبنائه المجندين فيه. هو ليس أداة قمع محترفة ومأجورة، وبلا ضمير، كما هو الحال مع جهاز الشرطة الكريه، وإنما عماده الرئيسي من المجندين البسطاء من أبناء هذا الشعب من الفقراء والمضطهدين، فقد مضى الزمن الذي كان فيه الجميع يجندون، حيث يعرف الجميع أبناء اللصوص والطغمة المتنفذة يجدون ويجيدون دوما سبلا للإعفاء من التجنيد.

ومن المفارقات المرّة والمؤسفة معا أن النظام يسمي المتظاهرين بالخارجين على القانون، هكذا دعاهم بن علي في خطبة الثلاث الأخيرة، وهكذا دعاهم مبارك في خطابه المتأخر المهزوز. والواقع أن هذا النظام أو بالأحرى اللانظام، هو العصابة الحقيقية وأكبر الخارجين على القانون في مصر. فهو يحكم بلاشرعية، وبلا قانون، ويفصل ترزية القوانين له قوانين على مقاسه ومقاس ابنه التعيس، ويحكم بلا ضمير وطني أو مشروع مهما كانت نوعيته يتراضى عليه الشعب. وينهب بشكل منظم خيرات الوطن من خلال عصابات منظمة من «طرابلسية» تونس وعصابة «المجلس المصري الأمريكي» في مصر. ولا يعبأ بمؤسسات مصر أو قوانينها، بل يزدريها ازدراء لا يضارعه إلا ازدراء الشعب له. يزور الانتخابات، وينهب أراضي الدولة، ويفرط في مصادرها الطبيعية، ويبيع الغاز لأعدائها بثلت الأأسعار العالمية، بينما يبيعه لمواطنيه الفقراء بالأسعار العالمية، حتى بلغ ما يقدمه من دعم لأسعار الغاز للعدو الصهيوني ثلاثة مليارات دولار كل عام، ويتصرف في مصر وكأنها عزبة خاصة وليست وطنا عريقا له تاريخ طويل وشعب عظيم. إن هذه العصابة أو ما يسمى بنظام مبارك هو أكبر الخارجين على القانون. لأنه أصبح – كما يقول ساسة دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين – الذخر الاستراتيجي لهم. ومن يصبح الذخر الاستراتيجي لعدو مصر، وعدو الأمة العربية الأكبر، لايمكن بأي حال من الأحوال إلا أن يكون خارجا على مصر نفسها، وعلى كل أعرافها وقوانينها. وكل عصابة هذا النظام، ممن يسمون برجال الأعمال، وهم رجال النهب والسلب والمال الحرام من الخارجين على القانون أيضا. فقد نهبوا القطاع العام الذي بناه الشعب بعرقه ودمه، فيما يسمى بعملية الخصخصة، دون أن يفوضهم هذا الشعب في بيع ممتلكاته. لقد زوروا إرادته، وها هو الشعب يعلن أنهم لا يمثلوه، وأن كل ما قاموا به نيابة .عنه باطل .. باطل. ناهيك عن جهازه الأمني الذي كان من المفروض أن يكون جهاز تنفيذ القانون، أصبح هو الآخر جهاز انتهاك القانون والعبث المستمر به. وما جرى للسلطة القضائية في مصر معروف ولا حاجة للتذكير به هنا. ومن المفارقات المؤسية أيضا أن الثورة المصرية اندلعت في يوم 25 يناير يوم عيد الشرطة التي كانت في الماضي في خدمة الشعب، ثم تحولت إلى سيف مسلط على رقابه. والتي كان عيدها هذا هو ذكرى وقوفها مع الشعب في مقاومته للاحتلال الانجليزي، وليس منعها للشعب من التعبير عن رفضه للعدو الصهيوني كما دأبت منذ سنين.

الفراغ والشحن:
فهذا النظام هو نظام تعيس أنقلب فيه سلم القيم الاجتماعية والوطنية والأخلاقية، وتكرس فيه الفساد. وانهار فيه التعليم والصحة وتآكلت كل المكاسب التي حققها الشعب المصري في كفاحه الطويل من أجل التحديث والكرامة. وامتلأ فيه المناخ بما دعوته في مقال سابق بالفراغ والشحن. فماذا أعني بالفراغ؟ أعني به هذا الواقع الذي تعيشه مصر في العقود الثلاثة الأخيرة والذي يشبه الفراغ: فليس ثمة مشروع وطني مصري يلتف حوله الجميع، وترود أولوياته حركة المجتمع. فيتحقق الوطن من خلال انخراط أفراده فيه. وليس ثمة حركة سياسية بها تيارات فاعلة يمكنها أن تثير جدلا سياسيا أو تطرح أجندة للعمل الوطني في عالم يعج بالأجندات المتصارعة. وقد امتد هذا الفراغ ليشمل كل مناحي الحياة. بدءا من إفراغ مصر من عقلها النقدي في السبعينيات، مرورا بإطلاق يد التأسلم السياسي في شتى مناحي حياتها طوال العقود الأخيرة، حتى عم الظلام كل شيء. وانهارت الجامعات المصرية وانهارت معها بقية الخدمات من التعليم إلى الصحة وحتى الطرق والمواصلات العامة وغيرها. وتضاءلت قوة القانون حتى كادت أن تختفي فملأت البلطجة وقانون الغابة الفراغ. ولم ينم شيء في مصر طوال تلك الفترة قدر نمو جهاز الشرطة القمعي. وتتابعت أجيال من الخريجين لتلتحق بطوابير البطالة، وانسد الأفق أمام الشباب الذي أخذ يتنامى شعوره بألا قيمة له ولا لحياته ولا لوطنه. فقد ضيع هذا النظام الفاسد قيمة مصر بين الأمم، وأحالها إلى كم مهمل وتابع ذليل للمخططات الصهيونية والأمريكية في المنطقة. والواقع أن هذا الشعور المتنامي لدى الشباب، الذي يفضل بعضه أن يموت غرقا في البحر المتوسط جريا وراء سراب النجاة عبر الهجرة، على أن يبقى في وطن يشعره كل يوم بألا قيمة له، هذا الشعور هو أبلغ دليل على ذلك الفراغ الذي اقصده، وهو وراء تلك الثورة العارمة التي انفجرت في 25 يناير 2011.

فمنذ أتفاقيات كامب دافيد المشؤومة، وهذا الفراغ يتخلق على جميع المستويات ويكتب نفسه في خريطة مصر الاجتماعية والجغرافية معا، من خلال اتساع الفجوة المهولة بين نصف الشعب المصري الذي يعيش الآن تحت خط الفقر، ويعيش أكثر من ربعه في العشوائيات، وأقل من 3% من الشعب المصري (أقل من مليونين) تنفق ببذخ، وتعيش بسفه في المنتجعات السكنية المسورة، في القطامية والتجمع الخامس وما شابهها، بعقلية أشبه بعقلية المستوطنين في فلسطين المحتلة، كما تقول جماعة دراسات القاهرة الحضرية التي أصدرت حتى الآن ثلاث كتب مهمة، بالإنجليزية حول التغيرات البنيوية لمدينة القاهرة.

والواقع أن الفترة الممتدة منذ إتفاقيات كامب دافيد المشؤومة وحتى الآن لم تشهد فقط تخليق هذا الفراغ، ولكن كان من أهم أهدافها إدخال المارد المصري الذي طالما نشر أفكار التحرر والتقدم في القارات الثلاث، وقاد حركة التحرر الوطني في المنطقة العربية والأفريقية من ورائها، إلى قمقم اتفاقيات السلام المغشوش. وعزل مصر عن أي فاعليه في محيطها الإقليمي، ويجب ألا ننسى أن المقاطعة العربية لمصر عقب المعاهدة، وإن انتهت شكلا، إلا أنها بقيت موضوعا، فقد دس هذا الحدث البغيض، زيارة السادات للقدس، أسفينا رهيبا بين الدول العربية، وأقام حدودا مصطنعة بينها، ما كان باستطاعة الأعداء أقامتها في عقود. كما بقيت بعدها عزلة مصر عن أفريقيا وتفاقمت بعجز مصر عن القيام بدروها فيها، بينما العدو الصهيوني يعمل ضد مصر في ساحتها الخلفية. وهو العمل المحموم الذي سنجني الكثير من ثماره المسمومة، والتي بدأت أولاها تتساقط في جنوب السودان، وفي الأصوات المطالبة بإعادة التفاوض بشأن تقسيم مياه النيل.

لأن الهدف الأساسي لمعاهدة الانصياع للمخطط الصهيوني، كان إطلاق يد الدولة الصهيونية في المنطقة تعيث فيها فسادا والمصري ينظر لكل مايدور من حوله كظيما. بل تقدم آخرون من تركيا إلى إيران لملء الفراغ الناجم عن تكتيف المارد المصري، وتحويله إلى جثة ضخمة من ثمانين مليون، وضعت ممارسات الفساد نصفهم تحت خط الفقر كما ذكرت. بل كبلت بلدهم بديون طائلة وغير مسبوقة. فقد كانت ديون مصر يوم بدأ حسني مبارك الحكم 18 مليار دزلار ولكنها ارتفعت الآن إلى 880 مليار. دون أن يترك هذا الدين الكبير في جغرافية مصر شيئا مثل السد العالي مثلا، وإنما ترك في جغرافياها تشوهات المدن العشوائية وأحزمة الفقر من ناحية، ومنتجعات الثراء الفاحش البذيئة من ناحية أخرى.

وسط هذا الفراغ والعجز وانسداد الأفق تم الأمر الثاني: الشحن. فماذا أعني بالشحن؟ إنه ما يعقب كل تفريغ أو فراغ. فما أن فرغت مصر على شتى المستويات: السياسية والاجتماعية والعقلية، حتى كان من الضروري، وهذا أمر ليس مفصولا عن معاهدة السلام المسموم، شحن هذا الفراغ على مستويين: أولهما هو الشحن الإسلامي، والثاني هو الشحن الصهيوني بدون ترتيب، لأنهما تمّا بالتزامن معا، وبالتفاعل مع بعضهما البعض من أجل تحقيق ما بدأت تجلياته البشعة في مجزرة الإسكندرية، وما يستهدف تفتيت مصر والإجهاز عليها. لأن التفكيك الذي تخلق جغرافيا في أقصى جنوب وادي النيل، والذي ستتحقق أولى ثماره بعد أسابيع في تفكيك السودان، يتحول إلى تفكيك ديموجرافي في أقصى شماله، بعدما تم الشحن الصهيوني والشحن الذي يدعو نفسه بالإسلامي. وقد بدأت أبجديات الشحن الصهيوني في ملاحق معاهدة كامب دافيد المشؤومة التي فرضت على مصر التطبيع، وتبديل عقل النشء فيها، بأن تزيل من أطلسها اسم فلسطين، وأن تلغي من برامجها التعليمية كل ما من شأنه أن يعلم الطلاب أن دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين هي دولة استعمارية توسعية وهي عدو مصر الأول والأخير. وبدأ الشحن باقتراح أعداء بديلين، وتخليق العداوات بين مصر وأشقائها العرب والأفارقة معا. وتم تجذير هذه العداوات بطريقة شتت بوصلة مصر الوطنية، وأهم آثارها المدمرة هي أنها خلقت جيلا لايدرك أن عدو مصر الأول هو دولة الاستيطان الصهيوني دون غيرها. ولايجد بعض أبنائه غضاضة في الهجرة إليها. واستمرت مسيرة الشحن طوال أكثر من ثلاثين عاما حتى أصبح النظام المصري الراهن هو «الذخر الاستراتيجي» للعدو الصهيوني كما يقول مفكروه السياسيون. والغريب أن هذا الشحن الصهيوني الذي نجح في أن يحول النظام الراهن في مصر إلى الذخر الاستراتيجي له، وإلى حامي حماه الأول ضد المهاجرين غير الشرعيين من الأفارقة، الذين ترديهم شرطته قتلى بلا رحمة ولا سند من قانون دولي، بل ضد فلسطينيي غزة المحاصرة التي شيد النظام المصري على حدودنا معها ما دعوته بـ«السد العالي المقلوب»، كان يتم ويتواصل بينما هذا العدو الصهيوني يتآمر باستمرار على مصر، وآخر فصول هذا التآمر ليس قضية التجسس الأخيرة فحسب، وإنما أيضا تأليب جيران مصر الأفارقة عند منابع النيل للنيل من حصتها، وتقسيم السودان.

أما الشحن الذي يسمى بالإسلامي فحدث عنه ولاحرج، وقد كان أول من تنبه إلى خطورته المدمرة هو المثقف العقلاني الكبير جمال حمدان في (شخصية مصر) حينما كتب «إن الصحوة الإسلامية التي تتحدث عنها الجماعات المتطرفة ماهي إلا صحوة الموت أو رقصة الذبيح، بعد طول احتضار استمر قرناً أو قرنين. وهي صحوة نفطية مبعثها البترول المجنون ليس إلا» وأضيف إليه الدعوة الوهابية ضيقة الأفق، والتي نجحت في التغلغل في شتى مناحي الحياة اليومية للمصريين من «عقيقة» أطفالهم، حتى معمار بناء مقابرهم التي جلبت لها النزعة الوهابية القبح والبشاعة. وهو شحن مستمر وممول وهابيا منذ أكثر من أربعة عقود، يملأ الواقع المصري بكل صور العنف الرمزي ضد كل من لاينصاع لرؤيته المتخلفة، من تحجيب المرأة  حتى تحجيب العقل، وفرض التحية الإسلامية عند الرد في التليفون على غير المسلمين، إلى الميكروفونات الموجهة على شقق قبط مصر والتي تنطلق منها أنكر الأصوات، إلى الكاسيتات التي تملأ بأنكر الأصوات وأنكر الفتاوى تاكسيات مصر، والتي يتصور السائق الأبله أنه يكسب بإدارتها ثوابا، دون أن يعرف إذا ما كان الراكب الذي سيزوده برزقه مسلم أم قبطي، إلى التحرش المعماري الذي يقيم في مواجهة كل كنيسة مسجدا أكبر منها مساحة وأعلى مئذنة، بما في ذلك الكاتدرائية المرقسية نفسها، وغيرها من الممارسات التي ساهمت في خلق هذا الاحتقان الطائفي المقيت.

وما يدفعني إلى الربط بين التأسلم الوهابي المدمر والشحن الصهيوني الكريه، هو تزامنهما وترابطمهما معا من ناحية، وأنهما يتمّان من ناحية أخرى بمباركة راعي الصهيونية الأول وتحت قيادته، وهو الولايات المتحدة الأمريكية، التي ترعى منذ لقاء روزفيلت الشهير بالملك عبدالعزيز آل سعود هذا التحالف غير المبارك وغير المعلن، بين النفط والصهيونية. وإلا كيف تفسر أن هذا التاسلم الذي ملأ حياتنا بشتى تجليات عنفه الرمزي، وتحرشاته بكل ما هو قبطي، يصيبه العي والخرس حينما يتصل الأمر بتصرفات دولة الاستيطان الصهيوني في تهويد القدس، أو تهديد منابع النيل في الجنوب، ويتنادى صارخا «وا إسلاماه!» حينما يتعلق الأمر بشق الصف في مصر، أو بفرض التخلف الوهابي عليها، أو بقبطية يقال أنها أسلمت. فهو تأسلم منافق مشبوه، لا يضع اعتداءات عدو مصر الأول نصب عينيه، ولايمارس ضد الدولة الصهيونية ومخططاتها المشبوهة عشر ما يمارسه في تجييش المشاعر، وملء الميكروباصات بخطبه وفتاويه المسمومة. وكلنا يعرف، كما أثبت عالم الاجتماع العظيم بيير بورديو، أن كل عنف يبدأ رمزيا ثم يتحول إلى عنف دموي، سرعان ما بدأت تجلياته في المسلسل الممتد من الكشح ونجع حمادي وصولا إلى مجزرة الإسكندرية. لقد انتهى هذا الشحن المزدوج بمصر إلى هذه المجزرة البشعة والتي تعد في مستوى من مستوياتها أولى نتائج نجاح أحمد عز الساحق في تزوير الانتخابات.

ثورة شعبية تبلور أولى موجاتها عارمة:
وقد كان طبيعيا أن ينفد صبر شعب مصر، وهو صبر طويل كصبر الجمال، وقد صبر الشعب المصري طويلا، وأسمع للنظام صوته المحتج الرافض مئات المرات، بل آلاف المرات دون جدوى. ولكنه هب أخيرا ليقول بثورته الرائعة التي لاترضى بديلا بغير إسقاط النظام، لم يعد الاستبداد ممكنا. ولم يعد الفراغ ممكنا، ولابد أن يتوقف هذا الشحن الصهيوني الوهابي معا. وأن يجيء وقت التغيير الجذري. لذلك ليس غريبا أن تكون دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين هي أول من يصاب بالهلع من تلك الثورة بعد النظام، وربما قبله. وأن تستخدم فزّاعة الإسلاميين وأن البديل الوحيد للنظام الفاسد هو النموذج الإيراني ضد الثورة، وتحث الغرب على العمل ضدها. إن من يقرأ الصحف العبرية يدرك كم أن عمل دولة الاستيطان الصهيوني ضد الثورة على الساحة الدولية والعربية على السواء كبير ومتواصل. لأنها تدرك أن هذا التغيير سيؤثر عليها قبل أي شيء، لذلك تعمل بدأب ضد الثورة، وتساعدها في ذلك حليفتها الكبرى الولايات المتحدة الأمريكية، وبقية القوى الغربية التي يحلو لها التشدق بموضوع الحرية وحقوق الإنسان حينما يتعلق الأمر بأعدائها، ويصيبها العي والخرس إذا ما تعلق الأمر بأحد أذنابها من الطغاة الصغار. فما مكن الشعب التونسي، وهو من أكثر الشعوب العربية وعيا وثقافة، من اختراق التعتيم المحلي والدولي على ثورتهم هو استخدام وسائط الاتصال الحديثة والإنترنت. ولذلك لم يكن غريبا أنا يبادر النظام المصري في اليوم التالي لاندلاع الثورة المصرية بقطع الانترنت عن مصر كلها، وتعطيل رسائل التليفون المحمول، وأن يضع مصر في سجن اليكتروني كبير، لم يجرؤ حتى العدو الصهيوني على فعله مع غزة التي يحاصرها منذ سنوات. إن قطع الاتصالات وشن حرب أليكترونية على جيل الشباب، وسحب تراخيص الصحفيين الأجانب، والتعتيم علي تدفق المعلومات، وتحويل مصر إلى سجن معزول عن العالم، حتى تنفرد به هذه العصابة الشريرة المؤيدة بالعدو الصهيوني وحده، والذي كشف تأييده السافر لها عن حقيقتها كذخر استراتيجي له، وليس لشعبها هو مجموعة من الجرائم الإنسانية الكبرى. ومع هذا لم نجد احتجاجات في الغرب الذي دأب بالتباكي على الديموقراطية تتناسب مع حجم تلك الجرائم التي يرتكبها النظام في حق الشعب.

والواقع أن تقاعس الغرب عن تأييد الثورة بالقدر الكافي، يفاقم مع تشبث مبارك المميت بالسلطة، وإطالة عمرها الذي انتهى، بالرغم الرفض الشعبي الكاسح له في أوسع استفتاء عرفته مصر يوم المظاهرات المليونية، فضلا عن آليات التزييف والتدليس والاحتواء التي مايزال عدد من المثقفين والفنانين البؤساء يمارسونها من التليفزيون الرسمي الكذّاب، ضد ثورة شعبهم، يفاقم من الأوضاع في مصر. وهذا ما يستأدي الجميع ثمنا فادحا، تدفعه مصر من دمها وأمنها ومستقبلها. ولا يجوز أن يطيل هذا التشبث المقيت أمد هذا السجال. لأنه كلما طال الأمد كلما تعززت فرص الأعداء، والراغبين في الانقضاض على الثورة على التدخل والعمل ضدها. لذلك لابد من أن تتنادى العقول الثقافية المصرية الحرة والمستقلة لحماية هذه الثورة، وتطوير منجزاتها، والبحث في سبل التغيير الجذري الشامل الذي يتكفل بإنهاء كل من الفراغ والشحن في الواقع المصري. لابد أن تتنادي العقول المصرية الحرة والمستقلة لدراسة الأمر، وتشكيل لجنة مستقلة من حكماء مصر تدير مرحلة انتقالية، وتطرح بدائل جذرية، تنقذ بها مصر، وتحمي بها ثورتها.

نعم ثورتها! فهي ثورة بحق! ثورة تملأ أخبارها الدنيا! ثورة لأنها أعادت لمصر أهميتها بعد أن أحالها النظام الحاكم والفاسد إلى كم مهمل تابع للمخططات الصهيونية والأمريكية لا يحظى بغير الازدراء. ثورة لأنها جعلت الشعب مصدر السلطة الحقيقية. لذلك احتضنتها بنية المشاعر الوطنية العربية السليمة على الفور من المحيط إلى الخليج. هي ثورة سحب فيها الشارع رضاه عن النظام وقبوله به، فانتهت هيبته، ولم يعد في مقدوره أن يزعم أنه يمثل مصر، وهو لم يكن يمثلها أبدا رغم صبر المصريين عليه، ورغم شقشقاته الفارغة بالاستقرار والتقدم، وكلنا يعرف أنه لايوجد استقرار لاينهض على مبادئ الحرية والعدل وكرامة الإنسان. وأنه لا استقرار مع النهب والفساد وانتهاك القانون. هي ثورة حقيقية كبرى راقية، والثورات الحقيقية في التاريخ الإنساني قليلة، لأن نهر تدفقها الشعبي العارم يسبق بمراحل كل ممارسات المعارضات العربية الرسمية منها وغير الرسمية، بما في ذلك المعارضات التي همشت، وهجّرت، وقمعت أو سجنت. ولأنها كشفت لنا أن المستبد العربي هش وتافه، وأنه لم يع أن سموم كراهية الشعب له، كانت تسري في دمه وتقترب به من لحظة النهاية الحالكة. وهي ثورة لأننا لو حميناها وحافظنا عليها، وردنا خطواتها نحو تحقيق أهدافها، فإن مد موجاتها الكاسحة سيطهر الواقع العربي كله من شرور الاستبداد والفساد والتخلف.