استئناف لصورة القاهرة في الذاكرة
تتنادى مشاهد ذاكرتي بعضها لبعض، وتأخذني لمرئيات تفيض بأحاسيس تلك الأوقات البعيدة.
حسناً، أعتقد أننا وصلنا إلى مصر في لقائنا السابق.. أليس كذلك؟!! حرصت دائماً على رؤية الواقع، ولم أتقوقع في التخيلات حوله قبل الاقتراب منه واللقاء معه ومعرفته وإدراكه، ومن ثم التكيف معه بالمقدار الذي أستطيعه، دون أن أغفل عن رفض ما لا يعجبني فيه. ومصر لم تكن الاستثناء في قناعتي هذه بأي حال من الأحوال، وبما أنني لم أحمل عنها صورة مسبقة في ذهني، فإن كل ما في مصر فاجأني وأدهشني، فواقعها اتصف بالجِدّة تماماً بالنسبة لي.
أعود وأنوه بأن التجربة المصرية هي التي بلورتني إلى حدٍ كبير. فبدرو مارتينث مونتابث، كشخصية، وكمستعرب، سواء في تمثله للحياة أو للاستعراب، هو نتيجة ومنتج لتلك التجربة الشابة أساساً. ففي القاهرة عرفت معنى أن تكون الحاضرة صرحاً معمارياً أخاذاً، إضافة لتموضعها الجغرافي المدهش. أمر خبرت ما يشابهه مع استنبول ومدينة مكسيكو، فكل من هذه الحواضر فاجأتني بقامتها الصرحيّة كماً ونوعاً وإنسانياً.
فيما لو تركنا جانباً أهمية وعظمة الفن المصري الفرعوني، الذي أثارني وقضيت الساعات في تأمله، فإنني أشدد على جماليات التراث العربي الإسلامي، ومؤثره في نفسي قبل أي فن آخر. أعتقد أنني مررت على تفاصيل القاهرة شبراً شبراً، فقد اعتدت تناول خريطة المدينة، لتقسيمها إلى مربعات أخذت أتفحص ملامحها على أرض الواقع منطقة منطقة، وحارة حارة، خاصة القاهرة القديمة القروسطية، ودون أن أنسى المناطق المحدثة فيها بالطبع. وكما هو معروف القاهرة هي مدينة تأسست في القرن التاسع الميلادي، ويلفت الانتباه أن من أرسى دعائمها المعمارية أجنبي من أصول صقلية، وأقصد هنا جوهر الدين الصقلي (928-992)، قائد الجيوش الفاطمية التابعة لـ المعز لدين الله (حوالي 932-975م). ومخططها المعماري يوضح أنها قامت على أبعاد مستطيلة، وكأنها تحاول أن تشابه ملامح المعسكرات الرومانية القديمة.
حتى الآن عندما أسافر إلى القاهرة، أنتهز الفرصة حينما يكون لدي وقت لزيارة شارع المعز لدين الله الفاطمي، وهو اسم مؤسس الدولة الفاطمية في مصر. في هذا الشارع الوريد أشعر بكثافة الحياة البشرية والفنيّة المشادة على مر العصور، وأتلمس المقدرات الإبداعيّة الموجودة فيه كما لو كان سرة العالم، حيث يستطيع المرء هناك التعرف على ما تعنيه عبارة "أم الدنيا"، ويُبصِر المعنى ويتَبَصر فيه. كثيراً ما توقفت عند قامة الأبنية الأخاذة للسلطان قلاوون، وبما أن أطروحتي للدكتوراه كانت تجول في العصر المملوكي، فإنني خضت في دقائق الفضاء الملوكي والتشعبات المتعرجة من ساحة "سيدنا الحسين"... حسناً، كل تلك القاهرة.. القاهرة الأصلية أذهلتني..
اقتفاء أثر الأندلس في المشرق العربي
أما الكشف الأهم بالنسبة لي، فكان في مسجد ابن طولون الذي يغلب عليه طراز سامراء، حيث المئذنة الملوية والمدرجة. كنت أزوره في فترة بعد الظهر وأصعد إلى أعلى المئذنة، أتأمل انبساط القاهرة على مد روحي. وفيه صادفت قطعاً أثرية تعود بطرازها إلى فنية مسجد قرطبة الأندلسي، وذلك بسبب ما حمله معهم أهل الأندلس في أسفارهم وهجراتهم إلى المشرق العربي، فبعد القرن الثاني عشر والثالث عشر ميلادي، أي خلال ما يسمى في التاريخ الاسباني بحروب الاستعادة، بدأت تباعاً هجرات أندلسية من شبه الجزيرة الإبيرية إلى أماكن عدة من الرقعة الجغرافية الثقافية العربية، وبعض هذه الهجرات وصل إلى المشرق العربي، وفيما يبدو أنها كانت تضم في قوافلها بنائين ومعماريين ومعلمي فن وصناع زخرفة ومثقفين وفلاسفة. وللأسف لم يتبق من بين أسماء أفراد هذه الجماعات الأندلسية المهاجرة الكثير، باستثناء أسماء بعض المفكرين وأهل العلم. وأعتقد أن البحث والتنقيب الأكاديمي حول حضور ومؤثر الجماعات الأندلسية في المشرق العربي هام جداً، ويجب أن يولى عناية خاصة، ولا أقول في مغربه لأنه درس بشكل وافٍ وموسع. بمعنى أنه موضوع مازال ينتظر البحث والدراسة في المشرق العربي.
من كل ما سبق أود التنبيه إلى أن الهجرة الأندلسية بعد منتصف القرن الثالث عشر إلى المشرق العربي هي هجرة سابقة على طرد الموريسكيين بعد سقوط غرناطة 1492، لذلك فهي تختلف عنها من حيث مقاربتها البحثية. فعلى سبيل المثال لدينا ولي الاسكندرية، ومن أهم شيوخ الدين المعروفين في تاريخها، وأقصد هنا أبو العباس المرسي الأندلسي (1219-1297)، الذي أقام في هذه المدينة البحرية ثلاث وأربعين سنة ينشر العلم فيها، ويدعو للطريقة الشاذلية في التصوف، ولُحدّ فيها، وفيما بعد أقيم حول القبر مسجد المرسي أبو العباس، بطرازه الأندلسي الذي يضم الضريح عند القبة الغربية مع ولديه. وبالقرب من أحد سواحل الاسكندرية أيضاً تقع الزاوية المسجد التي يضم ضريح الإمام الفقيه الزاهد الشاطبي. وكما هو معروف ولد الشيخ الشاطبي (1196-1360) في Játiva "مدينة شاطبه" شرق "الأندلس التاريخية"، واسمه أبو عبد الله محمد بن سليمان المعافري الشاطبي. ومن "مدينة شاطبه" هاجر إلى المشرق العربي، فوصل دمشق ومنها جاء إلى الإسكندرية وأقام فيها، وحتى الآن يعرف الحي القريب من مدفن هذا المتصوف بحي الشاطبي. أما إذا خطر للواحد فينا أن يسير في مدينة الموتى في القاهرة فإنه يستطيع أن يقرأ على شواهد القبور أسماء نسبة كالاشبيلي، والمالقي، والمرسي، والطليطلي، والقرطبي... الخ.
ولا يفوتني ذكر الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي الأندلسي (1164-1240) المولود في مدينة Murcia مرسية والمقيم لفترة هامة في اشبيلية حيث تبلورت على ضفافها فلسفته وروحانيته الصوفية، قبل أن يبدأ رحلته الطويلة والمتعددة المحطات في العالم العربي المتوسطي وشبه الجزيرة العربية التي كتب فيها "ترجمان الأشواق"، كاحتفاء بامرأة تدعى "نظام"، والتي يستدعي اسمها الهرمونيا والانسجام، بعد ذلك وصل حتى الأناضول وقونية الواقعة حالياً ضمن الأراضي التركية، ليعود أخيراً ويحط رحاله في دمشق نهائياً، ويسلم الروح فيها لرفيقه الأعلى على سفح جبل قاسون.
وقبل أن أتابع أود أن أشير إلى أن زيارة قبر محي الدين بن عربي في أعالي حي الصالحية الدمشقي كان بمثابة تجلّ آخر وأنا أتطلع لنساء الحي، وهن يقمن صلواتهن ودردشاتهن مع وإلى جوار ضريح الشيخ الأكبر، يطلبن منه الازدهار لعائلاتهن والتوفيق بعرسان لبناتهن.. كأنه قديسهنّ أو وليهنّ الحامي.
حسناً كل هذه الاكتشافات غمرتني بالأحاسيس والانفعالات الإنسانية الفريدة، وأشير إلى أن الفرادة الكبرى كانت في فضاء القاهرة بلا أدنى شك، والذي أخذت أنقب فيه بلا كلل، رغم تنبيهات الأصحاب لي بالانتباه والحذر من خطورة زيارتي أو سيري في بعض الأماكن كـ"الدرب الأحمر". ولكني أود التوضيح إلى أنه لم يحدث معي ما يسيء لتوقي وشغفي الإنساني والمعرفي، بل أؤكد على أنني صادفت في كل الأماكن، حتى التي حُذرِت منها بيتاً وسكناً لي، وشعرت بالراحة لوجودي بين أهلها وقاطنيها، فقد تعاملوا معي بترحاب ويسر ولم أصادف أيّ ظرف صعب أو معيق أو مشين منهم.
أما غوصي في المنطقة القريبة عند خان الخليلي وبين القصرين، والتي نقلت لعالم التخييل في ثلاثية نجيب محفوظ، فكانت بالنسبة لذلك الشاب الاسباني الذي كنته بمثابة صعق معرفي وجمالي استثنائي.. ولا أتحدث عن رؤيا أطلال سور القاهرة، أو مسجد المؤيد قرب باب زويلة (1092م) الذي يعج بالنذور المعلقة عليه.
تعدد المشاغل التدريسية وتنوع المجتمع
إلى جانب مشاغلي الدراسيّة والمهنية المختلفة في مصر، عملت في حقل التدريس: في "المركز الثقافي الاسباني"، وفي قسم اللغة الاسبانية في "مدرسة الألسن العليا"، والتي سميت فيما بعد باسم كلية الألسن.
طبيعة عملي في كل من هذين المكانين كانت مختلفة تماماً، لاختلاف المجموعة البشرية التي عملت على تدريسها، والتي وصل الاختلاف البين فيها إلى حد التناقض المحض من وجوه عدة، فالطلبة في "مدرسة الألسن" كانوا من الشبان والشابات الذين يعودون لأصول مصرية أباً عن جد، بينما طلاب وطالبات "مركز الثقافي الاسباني" يتقدمونهم عمراً ومعظمهم من المصريين المتحدرين من أصول أجنبية ايطالية أو يونانية أو أرمنية أو بعض اليهود الاسبان. الأمر الذي فرض علي نوعية تعامل مختلفة مع كل مجموعة للاختلاف البين بينهم اجتماعياً وعمرياً.
كنت أظن أن المجتمع المصري متجانس المكونات البشرية، لكني بدأت اكتشف المعنى الفعلي للتعدد والتنوع والاختلاف والتلون واللاتجانس في مصر، والعالم العربي قبل التنظير الداعي له. وهو ما أخذ يتوطد كخبرة وكشفٍ لي مع الوقت، مما فتح عيني على أن الكثير من نقاط العلام والتوصيفات حول العالم العربي، والتي تلقيتها سابقاً خلال دراستي في اسبانيا، ليست صالحة ولا سارية المفعول على أرض الواقع، وبأنها يجب أن تتأتى من معطيات الواقع ذاته.
في الصباح كنت ألقي دروسي في "مدرسة الألسن" على شبان وشابات تراوح عددهم بين 40 إلى 50 طالباً، وبالنسبة لي كان هذا الجيل الشاب هو الآخر بمثابة اكتشاف عظيم. حقاً كانت مجموعة تدعو للإعجاب، بما كانوا يخلفونه لدى من يتعاملون معه من انطباع إنساني قوي، لبساطتهم وعفويتهم وعدم تعقيدهم وطيبتهم وقلبهم الأبيض، وتوقهم للإقبال على التعلم والتعرف وفتح الآفاق. ويمكنني القول أنني قابلت معهم مادة اسفنجية طرية قابلة لامتصاص المعرفة.
أما الطالبات من بينهم فعلمنني معنى الحياء والحشمة للشابات العربيات والمسلمات بالمجمل، ورأيتهن يتمتعن بسذاجة وبراءة كبيرة دون أن تفوتهن مسحة من الملعنة بذات الوقت، حتى أن هاتين السمتين تمارسان على نحو طبيعي فريد ودون تنافر جمالي. وفي معرض الحديث هنا أذكر ما حصل مع زميل لم يكن مستعرباً ولكنه كان يقوم بتدريس الاسبانية في نفس المدرسة، ففي فرصة الدرس تقدمت طالبة فتية وناولته هدية ألصقت عليها قلباً صغيراً. فهرول نحوي مستفهماً وقال لي: ما قولك في هذه الهدية القلب هذه؟!! فأجبته: حسناً، هي طريقة للتعبير عن المودة لا أكثر، ولا تحاول أن تفهمها على نحو مختلف. في حقيقة الأمر، هو لم يكن ينتظر مثل هذه المفاجأة من صبية بعمرها!!.
مع تلامذتي الشبان في مدرسة الألسن كنت أستطيع الذهاب عند المساء إلى جبل المقطم للنزهة، أو لتبادل قص الحكايا معهم، إلى جانب ممارسة الرياضة وإجراء مباريات في القفز والركض. وهناك تعرفت على المشهد الليلي البديع للقاهرة وأنا أتأمله من المقطم.
أما بعد الظهر فكان مختلفاً كلياً، فطلاب وطالبات "المركز الثقافي الاسباني" ينتمون لشريحة تمثل مجتمع البرجوازية الكبرى، وأغلبهم من أصول أجنبية، دون أن يعني هذا نقيصة بحال من الأحوال، بل رأيت في كثير منهم شخصية ممتازة، وربطتني مع البعض منهم صداقات عدة. ولكن مجتمعهم كان مجتمعاً آخر يختلف عن مجتمع الفترة الصباحية. معظمهم من مرتادي نادي الجزيرة حيث كانوا يداومون على لعبة التنس، رياضة لم أكن أمارسها لا أنا ولا طلاب الفترة الصباحية. وأغلبهم كان بعمر ناضج ويود تعلم الاسبانية لغايات ترك البلد والهجرة، خاصة إلى أميركا، هذا يعني أن حاجتهم للغة كان بغية إعادة تخطيط مستقبلهم في تلك المرحلة. ويجب أن أقول أن اهتماماتهم بالقضايا العامة المحيطة ومستقبل مصر كان يختلف اختلافاً كبيراً، كانوا يرون أن واقعهم في مصر معقد وبلا مستقبل، وينظرون إليه من مسافة إبعاد رغم رفاهية الوضع الذي يعيشونه، وعدم مبالغة السلطة في نزع الملكية كما كانوا يتوقعون في البداية. بينما طلاب "مدرسة الألسن" كانوا يؤمنون ببلدهم وينهمكون بقضاياه في تفاصيل دفتر يومياتهم. أما عندما كنت أخرج مع طلبة المركز الثقافي في الليل، فبدلاً من المقطم كنت أرتاد برفقتهم أماكن لعب البوكر على سبيل المثال، أو محال الرقص المعروفة فيما بينهم. حسناً، لنقل أن حياتين مختلفين كانتا تعلنان عن نفسيهما، في الصباح وفي المساء، وكأنه العيش في عالمين متباينين. المساء كان العالم ما بعد الاستعماري الذي يمكن أن ترى دقائقه موصوفة في كثير من الكتب، ككتب الروائي الانكليزي لورنس حين يتحدث عن الاسكندرية.
تداعيات ثانوية تقاطع سيالة الحديث
من بين طلبتي في المركز الثقافي الاسباني تلميذ مصري من أصول أرمنية، أذكر أنه كان يكنى بـ"مانويكان". تلميذي الصديق هذا كان له الفضل في تعليمي قيادة السيارة. على يده تبادلنا الأدوار، فأضحى هو المعلم وأنا التلميذ. مانويكان قال لي: لا تهتم أستطيع أن أعلمك قيادة السيارة بثلاث دروس ومدة كل درس نصف ساعة. وبالفعل أعطاني الدروس المتفق عليها، وقال لي في اليوم الثالث: غداً لديك امتحان قيادة للحصول على الشهادة. وجاوبته: كيف لي أن أمتحن بهذه السرعة؟ قال: لا تهتم فمن سيمتحنك هو صديق لي. حسناً، ذهبنا للمكان المخصص لامتحان من يرغبون بالحصول على شهادة السوق. وكنت اشتريت سيارة صغيرة عتيقة وذهبت مع مانويكان، وأذكر وجود كشك صغير ومضمار معبد من إسفلت الطريق. وقال لي المهندس المشرف تستطيع أن تأخذ السيارة وتقوم بدورة حول الطريق لتعود منها إلى هنا من جديد، ثم استدار ودخل الكشك، وأظن أنه حتى لم يرني أو يكلف نفسه بالتطلع على سواقتي. أخذت السيارة وانعطفت مع منحنيات الدورة، وعدت قائلاً: ها قد عدت. فمد يده للتو ببطاقة السواقة. وبالذهاب إلى المركز والعودة إلى البيت مع المساء تنكبت بحادثتي سير: واحد في رحلة الذهاب، والأخر في رحلة الإياب. حينها كانت تسوية حوادث المرور الخفيفة تتم بالتصافي بين اللبن وقشدة الحليب، يعني أهلية محلية بالاتفاق بين الطرفين، والتعويض على من اصطف الحق بجانبه. وكل شيئ بسلام.. وأتابع منحنيات النادرة لليوم الذي أخبرني فيه، لاحقاً، صديق مقرب مصري يعمل في جامعة غرناطة هو علي توفيق حين قال لي: سأخبرك بشيئ، هل تعرف من حصل على شهادة سواقة دوليّة من مصر؟؟ وتابع قائلاً: ميغيل دروان. أجبت: ميغيل دوران؟؟!!.. رئيس المنظمة الاسبانية لفاقدي البصر.. ولكن هو نفسه أعمى!!.
تواريخ من سياق تعليم الاسبانية في مصر
تم إدخال اللغة الاسبانية كإحدى المواد التي تدرس في "مدرسة الألسن" عام1957. وقد احتفل القسم في آذار/ مارس 2007 بمرور خمسين عاماً على تأسيسه في مؤتمر حضرته بصفتي أول من تولى رئاسة القسم. ومن أوائل الأساتذة الذين قاموا بالتدريس إلى جانبي في قسم اللغة الإسبانية الأستاذ خواكين بالبيه ود. عطيات هيكل.
واحدة من صعوبات العمل التي واجهتني في "مدرسة الألسن" وفي "المركز الثقافي الاسباني"، هو عدم وجود منهج أو برنامج تدريسي، وكان علي وضع البرنامج وساعدني في هذا الأمر الأستاذ خواكين بالبيه، الذي أضحى أستاذاً غير متفرغ في "كلية التاريخ" في جامعة برشلونة، وقيل لي أن التلامذة يتناقلون هذا المنهاج التدريسي فيما بينهم ويصورون نسخاً منه إلى الآن. وأخبرني بذلك واحد من أصدقائي المقربين هو الباحث المصري محمد أبو العطا، من الجيل المتوسط، العارف بعمق بالثقافة أميريكا اللاتينية. حسناً هذا الكتاب المنهجي لتدريس اللغة الاسبانية، الذي وضعته مع خواكين بالبيه، طبع حوالي سنة 1957 أو 1958، وفيما يبدو أنه يعرف بين الطلاب باسم "كتاب بدرو".
كرنفال شخوص من مصر
رغم أن وشائج صلات متينة عقدت بيني وبين شخصيات ثقافية بارزة، إلا أن أهل مصر في موزاييك الدروب وأرابيسك الحارات شكل مدار اهتمامي بالمقام الأول، هم الناس الذين كنت أصادفهم في سوق العتبة، حيث كنت أذهب لشراء السمك والبحريات بسعر رخيص، خاصة أثناء الزيارات العائلية، فقد حضرت أمي روساريو لزيارتنا في القاهرة وكذلك عائلة ميرثيدس عدة مرات، خاصة حين ولادة الأحفاد، فوالد زوجتي كان يحب أن نحضّر له سمك الكبوري كثيراً أو القريدس الكبير الحجم، أو الجمبري. كنت أذهب لسوق العتبة وأُعلي صوتي باللهجة المصرية: أوقه/ كيلو وربع من الجمبري والكابوريا. وأتناول الكابوريا وهي ماتزال حية في كيس مخروطي كبير، وأعود لأشق طريقي نحو بيتي في الزمالك.
حسناً، ما الذي يمكن أن أحدث به حول الناس الذين كنت أصادفهم في الأتوبيس، أو على أرصفة التراموي!!!... أو الباعة الجوالة بحملهم العظيم من السجاجيد، ومراوح التهوية أو حتى حبات الاسبيرين، أو بضاعة البيض المسلوق، أو سندويتشات جاهزة للالتهام!!!.. كل ذلك في دكان متنقل، هذا إذا لم أتطرق لمشهدية بائعي الكشري وهم يدفعون عرباتهم بسلعتها الشهية!!
تلك القاهرة، قاهرة الشعب السخي بطبعه، والتي لم تكن تعرف للحساب المادي الإنساني من معنى، احتلت مساحات واسعة من اهتمامي، رغم أنني أخذت مع الوقت وبزيارات لاحقة أحدس بأنها بدأت تفقد الكثير من ملامحها بتقدم الروح المادية وطبائع الاستغلال فيها، وبغيرها من البلاد العربية، بخطوات حثيثة.. حينها كانت الدنيا تتمحور حول القلب والأحاسيس أكثر مما على قطعة النقد.
المستعرب في حضرة اللغة
بالطبع مع الوقت كانت لهجتي المحكية تتحسن، ومعها كان تمثلي لما أراه وأُحدث به وأسمعه يتوضح بشكل أكبر، وهنا أود القول بأن ازدواجية اللغة في المجتمع العربي هي أول مشكلة تصادف المستعرب أثناء إقامته فيه. يذهب المستعرب وهو يظن أنه يستطيع التحدث باللغة العربية في أرضها، ولكن الواقع اللغوي يبرهن له عن أمر مختلف: هو واقع لغوي مشابه ولكنه آخر؛ وهنا تبدأ حيرة وبلبلة المستعرب الذي كان يظن أنه يعرف اللغة، التي صرف سنوات في تعلمها، ولكنه يقف عاجزاً عن فهمها في الشارع وبين أهلها. في حقيقة الأمر أرى بأن اللغة العربية، تعلم المرء معنى التواضع بكافة مراحل التعامل معها. هي لغة لابد من التواضع أمامها بامتياز – بل ويجب على المرء أن تكون متواضعاً باستمرار مع الأشياء الخاصة بالعالم العربي – لأنها دائماً ما تعطيك الانطباع بأنك تقف على الدرجات الأولى من المعرفة والكلام، وأبداً لن تقدر على الوصول لنهاية الطريق. هو الدرس الذي ينسرب من ذات اللغة العربية.
من جانب آخر، كنا فهمنا أنه حين يكون الشخص ثنائي اللغة فهذا يعني أنه يُخضع لغتين مختلفتين لسيطرته بنفس الوقت. ولكن مع العرب يكتشف المرء أنهم ثنائيو اللغة لذات لغتهم. هذا الشرط اللغوي للعربية يجعلك متواضعاً وحذراً من ادعاء معرفة اللغة. وأؤكد أن العمل في حقل الاستعراب هو تجربة استثنائية فريدة بامتياز، فمادة البحث لا يمكن أن تستنفذ على الإطلاق في مجالاتها كافة، خاصة تلك المتشابكة مع المجال اللغوي.
عادة ما نقول بأنه لا حدود للأدب والتاريخ، ولا نشير في هذا الرأي إلى اللغة، لأننا نظن أنه من الممكن احتواءها والاحاطة بها، وهذا غير صحيح بالمطلق، وفي حال اللغة العربية الموضوع أكثر قوة في دحض هذا الرأي، لذلك يقال عن اللغة العربية بأنها المحيط الممتد العصي على الاحتواء والامتلاك. صحيح أن اللغة العربية تعلم التواضع، ولكنها تُتعِب أيضاً، فعلى الدوام ترى بأنك ما زلت مبتدأ، مع كل سنوات عمرك التي صرفتها وأنت تنبش في تفاصيلها بكل الحب والشوق والرغبة والاهتمام. وهذا الاحساس المتولد بأنك مبتدأ يتعبك وينهكك، وفي حالات معينة يشعرك بالإحباط إن لم أقل الفشل.
أحاول أن أقارب الأبعاد النفسية لمن يشتغل في أبحاث الاستعراب، والتي من النادر أن يشار لها أو يتم تناولها بالبحث. وأعتقد أنه من المناسب معالجتها والحديث عنها في يوم من الأيام.
المستعرب يشعر في داخله بشيئ من الاحباط، وهنا أتحدث فقط عن أهل الاستعراب ممن يحبون اللغة العربية، لا أولئك الذين لا يحبونها وهم كثر، ففي حالتي أعشق هذه اللغة والفضاء الثقافي الذي تضمه. وعندما تحب فإنك تتوق، حتى ولو مدفوعاً برغبة خفية، للامتلاك ما تحب بالمطلق. ولكن اللغة العربية عصية على الاستحواذ... أبداً لن تصل لامتلاكها. وتسأل نفسك كيف أهيم توقاً ولا أستطيع الوصول لغرضي.. لكل ذلك تتمرد في داخلك، ولكنها تتابع ممارسة جاذبها عليك باستمرار.. إنه ذلك الحب الذي لا نهاية له.. تتعب دون أن ينفذ شغفك أو يجف.
الاستعراب هو أمر مجهد..
كل هذه الأشياء لم أتمثلها دفعة واحدة أثناء إقامتي في مصر وإنما مع الوقت، ولكن الحجر الأساس لكل أفكاري التي تبلورت لاحقاً توجد هناك في تجربتي الأولى في مصر تلك المرحلة.
أحب اللغة العربية والثقافة العربية والبلاد العربية.. أحب بعمق سوريا ومدن دمشق وحلب.. ما زلت أذكر حين زرت لأول مرة موقع أوغاريت في رأس شمرة قرب اللاذقية، وآثار تدمر.. أو زيارتي الأولى لسامراء في العراق، أذكر خفاياها الأثرية، أو شط العرب، أو صحراء شبه الجزيرة العربية، أو اليمن، أو الأطلس في المغرب... نهايته كل تجربة كانت تولد في داخلي أحاسيساً لا يمكن مقارنتها بأي شيئ آخر.
شخصيات عرفتها في مصر
عرفت الكثير من الشخصيات، وعدد منهم ترك أثراً عميقاً في نفسي، إلا أنني في معرض الحديث هنا لا بد من الايجاز والاقتصار على تسمية من تأتي به الذاكرة. أحياناً، يتذكر المرء بعض الشخصيات وتغيب عنه أخرى ليست أقل منها أهمية فيما يتعلق بتكوينه الإنساني والمعرفي. ولكني من ضمن تلك الأيام لا يمكن أن أنس اليوم الذي تعرفت فيه على نجيب محفوظ، حينئذ كان موظفاً في دائرة حكومية، كأغلبية أهل مصر، الذين يمكن تصنيفهم مجازياً وحسب ما رأيت تحت فئتين: الكاتب المصري أو شيخ البلد. توجهت لرؤية محفوظ في مكتبه حين كان مديراً عاماً لـ"مؤسسة دعم السينما"، أذكر أننا كنا في أواخر عم 1958. في واقع الأمر بدا لي المكتب البيروقراطي في مصر عالماً قائماً بحد ذاته، عالماً يخص ما يقارب الـ 36 شخصاً – الذين أحصيتهم – أو أكثر يموجون في حركة دائبة، ويتناقص عددهم تباعاً حتى ثلاثة بدخولهم الحثيث وخروجهم المتردد، ضمن ما يوحي بجدران الفوضى الأربع، دون نسيان فناجين القهوة أو كؤوس الشاي بأبخرتها الفواحة وهي تمر من الباب. وحين وجب علي القيام بثلاث أو أربع زيارات لمكاتب رسمية مختلفة، حتّم علي شرب ثلاثة أو أربعة فناجين قهوة على التوالي، لعل هذا ما طوّر موهبتي لشيئ هام في الحياة وهو الصبر والتروي، كما وبلور حس المراقبة لدي، فالحراك الإنساني في العالم العربي يدعو النظر للتحرك معه ومشاهدة تمسرحه وتقليب حيثياته بصرياً ومعرفياً.
أما ما يخص شعائر تبادل الحديث، فأعتبر أن العرب يندرجون تحت قائمة معلمي المحادثة بامتياز، ويمكن التمييز بين العربي الذي يمتلك ناصية الكلام والآخر الذي يصغي إليه، كما وأن تكتيك وتقنيات كل من طرفي طقس المحادثة مختلفة، وفي النهاية لا بد من الوصول لاتفاق، حتى يمكن القول أن العالم العربي هو نتيجة للتعاقد أو صيغة التوافق بين أطراف مختلقة. وأرى أن تعامل المستعرب مع العرب فيما يخص هذا الشأن الحواري، أشبه ما يكون بممارسة لعبة مبارزة سيف الشيش، بالمعنى الجدلي لهذه الاستعارة. ففي مناورات المبارزة يُعلّم المتحدث في نفس الوقت الذي يتعلم فيه حتى على المستوى اللغوي. فغالبية الغرب الساحقة لديها مستوى معين من اللغة، وأنت لديك مستوى آخر، والمهمة الكبيرة هي في تقريب هذين المستويين بين العربي والأجنبي، حتى العثور على لغة مشتركة، بغض النظر عن الوصول لتفاهم أو عدم تفاهم بين الطرفين.
آآآآ كنت أتحدث عن لقائي مع نجيب محفوظ!!!
توجه المستعرب الشاب الذي كنته في إحدى صباحات القاهرة الخريفية الرائقة لزيارة نجيب محفوظ، بالطبع كان شخصية مشهورة في مصر كما في كافة البلاد العربية، ولكنه لم يكن معروفاً على الإطلاق خارج هذا النطاق في البلاد الغربية. دخلت ذلك المكتب ومحفوظ حينها لم يكن قد بلغ الخمسين من عمره، أعتقد أنه كان في السابعة والأربعين. وكما الرئيس جمال عبد الناصر كان الروائي نجيب محفوظ يمتاز بهيئة فرعونية غرانيتيّة مع جدية حاضرة على محياه.
في سنوات لاحقة وبعد حصوله على جائزة نوبل، دعيت إلى القاهرة لحضور ملتقى احتفالي على شرفه، ولاقيت تحولات ذلك الرجل الذي كنت قابلته من انحناءة الجسد إلى انكماشه ونحوله الواضح، وخلت نفسي كما لو أنني كنت في اللقاء الأول أمام شخص يختلف فيزيائياً عن الآخر، إلا أنه في حقيقته ككائن إنساني ما برح نفسه.
من غرائب الأمور أن محفوظ الأول الذي عرفته كان شخصاً جدياً، طيباً، إلا أنه حافظ باستمرار على مسافة إبعاد مع الشخص الذي يقف أمامه، أما محفوظ الذي قابلته مع مرور السنين فكان أكثر قرباً واندماجاً مع الآخرين، دون أن يفارق حسه الرفيع بالسخرية، وسمة اللماح وقدرته على ولوج دخيلة الآخر في تعليقاته وردود أفعاله، وهو استنتاج أفضى لي بصحته بعض المقربين منه كالروائي جمال الغيطاني
لنعد للصباح الخريفي في لقائي الأول معه، حينها لم أتوجه بغرض محدد تماماً. لنقل أني في مجمل لقاءاتي مع الشخصيات المختلفة كانت الصدفة تفعل فعلها، ومن ثم تتطور العلاقة طبيعياً تبعاً للظروف التي تتقاطع مع طريقي. لنعتبر أن غايتي الأساسية للقاء محفوظ كانت للتعرف عليه ومن ثم إجراء مقابلة معه، أو الترجمة له.
حينها كنت أعمل على إصدار al-Rabita "الرابطة"، مجلة ثنائية اللغة تنطق باسم "المركز الثقافي الاسباني". وفي معرض الحديث هنا أود أن أنوه بإخلاص لشخصٍ مصري قدم لي عوناً كبيراً في تحريرها، كان طالباً وموظفاً في المركز.. رجل أصيل، ابن بلد بصح وصحيح، اسمه محمد كمال يوسف، كان بدأ بتعلم الاسبانية لمحبته بها في الأربعين من عمره تقريباً، ومعه وجدت عوناً كبيراً فيما يخص "مجلة الرابطة"، والتي ظهرت فيها مقابلتي مع الروائي نجيب محفوظ: الشخصية غير المشهورة حتى ذلك الوقت في الفضاء الأوربي الغربي. كذلك ظهرت فيها أول ترجمة للغة الاسبانية لأحد النصوص المحفوظيّة من مجموعته القصصية "همس الجنون"، وذلك من قبلي؛ بعدها لم أعد لترجمة محفوظ ولكن النص المترجم الأول يعود لي.
ومهد ظهور المقابلة مع نجيب محفوظ في مجلة "الرابطة" لسلسلة من اللقاءات مع كتاب الرواية في مصر. وهو ما جعلني أتعرف على كاتب القصة والناقد يوسف شاروني (1924-)، أما الشخصية الثانية التي أود أن ألح على تذكرها، فتعود للكاتب والروائي يحيى حقي (1905-1992).
حسناً... ما الذي عناه لي اللقاء مع يحيى حقي؟؟!!
...الكثير!! ...الكثير!!
التقيته في المكتبة الوطنية، وقتئذ كان مديراً لـ"دار الكتب والوثائق القومية"، ذهبت إليه وصعدت السلالم إلى مكتبه الصغير في الدور العلوي. ومن شدة تأثري بشخصيته سميته في إحدى مقالاتي بـ "بسمة مصر"، لابتسامة تعلو محياه باستمرار.
ذهبت أيضاً لزيارة الشاعر صلاح عبد الصبور (1931-1981)، أذكر أننا تقاسمنا سهرة بديعة في كازينو مطل على النيل. وكان قد مهد للقائي معه صديق عزيز مشترك هو د. صلاح فضل.
تتداعى صور الأصدقاء والمعارف من طيات الأيام ولا تتوقف!!..
ما الذي أستطيع أن أحكيه عن الأديب محمد عبد الحليم عبد الله (1913-1970)!!! أو الكاتب القصصي والمسرحي يوسف إدريس (1927-1991)!!! أو الممثل الشاعر والقصصي وكاتب السيناريو عبد الرحمن الخميسي (1920-1987)!!
أغلب هؤلاء المبدعين ظهر حواري معهم في "مجلة الرابطة" في وقت لم يكن الضوء مسلط عليهم في الثقافة الاسبانية، وأُلحِق كل لقاء بترجمة لنص أدبي لهذه الشخصية المبدعة.
داومت باستمرار على إرسال نسخ من أعداد المجلة للسفارة الاسبانية، والتي بدورها كانت ترسلها إلى اسبانيا، ويمكن مراجعة أعدادها كاملة في أرشيف "المكتبة الإسلامية" في مدريد. في كل الأحوال هي مجلة متواضعة توضح افتتاحية العدد الأول منها الغاية الرسمية من إصدارها: "لتوثيق عرى الصداقة بين اسبانيا والعالم العربي"، كما وتهدف إلى "تجديد روابط الأخوة والتفاهم المتبادل وإحياء الثقافة التي كان لها في القديم شأن عظيم بين اسبانيا والعرب"، كذلك تتوجه إلى شعوب أميركا الجنوبية وإلى الجاليات العربية هناك. ولا يفوت الافتتاحية التنويه إلى أنه وقع الاختيار على اسم المجلة: al-Rabita "الرابطة" لكونه "يشير إلى ما كان يوجد من الصلات الوثيقة بين اسبانيا والشعوب العربية قديماً".
شذرات متسارعة من ذاكرة عامرة بوجوه تلك الأيام
التقيت مصادفة، ولعدة مرات، في مقهى غروبي وسط البلد عبد الرحمن بدوي (1907-2002).
آآآآ.. كيف لي أن أنسى واحد من كبار أساتذة الجامعة: طه حسين (1889-1973). كنت حضرت له دروساً في الجامعة ... كم هو أمر صعب ومعقد أن يكون المرء في قاعة المحاضرات للاستماع لطه حسين؟؟!! في حقيقة الأمر لم تأخذني حينها شخصيته كما شخصيات مبدعين آخرين في مصر.
وطالما أن الذاكرة تجول في أبهاء الجامعة فلا مناص من تذكر عبد العزيز الأهواني وحسين مؤنس (1911-1996) الذي ربطتني به أواصر الصداقة سابقاً في مدريد، حين توليه إدارة "المعهد المصري للدراسات الاسلامية"، أثمن له استكماله مكتبته حتى أصبحت من أغنى المكتبات العربية في مدريد، وإشرافه على مجلة المعهد، وإرساء قواعد النشر بها في قسميها العربي والأوربي. بعد عودته للقاهرة كان في منصب مدير عام في وزارة التعليم أثناء وجودي في مصر، إضافة لكونه أستاذ غير متفرغ بكلية الآداب، جامعة القاهرة.
حسين مؤنس شخصية رائعة بكل ما للكلمة من معنى.
أذكر أن عبد العزيز الأهواني انفرد بكونه الأستاذ الوحيد الذي تحدث بالعربية الفصحى في أرجاء وقاعات الدرس في كلية الآداب في جامعة القاهرة. أذكر أن حضوره اللغوي كان مميزاً بشكل كبير.
في فرع التاريخ تعرفت على بعض المؤرخين، الذين مدوا يد العون لي أثناء تحضيري لأطروحة الدكتوراه حول "تذبذبات سعر القمح في مصر"، أذكر المحقق والمؤرخ الكهل محمد مصطفى زيادة(؟-1968)، إضافة لتلميذه المؤرخ المصري وأستاذ التاريخ الإسلامي جمال الدين الشيّال (1911-1967).
كذلك حضرت دروس لأستاذ تاريخ ماركسي هو محمد أنيس (1921-1986)، وأعتقد أنه كان يحاول أن يجمع ما بين التوجه الاقتصادي-الاجتماعي للماركسية والناصرية على الصعيد الإيديولوجي في دراساته حول التاريخ المصري الحديث، أظن أنه ترك مصر لاحقاً وربما توفي خارج أرضها.
أما لقائي الأول مع توفيق الحكيم، فيعود لسنوات متقدمة بعد رجوعي لمدريد، في زيارة له للجامعة آوتونوما، حين دعوناه لإلقاء محاضرة وبعد ذلك رافقناه لتناول وجبة الغداء.
أثار المنجز الأدبي للحكيم اهتمامي، وخصصت له دراسات وترجمات عدة، حتى أنني حينما أكون متعباً من اللغة العربية أتناول نصاً لتوفيق الحكيم لأعيد علاقتي معها إلى مجاريها الجميلة. ودائماً أقول أن توفيق الحكيم بالنسبة لي هو المصمم الأعظم للغة العربية، وقد ترك لدي إحساساً لا يخطئ بأنه شخصية متوسطية أصيلة، ومن المحتمل أنه الأكثر متوسطية من بين كل هذه الشخصيات التي تذكرتها. كنت أشعر أنه شخص صلد، أمامه يحس الشخص الذي يقابله بما يشبه القشعريرة، لقدرة الحكيم على الدخول في الأعماق دون حتى أن يحدثك.. فقط بنظرة من عينيه.
لم تشب علاقتي الأدبية مع توفيق الحكيم أية شائبة، واستثني من كلامي هذا علاقتي الايديولوجية معه، والتي لم أكن على توافق تام معها. تراثه الأدبي عمل على تحفيزي باستمرار، وواحدة من الأعمال التي ترجمتها له بشغف وحماس فريدين كانت مسرحية "شهرزاد" والتي كرست لها أيضاً دراسة واسعة. شيئ مشابه لذلك حدث معي في علاقتي مع نجيب محفوظ، حيث أنني اعتقدت على الدوام أن الفعل الأدبي لمحفوظ بكل أبعاده مذهل بشكله ومضمونه، وقدرته التمثيلية للأدب الرفيع في لحظته التاريخية وما يفيض عنها، وبلا أدنى شك هو أب الرواية العربية الحديثة، ولكني لم أتقاسم أو أتفق تماماً مع محصلة المنظومة الفكرية، أو نصف المواقف الفكرية لشخصه. ربما هذا ما دفعني لعدم المضي في الترجمة لمحفوظ.
أما محمود أمين العالم (1922-2009) فعرفته بعد مرحلتي المصرية، في مؤتمر عقد في اسبانيا في "المعهد المصري للدراسات الإسلامية"، وبعد ذلك عدت للقاء معه أثناء زياراتي للقاهرة. جمعتني معه أحاديث مطولة، هو من أكثر الشخصيات الثقافية التي تتمتع من وجهة نظري بحس أخلاقي عالي، ليس على الصعيد المصري والعربي وإنما الكوني أيضاً، كان رجل ثقافة وعلم بحق من كافة وجهات النظر، سواء الأدبية أم المواقف الإنسانية أم الانسجام الفكري بين القول والفعل. هو شخصية مرموقة جداً. أما معرفتي برفيق دربه الرياضي عبد العظيم أنيس (1923-2009) فلم تكن على الصعيد الشخصي، وإنما من خلال الكتاب النقدي الذي أصدراه معاً سنة 1955 وحمل عنوان "في الثقافة المصرية"، وجاء كسيرورة رد على كتاب طه حسين "مستقبل الثقافة في مصر".
كذلك تعود معرفتي للشاعر أحمد عبد المعطي حجازي (1935-) لمؤتمر عقد في اسبانيا بعد مرحلتي المصرية، وليس قبلها لأنه كان شاعراً شاباً حينها. كما لم أعرف أمل دنقل (1940-1983) ولا صلاح عبد الصبور، فهم ينتمون لجيل لاحق، إلا أن أمل دنقل أشرف على رسالة تخرج ابنتي المستعربة روسا اسابيل مونتابث ليّو، كما أشرف على أطروحتها للدكتوراه الشاعر صلاح عبد الصبور (1931-1981). وفي معرض الحديث أذكر أن الترجمات الأولى لأمل دنقل إلى الاسبانية تعود لي، وذلك من خلال كتيب شعري حمل عنوان "شجرة القمر" 1967 على ما أعتقد.
التقيت أمل دنقل لأول مرة في بيروت في ملتقى دعي إليه شعراء ونقاد الأدب حوالي أواخر السبعينات أو أوائل الثمانينات. شخصية مثيرة للاهتمام، ورغم أن صحته كانت متداعية إلا أنه كان رجلاً مليئا بالحياة والطاقة.. شخصيته مدهشة وتستحق كل التقدير والاحترام بمواقفه الشجاعة.
أما الشخصية التي لم أتعرف عليها شخصياً، ولكني دائماً ما اعتبرتها صورة للمثقف الكبير إلى جانب معارفه الموسوعية في الجغرافيا والتأريخ، وأقصد هنا جمال حمدان (1928-1993). وأنضم لصوت بعض النقاد الذين وضعوه في خانة "أهم مؤرخ من بين الجغرافيين، وأهم جغرافي من بين المؤرخين". ولا يفوتني أن أستحضر كتابه الذي قدم فيه تصوره العميق لمصر: "شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان"، الذي صدرت صياغته الأولى سنة 1967.
شغفت كثيراً بمنجز جمال حمدان!!
وفي معرض الحديث هنا أقول أن مقاربة العالم العربي في الأزمنة الحديثة كانت تتمحور في دراسات الاستعراب من خلال الأدب، ومن حوالي عشرين سنة تجري التجارب للخوض المعرفي لهذا الفضاء العربي من خلال الفكر، وهنا يحضرني اسم المستعربة Carmen Ruiz Bravo-Villasante كارمن رويث برابو بيّاسانتي (1947-) فيما يخص الفكر العربي المعاصر، حتى أنني أعتبرها الأكثر معرفة بهذا الفكر في الاستعراب الاسباني، وكذلك المستعرب الفيلسوف Miguel Cruz Hernández ميغيل كروث ارناندث (1920-) فيما يخص الفكر العربي القروسطي، وتعتبر أبحاثة من أهم المرجعيات لهذا الفكر، دون أن أغفل عن دراسات له تطال الفكر المعاصر أيضاً.
والأمر هنا يقودنا للحديث عن حدود متقاطعة مهمة تقع بين الاستعراب وبين بحث المؤرخ من حيث التأريخ للفكر العربي، بهذا المعنى يبرز الجهد النموذجي للمؤرخين المصريين من أمثال جمال حمدان للاستفادة منه.
وعلى سيرة الفكر والمفكرين لا أغفل هنا عن ذكر جهد بحثي آخر أوليته عنايتي ويعود لصادق جلال العظم من سورية على سبيل المثال، بفكره المتمرد على النص والمتواضع الفكري التقليدي، حتى أنه بهذا المعنى يقدم صورة المثقف المفكر المعارض للنظام السائد.
أما نصر حامد أبو زيد فقد ربطتني به أواصر صداقة قوية، وفي عدد خاص صدر في مجلة المعهد المصري للدراسات الإسلامية، بمناسبة بلوغي السبعين من عمري، ترك سطوراً أعتز بها في مقدمة بحثه المنشور تحت عنوان "اليسار الإسلامي، إطلالة عامة": "أي تحية يمكن أن يوجهها الإنسان إلى الصديق العزيز الأستاذ المفكر بدرو مارتينث مونتابث خير من أن يهديه بحثاً كتب خصيصاً من أجل المشاركة في الاحتفال بعيد ميلاده السبعين! مفكر ينتمي إلى اليسار بالمعنى السياسي والفكري والثقافي، بمعنى موقع الناقد والمعارض لكل ما من شأنه أن يعوق حرية الإنسان وقيم العدل والمساواة في كل الثقافات، لا يمكن الاحتفال بعيد ميلاده إلا بهذه الصيغة: المساهمة في حقل اهتماماته العديدة ببحث متواضع من صديق. عزيزي بدرو كل عام وأنت بخير، ونحن معك بخير، والبشرية التي تنتمي إليها وننتمي إليها جميعاً بخير، رغم كل العوائق والمثبطات وقوى الشر التي لن نكف أبداً عن محاربتها".
دائماً ما حافظت على صداقتي العميقة مع نصر حامد أبو زيد، حتى بعد وفاته فالرحيل لا يميت ولا يقدر أن يفني العاطفة ولا التقدير بين الأصدقاء الأعزاء، ولكن حين يغيب الشخص فعلاقتك معه تأخذ وجهاً آخر فهو لم يعد حاضراً بجسده ولكنه يبقى حاضراً بفكره ومثاله الثقافي.
أما بالنسبة للعالم الفني في مصر فعرفت رسامين، خاصة ممن درس في مدريد في أكاديمية سان فيرناندو، أو في مدرسة الفنون التشكيلية في اشبيلية. في حقيقة الأمر كانوا من التيارات التقليدية الكلاسيكية المهتمة برسم العادات في الحياة اليومية، ولم أولي أعمالهم عناية خاصة. وأعتقد أن الحديث عن الرسم أو النحت في العالم العربي، ورغم أنه خطى خطوات متقدمة واسعة، بالمقارنة بينه وبين الفنون التشكيلية في ثقافة البلدان الغربية لن يكون في صالحه بالمجمل. لذلك لم تشدني الفنون التي صادفتها، على العكس من ذلك فيما يخص عالم الأدب والفكر.
أما الشخصيات التي خلفت وراءها أثراً غير إيجابي في نفسي في مصر، فهي قليلة جداً، باستثناء المثقف الذي كان يدور في فلك النظام الناصري، لنقل ذلك المثقف التابع للسلطة الخاوي من القيم والمسؤولية الأخلاقية، والذي غالباً ما تمتع منجزه الأدبي بمستوى إبداعي متواضع، هذا إذا لم أفض بالحديث حول صورته كالمثقف متسلق استفاد مما أتاحته له المرحلة، رغم أني لا أشكك في أن البعض من هؤلاء كان يؤمن بالنهج الناصري، ولكني أشير إلى أنهم لم يكونوا بالنسبة لي محل ثقة لأنني اعتبرت أنهم كانوا يستثمرون الوضع لغاياتهم الشخصية. وليس لدي أسماء محددة في هذا المجال، ولكنها شخصيات قابلتها بكافة تجليات نزعتها هذه، والتي لاحظتها في الفضاء الثقافي المصري، وهنا أشدد بداهة على أن هذه الظاهرة ليست حكراً على مصر بكل تأكيد، وإنما هي موجودة في جميع الأنظمة السياسية المتشابهة.
المستعرب وفضاء الحضور النسائي
أما الشخصيات النسائية المشهورة في الجامعة فيحضرني اسم سهير القلماوي (1911-1997)، ولكن علاقتي معها كانت محدودة حينها، وعدت للقاء بها في زيارة لها لاسبانيا في السبعينات حينما كانت نائبة في مجلس الشعب المصري، حينها توسعت في الحديث معها أكثر. كانت امرأة مثقفة واسعة الاطلاع والمعرفة، ولكني لم أتوصل لتوطيد صداقتي معها. لاحقاً حدثني صديق لي من أهم مثقفي مصر المعاصرين، وتلميذ لسهير القلماوي هو جابر عصفور، بأنها قاسية صلبة فيما يتعلق بالتعامل المباشر والشخصي، حتى أنه من الصعب الوصول إليها وفتح محادثة معها. هذا ما أفضى لي به تلميذها المختار والذي يكن احتراماً جماً لشخصها.
حسناً، وبمناسبة الحديث عن الشخصيات النسائية، أود التأكيد على أن واحدة من العوامل التي كنت أفتقد لها في مصر، كما يفتقدها أي مستعرب ذكر، هو عالم النساء، بمعنى أنه يتاح لنا على وجه العموم معرفة نصف المجتمع العربي لا كله، فنحن نعرف عالم الرجال والفضاء العام المختص لهم، أما عالم النساء فلا نعرف عنه الكثير، وهنا أشير في كلامي للمعرفة الموضوعية لا المعرفة الذاتية الشخصية، ورؤيتي هذه لا تشير بأي حال من الأحوال للاستشراق المنحط.
حقيقة هو أمر صعب أن نلج عالم النساء بالسهولة المتاحة لعالم الرجال، فالأمر ليس شائعاً كما هو الحال مع العلاقة اليومية والمباشرة مع الرجل في المجتمع العربي.
الفضاء الذي عرفناها هو ذلك المخصص للمجتمع الذكوري العام.. وأقول بصراحة أن تواصلي اختلف مع المرأة العربية بالمقارنة مع الرجل رغم أنهما ينطقان باللغة نفسها، حتى أنه تولد لدي الانطباع باستمرار أن النساء العربيات يمتلكن في ناصية كلامهن صيغاً وموارداً، واستخداماً لمفردات ومفاهيم تختلف عن تلك التي يمتلكها الذكور العرب.
طبعاً في مرحلة لاحقة وفي احدى السفريات إلى سورية، أتيحت لي الفرصة لإنشاء علاقة مع إحدى الكاتبات العربيات، ولم تكن مصرية، بل سورية: كوليت خوري. امرأة غاية في اللطف، وتعاملت معي بنبل كبير وساعدتني كثيراً. معها تبادلت أحاديثاً طويلة ومتنوعة.
كذلك أتيحت لي لاحقاً الفرصة لتبادل الحديث مع كاتبة روائية مصرية أكن لها ولأدبها أشد الأعجاب وهي سلوى بكر: امرأة غاية في العمق وكثافة المعرفة إضافة لأنوثتها الشفيفة كما رأيتها.
دارسي الأدب والفكر الاسباني من العرب
أود القول في معرض الحديث هنا أن الاهتمام بالأدب والفكر الاسباني من قبل الدارسين العرب تقدم على نحو كبير، ومن ضمن رواد هذا الاهتمام يتميز الباحثون المغاربة، وهو أمر منطقي للجوار ولطبيعة العلاقة التاريخية بين اسبانيا والمغرب، وكذلك الباحثون المصريون، الذين طوروا هذه الدراسات بامتياز منذ سنوات مبكرة، وهناك العديد من الأسماء من بينهم ذكرت سابقاً حسين مؤنس، ولا يفوتني الآن ذكر الباحث المتميز محمود علي مكي (1929-) ليس على صعيد الدراسات والبحوث الاسبانية فقط وإنما العربية الأندلسية أيضاً، حتى أنني أرى فيه واحداً من أهم الحكماء الذين صادفتهم في حياتي لمعرفته الموسوعية.
محطة مع جمال عبد الناصر
أعتقد أنه من الممكن وضع الرئيس عبد الناصر في مجال البحث والجدل تاريخياً ومن وجهات نظر مختلفة، ولكني أرى أيضاً أن العالم العربي في تلك اللحظة كان بحاجة لشخص كعبد الناصر، شخص يستطيع أن ينفض عنه وعن معيشة شعوبه ما حلّ بها من سكونيّة.
أحياناً عند مراجعة التاريخ يمكن أن يفكر المرء بأنه كان شخصية فوق مرحلتها، ولم يكن واعياً بعمق للوسط البشري الذي تعامل معه، فشخصه الفردي يبرز في مقام متعال على الجماعة. وهنا أود أن أشير إلى أن عبد الناصر لم يكن لديه نظرية سياسية، وإن كانت لديه سرديته الكبرى، وهو ما يمكن ملاحظته لدى كافة الحكام العرب قبل الحراك الثوري الذي نشهده اليوم، فلم يمتلك أي منهم نظرية سياسية حقيقية. أما أولئك الذين تبنوا ما يشبه الخطاب العقائدي، فهم نسخة مشوهة من السردية والخطاب السياسي المؤدلج الخاص بعبد الناصر، وربما أمكن القول أن البحث عن شخصية تشابه بضرورتها شخصية جمال عبد الناصر هو أمر هام ولكنه غير ممكن، لأن الصورة التي التقطها الحكام العرب لأنفسهم أثناء محاولتهم التشبه بعبد الناصر جاءت كنسخ مكررة وغير أصلية، ودون أن تقدر حتى على تقليد الكاريزما الخاصة به على الإطلاق.
ويجب الاعتراف ومن خلال بعض الأبعاد السياسية المهمة، أن النجاح في المشروع السياسي لم يحالف عبد ناصر، بل ويمكن القول بأنه فشل، فنسبة عالية من الأهداف والغايات الناصرية لم ينجز بسبب أخطائه الكثيرة. أعتقد أنه لم يفسر الواقع العربي الذي يحيط به على نحو صحيح وواقعي، وظن أنه من الممكن أن ينتظر استجابة أكثر من هذا الواقع، كما أنني أعتقد أنه لم يقم بتقييم وتحليل وتفسير الظرف الدولي الذي أحاط به بشكل يمكنه من أن يسيّره لصالحه. لا أدري إن كان قد أخطأ في منحى تفكيره حين ظنّ أنه يمكن أن يمرر مشروعه، وبأن الغرب يمكن أن يتغاضى عنه أو حتى يقبل به.. على الإطلاق فالغرب لم يكن ليقبل في أي لحظة بالمشروع الناصري، وهو ما يمكن فهمه وتفسيره من قبل وجهات نظر أخرى. وأرى أنه خُدع بمدى إمكانية تحقيق مشروعه الخاص، بمعنى أن مشروعه كان فوق ما هو متاح، وما هو مسموح به في تلك اللحظة التاريخية. ولعل هذا ما جعله ينغلق ويتقوقع أكثر فأكثر بحكم الاستبداد والفردية والطبع الديكتاتوري، وتنفيذ نوع من اشتراكية كان بعيداً إلى حد كبير عما هي الاشتراكية بمفهومها السياسي العام، وأعتقد أنه لم يعرف ماهية المعارضات الكبيرة ضده من داخل المجتمع العربي نفسه، فعلى سبيل المثال أنوه إلى أن مشروعه الوحدوي مع سوريا لم يكن له أن يكون مقبولاً بأي شكل من الأشكال من قبل السعودية.
ورغم كل ما قلته أترك ملاحظتي بأن عبد الناصر وفيما يخص النواحي السياسية كان مرناً، أو أكثر مرونة مما كان يشاع عنه من قبل معارضيه. ولكنه وفيما يبدو كان عبداً لمشروعه الخاص، الذي لم يتطابق مع امكانيات الواقع، لا في الداخل العربي ولا في الخارج الدولي، وبهذا المعنى كان شخصية تصارع ضد التيار، واقترب بسمته هذه من الشخصية التراجيدية الاغريقية، بمعنى أن وجوده كان ضرورة كما البطل التراجيدي الذي يسير عكس التيار ومحيطه الأقرب والأبعد، ومن ثم لابد له من دفع ثمن والتضحية. في كل الأحوال كان عبد الناصر يترك انطباعاً مذهلاً لمن يقف أمامه، بحضوره المهيب والجليل والذي يولد الشعور بأن المرء في حضرة واحد من أولئك الأشخاص الذين يقولون بالوحي أو الرؤيا.
وصلت للحديث مع عدة سياسيين عرب، وأود أن أشدد على أنني لم أسع أبداً للتخطيط لأي لقاء مع أي سياسي، ولا لعقد أية صلة معه سواء من بين العرب أم الاسبان. وحين كان علي اللقاء مع أي سياسي، فإن علاقتي معه كانت تتجاوز ما هو سياسي، فما يهمني هو تكوينه الفكري ورؤيته وموقفه من العالم ووجهة نظره حول الجماعات البشرية المكونة للمجتمع، وتكوينه، إضافة لمرجعياته الثقافية والفكرية. وانطلاقاً من هذا المبدأ فحينما صادفت الفرصة طريقي تحدثت مع جمال عبد الناصر، ياسر عرفات، معمر القذافي...الخ
أثارني الحضور الجسدي الذي يوحي بالضخامة لعبد الناصر أثناء اللقاء معه!!
كنت لمحت إلى أنه ينفرد بهيئة جسدية فرعونية، حيث يوحي جسده بأنه قدّ من كتلة صخرية غرانيتية واحدة!! كما وأعود في معرض حديثي هنا لتعبير أتيت على ذكر سابقاً: "شيخ البلد". في حقيقة الأمر ينطبق ذلك على عبد الناصر بأبعاده الفرعونية التي تفرض نفسها أمام كل من يتعامل معه. إضافة لكل ذلك، كان لديه جاذب خاص، حتى أن البعض كتب بأنه كان يمتلك سحره المؤثر على النساء، إلا أنه لم يهتم بهذا الجانب فيه وعمل على تجاهله باستمرار حسب ما تناقلته الألسن.
عرفت عبد الناصر في حفل رسمي أثناء زيارة ملك المغرب حينها محمد الخامس، أثناء منحه درجة الدكتوراه الفخرية من قبل مجلس جامعة القاهرة. وحضرت وقائع التسمية لأن قنصل السفارة خابرني وطلب مني الحضور للسفارة. وقال لي بأنه وردت دعوة لحضور هذا الحدث الأكاديمي، وبأن أجندة السفير الاسباني لا تسمح له، وسألني إن كنت أستطيع أن أحضر بدلاً منه. فقلت له ولكني لا أمثل أية جهة شعبية ولا سياسية، ولست أكثر من طالب منحة دراسية وموظف يدير "المركز الثقافي الاسباني"، ولكنه ألح علي وقال: بأنني أتحدث العربية وسأفهم ما يدور حولي في هذا الحدث أكثر من أي شخص آخر في السفارة.
حسناً وافقت، وحضرت، ومع نهاية الحفل كان يحتل المنصة الرئيس عبد الناصر والملك محمد الخامس، ووقفا لمصافحة الحضور الذي اصطف في رتل طويل. وحين وصل دوري، لا أعرف ما الذي حصل لي؟! وكأن البكم أصابني!! مددت يدي لمصافحته وبقيت ساكناً بلا حراك. لم أقدر على التفوه بأية كلمة ولا على الحركة، كما لو أن الشلل اعتراني من قمة رأسي إلى أخمص قدمي من شدة المؤثر الانطباعي الذي ولده لدي جمال عبد الناصر ... حتى الآن أذكر تلك اللحظة!!
بعدها، وفي فرصة أخرى، وفي نطاق ضيق خاص وبحضور عدة أشخاص فقط، أتيح لي فيها تبادل الحديث معه وجهاً لوجه، وكما قلت سابقاً كنت أهجس بمعرفة موقف الشخصيات السياسية التي قابلتها من مفهوم La arabidad "العروبة"، وما الذي يعنيه لهم هذا المفهوم. وعليه وضعت خطوط رئيسية للسؤال. وأستطيع القول أن عبد الناصر كان يؤمن بعمق بالعروبة، ولكن لم يكن لديه رؤية فكرية أو نظرية واضحة حول المفهوم. ومرجعيته حول العروبة كانت سياسية بشكل أساسي، وترك لدي انطباعاً بأنه كان يسير بخطواته الأولى حول النشأة والتكوين النظري للعروبة. واكتشفت أنه ما من أحد كان يستطيع أن يساعده فيما يخص هذه النقطة من الأشخاص الذين كانوا يحيطون به.
الرقابة تعترض نشاط المستعرب في مصر
سأحكي ما حدث معي في فجر أحد الأيام، وذلك حين كنت أعمل مذيعاً في القسم الاسباني في القناة الإذاعية المصرية الموجهة لأميركا اللاتينية، وكان عليّ أن أقرأ نشرة الأنباء المعدة من قبل مترجمين مصريين. في فجر ذاك اليوم وصلتني نسخة الأخبار وكانت تدور حول اجتماع لمجلس الثورة في القاهرة برئاسة الرئيس جمال عبد الناصر... الخ. أمام الميكروفون بدأت بالقراءة وبما أنني وجدت أن صيغة الجملة التي تقول "اجتمع مجلس الثورة برئاسة الرئيس جمال عبد الناصر" لا تتوافق تماماً مع المعتاد لأذن الناطقين بالاسبانية، فبادرت لارتجال صيغة أخرى فقلت: "اجتمع مجلس الثورة برئاسة العقيد جمال عبد الناصر". ولم أفقه معنى للارتباك الذي حصل للتو؟؟!! مما سبب قطع بث النشرة الإخبارية مباشرة، ومن ثم طلب مني التوقف على المتابعة، والذهاب مباشرة للكلام مع مدير القسم. وفي حقيقية الأمر، كنت على وشك أن أطرد من مصر، وتعرضت للاتهام بأني جاسوس اسرائيلي. ولم أكن أعرف أنني استخدمت صيغة اللقب الذي كان الجانب الاسرائيلي يطلقه على جمال عبد الناصر، ذلك أنهم لم يستخدموا لقب الرئيس في الاشارة لجمال عبد الناصر وإنما رتبته العسكرية كعقيد.
حكاية أخرى شبيهة حصلت معي بين عامي 1958-1959، ولكنها هذه المرة مع السفارة الاسبانية. ففي مجلة "الرابطة" التي أشرف على تحريرها وإصدارها في "المركز الثقافي الاسباني" في القاهرة، أخذت مع الوقت أضم لكل عدد مختارات شعرية ونصوص لشعراء ومفكرين اسبان. وفيما يبدو أنني ارتكبت الخطأ الذي لا يمكن أن يغتفر بسهولة في تلك الأيام، ألا وهو ضم أشعار لرافائيل ألبِرتي، الشاعر المرموق في التاريخ الأدبي الاسباني، إلا أنه الشاعر الشيوعي والمنفي والملاحق من قبل السلطة الفرانكوية. لكل ذلك تعرضت من قبل السلطة التي تمثل الاسبان في الخارج، وتحديداً من قبل القنصل العسكري في السفارة، وكان برتبة مقدم في الحرس الأهلي، للمسائلة وكنت على وشك مواجهة الطرد من عملي ومطالبتي بالعودة إلى اسبانيا مباشرة مع زوجتي وولديّ، لولا أن البعض في السفارة أعطى صوته إلى صالحي، وهنا أشير لتدخل أب كاهن من رهبانية "لوس بلانكوس"، مقيم منذ سنوات طويلة في مصر في إحدى البلدات المصرية. كنت تعرفت عليه وساعدته في إحدى الأمور الخاصة به، دون أن أدري أن كلمته كانت مسموعة لدى أصحاب الرأي والشأن في السفارة الاسبانية، خاصة أنه كان مدرساً لأولاد الجالية الاسبانية ومنهم أولاد القنصل العسكري.
حينها وإضافة لمسائل أخرى مشابهة حدثت بيني وبين السفارة، أخذت أفتح عيني باكراً على طبيعة التعامل والمناخ السائد لدى الممثلية الدبلوماسية لاسبانيا في الخارج.
العودة إلى اسبانيا.. والاستعراب حينها
عدت إلى اسبانيا في شهر تموز سنة 1962، على ما أذكر، واعتباراً من شهر أيلول/ سبتمبر الموافق لبداية العام الدراسي (1962-1963) شرعت بالعمل كأستاذ متعاقد مع Universidad Central "الجامعة المركزية"، كما كانت تدعى ساعتئذ، قبل أن تحمل اسمها الحالي Universidad Complutense de Madrid (UCM) "جامعة كومبلوتنسي" في مدريد، وذلك بفضل الدعم الذي تلقيته للالتحاق بالسلك التعليمي في الجامعة من قبل أستاذي السابق في "قسم الدراسات السامية" Elias Terés Sádaba إلياس تيريس سادابا (1915-1983)، فهو من فتح أمامي بوابة العمل في الجامعة.
قبل أي شيئ أود القول أن اللقاء مع اسبانيا بعد رحلة العودة من مصر تبدى لي وكأنه كذبة. كنت سافرت باتجاه مصر أوائل سنة 1957، ورجعت منتصف 1962، هذا يعني أنني بقيت خارج بلدي حوالي خمس سنوات ونصف تقريباً. الانطباع الأول الذي خبرته بعد عودتي هو إحساسي بأن البلد قد أصابه التغيير بشكل كبير، وأقصد بكلامي عموم اسبانيا والجامعة على وجه الخصوص، والتي وجدتها مختلفة عن تلك التي عاصرتها أثناء سنوات الطلب على العلم خلال النصف الأول من عقد الخمسينات. لم يفاجئني التغيير بحد ذاته بقدر ما فاجأني الشعور، الذي كان يلاحظ فيه أن تحوّل اسبانيا هو أمر واقعٌ وحتمي ومستمر. فمع سنوات الستينات بدأت الدلائل واضحة على ما كانت اسبانيا تعاصره وتختبره جدلياً، والذي سيتبلور كاستعداد وجاهزية من قبل أهل البلد للتحول الديموقراطي، خلال العقود التالية قبل موت فرانكو وبعده. وبهذا المعنى برزت الجامعة كمختبر استثنائي بامتياز على حياكة هذه التغيرات والتحولات المصيرية في تاريخ اسبانيا.
أما بالنسبة للاستعراب الاسباني الجامعي فقد كان يراوح في مكانه الذي وصل إليه منذ عقود بعيدة. بمعنى أنه كان يعرف ويتميز بمستواه العلمي العالي بلا أدنى شك، إلى جانب نأيه عن المواضيع أو القضايا الاجتماعية – باستثناء اهتمام المستعرب Emilio García Gómez اميليو غارثيا غوميث في هذا المجال– إضافة لبعده بشكل عام عن حراك الفضاء السياسي بالمجمل. لنقل أنه كان مدرسي محض، فيما لو استثنينا بضعة حالات فردية ومنعزلة لا تشكل تياراً جلياً ضمن مجال الاستعراب. بمعنى أنه ما انفك يتكئ على دراسات تتناول العصر الأندلسي في شبه الجزيرة الإيبرية، بالطبع يمكن فهم المبرر لهذا الأمر ويمكن تفسيره من خلال وجهات نظر معينة لها علاقة بالتاريخ في المقام الأول. إلا أنه لم يخض حتى في طرح التساؤل الذي طرحته أنا في أبحاثي حول العلاقة مع هذا التاريخ أو العصر الأندلسي كتاريخ مشترك يتقاسمه الاسبان والعرب، إلى جانب قضايا نقاشية أخرى تتمحور حول التلاقي بين الثقافات، واللقاء بين المجتمعات، أو تقديم تفسير عميق لسيرورة الحضارات واللقاء فيما بينها من عدمه... رغم فرادة ووجاهة مثال "الأندلس التاريخية" لعقد مثل هذا النقاش والتحريض على طرح الأسئلة والتأملات والمواقف منه وحوله.
هذا يعني أن الاستعراب لم يكن يعالج هذه المسائل، وحتى لم يقدّم وجهة نظر اسبانية حولها، ويمكن القول أن الاستعراب الإسباني بقي حتى أوائل الستينات وفياً لبحثه وقلقه النظري، دون أن يخوض في الشك والتساؤل ومحاولة تقديم الأجوبة، وفي الحالات النادرة التي تطرق لها حصر نفسه ضمن الحدود الخاصة بالأدب أو الثقافة بالعموم، وبقي وفياً للدقة العلمية والأكاديمية، ينفذ ما يترتب عليه من دراسة، وينخرط في البحث والتنقيب ضمن فلك "الأندلس التاريخية"، وتقديم منجزات أكاديمية وضعيّة دقيقة ذات مستوى تراكمي مرموق. وفي هذا المجال أذكر أن مجلة al-Andalus "الأندلس" حافظت على مكانتها كواحدة من أفضل الدوريات داخل اسبانيا وخارجها، فيما يتعلق بالدراسات حول المادة البحثية الخاصة بالعصر العربي الأندلسي. أما فيما يتعلق بالاستعراب الاسباني الخاص بالمنهج التعليمي فيمكن القول أنه كان مجتهداً في إنجاز مهمته التدريسية، ورغم أن الأساتذة في أقسام اللغة العربية وخاصة في جامعة كومبلوتينسي كرسوا جهدهم وانشغلوا بفعل التعليم بإخلاص، إلا أن الاستعراب الجامعي كان يعاني من نقاط ضعف كبيرة من وجهة النظر المنهجية في عملية التدريس. ولم تكن روح التجديد قد طالت المنهج ولا المواد التدريسية، التي تشكل بمجموعها العمود الفقري الذي لابد أن تقوم عليه العملية التعليمية للغة العربية وآدابها، فاللغة التي كانت تدرّس قاربت اللغة العربية القروسطية، أكثر منها اللغة الحية المعاصرة. والغاية من تعلمها أن تكون وسيلة تستخدم من أجل الترجمة في المقام الأول. ولم يكن لها من غاية أو أي اهتمام – مدفوعة بالجهل حول الواقع العربي الراهن على ما أعتقد لا بسبب آخر – بأن تتصدى للنقاش حول المعرفة العربية، أو اللغة العربية كوسيلة اتصال حية وراهنة. إلى جانب كل ذلك يمكن أن نقول أنه لم يولي عناية كافية لما يمكن أن نسميه الجهاز النظري لدراسات الاستعراب والطرق المنهجية.
في كل الأحوال يجب أن أشدد على سخاء القائمين بدراسات الاستعراب من الأساتذة وما أولوه من جهد، كذلك لا بد من التشديد على أن معرفتهم العميقة تبقى فوق أي اعتبار آخر بلا أدنى شك.
أما من الناحية الاجتماعية، فيمكن القول أن الاستعراب الاسباني لم يكن ينجز أية مهمة في هذا المجال، باستثناء جهد الاستاذ اميليو غارثيا غوميث، الشخصية المرموقة والمعروفة في أواسط الاستعراب بشكل عام، وإلى الحد الذي يمكن الاعتبار فيه أن شخصيته الحاضرة والنور المنعكس من دراساته المعرفية ساهمت في التعتيم على مستعربين آخرين دون قصد منه، فشخصيته في الاستعراب فرضت نفسها بقوة.
بالنسبة لي كانت القيم والمفاهيم الايجابية، والحاجات الملحة، والوجوه السلبية، وقوى وضعف الاستعراب الاسباني واضحة منذ بداية عملي الأكاديمي بعد عودتي من مصر. لكل ذلك اقترحت تجديد الاستعراب بعمق بشكل لا يطال المنهجية التدريسية فقط، وإنما مشروعه وتصوراته الاجتماعية، وتحديث تجربته في تنظيم المناهج. واعتقدت بأن التحديث ضروري ويجب أن يأخذ حيز التنفيذ ووافقني على هذا الرأي جيل من المستعربين المنتسبين لدفعة دراسات الاستعراب في عقد الخمسينات، ممن راكم زمناً مستمراً من الوقت المعيش في البلاد العربية، وتعرف على واقع ثقافتها، وأتيحت له الفرصة مثلي للتحرك وتوسيع دراسته في المشرق العربي أو في مغربه شمال أفريقيا، خاصة أن العلاقات الثقافية بين اسبانيا والفضاء العربي كانت تأخذ بالنمو والتطور، وتقديم ثمرتها الإيجابية المرجوة.
اللحاق بركب التغير في الجامعة وتجديد الاستعراب الاسباني
بداية وضمن كل هذه العوامل اقترحت على نفسي وعلى مستعربين آخرين أن نضم جهدنا فيتحول إلى جهد جماعي، نستطيع به انجاز التجديد والتحديث المرجو، مع الوعي التام بأن مشروعنا هذا يعني، بجانب هام من جوانبه، القطيعة الكاملة مع العديد من القيم الخاصة بالاستعراب الاسباني التقليدي في ذلك الوقت، خاصة فيما يتعلق بدوام الاستعراب لقرون طويلة على تناول موضوع الأندلس التاريخية حصرياً، فدراسة العصر الأندلسي في هذا الاستعراب كانت تعني دراستنا لأنفسنا نحن الاسبان، إلى جانب ثقافات تواجدت وعاشت في شبه الجزيرة الايبيرية.
كان علينا التجديد دون مفارقة الوعي بأن دراسة الأندلس في الاستعراب الاسباني هي بمثابة رؤية الإنسان الاسباني لنفسه بنفس الوقت الذي يرى فيه الآخر. وهذا لا يتكرر في التاريخ بسهولة على الإطلاق فهو شيئ خارق للعادة. وهو ما يفرق الاستعراب الاسباني عن غيره من دراسات الاستعراب الأوربية وغيرها.
من كل ما سبق لم تعن محاولاتي التجديدية، ومنها تأسيس دراسة الأدب العربي الحديث، وضع أصابع الديناميت وتفجير الاستعراب التقليدي على الاطلاق، بل حرصت على احترام جهد المستعربين السابقين دون أتنازل عن الدفاع عن حقي وأفكاري ومشروعي بالقيام بدراسات تأخذ بعين الاعتبار منحى حداثي مختلف. في كل الأحوال أرى أن الوضع حينها حتّم هذا التغيير في توسيع دائرة الاستعراب، وتناولاته الزمنية وطبيعة مقارباته والتزاماته الاجتماعية. وأذكر أنني في اللقاء السابق معي قلت أنني قبل أن أكون مستعرباً أنا رجل أنتمي لزمني، وأعتقد أن السياق التاريخي لزمني بعد عودتي من مصر، تطلب مني الانعطاف بالاستعراب نحو التجديد في جميع الحقول اللسانية والنظرية والاجتماعية، فما رأيته وخبرته واكتشفته وتمثلته في مصر خاصة والمشرق العربي عامة برهن لي عن مدى جهلنا لهذا العالم الذي ندرسه. كما حرصت عملياً، من بداية عملي الأكاديمي في "الجامعة المركزية" في مدريد، على تحقيق المعادلة التي يستطيع فيها المثقف الدخول بفعله الثقافي إلى فضاء السياسية دون أن يتلوث، ودون أن يفقد استقلاله بترك نفسه لهيمنة الفعل السياسي عليه.
التجديد برفقة الطلاب الشباب
في "الجامعة المركزية" ارتقيت الدرجات الأكاديمية المختلفة خلال عملي فيها لسبع سنوات، وبات الطريق أمامي مفتوحاً لأصبح أستاذاً متفرغاً ذا كرسي. وعلى مدار هذه الأعوام كان جلياً بالنسبة لي أن شغلي على التجديد والتحويل التحديثي للاستعراب الاسباني، لابد أن ينجز مع الطلاب الشباب في المقام الأول، فلا تغيير دون بث أفكار وروح التجديد بينهم، وجعلهم يعون ويحسون بالحاجة لتجريبه عيانياً، ومعرفته بالبصر والبصيرة، وعدم الاكتفاء بالدراسة النظرية حوله من خلال القراءة والكتب فقط، والاقتناع أن اللغة ليست حكراً على عالم الترجمة وتسهيل الدراسات حول الثقافة الكلاسيكية، وإنما هي وسيلة للتواصل مع أهل هذه اللغة أيضاً رغم تنوع لهجاتها.
بهذا المعنى حرصت على الدوام على الاقتراب من الشباب، ومعهم عرضت وكشفت أوراقي حول توقي للأشياء التي أفكر بها، وأعتقد أنني أنجزت معهم ما كنت أطمح له، وأرى أن أي دارس لسيرورة تحولات دراسات الاستعراب، وكيفية تشكّل الطلبة فيها، منذ سنوات الستينات حتى الآن، يستطيع أن يثمن الجهد الكبير لانضمام أجيال متواكبة للاستعراب الاسباني، إضافة لتوسيع نطاق حقول الدراسات والمواد التدريسية في المراكز الأكاديمية، وتنوع البحوث المنجزة وانتشارها على مروحة واسعة الأفق من المواضيع، التي تمس راهن اليوم كما البارحة، وبمقاربات متعددة ومختلفة.
وبنحو موضوعي يبتعد عن المباهاة، أقول أنني تركت انطباعاً قوياً كأستاذ لدى طلابي الشبان والشابات، الذين قمت بتدريسهم، ويمكن التأكد من ذلك من خلال الكتابات التي تركوها فيما بعد حول سنوات دراستهم تلك، كاعتراف بتحولات مقاربات تلك السنين برفقتي، وأعتقد أن رسالتي ومقامي من حيث طريقة تعاملي الحارة معهم، أثرت بأولئك الشبان والشابات الذين بدأوا طريق دراسة الإنسانيات العربية. وأعتقد أن الكثير من هذه العلاقة الوطيدة استمرت بشكل وثيق مع سنوات الزمالة فيما بعد. وأستطيع القول بصراحة بأنه كل لي – ولايزال حتى الآن – تلاميذ وتلميذات أفخر بهم، وأكن لهم محبة عظيمة، وأحترمهم بعمق، وأحرص على مساعدتهم بما تتيحه لي مقدراتي، مع الالتزام بالموضوعية تجاههم، وعدم منحهم الآمال الوهمية، بل عنايتي على إيقاظ حماستهم وتأجيج غليانهم وأحلامهم، كي أتشارك معهم في وضعهم على طريق الإحساس والقناعة بأن الدراسة لا تعني القراءة والمذاكرة، والقدرة على تشكيل مقاربة نظرية من خلال الفعل العلمي فقط، وإنما أيضاً المقدرة العملية على تشكيل موقف نقدي حول مجتمعات وثقافات أخرى، بشكل يندمج فيه حضور الضمير مع العلم، أي عدم تغييب المسؤولية الأخلاقية في الإنتاج العلمي. ومن ناحيتي دائماً ما رفضت المواقف والتفسيرات التي تعتبر بأن العقل له طريقه المفارق عن طريق القلب، وصرحت بأن كلاً من القلب والعقل يستطيعان الفعل بوقت واحد وبشكل متوافق ومتكامل. أعرف أن الأمر صعب جداً، وفي أحيان أخر من المستحيلات، ولكنه الوسيلة الوحيدة لتجاوز الانفصالات والمعضلات الحادة. وحاولت تطبيق مبدأي هذا على الاستعراب وعلى عملي سواء كمستعرب أم في إدارة الجامعة وفي دراساتي حول المسائل الحساسة التي يتداخل فيها التاريخ والأحداث الاجتماعية وقضايا الصراع السياسي.
الجامعة والمجتمع وإعادة تواشج الصلات
كل ذلك كان علي أن أقوم به منذ البداية، وأنا أومن بأن مهمتي التجديدية للاستعراب يجب أن يكون لها معنى وعمق اجتماعي. بهذا المنطق برزت ضرورة إعادة الصلة بين الجامعة وبين المجتمع من جديد، بعد الإقصاء الطويل لأسباب تاريخية فرضتها مرحلة ما بعد الحرب الأهلية. من هنا كان لابد من استنفار العلاقة مع المجتمع وقضاياه، كواحدة من قيم وغايات دراساتنا. بمعنى أنه ترتب علينا الكلام بوسائلنا العلمية والتعليمية مع المجتمع مباشرة.
ولحسن الحظ، أتيح لي العمل على هذه العلاقة مع المجتمع، خاصة أنني عينت في مناصب مختلفة ضمن الإطار الأكاديمي، فالجامعة احتلت حيزاً هاماً من حياتي، وحين تعين علي القيام بواجبات ووظائف مع أرضية من سلطة ما في إدارة الجامعة ككل، وليس في أقسام "الدراسات السامية" فقط، حاولت حثيثاً مد جسور التواصل والاقتراب والحوار مع المجتمع، لدرجة يمكن معها القول أن هذا الأمر، كان هاجساً أساسياً بالنسبة لي على مدار سنوات عملي، حتى أن العديد من دراساتي النظرية كانت تقوم على هذه الغاية. وما أقوله هنا لا يعني، بأي شكل من الأشكال، أن فعل هذا التوجه والالتزام الاجتماعي سيؤدي بالبحث أو الدراسة الأكاديمية لأن تفقد شيئاً من قيمتها العلمية، أو أن يتم التنازل عن مقامها المنهجي، كما لا يعني كذلك السماح للبحث بأن يمارس ما يشبه العهر الإيديولوجي بأي شكل من الأشكال.
من كل ما سبق في هذا الإطار أكدت دائماً على أنه يتحتم معرفة المجتمع من قبل المثقف، وجعل المجتمع يتعرف على قول البحث الذي يقوم به المثقف. وهنا تبرز معيقات لا بد من تجاوزها خاصة تلك التي تعمل على الإقصاء المستمر لمن يتناقض مع فكرة مهيمنة ما، إضافة للمواجهات الحادة بين أقطاب متناحرة ومتعارضة، وأعتقد أن الأمر نفسه يوجد في المجتمع العربي كما في المجتمع الاسباني الذي خبرته وانطلقت للتعامل معه بعد عودتي من مصر، وحتى الآن وإن بطرق مقنعة أكثر كما برهنت لي سنوات العمر. وهنا أود أن أشير إلى أنني جانبت بشكل مستمر الإقصاء لأي كان، فأنا شخص يميل للانضمام الآخرين لا لإبعادهم، ولا أعتقد أن بعض وجهات النظر أو رؤية الحياة والمواقف المختلفة تدعو لإقصاء ذلك المختلف عني، أو الانخراط في المواجهة الجبهيّة العدائية. وفي حقيقة الأمر واجهتني صعوبة هذا الأمر في المجتمع العربي والاسباني على السواء كما قلت.
متابعة لمسؤولية المثقف الأخلاقية
وفي سرديتي هذه أود أن أذكر الآن عبارة هامة لروائي ودراماتورجي مرموق ينتمي للحداثة الاسبانية هو Ramón María del Valle-Inclán (1866-1936) رامون ديل بايي-إنكلان يقول فيها: "أكثر ما يعجبني في الجمال هو الأخلاق".
ومن جانبي أعتقد أنني طوال حياتي حاولت أن أحايث بين الجمال والأخلاق في مقارباتي النقدية ودراساتي البحثية وخياراتي في الترجمة، فبالنسبة لي لا يمكن للجمال والأخلاق أن يتصارعا بشكل راديكالي، ويعمل كل منهما على إزاحة الآخر، وربما – كما تقولين – تصب هذه الرؤية في المفهوم الإغريقي للمثال الأعلى للجمال-الخير (Kalokagathia) الساري على الحياة وإنتاج الفن والأدب، وأضيف أنه ينطبق أيضاً على المفهوم العربي ملخصاً في كلمة واحدة هي: "الحُسن"، حيث تتعشق فكرة الجمال مع فكرة الخير، لتمنحا النور على هذه الفكرة، بشكل يقترب من فكرة أدونيس حين يعتبر أن في كل قصيدة عربية هناك قصيدة أخرى هي اللغة. وأتعقد أنه يجانب الصواب في هذا المجال فوراء كل كلمة عربية يتفتق ذلك المعنى الخفي أو الموارب.. غير المصرح به بطريقة مباشرة.
عبارة أخرى أثرت بي كثيراً، وعرفت لاحقاً أنها لأينشتين حين يؤكد في لحظة حاسمة من حياته: "كل مرة نعرف فيها أكثر، فإننا نفهم أقل". بالنسبة لي أوليت عنايتي الخاصة للتعرف على الكيفية التي تتشكل بها المعرفة.. بمعنى أنني اجتهد بالسؤال عن الـ(كيف؟) في طريق معرفتي: "كيف تم التوصل لهذه المعرفة؟" و"كيف كانوا يفسرون معرفتهم؟". في حقيقة الأمر يبرز Emilio Castro (1821–1899) إميليو كاسترو كأستاذ في هذا المجال، فله دراسات مذهلة في مجال التساؤل عن "الكيف للظواهر المعرفية" وعدم الوقوف عند سؤال الـ(لماذا؟).
كل هذا الذي أقوله يلقي الضوء على الكيفية التي تعاملت ورأيت على ضوئها الاستعراب.
عام اشبيلية.. تداعيات مهنية أندلسيّة
أول قسم للدراسات العربية عملت فيه كان في "كلية الآداب والفلسفة" في الجامعة المركزية في مدريد، أما أول رئاسة قسم لي فكانت في جامعة اشبيلية سنة 1970 بعد أن رُفعت لدرجة أستاذ متفرغ ذي كرسي. أذكر أن مناخ الاستعراب حين وصولي اشبيلية لم يكن يدعو للتفاؤل، بل وكان محبطاً بشكل كبير لأن تدريس العربية وآدابها في جامعتها، لم تكن قد وصلت درجة معتبرة ضمن إطار الآداب الإنسانية، حتى أن القسم كان في مراحله التأسيسية الأولى رغم وجود درجة الأستاذية فيه، نظرياً على الأقل. وأتجرأ على القول أن تأسيس القسم العربي كما هو الآن هو واحد من أعمالي، التي سجلتها في سيرتي المهنية، بالطبع بمساعدة قلة من المدرسات والمدرسين الذين كانوا يعملون حينها في جامعة اشبيلية أو ممن استدعيتهم للانضمام للعمل معنا في تأسيس القسم المشار إليه.
حضني أمل كبير وان أعمل على تأسيس القسم، وبداية قدرت على الانتقال به من مكان ملحق هامشي صغير بمساحة 10 إلى 12 م2، ويقع بين بنائين رئيسيين يتبعان لكلية الآداب. لازلت أذكر ذلك المكان الصغير المخصص للعربية وآدابها، والذي لم يكن يتسع إلا لطاولة وكرسي وخزانة معدنية لا تحوي على أكثر من 100 أو 150 كتاباً على الرفوف ومتراكمة مع الغبار منذ سنوات طويلة.
كما قلت قدرت على الانتقال بالقسم إلى مكان آخر يحفظ ماء وجه دراساتنا، على قدم المساواة مع الدراسات الإنسانية الأخرى، ومجهز بقاعتين واسعتين للعاملين فيه وبإنارة جيدة، وبدأت العمل بتنظيم القسم والمناهج وطبيعة المواد التدريسية مع توسيعها، خلال السنة الكاملة التي قضيتها في اشبيلية قبل الانتقال من جديد إلى مدريد، وأعتقد أن حضوري الشخصي والأكاديمي في اشبيلية، بكل ما كنت قد وصلت إليه حينها في الاستعراب، وما قدمته لقسم الأدب العربي، ساعد على تغيير الموقف من هذا القسم، وبدأ صوتنا، أنا وزملائي، يسمع في أبهاء جامعة اشبيلية، ويُؤخذ به أكثر من أي وقت مضى. فكما قلت سابقاً، حينما انضممت للجامعة لم أهتم فقط بالفعل التجديدي وتطوير الاستعراب، وإنما عملت أيضاً على تغيير النظرة إلى هذه الدراسة، والكيفية التي تدار بها الأقسام الأكاديمية لدى المؤسسة الجامعية سواء في اشبيلية أم غيرها.
وحتى قبل وصولي لاشبيلية، حين كنت نائب عميد "كلية الآداب والفلسفة" في "الجامعة المركزية" في مدريد، كانت أفكاري واضحة فيما يخص عملي، من حيث إلحاق التجديد في الاستعراب بالجهود التي كانت تبذل لتجديد الجامعة ككل. بالطبع في العهد الفرانكوي مع بداية شغلي المهني كانت حدود الجامعة معلّمة بشواخص أيديولوجيا النظام نفسه، ولكن توفر لدينا هامش من القدرة والحرية على الفعل عملنا على استثماره واستنفار امكانياته فيما يخدم مشروعنا، وأعتقد أننا قدرنا على متابعة عملنا رغم التضييق، خاصة أن السياق التاريخي كان بصالحنا مع منتصف الستينات وحتى منتصف السبعينات، فكما قلت سابقاً كانت ملامح التحول واستعداد المجتمع الاسباني عامة، والجامعة وجموع المثقفين خاصة للتغيير واضحة، كما كانت الحاجة الماسة للكلام والنقاش والجدل تغلي كمرجل، وكذلك الحاجة لاستعادة حرية التعبير والانفتاح على العالم والمقدرة على التأثير فيه، كل هذه الأمور كانت تنجز بخطوات حثيثة ودون توقف. وفي معرض الحديث هنا أذكر أن أحداث ثورة الشباب في فرنسا 1968 عملت على حقن الجامعة الاسبانية بالآمال التجديدية، من ضمن مؤثراتها التي صدرتها لأوروبا بالمجمل. كما وأن سمات النظام الفراكوي في حقبته الثانية تختلف عن الأولى.
لكل ذلك أنضم كثير من زملائي في الجامعة للأحزاب التي صرح لها بالعمل، للتعبير عن آرائهم، أما أنا فقد حافظت على مسافة إبعاد عن كل الأحزاب السياسية، ولم أنتمِ في يوم من الأيام لأي حزب، وذلك لأني دافعت باستمرار عن الحرية، ولم أشأ أن أرهن حريتي لأي تيار سياسي مهما كانـ لعل الأمر يتعلق بأنني دائماً ما كنت شخصاً بحمل فردي قوي في داخلي، ولكني حرصت دائماً على الفعل ضمن مواقف جماعية ولأجل الجماعة.
تجربتي في اشبيلية، رغم قصرها، خدمتني بعدة أشياء أذكر منها تبلور أفكاري التي كنت أتأمل فيها منذ المرحلة المصرية، ألا وهي صلة وصلي مع "اقليم الأندلس" وما هو عربي أندلسي، والتي لم تكن تعني بأي حال من الأحوال نفي علاقتي مع مجمل اسبانيا على الإطلاق، وإنما ميل للاندماج معها بحملي الأندلسي الذي أخذت باستعادته. كذلك بدأت أتعلم التأمل في الواقع والخيال وأين يبدأ كل طرف منهما منصهراً في الآخر وكيف تمثلته ثقافة الاقليم الأندلسي، إلى جانب ما تحدثت عنه جول قناعاتي وعملي في الاستعراب وكيفية وضعها على أرض التنفيذ العملي.
من كل ذلك حملت على كاهلي ما خبرته وشددت الرحال إلى جامعة Autónoma de Madrid آوتونوما في مدريد والتي بقيت أعمل فيها إلى سنة التقاعد... ولذلك حديث آخر.
(يتبع..)