هل ستشفي «عين شكوح» بمائها من الاكتئاب أم أن الشفاء ينبع من إصرار الراوي على إكمال كتابة بحثه عنها رغم مرضه وفقره وصدمته فيمن أحبها؟ القاص المغربي يكشف لنا كيفية مواجهة الراوي لأزماته ومدى مقدرته على تجاوزها.

عـين شَــكُّوحْ

محمد أنقار

في الخامسة مساءاً انحشرتُ بين كتلة المنحشرين في الحافلة الصاعدة من الكلية إلى المدينة. لم أبال بالاختناق ولا بالعرق وأنا أنساق مع الهاجس الآمر الذي كان قد صدر قبل قليل عن فم الشجرة العارية. كذلك تواطأ طلبةُ فوجنا على تسمية أستاذ الجغرافية مدفوعين إلى ذلك بقامته الفارعة وصوته الجهوري. ومنذ أن نطقت الشجرةُ تقمصني الأمرُ مثلما تتقمص الجنديَّ كلماتُ قائده وتسكنه. وغدا الأمر أمري دون سواي. واعتبرته تحدياً جديداً أنساني السقمَ، والعيشَ الكفاف في المحلِّ الضيق. ومع ذلك وطدتُ النفس على مصارعته. ولخصت وضعيتي في حماس منكسر:

 - السباحة في المستنقع الآسن شر لا مفر منه. حتى وإن ثقل ماؤه الطينيُّ لا بد أن أقهره وأكون جاهزاً في الموعد المحدد. إذ ثمة نزوع قوي لكي أنسى نسرين وقد نظرت إلـيَّ خلال الموقف المشبوه بابتسامتها الماكرة.  أما مُرافقها فلم يكن الأمر يعنيه. هو في حلٍّ من كل التزام، في وضع مريح سواء إن اقتسم معها الطاولة أم افترش إلى جانبها عشب حديقة الكلية. أنا المعني بكل الأمر.. أنا دون سواهما.. دون سواهم..

*  *  *

أخذ الأستاذ يجمع أوراقه بقدر غير قليل من السرعة، ثم أنهى المحاضرة بأمر لا يخلو من الصرامة. وفي أثناء ذلك تباطأ الطلبة في لــمِّ أدواتهم. أصاخوا السمع بصمت مشوب بالتوتر:

  - آخر أجل لتسليم العروض اليوم الأول من الأسبوع القادم..

وإثر لحظة صمت مشحونة هي الأخرى أردف:

 - الإدارة تنتظر النقط. وأنتم تعرفون مصير من يحاول تسليم العرض بعد الموعد..

   وكما كان منتظراً انفجرت الهمهماتُ والوشوشات معلِّقةً، متمردة، وحتى ضاحكة. كأنها ثَـوْلُ نَـحْلٍ هائج في الفضاء يروم الانتقام. ثم تكاثف الثَّـوْلُ وتحولت كثافته إلى ما يشبه الهدير. وبحكم الدربة والممارسة تعلمنا كيف نميز بين طبيعة المحاضرة التي قد تنتهي بأمر صارم من الأستاذ والمحاضرة المسالمة. همهمات الأولى تختلف عن الثانية. ففي نهاية المحاضرة الآمرة تنشق الكتلة البشرية التي كانت قبل لحظات متلاحمةً كالجسد الواحد إلى طرفين غير منسجمين؛ أحدهما ذاك الرجل الأعزل المغلوب على أمره، الجامد أمام المنصة كالشجرة العارية، أو كقائد السفينة الذي تمرد عليه بحارته، وثانيهما تلك الجموع المتأججة وقد ملأت بصخبها مدرج الكلية الفسيح وسيطرت عليه.

أما الأمر الذي أمهلنا أسبوعاً فقد جاء في غير وقته ونحن في منتصف الموسم الجامعي. أو قل إنه جاء في وقت لا يناسبنا على الإطلاق ما دامت أوامر أخرى مماثلة صدرت عن أساتذةِ مواد أخرى في فترات متقاربة فكادت أن تغرقنا رويداً رويداً في المستنقع الواسع.

*   *  *

كنت جالساً في آخر المدرج حيث تنتهي الجموع وتنتفي سلطة الأستاذ. هي بعيدة عني لكنها في مرمى بصري. هي وهو يوشوشان وأنا بجسمي النحيل ملفوف في الجلباب الصوفي ذي النسْج الجبلي الأصيل. في ذلك الموقع النائي من المدرج لم أتخيل، في البداية، أن كلام الأستاذ يعنيني شخصياً. كنت منشغلاً بهما. وعلى العموم فقد تربصْنا هناك في آخر المدرج كقُطّاع الطريق لا أحد يقدر على فرض سيطرته علينا. نهمس. نهمهم. نلعن. نهزأ. وحتى ثمة من يتبادلان النظرات واللمسات كما يفعلان الآن. باختصار لدينا القدرة على بهدلة أعظم محاضر في التاريخ. ومن موقعنا ذاك نستطيع أن نشوه صورته ونرفع درجة ضغطه ونغدو أسياده.

قلت:

- دع الرجل يرغي ويزبد. كلماته الحادة ستصطدم حتماً بتُروس الصفوف الأولى، ثم ستفقد قوتها حينما ستتوه وسط أرجاء القاعة، حتى إذا ما وصلت إلى نهايتها كانت قد فقدت تأثيرها القاهر. مثَلُها كمثل الرياح العاصفة المتجمعة من أعماق المحيطات، إذا اجتاحت السواحل ظلت معتدة بسطوتها العاتية، لكن الفتور والإنهاك يصيبانها إن هي تغلغلت خلال الدروب وضاعت بين العمارات.

حمل الأستاذ محفظته الثقيلة وأخذ ينـزل دركات المنصة الخشبية متهيئاً لمغادرة المدرج. وفي خطوته الأولى حاصرته الكتلة البشرية ممعنة في الاستفسار أو شارحة في لغط حالاتٍ فرديةً خاصة. كانت العاصفة على وشك أن تفتر. وأضحت المقاعد شبه خاوية فتسلل العاشقان اتقاء حصول المواجهة معي. من المؤكد أنهما قد انتبها إلى  تلصصي عليهما. والواقع أن أمر الفتى لم يهمني قط. أما المكر المؤلم فمصدره تلك التي كانت قد حدثتني بالأمس القريب عن العهد المقدس فصدقتها بغباء لا مثيل له. كأني لست ابن الألفية الثالثة. ورويداً رويداً خف لغط النحل الكثيف فتملكني شعور مفعم بلذة التيه، وببعض الخوف أيضاً. ولم أدر لماذا حضرتْ في تلك اللحظة  صورة الوالد بوجهه المتجهم وقد عاد من دكانه إلى الدار ذات مساء شتوي كئيب بعد أن أخبروه بأن ابنه المسافر قد رجع من تطوان خائباً راسباً.

وأفقت من شرودي لأجد نفسي وحيداً أو فيما يشبه الوحدة. ثمة بقايا ضئيلة من الطلبة انتشروا هنا وهناك كالجزر المعزولة.  ينفثون في هواء القاعة المغلقة ألف قضية وقضية في وقت واحد. معظمهم عشاق سهوا عن الدنيا وعن الأوامر بالهمس والنظرات السارحة في أجواء مغايرة. وطمعوا، وهم في اللحظات الأخيرة، لو يسمعون من الشجرة جملةَ تخفيف أو قراراً أقل صرامة. وإزاء أصداء الأمر، وصورة الأب المتجهم حاصرتني الوحدة وتفاقمت حدة الخوف. لكن في سبيل اليقظة التامة من حالة الشرود استعدتُ كلمات الشجرة العارية بكل حِـدَّتِـها وتهديداتها. وتوكد لي بما لا يقبل الشك أني معني بها قبل غيري. أنا العاري وليس صاحب الأوامر. أنا الذي أخوض مستنقع الطين. يُرهق ذراعي ثقلُ مائِـه خلال سباحتي. يجذبني نحو الأعماق فأقاوم. لكن أقاوم بماذا؟ بالغربة؟ أم بنحافة الجسد الذي نخرته الدروس وخدعته الكلمات المنافقة؟. وتمثلتُ كل الأساتذة يقفون صائحين في خلاء شاسع ويُصدرون أوامرهم في آن واحد، وقلت إني قادر على تحمّلها وتنفيذها جميعاً لو ظلت إلى جنبي نسرين النحيفة ذات الصوت الرخيم. لكنها كانت قد وضعت يدها في يده وتسلّلا وراء ظهري. وتابعتُ بمرارة:

- متى تعلمت المنافقةُ فنونَ التسلل؟

وأثار التساؤل من جديد ماءَ المستنقع الثخين فأخذتْ بعضُ جرعاته تتسرب إلى الحنجرة، فلزم أن أحرك الذراعين بكل ما بقي فيهما من قوة، وإلا فالغرق لي بالمرصاد..

*    *   *

منذ سنتين قدمتُ من العرائش من أجل متابعة الدراسة بالكلية؛ في شعبة الاجتماعيات. وحيث إن حساسيتي لم تسمح لي بالسكن بـمَرْتِينْ المدينة الشاطئية، اكتريتُ محلاًّ في حارة الباريو القريبة من سفح الجبل. هو في الأصل دكان من الدكاكين التي تعارف سكان تطوان على تسميتها بالمحلاّت إذا ما تحولت إلى مقرات لسكنى الطلاب، أو الأرامل، أو سائر العزاب. وأعترف بأن بُعد المسافة بين مقر إقامتي والكلية زادني إرهاقاً، لكنه خفف عني في نفس الآن مضاعفات الحساسية؛ الربو، والعطس، وانتفاخ ما تحت العينين. خلال تلك المدة تمكنتُ من المقاومة بفضل العوالم الجميلة التي فتحتها أمامي نسرين. حلمت بالشهادة والوظيف والظفر بالحبيبة، فأقبلت على المحاضرات شاحذاً الذهن لكي لا تفوتني أية كلمة ألتقطها وهي طائرة في سماء المدرج وأسجنها في دفاتري حسبما اتُّفِق. حتى إذا ما خلوت ليلاً في المحلِّ أعدت نقلها في البياض بكل عناية الدنيا. 

*   *   *

في الأيام الأخيرة سهوت عن الأكل المنتظم وواجبات النظافة. أدمنتُ الإعداد. سهرت، وسهرت، حتى تمكن مني المرض. وفي لحظات الهبوط المشؤومة عاندتُ الهواجس السوداء، وأوهمت الذات بأني سليم معافى. وبعد أن أطفئ ضوءَ المحلّ مع بزوغ الفجر لا أعرف سوى سِنات متقطعة. كالأرنب العليل. حتى إذا ما سطع ضوء النهار غسلت وجهي بالماء البارد وأعددت قهوة سوداء وتهيأت من جديد لمتابعة الإنجاز. لكن ذات صباح حصحصت الحقيقة المـُرة. فتحتُ عينيَّ ومسحت فيما يشبه الغيبوبة سقف الدكان. تململتُ في متْـربتي ثم حاولت الوقوف فخانتني ركبتاي. تمكن مني الدوار فخفَق القلب واضطربت الأحشاء. آنذاك انكسر عنادي وتيقنت بأني مريض حقاً.

وتطلعت إلى إعداد القهوة ففشلت. وانتظرت دهراً حتى تمكنتُ من جمع أشلائي. ارتديت ملابس الخروج في خـوَر، ثم قصدت المستوصف العمومي ما دامت ميزانيتي لا تسمح بزيارة الطبيب الخصوصي. ووقفت مع جموع المنتظرين في شارع الظهيرة. انتظرت أكثر من ساعتين قبل أن يأتي دوري. وبعد الفحص والأسئلة شخص الطبيب هبوطاً في ضغط الدم وبداية زكام حاد. ووصف لي فيتامينات، وشراباً، ومضاداً حيوياً للحقن.

بحثت عن معالج في حارة باريو مالقه فأشاروا علي بواحد اسمه عبد المالك قرب المطحنة القديمة بسوق الفحم. قالوا إنه رجل الخبرة الطويلة. وأخبروني بأنه تدرب على يد معالج إسپاني في عهد الحماية. قصدته في الضحى ذاته وتسللت إلى عيادته الضيقة. أربعة مقاعد بلاستيكية بيضاء. قليل من أدوات الإسعاف الأولي. قدر ملحوظ من الأدوية. وروائح مختلطة من اليود وكحول الاحتراق والبنسلين. وجدته وحيداً جالساً رِجلاً فوق رجل في انتظار الزبناء. كان يقرأ. وعندما باغتْـتُه بالسلام وضع الكتاب جانباً ووقف مبتسماً. وتسلم مني الحقنة وهو يخترقني بنظراته المجرِّبة. وفي أثناء ذلك تلصصتُ بعيني الذابلة على غلاف الكتاب ومؤلِّفه فإذا به رواية "سمرقند" لأمين معلوف. وأدركت على التو أن الرجل اكتشف بؤس وضعيتي فاضطررت إلى أن أخبره بأني طالب حديث العهد في الباريو وأعيش وحدي. ابتسم ثم عمد إلى بث الحماس في الجسد المهدد بالانهيار. وغرس الإبرة في وركي وهو يتكلم. ولم أشعر بألم الوخزة بعد أن تمثلتُ نفسي منتصراً على نسرين وإلفها، وحتى على أمر الشجرة العارية. قال المعالج وأنا أقفل أزرار سروالي:

- دخلتُ الثانوية وأنا يافع. كنا نسكن في المضيق ولم تكن به آنذاك ثانوية فأضطر إلى الصعود من هناك إلى تطوان يومياً. وفي كل صباح كانت أمي تسحب ببطء من تحت وسادة نومها نقودَ الحافلة وتسلمها إليَّ بِـيدِ مَنْ تعرف جيداً كيف  وفّرتها. وحيث إني كنت واقعاً مثل أقراني في مغريات الصبا تعودت الاحتفاظَ لنفسي بالدريهمات وقطع كل تلك المسافة مشياً. من المضيق إلى شارع أَغْوَاضَه عند حدود الباريو. أ وَ تدري كم كيلومتراً بين الموضعين؟. لا أظن أنك تعرف. ستقول لي إنها لا تقل عن خمسة عشر. وسأقول لك إنها كانت تبدو لي مئة مع التفكير في وقت الثانوية الوشيك وتأنيب الضمير خوفاً من أن يُفتضح أمري. ومضيت على تلك الوتيرة شهوراً، أصل إلى الثانوية مرهقاً مبللاً بالعرق. وكم من مصيبة سببتها لي  الرائحة الكريهة وفرط التعب؛ بما في ذلك تعاليق التلاميذ المشاغبين وعدم القدرة على استيعاب ما يقوله الأساتذة. وذات يوم فطنت أمي للحيلة الماكرة. كانت تركب الحافلة المتجهة إلى تطوان من أجل تسلم معاش الوالد فإذا بجابي التذاكر يسألها:

-        كيف حال عبد المالك؟. لم نره منذ شهور..

وأُسقط في يدها. وبعد لحظات تردد أمطرتِ الجابيَ بأسئلة إضافية فزادتها الأجوبةُ السلبيةُ شكاً في أمري. بل إنها تخيلت الأسوأ؛ الحشيش، ورفقة السوء، والانقطاع عن الدراسة. وانتظرتْ عودتي في المساء فأقفلتْ علي بابَ غرفتي وضربتني ضرباً مبرحاً بحزام العسكر الإسپاني الموروث عن الوالد. صرختُ واستنجدتُ الجيرانَ إلى أن اعترفتُ. ثم هددتني بالطرد من المنـزل إن كررت الفعل.

وتوقف عبد المالك هنيهة عن الكلام. كنت قد استعددت للخروج لكنه استأنف بنبرة لا تقل حماساً:

- ستسألني حتماً عما كنت أفعله بالنقود وسأقول لك إني كنت أذهب بها إلى السينما. كما كنت أوفرها لشراء وكراء نُوڤِيلاْت الكُوْبُوي خاصة تلك التي كتبها  الماهر مارْسْيَالْ لاَ فُوِينْطِي إسْطِفَـنِيَّا. كانت تسحرني أغلفتُها الملونة حيث صورةُ البطل الأمريكي الوسيم بقبعةِ رعاة البقر، والنظرةِ الساهية الواثقة في نفس الآن. أما المسدس فحاضر دوماً واليد على أهبة الاستعداد. ولم يكن الغلاف يخلو من صورة فتاة النوڤيلا. شُقرةُ الشعر القصير أو المتوسط الطول، والشفتان القرمزيتان، والنظرة المستسلمة في شبقية متحفظة..

*  *  *

دغدغت حكاية المعالج وتراً خفياً في أعماقي فملأتني شجاعةً. بل إني تناسيت العلة تماماً ورسخ لدي أني قد شفيت. ولم يكن واقع الحال كذلك. كان ثمة تهديد الغرق باستمرار، وضرورة الانتقام من الخائنة. قلت:

-        سيكون الانتقام غير متكافئ ولا من نفس الطينة.

وفي سبيل ذلك أقبلتُ على إنجاز العرض الجغرافي حول منبع من منابع الماء المتبقية في ضواحي تطوان وتدوين معلومات عنه. ودلني بعض الجيران على "عين شَكُّوحْ". واستفسرت كثيراً عن موقعها واستعنت بالوصف العيني بعد أن خذلتني الشبكة العنكبوتية. وعلى الرغم من نقاهتي هبطت إليها في مخرج المدينة المفضي إلى طريق طنجة. ثم انعرجت يميناً وصعدت عقبة كأداء فوجدتها منكمشة في وسط الهضبة المشرفة على خندق قديم.

وفي زوال وقوفي أمام العين صادفتُ امرأةً مجلببة صحبة فتاة صامتة شديدة الشحوب. كانت المرأتان تستريحان فوق حجر مكور غير مريح وقد ظللتهما شجرة ديلم قليلة الأوراق. وحينما تفرستهما توكد لي أنهما غير مرتاحتين. وجفلت الفتاةُ حينما رأتني أهتم بالعين وأدور حولها كمن يبحث هناك عن كنـز ضاع منه. كنا وحِيـدِين في ذلك الموضع الموحي بالبرودة رغم قيظ الزوال. ومن أجل أن أبدد توجسات المرأتين وضعتُ دفاتري جنبهما وجلست عليها واضطررت إلى أن أعرفهما بنفسي. أخبرتهما بالبحث الجامعي الذي أنجزه حول العين. ولم أدر إن كانتا قد استوعبتا جيداً ما كنت قد قلته لهما. ومع ذلك بدا كأن كلامي طمْأن المرأة المجللبةَ  بصفة خاصة بينما ظلت الفتاةُ ساهيةً تحدق عميقاً في ماء العين الصافية. كانت ملابسها عصريةً، ومع ذلك لفَّتْ رأسها في فولار شديد الخضرة. أما المجلببة فقد انطلقت في ثرثرة طويلة حكت لي خلالها عن معاناة ابنتها والاكتئاب المتحكم فيها. وبين الحين والحين كانت البنت تصحو من شرودها فتحاول أن تُسكتَ أمها بكلمة باردة أو بحركة يدوية فاترة لكن من دون نتيجة. وحدستُ في غموض أن سلطة الثرثرة في هذا الموقف أقوى من سلطة الاكتئاب. ومن تلك السلطة استمدتِ الأم القدرةَ على الإمعان في الكلام والتلذذ به. قالت:

- حينما حصلت ابنتي على الإجازة ظننا أنها ستجد وظيفة بسهولة. قبْـلها كنا نحسب أن بطالة ذوي الشهادات لا تخصنا بل هي شأن الناس الآخرين. بحثنا طويلاً وتمسحنا بمن له القدرة والنفوذ من دون طائل. وبعد أن انقضت حوالي الثلاثة أعوام من الجري والبكاء والتطلع تحمس والدها كي تعود البنت إلى متابعة دراستها العليا، لكن للأسف الشديد لم تسمح لها نقطها بذلك. ثم جاءت مرحلةُ الانكماش في البيت التي امتدت شهوراً إضافية انتظرنا خلالها خائفين كي لا تستطيل إلى أعوام أخرى. وتمكن من البنت الخوفُ من الخروج وحصل لها ما يسمونه بالاكتئاب. بعدها جاءت مرحلة الأطباء والأدوية المخدّرة فلم تتحسن وضعيتها. ثم جاءت مرحلة الفقهاء ورُقاهم. آخر هؤلاء أفتـى علينا بأن تشرب البنت من سبعة عيون مختلفة. في كل يوم عين. نحن من حومة المصلى القديمة. مررنا بالعيون الست. من "سيدي البَهْـلُولي" شربتْ أمس. واليوم شربتْ من "عين شَكُّوحْ". هي العين السابعة والأخيرة، ورجاؤنا في الله عظيم..  

وخلال حديث الأم المتدفق كانت البنت تسترق إليّ النظر خفيةً. وفي لحظة بدا لي كأن شحوبي انعكس على شحوبها فأشفقتُ عليها أكثر مما أشفقت على نفسي. إثرها انفتحتْ أمامي عوالم من الحب الأصفر والغرام السقيم. لكن أمر الشجرة العارية طاردني حتى وأنا فوق الهضبة وجعلني أوقف بحدة هجمة الأحلام. ثم سلَّمتُ وأخذت في هبوط المنحدر بينما هاجسٌ متسلطٌ يهتف بي:

- ذبحةُ الخيانة الحديثةُ العهد لم تنجـبر بعد.. قاوم كل رغبة سانحة لكي لا تُـذبح من جديد..

*   *   *

كنت أنطلق في إنجاز البحث من مخطط دقيق مخافة التيه عن القصد. فالتيه يعني إتاحة الفرصة للغادرة كي تمعن في إغراقي في المستنقع. وأوحيت إلى النفس بضرورة إنجاز المهمة في الوقت المحدد، ثم التفرغ بعد ذلك للعروض الأخرى التي طولبنا بها لمواعيد متقاربة جداً. هو مستنقع قاهر ملؤه الأوامر والخيانة. احتمال الغرق وارد والدكاترة لا يرحمون. أما شجرتنا العارية فيحلو لها أن تعذبنا بطرقها الخاصة. الموضوعات الميدانية ولا شيء آخر غير الموضوعات الميدانية. والنتيجة رسوخ صور غامضة ومتناقضة عن صاحب الأمر الجغرافي. إذ بقدر ما كرهه الطلبة جراء ما يحمِّلهم من فروض مضنية إذا بنا نقدره غاية التقدير بعد أن نكون قد أنهينا تحريرَ الفروض وانتشينا بالنتائج المدوَّنـة.

*   *  *

مع الحقنة الثالثة بدأت حالتي الصحية في التحسن. واكب ذلك تقدمي الموفَّق في إنجاز العرض. وحيث إن المترددين إلى عيادة عبد المالك قليلون كان يجد الوقت الكافي كي يبحر في كل مرة في مغامرة كلامية جديدة. وفي اليوم الرابع انتبه إلى اهتمامي الزائد بالكتاب المطمئن فوق الطاولة الصغيرة فاستطرد إلى تفاصيل رواية "سمرقند" وموضوعها الدائر حول الصعوبات التي واجهت البطل من أجل العثور على مخطوط رباعيات عمر الخيام. ووصف لي بتهويلٍ غرقَ السفينة الضخمة وضياعَ المخطوط، لكن في المقابل أُنقذ الحب الذي كان قد تأجج بين البطل وعشيقته. وفي اليوم الخامس آلمتني وخزته فرفعتُ عيني اضطراراً إلى الجدار الأبيض كما لو أود اختراقه باحثاً عن منفذ للهروب. وحرت في تعليل سبب وخزة اليوم الخامس دون سواه. وفي الجدار جذبت نظري الصورُ والقصاصات الملصقة التي تغطي معظم بياضه. ونسيت الوخزة وأنا أنساق مع عنق محمد الدرة المترنح وهو يحاول أن يقي ابنه من وابل الرصاص  الإسرائيلي الذي لم يكن يُرى في الصورة. وفي اليوم السادس حل موعد الحقنة الأخيرة فعمَّني الانتعاش. بيد أني حلمت ليلتها حلماً رأيت خلاله إلف نسرين واقفاً وسط جموع مبهمة الصفات وبيده ملابس ليست جديدة. اقتربتُ منه فأهداني أو باعني  معطفاً أحمر لعله للنساء. كان كلانا صامتاً. وبعدما أفقتُ من الحلم واستعدت وعيي بالتدريج اتّـقدت في كياني من جديد فورة الانتصار وحيوية النقاهة. كنت قد أفلحت في إنجاز العرض في الوقت المحدد. وفي صباح اليوم الموعود قصدت مَرْتِـينْ فذكرتني أجواء الحافلة بمرويات عبد المالك فابتسمت ابتسامة مهيضة. ووصلت إلى الكلية مغتبطاً معتزاًَ بالبحث المرقون في محفظتي الكرطونية. حينها لم أدر ما الدافع الذي جعلني أبحث بعناد عن النظرات الخائنة بين حشود الطلبة. فتشتُ هنا وهناك من دون طائل. وتساءلت إن كنت بذلك أتطلع إلى الانتقام أم التشفي أم رد الاعتبار للذات المنكسرة؟. وبعد الإلحاح في التنقيب توكد لي أنها لم تحضر ولا حضر الغريم. وكان ذلك جديراً بتوسيع دائرة الأسئلة في عقلي المتأجج.

في ختام المحاضرة أخذتِ الشجرةُ العاريةُ تجمع العروض الواحد تلو الآخر. وفي برهة وجيزة التقت عيني الذابلةُ عينَ الأستاذَ المتمكنة. كانت برهة نافذةً لما أن تسلم مني العرض ونقل بصره ما بين عنوانه وعيـنيَّ المتطلعتين. خلالها تداخلتِ الصورُ المتناقضةُ فيما بينها؛ البئيسة والمفعمة رجاءاً، الرمادية والخضراء، الغادرة والوديعة. وافترتْ شفتا الأستاذ عن ظل ابتسامة تحول الرجل إثرها إلى شجرة وارفة في عينيّ.. بل إلى ربيع دائم لا حدود لخضرته. قلت:

- ها هي الخضرة الطافحة تشملني بجناحيها العظيمين. كأني الكائن القادر على  الانعتاق والخروج  في يسر من المستنقع الثقيل..

ثم ساد صخب وضجيج بين الأستاذ والطلبة الذين لم يُحضِروا العروض في الموعد المحدد. تفننوا في اختلاق العلل، وهيمن بين الطرفين جدلٌ معهودٌ في مثل هذا الموقف. أما أنا فقد انصرفت عن كل منغصات الدنيا إلى الاستماع إلى أصوات البهجة الصادحة في داخلتي. حينها نسيت السقمَ وقررت المضيّ قدماً في إتمام عرض مادة الخرائط. وحدستُ:

- هي سلسة من المتاهات تفضي الواحدة إلى الأخرى. وحتى وإن تداخلت الحلقاتُ ستكون بينها حتماً فجوة منيرة كفجوة هذا الصباح الجميل. خلالها سأمحو أمارات الخيانة، وفتك السقم، وبؤس الدكان الرمادي. لا أعرف كيف ولا متى.. لكنها ستُمْحَى حتماً..

كذالك أوحى إلي قلبيّ الصغير..