كلمة (أمن) في معناها أن أشعر بالأمان، وأن رجل الأمن مصدر أمنٍ للمواطن، لا مصدر ترهيب، فكيف أصبحت هذه الكلمة المشتقة من مفردة مسالمة تثير الرعب في داخل كل مواطن، أقسمُ بأنني خلال كتابة هذه التفاصيل ولمجرد تذكرها أرتجف، فما هو حال المعتقلين ياترى؟ بعد عصر يوم السبت في الثاني من أبريل اقتحم نحو خمسة عشرة عنصراً البيت الذي كنت أتواجد فيه مع بعض الأصدقاء، من رأى هيأتهم والأسلحة والأصفاد التي معهم سيقول على الفور:
- أي إجرام وأي إرهابٍ يدورُ في هذا البيت.
كان معي الصديقة الشاعرة (جلنار) والدكتور(أحمد) طبيب نفسي، وصديق صاحب البيت (جان) لأن الأخير عسكري لم يتم توجيه أي كلمة له، في البدء حدث عراكاً غير عادي بين عدة عناصر والدكتور أحمد وذلك لأنه طلب بكل بساطة الكشف عن هوياتهم، لأنه طالب بأبسط حقوقه كمواطن، أوسعوه ضرباً وأوقعوه ووضعوا الأصفاد في يديه بالقوة أما أنا كنت كعادتي صامت لم أتفوه بأية كلمة طلبوا مني أن أجثو على ركبتي بعد أن وضعوا الأصفاد في يدي وخلف ظهري، والشاعرة جلنارأجلسوها في باحة البيت أمام التواليت، طلبوا مني بعد قليل أن أحصي أغراضي وطلبوا الإفصاح عن المال الذي معي وبعد أن تأكدوا أن المبلغ تافه كرروا علي إن كنت أملك مالاً غيره، فأجبتهم لا، وأحصوا أغراضي عدد 2 كاميرا مع كمبيوتر شخصي وعدد 3 فلاشات، ساعة يد، كتب، دفاتر وأشياء أخرى، المضحك المبكي أنهم كانوا يسألون إن كنت أملك أية فلاشات أخرى مخبئة في أي مكان، كنت أجيب لا، مع أن "الهارد ديسك" الخارجي سعة 1 تيرا كان أمامهم على الطاولة ، لم يسألوا عنه، ظنوا أنه محول كهربائي ربما، ولم يحصوه مع الإغراض، كان التفتيش بشكلٍ لا يمكن وصفه، يفتشوا جيوب الملابس ومن ثم لا تعاد لمكانها، ترمى على الأرض ويداس عليها وهكذا، كل شيء في البيت انقلب رأساً على عقب، كان هناك المسؤول عنهم يشرف على تسجيل الإغراض علمت فيما بعد أنه برتبة (مقدم) ولم أعرف اسمه، تبادر لذهني أن يكون الأفهم والأوعى فوجهت له كلامي بينما أنا أتألم على الأرض قائلاً:
- أنا منذ ثلاثة شهور أراجع في فرع الأمن العسكري في حلب عند العقيد وفيق وأحياناً صبح مساء من أجل موضوع منعي من السفر ولم يتم التعامل معي على هذا النحو، ماذا فعلنا حتى نضرب بهذا الشكل.
كان رده بعد أن قال:
- صوتك عالي يا حيوان
بعدها بدأت الصفعات تتوالى على خلفية رأسي (لن أنساها طيلة حياتي) وعلى وجهي من كل حدب وصوب ومن كل عنصر كان يقف بالقرب منه، كلما يتعب أحدهم أو يشعر بألم في يده يكمل الآخر عنه.
للتفنن في الإذلال جلس بعض العناصر أمام جلنار وبدأوا بالتدخين ووضع قدم فوق قدم، وفتح شتى أنواع الحديث وأنا والدكتور أحمد أمام التواليت وجوهنا للحائط والصفعات والكلمات النابية لا تنقطع منهم. (طبعاً أختصر الكثير من التفاصيل المؤلمة) طلبوا منا عند مغادرة البيت أن نلتزم بالهدوء التام، المضحك المبكي مرة أخرى أن الزعران (البلطجية) الذين يزينون الزوايا ويشاكسون الناس ينظرون لنا بتعالي، اقتادونا أمام الجيران ووضعونا في سيارة "فان" مغلقة والشاعرة جلنار في السيارة الأخرى، خلال الطريق كان هناك عنصر يجلس أمامي مباشرة والسلاح الرشاش بيده موجه صوب أقدامي، ويده على الزناد، كانت الأصفاد ضيقة فحركت جسدي قليلاً بلا شعور، أوسعني الذي بجانبي ضرباً وبدأ نفسي يضيق لا أقدر على التنفس، وأيضاً خلال الطريق بدأ الكل يدلو بدلوه بشتى أنواع الكلام البذيء وبكل أنواع المسبات التي مرت في التاريخ.
- حتى الآن ماذا فعلنا، لماذا اعتقلنا، لماذا نضرب ونهان لا أحد يعرف، ولا حتى هم أنفسهم ربما لا يعرفون. ولكن ربما التهمة هي أنني اتعاطى الكتابة – أحمد دكتور – جلنار شاعرة. أهكذا يُعامل المثقف عندنا؟
عند وصولنا للفرع، كانت أبشع الساعات التي لا تنسى أبداً، ولن أنساها طيلة حياتي، إلا أن يحاكم كل العناصر الذين كانوا في تلك الدورية محاكمة عادلة، خلال نزولنا، بدأ الضرب بشكل إن قيل عنه وحشي فسيكون قليلاً جداً، باستثناء جلنار، منذ نزولنا وحتى مسافة طويلة، رؤوسنا منحنية تجاه الأرض وأيدينا في الأصفاد والضربات تتوالى بوحشية علينا مع ترديد العبارات التالية من بعض العناصر:
- عم تسبوا على بشار الأسد.. عم تسبوا على بشار الأسد..
(هنا أود أن أوضح، ان لا أحد شتم ، ولا أحد نطق بحرف، كأن في طريقة ضربهم الوحشية لا مبرر لها إلا أننا شتمنا بشار) وهذا عار عن الصحة، وإن كان هناك من سبب سيجعلنا نشتمه فهو طريقتهم الوحشية في التعامل معنا، وإن كل ما يحصل في سورية سببه هذه الطريقة في التعامل مع المواطن وأحمل أجهزة الأمن مسؤولية كل ما يحدث).
لا أقدر على تذكر تلك اللحظات بشكل مفصل، ولكننا أوسعنا ضرباً حتى صار الصراخ والرجاء لا يجدي نفعاً منا، عندما تعبت أياديهم في نهاية المطاف، بدأ الرفس، وجه أحدهم رفسة تجاه صدري، انحنيت ومسكت بصدري متألماً، ثم من الخلف رفسني أحدهم رفسة وحشية على مؤخرتي أوقعتني أرضاً، لم أستطع بعدها الحراك، لم أعد أشعر بأقدامي، ظننت أن الشلل أصابني، كانت ضربة محكمة ومؤلمة للغاية تركزت على أسفل العمود الفقري، أكملوا الضرب طالبين مني أن أقف، عندما وجدوا أن الأمر جاد وأني فعلاً لا أستطيع القيام ولا أتحكم بأقدامي، ساندني البعض وأدخلوني شبه سحب إلى أقرب غرفة وطلبوا مني أن أصمت، عندما هدأت كل ما أتذكره أن العناصر التموا على الدكتور أحمد طالبين منه جواز السفر الثاني، وكانت هذه العبارات تتردد بصوت عالٍ:
- وين جوازك التاني، عطينا جوازك التاني ونحن رح نكون معك كتير محترمين، أقسملك بالله لسى ما شفت شي، من هون لبين ما تدخل لجوى، أكتر من تلاتين واحد في الطريق كل واحد رفسة وبوكس بتصير متل صاحبك، يقصد أنا.
قال لهم أحمد أقسم لكم أنا سوري ولا أملك جواز سفر آخر، اسألوا كل أهلي أنا عايش في سورية... إلخ..
هنا كان بالي مشغول على جلنار، لازالت شبه طفلة، عمرها 20 سنة ربما، كانت زيارتها لي للاطلاع على شِعرها والنقاش في بعض المواضيع الأدبية، حملت ذنب توريطها في أمر قذر أنا نفسي لا أعرف لماذا حصل كل هذا معنا.
أدخلونا للداخل أنا وأحمد وطلبوا منا أن نخلع ملابسنا مثلما ولدتنا أمهاتنا، طلب مني العنصر أن أجلس جاثياً بعد خلع ملابسي، ذكرت له أنني لا أستطيع، قلت له أشعر بألم هنا، كان باستطاعته أن يرى ظهري أفضل مني، على ما بدا أنه شاهد احمراراً والتورم كان ظاهراً في نهاية الظهر، قال لي اذهب إلى الزاوية ووجهك للحائط، غاب قليلاً وثم عاد وقال لنا البسوا ملابسكم.. وكما حللت ماحدث، ربما، اتصل على أحدهم وقال أن مكان الضرب ظاهر، وأرادوا أن يلفلفوها خشية من أن يتطور الأمر أكثر من ذلك، جاء عنصر وطلب من المكتب الذي استلم أغراضنا والنقود أن يسلمه الأغراض، وقال بعجالة امشو معي، كنت لا أقدر على المشي وكان يلح في أن أستعجل، قلت له لا أقدر لازم يفحصني دكتور، كابرت على نفسي وثم وصلنا إلى المصعد وأدخلونا على العقيد، كان أمام العقيد أوراق مطبوعة منذ دخولي البلاد وكل حرف أكتبه في الفيس بوك والانترنيت، قال لي ماذا تعني بدرعا، بلون أسود، قلت له درعا وأنا كأي مواطن سوري حزين على الشهداء، بعد أخذ ورد مطول طلب مني أن أجلس، قلت له لا أقدر على الجلوس ضربوني بشدة وأسفل ظهري يؤلمني. قال لي ببساطة: - شايفين وضع البلد، ونحن نعتذر منكن.
(يا سلام.. نعتذر)
أحالوني إلى ضابط آخر، سجل أقوالي، وحقق معي لساعات ووقعني وبصمني على عدة تعهدات لم أعرف ما هي، وسلمني أغراضي بعد أن فحصوا كل الأجهزة فحصاً دقيقاً، سألته عن جلنار، قال: أفرجنا عنها قبل قليل، أوصلوني للباب الخارجي وهكذا أفرج عنا بكل بساطة في ساعة متأخرة من الليل، وخرجت من الفرع حي ولكن بدون كرامة. في صباح اليوم التالي حزمت أغراضي وتوجهت إلى قريتي منعزلاً عن الدنيا عدة أيام حتى حصلت على جوازي وأقرب حجز الى خارج البلد.
15/04/2011
كاتب كردي من سورية