رمادٌ بذيءٌ يتسوّر الجدران، وصمتٌ متخشبٌ يجتاح العظام، ومِزَقٌ من المواجع والأحلام يذروها الخراب. هل تعلم أيَّ صقيعٍ قادم ينتظرنا؟ وأيَّة حسرة، وأيَّ احتضار؟
همستكَ الصباحيّة لا تزال إلى الآن تطرق مسامعي، ومسامعهنّ: "لميعة، يا لميعة، هل أغلي لكِ القهوة الآن يا حياتي؟"
حبيبَنا المسكين، لم يبق من همستك سوى صداها، وأنا – قطرة الحبر التي شكـَّلتـَها – أتكوّم كلَّ صباح فوق أصدائكَ، أحرِّر ذاكرتي، وأفكّ خيوط شرنقتي؛ أنافس بقيّة القطرات، وأزهو عليهنّ بحظوتي المثلى لديك: ألا يكفي أنني كنتُ خاتمتهنّ، وأنني دونهنّ جميعا كنتُ الهاجسَ، و"السراب"؟
دعني أجدّف عليكَ قليلا، يا خالقي، ومخرجي من عتمة العدم، وسراديب الخيال. لا تعبسْ هكذا، جميع المخلوقات كما تعلم تجدّف على خالقها؛ تنسى فضله، وتغمض أعينها عن لحمها المكتنز بخيراته، دعني أكون مثلها؛ أنا المرأة الأثيريّة التي صغتها من دمع، ودم، وعروق عطشى.
لماذا خلقتني حمقاءَ هكذا؟ أفرّ من الحب، ومن عاشقي؟ ألم تشفق على حرقتي، وبراكيني؟
أظمأتني دهرا، وحرّضتَ جوعي، وسددتَ أمام قلبي جميعَ المنافذ. وحين رأفتَ بحاله أخيرا، وأرسلتَ إليه قلبا آخر يهواه، جمحتْ بكَ ساديَّتكَ فجأةً، فجعلتني أفرّ من بين ذراعيْه... هكذا فجأةً! ورضابي لا يزال معانقا شفتيْه جعلتني أفرّ من الفردوس. قرّرتَ عني كلَّ شيء، وبجرَّة قلم كان الفراقُ، وكان القحط، وكان السّراب. (ألمْ تسمِّني متخابثا: "سراب"؟)
لماذا فعلتَ بي هكذا؟ الرّبُّ الطيِّبُ لا يعاقب مخلوقاته بأقلَّ من هذا إنْ زلـَّتْ، أو أخطأتْ، أو حتى إنْ كفرت، فما الذي فعلته كيْ أستحقَّ منكَ هذه اللعنة؟!
أفرّ من الحب إلى "القضيّة"؟! يا للمهزلة!! لو جعلتني أعشق رجلا آخر وأتهالك أمام غواياته لالتمستُ لكَ عذرا، لو جعلتَ "نائلي" هو مَنْ يتهاوى لعذرتكَ أيضا، وحتى لوْ جعلتني أجنّ، أو دبّرتَ لي أيّة ميتة، لكان لكَ مني كلُّ العذر كذلك. كلّ شيء مقبولٌ عدا أكذوبة النضال الأحمق تلك!
أتدري كمْ مِنْ قارئة ظمأى مثلي خدّرتَ سرابَها بلقاءاتي الورديّة تلك، ثمّ تركتها نهبَ الحسرة والأسى؟ وكمْ مِنْ مسكينة أخرى من بلاد البؤس العاطفيّ أجهشتْ بالبكاء حتى تقرّح جفناها، وحقدتْ عليكَ، وعلى "سرابك"؟
كلّ هذا لأجل "خرافة النضال"؟ سامحني سيّدي هذا كثيرٌ، كثيرٌ جدّا على قلبي، وقلوبهنّ البائسة التي دمّرها الحرمان، وأضناها الانتظار.
اِغفرْ لي وقاحتي، ولكنْ أخبرني لماذا اخترتَ لي ذلك المصير؟ كتبتني وأنتَ في مطالع السّبعين، ووحده الشيطان يعلم أيّة هواجسَ طائشة كانت تصارع ذهنَ "المحارب القديم"(أكنتَ حقا ذلك المحارب القديم؟)، أجعلتني أنبذ الحبَّ، وأنحاز إلى الواجب تكفيرا عنكَ أنتَ الذي انحزتَ إلى قلبكَ دوما، ولم تحمل يوما سلاحا أو تقاوم؟ (قاومتَ بالكلمة؟ على كندرتي الكلمة، وسيفُ الكلمة، ورجالُ الكلمة!)
لماذا عليَّ وحدي أن أقاوم؟ هل أنا مشجبٌ لا تفعل شيئا سوى أن تعلـِّق عليه تلك الأحلام المسروقة، والبطولات الدونكيخوتيّة الموهومة؟ (أعطني حبّا، وخذ كلََّ الثورات، ملعونٌ أبو الثورات!)
لا تنظرْ إليَّ هكذا أرجوك، ودعني أخرج كلَّ ما في جوفي، دعني أثور عليك هذه المرة، أنتَ الذي حمّلتني من الرّموز فوق ما أطيق، وحشوتني كما دمية القشّ بكلِّ ما حلا لكَ من الخدع، والأباطيل.
دعْ هذه الدّمية تتفجَّر ولو لمرّة واحدة كما "العبوة الناسفة"؛ تحدّق في أعماقها بصدق، وتراوغ واجبَها؛ تحتضن "سرابها"، وتدلـِّل أشواقها، وتراقص عقـلها الغافي، ووصاياه الكريهة.
هل تعلمْ؟ لم تحسنْ صنعا إلا حين غصتَ في ترفِ الأنثى داخلي، وحدّثتهم عن فتنتي وبهائي؛ عن شعري الأسود الغزير، وعينيّ المقتحمتيْن، وقوامي الأهيف المتأوّد (أكنتُ الشرَكَ الذي تقتنص به قرَّاءً جددا، والسّلعة التي تتاجر بها، فتجعلها جذابة، ومغرية؟ أكنتَ مثل بائع التفاح والبطيخ يلمِّع بضاعته، ولا يُظهر منها إلا الطازجَ، والشهيّ؟).
كنتَ رائعا حين أقحمتَ على صحرائي قطرات الحب السخيّة تلك، ولكنْ لماذا سحبتني إلى الصحراء ثانية؟ إلى القحط، والبرد، والصّقيع؟
كمْ أنتِ محظوظةٌ يا "وصال"! وكمْ أحسدكِ يا "جنيَّته الضائعة الصّغيرة" حين اختار لكِ حبيبا رائعا مثل "وليد"، بخفقة قلب بصقتِ على كلِّ شيء وتبعته إلى الجبهة، لا لأجل الجبهة، بل لأجل صدره، وشفتيْه!
وصال: تحسدينني على خيبتي؟ على كرامتي المهدرة؟ وعلى أعوامي العشرين تلهث خلف ذراعيْه المتخمتيْن بالتجارب والسّنين؟!
سراب: لا يهمّ مَنْ يهرب ممّن، أو مَنْ يلحق مَنْ، المهمّ هو النتيجة: خصبٌ دافقٌ، أم سرابٌ كالح، ولا منزلة وسطى بينهما.
وصال: واهمة أنتِ يا عزيزتي، لو تعلمين كمْ عانيتُ مع ذلك الدونجوان الكتوم!
سراب: تخشيْن حسدي؟ يا لخبثك!
وصال: أنا التي ينبغي أن تحسدكِ لا أنت!
سراب: كفى. لا أريد مناقشتكِ الحسابَ، عودي إلى ذراعيْه، ودعيني وآلامي.
أترى عزيزي، ليس ثمّة مخلوقٌ حبريٌّ واحدٌ يرضى عن خالقه، ويسلـِّم بقدَره، لو أنـَّكَ تنزل معي الآن إلى مملكة الحبر القصيَّة لهالكَ ما ستسمع فيها أو ترى: جميعهم ساخطون؛ يأكل الدّمعُ أجفانَ بعضهم، ويلهب الحقدُ صدورَ آخرين، بينما تمتصُّ البلادةُ أفئدة الباقين.
دعني أحدِّثكَ عمّا حدث هذا الصّباح؛ قبل بضع ساعات فقط:
" أفقتُ يا سيّدي باكرا، كعادتي دوما، على صدى كركرات زوربا وضحكاته: كمْ هو فاتنٌ ذلك العجوزُ وهو يعرِّي آلته، ويفكّ عنها اللفائفَ الكثيرة كما يفكُّ العاشقُ النـّعاسَ عن جفنيْ محبوبته وشفتيْها(لكمْ وددتُ لو أنني وحدي بين يديْه لا السانتوري!) كان يضحك بشراهة كعادته، ولسانـُه لا ينفكّ يغازل كلَّ أنثى تعبر أمامه (لشدَّ ما هو شهمٌ وكريمٌ! ولشدَّ ما تنعشني نظراته، فلا أني أتجمَّل أمامه بثوبي الأسود المترمِّل الذي تعرفه) عبرتُ أمامه، وأذنايَ تترقبان صفيرَ إعجاب قادم لا محالة، فإذا بهما تـُصفعان بدلا عن ذلك بزفرة عذاب، وأنين:
-ما بكَ يا زوربا؟
-آه يا جميلتي، تعبتُ مِنْ عيشة الكلاب هذه!
- وهلْ يتعب مثلكَ يا أعظمَ عاشق ورقيّ؟
- قدْ قلتها سيِّدتي: لستُ سوى قطرة حبر مسكينة، ترقص كلَّ صباح كالعاهرة.
- ودنياكَ العذبة؟ وبوبولينتك؟ ونساؤكَ المنتظرات؟
- باطلُ الأباطيل.
هذا ما قاله زوربا صباحا، وكادت يداه أن تحطما السّانتوري في لحظة يأس مشؤومة، لولا أنْ تحامل "السّندباد" على نفسه، وصفعه صائحا: "عارٌ عليكَ، وُهِبْتَ ساقيْن قويّتيْن كي ترقص فارقصْ، وأغلقْ فاكَ، وحدي مَنْ يحقّ له النواحُ، وقد أشقتني تلك "الفاجرة"، وحكمت عليَّ بالتسكّع المستمر: مِنْ شدق أفعى، إلى شدق غول، إلى شدق كلب. كلُّ هذا كيْ تروِّض جلادَها. عليها اللعنة، وعلى أكاذيبها!
بصق لعنته هذه ورمقني بعينيْن تقطران رغبةً وضراما، فما كان منـِّي إلا أنْ تراجعتُ إلى الوراء (لا أرفض غزلَ زوربا البريء، أمّا هذا فعيناه – أقسم – كانتا عينيْ ذئب حقيقيّ!)، وما كدتُ أجتاز أولى الخطوات حتى تلقـّفتني "أوفيليا"، وأنشبت أظفارَها في عنقي (انظرْ جيّدا، هنا... هنا يا عزيزي غرست مخالبها، آآآه... كم هذا مؤلم!)، المسكينة! كان الزّبدُ يتدفق من فمها، ولمْ يخلـِّصني مِنْ قبضتيْها سوى ذراعيْن شبحيّتيْن. التفتُّ لأشكرَ صاحبهما، فإذا به يجثو فجأة أمامي، وينوح متبتـِّلا، محاولا تقبيلَ قدميّ: "إنـني لا أركع لكِ شخصيّا، وإنـَّما للإنسانيّة المعذبة في شخصكِ. أتظنـِّنهم سوف يشنقونني يا "سونيا"؟
راسكولينكوف! دعني وشأني الآن أيّها البائس، ولا تعذبْ نفسَكَ هكذا، فلستَ سوى خيال مريض تدفـّق من خيال مريض.
دفعته عني، ولساني يصيح: "ملعونٌ صباحُ المجانين هذا!"، وعدتُ إلى هنا بسرعة، وفي فمي تتكوّر بصقةٌ كبيرةٌ، لا أدري هل أقذف بها عالمَنا المجنون ذاك، أم أقذف بها عالمَكم القذرَ هذا، أمْ أبتلعها، وأحني رأسي كما يفعل العاقلون في كلِّ زمان؟
غفرانكَ سيّدي، أسرفتُ على نفسي كثيرا، وجحدتُ فضلكَ الغامرَ عليَّ، أنا المخلوقة الورقيّة التي لولا أصابعُكَ التعبى، ولولا موسيقاكَ، وغليونك اليتيم لما كانت (أخبرني كمْ واحدا دخنتَ في كلِّ خلوة جمعتنا، وكمْ فنجانَ قهوة ارتشفت، وكمْ شريانا نزفت أو حقنتَ حتى كوّنتني؟ وهلْ كلما دخـَّنتَ أكثر كلما كانت قيمة مخلوقكَ الحبريِّ أكبر؟ قلْ إذاً إنـَّكَ لم تخلقني إلا مدخنا!)
ما الذي أفعله كي تغفر لي كفري وهرطقاتي؟ لولا أنّ يديَّ الآثمتيْن امتدَّتا ذات جحيم إلى جدائلي السخيَّة تلك تقصّانها، وتنتفانها (قصصتُ شعري "ألاغارسون" ألا أبدو أجملَ هكذا؟)، لجثوتُ الآن أمام قدميْك، ولقبّلتُ كلَّ عرق نازف فيهما؛ لدثرتهما بعطري، ودموعي، ولنشّفتُ ضياعهما الغافي بذؤاباتي...
تبّا! انطفأت الكهرباء الآن. أعلم أنـّكَ تعشق سوناتات باخ، ولا ترتاح عصرا إلا بعد الاستماع إلى إحداها، ولكنْ كثيرا ما لا يدرك المرءُ أبسط ما يريده هنا، لا تقلق، ستعود بعد أربع ساعات، وسيكون الليلُ حينها قد حلّ، وبعد أن تتناول دواءك، وتأوي إلى فراشك (يجب أن تأوي إليه باكرا. انتهى لهوُ الشباب) سنستمع معا إلى "كورساكوف"، وعلى أنغام شهرزاده سأحدّثك أنا (شهرزادك)، وسأحكي، سأرقص لكَ إنْ شئتَ، وسأداعبك، وأناغيك.
هل تعلم؟ قد تعشق الكلمة صاحبَها، (لا كانت الكلمة إنْ لمْ تعشق صاحبَها) وقد عشقتكَ منذ أنْ كنتُ جنينا متكوِّرا في تلافيفِ ذاكرتك، وأشواقك: شَعرُكَ غابةٌ فضيّةٌ بعيدة، كلُّ شعرة بيضاء فيها تروي حكاية غواية حمراءَ عشتها مع امرأة أخرى سواي: أخبرني كمْ مِنْ شعرة سوداء لا تزال لي؟ وكمْ منْ حكاية بكر لا تزال تنتظرني؟
لشدَّ ما تضنيني أطيافُ السّابقات، وتقهرني خاتمتهنّ:
- سلافة حطمت قيدَها، وانتحر سجّانها (أكنتَ أنتَ قانصَها؟)
- لمى ماتَ معذبها، وبقي عاشقها (أكنتَ أنتَ عاشقها؟)
- وصال... وآهٍ من وصال، ومن حظها! (أكنتَ أنتَ حظها؟ ومعجزتها؟ وصرّتها العجائبيّة الملأى باللآلئ والمجوهرات؟)
- وحتى نجوى قـُتِلتْ، وارتاحتْ من دنيا "القشمرة" هذه (أيّة حياة هذه؟ على كندرتي الحياة!)
لو تعلم كمْ أشقيْتنا يا أبانا! وكمْ جنيْتَ علينا؛ قدّمتنا وليمة طازجة للهوام، وقذفتَ بنا إلى أشداق البهائم، والدّيدان، هل تذكر صاحبَكَ الطفوليَّ (دعني أتذكّر اسمَه... سليمان... نعم: سليمان فتحو)الذي ألقمَ صفحات الليالي القليلة التي ملكتـَها حوافرَ "الخنازير"؟ وهل تذكر يديْكَ الصغيرتيْن وهما تغوصان في الوحل وئيدا، تدفعان كفلَ هذا الخنزير أو ذلك بحثا عن صفحة محظوظة هنا أو هناك؟
ها قد مرّت الأيّامُ، وها أنتَ تقذف بنا يا أبانا إلى جموع الغيلان النهمة هذه، وها هي المأساة كما ذكرتـَها تتكرّر الآن: "تعطي بعضهم لؤلؤةً، ظنـّا منكَ بأنـَّكَ تهيِّئ لهم تجربةً لمتعة ذهنيّة فذة، ثمّ تذهل إذ تراهم يلقون بها بتصميم إلى الخنازير، متباهين بعماهم، فرحين بغبائهم."
لماذا ابتليْتنا بنقمتيْ الوعي، والذكاء؟ ظلمتنا كثيرا حين جعلتنا جميعا جميلات، وذكيّات، وبارعات، في مجتمع "التخليط والقمامة" هذا!
الفنّ يهب الحياة؟ من قال هذا؟ لم يهبنا الفنُّ سوى مزيد من الخسائر والصّدمات، وحفنة باذخة من الدّموع يرتوي بها شبابُنا الاحتماليُّ الهائم.
حتى أنتَ يا حبيبَنا، لم يُعفكَ الفنُّ مِنْ وطأة السّنين، ولا هو حصّن مفرقيْكَ من البياض، ولا هامتكَ من الانحناء. (لماذا تزعمون أنه وحده البلسمُ والعزاء؟)
صدِّقني لا الفنُّ يهبُنا العزاء، ولا الحبرُ يفعل ذلك، ولا الحبُّ، ولا حتى الرّوحُ المسفوحة في العراء. (اِسألني أنا قطرة الحبر المتوهِّجة عن ذلك!)
لا شيء يهبُ العزاءَ سوى مزيد من التجارب، ومزيد من الآلام؛ (والمسرّاتِ أيضا) سوى خزينٍ لا ينفد من الاحتمالات، والأيّام. أقسمُ لو كنتُ مكانكم أيّها الكتَّاب لما أهرقتُ لحيْظةً واحدة أمام هذه الأكفان الورقيّة البكماء، ولتربّعتُ كالمتسوِّلين على التراب، أستجدي العابرين دقيقة بائسة أو دقيقتيْن من عمرهم المهدَر، أضيفها إلى ما بقي منْ ثمالة عمري الهارب، والمنفلت دوما نحو "الغياب".
هل تعلم فيما أفكِّر الآن؟ لا تسألني، فلن أخبركَ أبدا:Mon secret je le garde, et je le garde bien (كمْ أنتِ رائعةٌ يا كارمن، يا توأمَ روحي!) لا تـُشِحْ بوجهكَ هكذا، لقطرة الحبر أنْ تكتم ما بها حتى عنْ نازفها، ولقلبِ الأنثى حتى إنْ كانت ورقيّةً أنْ يخفيَ عنْ رَجُلها شيئا ما، أو أشياء عديدة: خفقة جسد، اختلاجة عين، اضطرابَ شفتيْن... لا بدّ مِنْ سرٍّ ما، ولا بدَّ من كذبة ما، وإلا وقعنا في جحيم الصّدق والانكشاف (ألمْ تصرخْ يوما على لسان "وديع" بأنَّ الصدقَ شحّاذ، وناسكٌ، وكافرٌ، وطاغية، وابنُ كلب، وعلى كندرتك؟!)
أخبرني مِنْ أين تفتـَّقتْ صورتي في ذهنك؟ هل أنتَ أنا؟ أم أنا أنت؟ أم أنني إحدى نسائكَ الواقعيّات؟ أم أنّكَ أخذتَ من كلِّ واحدة منهنّ طرفا، وكوَّنتني؟ (أيُّنا الوجه؟ وأيُّنا المرآة؟ وأيُّنا الوجعُ الزائف، واللهفة السّكرى؟)
لماذا أهملتني حالما دفعتَ بي إلى المطبعة؟ ولماذا أقصيْتني منْ دائرة اهتمامك؟ ونبذتني كما ينبذ الرّجلُ أيّة امرأة عابرة قضى منها وطرَه، وأولاها ظهرَه، غيرَ عابئ بوحشتها، وزمهريرها. (ما أقبح أنانيّة الرّجل حتى إنْ كان مبدعا وأبا!)
لم أستطعْ كبحَ دمعي منذ أنْ ضبطتكَ متلبِّسا بخيانتي، ممسكا القلمَ بيد، وصاقلا بالأخرى خيالَ امرأة فاتنة سواي؛ تختار لها ثيابها الباذخة، وجواهرَها، وتريق تحت قدَميْها أرقّ النسائم، وأعذبَ الأناشيد.
طرحتني فوق أحد الرّفوف يغطيني الغبارُ، وانهمكتَ في حبِّكَ الجديد، تتعبّد لها وحدَها (غالاتيا القادمة) ولا تعبأ بحرائقي الآتية، ولا بغيرتي القاتلة. (هل المخلوقاتُ اللحميّة وحدَها مَنْ يغار؟ كلا غيرتـُنا – لو تعلم – أكثرُ لهبا وضراما، وويلٌ لكاتب يخدش كبرياءَ أنثى أثيريّة مثلي!)
تركتني نهبَ المواجع والأحقاد، وأعرضتَ عن مباهجي، وأنكرتني حتى قبل أنْ يصيح الدّيكُ مرّتيْن؛ أنا "المتمرِّدة، والسّاخطة، والمصمّمة على الخروج من الهامش الضيِّق المتاح، لأدخل في المتن الصّاخب المخيف":
بغمضة عيْنٍ نسيتني، ولولا الرّمادُ لكانت الأخرى أمامي، تزدهي الآن عليّ، وتشمخ بأنفها عاليا: أصارحكَ أنَّ فرحا شيطانيّا استبدّ بي حين ابتلعها الرّماد، وغـيّبها الخراب. (تسقط الخيانة، ويحيا الخراب: وليتمجّد اسمُكَ يا رماد!)
رائع! عادت الكهرباءُ الآن، لا تأبهْ لسخافات امرأة ظمأى مثلي، ودعنا نخرج الآن، لا أجمل مِنْ بغداد في مثل هذا الوقت من السنة، ومن اليوم، سأتأبّط ذراعكَ، وسنتمشى ساعاتٍ في شارعنا الحميم هذا، ولنْ نعود إلا بعد المغيب بسويعات، (لكنْ لنْ نتأخر أبدا، كيْ لا يفوتكَ موعدُ الدّواء)
سنبدأ من "الأميرات"؛ من قامات اليوكاليبتوس الباسمة، وعرائش الجهنـّميّات الشاردة، وسنعرِّج على "المنصور"؛ من "شارع 14رمضان" صعودا، إلى "الروّاد" نزولا، قد نجلس قليلا في "مطعم السّاعة" نستمع إلى بعض الموسيقى، وندندن بما قد تسعفنا به ذاكرتنا منْ أغانٍ، (هل تذكر: Plaisir d'amour ne dure qu'un moment... Chagrin d'amour dure toute la vie... إيه مسرّاتُ الحب... أحزانُ الحب!) ونتناول كوبيْن من العصير الطازج، (كنـّا قبلا نجلس في أحد المشارب، ونتناول كأسيْن متوهّجيْن؛ كأسَ نبيذ أحمر لي، وآخر من كونياك ريمي مارتان لك: نخبكَ حبيبي!)
قد نكون على عجلة منْ أمرنا، فنمرّ بسرعة على تسجيلات "أغانينا"، أو تسجيلات "إشبيليّة"؛ نسأله عن سيمفونيّة، أو سوناتة جديدة لواحد من أحبّائكَ الغابرين، وسيسمعنا كعادته مزيجا ممّا لديْه مِنْ ألحان: "شنو رأيك بهاي عيني؟ زينة؟ بكيفك إذا ما تعجبك نرجّعها، ممنون، تدلّلْ، هلا..."
سأسحبكَ رغما عنكَ إلى إحدى واجهات الأزياء النسائيّة الراقية، (لا تنسَ أنـّني امرأةٌ: شابّةٌ، وجميلة) وسأسألكَ كعادتي: "هل يلائمني هذا القرمزيّ؟ أم ذاك الأزرق؟" وستجيبني ضاحكا كعادتك: "وحده الأسود يلائمكِ، بل الأبيض: يا بجعتي السّمراء، يا أوديتي"
سيكون المحلّ غاصّا كعادته في مثل تلك الساعة من المساء ببعض الفتيات الأنيقات، فيهنّ ربّما بعضُ طالباتك (لشدَّ ما أكره تلك الشقراء المترفعة. قلْ إنـّني الأجمل) وسأحكم عينيَّ حولك، والويلُ لكَ إنْ رمقتَ إحداهنّ بنظرة واحدة، أو نصف نظرة (تعرفني جيّدا حين أغار!)
ما رأيكَ لو نتخلّى هذا المساء عن جولاتنا الباذخة تلك، وننزل قليلا إلى ضجيج البسطاء، وفوضاهم: لو نترك "المنصور" ونواديه، ونغوص في درابين "الرّشيد"، لو نتسكّع في محلات "السّنك"، ونضيع في زحام "الشورجة"، وننتشي بروائح الدّارسين، والقرنفل، والزنجبيل. ما رأيك لو تصايحنا قليلا مع باعة "سوق هرج"، ولو اشتريْتَ لي بلبلا من "سوق الغزل"؟ (اطمئنّ سأطلقه حالما نشتريه، ولنْ نحتفظ به حبيسا أبدا)
ماذا لوْ ختمنا نهارنا بجولة في "الكاظم"؛ نطوف مع الطائفين، ونقبِّل العتبات مع المقبّلين؟ لو تناولنا اللبلبيّ" أمام "جراج باب المعظم"؟ وكوبيْ "شربت زبيب" لدى "الحاج زبالة"، لو التهمنا "السّمك المسگوف" في واحد من مطاعم أبي نواس، أو باراته؟ وعدنا آخرَ الليل مشيا نترنـّح كالصَّعاليك؟ ونتبادل القـُبَلَ كالمجانين؟
يللا عيني، إتأخرنا هوايا... شنو؟ ها؟ صحيح... نسيت، اليوم هو الأربعاء، ولم يبق على موعدكَ الأسبوعيّ معه* أكثر من ربع ساعة، زين، ستجلسان هنا؛ في هذا الرّكن من الصّالون، فوق هذه الأريكة الزرقاء، ولكنْ بعيدا عن لوحة الغراب تلك (أشعر بانقباض كلّما حدّقتُ فيها، عفيه عيني انزعها، أبعدها عن ناظريّ، وضعْ مكانها إحدى لوحاتكَ أنت: "المرأة التي حلمت أنـّها البحر" مثلا، أو أية لوحة أخرى، أو فليبقَ مكانها فارغا؛ أحيانا الفراغُ أرحم من هذا السّواد).
سينسيكما الحديثُ ارتشافَ القهوة، التي تحرص دوما على أنْ تغليها بنفسك في كلِّ لقاء (لشدَّ ما هو بارعٌ في تحريضكَ على الكلام، وفي استنطاق ذاكرتك!)
بدأتما الحوار... ولم يبقَ أمامي الآن سوى الانسحاب، والعودة إلى قوقعتي، أرقبكما من بعيد بحنان، وبصمت متواطئ، وأمسح ذرّاتِ الغبار المتربّصة بمتاهاتي. "راح الأكو والماكو"... وبقي الغبار؛ وحده الغبارُ يبقى: ممجّدٌ اسمُكَ إلى الأبد يا غبار!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* المقصود: الناقد العراقيّ المعروف الأستاذ "ماجد صالح السامرائي"؛ أبرز، وأبرع مَنْ حاور جبرا إبراهيم جبرا. وإليه أرفع خالصَ الشكر والتقدير للمعلومات القيّمة التي تفضّل بتزويدي بها عن منزل جبرا، وعن تصميم غرفه، ولون أثاثه، وعاداته اليوميّة، التي لا يعرفها إلا المقرّبون من هذا الكاتب العظيم.