«ليه لأ؟»عنوان معرض كبير أقيم بقصر الفنون بالقاهرة، وهذا السؤال حول الفن يكشف عن مدى السعة التي نعطيها لحرية الفن لكى يصل للحدود القصوى لعالم من الممكنات غير معلوم النهاية، ويقدم قطاع الفنون التشكيلية المصري هذه النوعية من المعارض الكبرى لطرح الجديد داخل تجربة مازالت تتجدد في كل لحظة، ليحاول الوصول بأصحابها لأقصى مناطق تصاعدها وتناميها بتحريض إيجابى على الإبداع، وذلك بموازاة المعارض التي تقدم الرواد وتكرم المبدعين وتضع باقات الزهور حول أعناق هامات الفن في مصر. وإذا عدنا للمعرض/ السؤال «ليه لأ!؟» وفكرنا أن نطرحه بطريقة أخرى لكان التساؤل "لماذا نخاف الحرية؟" أو لماذا لا يمكن للأمور أن تكون على نحو أخر؟ رغم أن هذه هي قضية الفن الأولى، وهذه هي في ظني الفكرة الأساسية للمعرض.
الحق أن الحرية هي هبة الفن الكبرى وهذه السياسة في إطلاق حرية الفن إلى أبعد الحدود هي التي تبناها قطاع الفنون التشكيلية منذ الثمانينيات وتأكدت بفكرة صالون الشباب الذي قدم نبوءة المستقبل للفن المصري المعاصر، وأتاح من خلاله الطرح الحر لانشغالات الشباب وهمومه وتصوراته عن الفن، على اعتبار أن الشباب غالباً هو الفئة التي تطرح الجديد بجسارة وتتحمل فكر التغيير وعواقبه، وليس لديهم تلك الثوابت التي استقرت لدى الكبار أو الخوف على تغيير يفقدهم سمات ما عرفت تجربتهم به واستقرت على أساسه. والصالون أتاح للشباب منذ إقامته عام 1989 فرصة للانطلاق والتجريب، نظراً لمساحة الحرية التي أعطاها بداية من دورته الأولى، حيث جاء من ضمن شروط المسابقة في الصالون الأول عام 1989: أن يكون العمل المقدم جريئا ًدون حدود في التجربة الفنية. وقد قدم صالون الشباب الكثير من المبدعين الجسورين، ومن خلاله أيضاً اندس الكثيرون ممن لا يعرفون كيف يتحملون مسئولية الحرية، أو ما يمكن أن أسميه بمأزق الحرية الذي إن لم يمد خيوطاً من الإبداع الرائق فإنه يمد خيوطاً من الزيف ما تلبث أن تلف حول عنق أصحابها حتى تودى بهم للنهاية. وهذا هو ثمن الحرية الباهظ. فالمأزق هنا يصبح ـ إذا استعرنا عنوان المعرض ـ «ليه لأ؟» لما لا أجرب. هذا الفهم السطحي للوسائط الجديدة، أو بمعنى أخر هذا الاستسهال، راق لبعض السذج، وهيأ لهم بأنه يكفى للمغامر الجديد الشاب، أن يمتلك كاميرا رقمية وكمبيوتر، وبعض العاديات ليبدأ بها رحلة الفن.
إن هذا الانفتاح في قبول تجارب الشباب وتقديمها دفع إلى الحركة الفنية المصرية بالعديد من العناصر الجادة التي غيرت في مسار الحركة التشكيلية المصرية المعاصرة، لكنه أيضاً فتح الباب لاختلاط الغث بالثمين، وربما كان الوازع لهذا الانفتاح من جانب القائمين على إدارة الفنون التشكيلية المصرية، مبعثه اطمئناناً أعطته الخبرة بأن ما ليس له قيمة سيسقط وحده، وإن ذاكرة تاريخ الفن لا تحتفظ إلا بالإبداع الأصيل، وأن التاريخ له ذاكرة مسامية تحتفظ فقط بالقيمة، ذاكرة ترشيحية تنقى من الشوائب والنفايات. ومعرض «ليه لأ» هو معرض كاشف، أتاحت مساحة الحرية الكبيرة التي وضعها سؤاله الافتراضي، أن يعرى الكثير من الوجوه الجميلة والقبيحة، المبدعة والزائفة والمغرضة أحياناً، إنه يحمل كل فنان مسئولية ما يختار، وكيف وما هي الصورة التي يقدم بها نفسه. ولا أعتقد أن دور قطاع الفنون التشكيلية هو أن يختار اتجاهاً محدداً ويقدمه مدعماً له، بل أن يعرض كل ما هو قائم مهما تناقضت مشاربه. هذا التصعيد يؤدى بالتجارب إلى طريقين لا ثالث لهما: إما أن تستمر وتتألق، وإما أن تندثر وتختفى. وليترك بقية المهمة لتاريخ الفن على المدى البعيد، ولبعض العقول الواعية على المدى الأقرب. وقد جمع المعرض بين ثلاثة وأربعين من الفنانين المصريين الذين شغفتهم فكرة ارتياد الجديد على مستويات متفاوتة من العمق والعطاء، وكشف عن مدى قوة العراك الحادث الأن في قلب التشكيل المصري في محاولات إحلال وتبديل ستؤدى حتماً بعد مرورها بنضجها الزمنى الواجب إلى تصفية الزائف، لتبقى القيمة تحفظها ذاكرة الفن الواعية.
وقد دفعني المعرض لمراجعات كثيرة وأكد لي قوة حضور شكل فن جديد يتخذ من تعدد الوسائط التقنية الجديدة حقلاً له، وهو يتطلب درجة عالية من الوعى لتفنيده، خاصة أنه مازال يتفاعل ولم يصل في مصر لدرجة من الاستقرار والبعد الزمنى، تساند محاولة تقييمه والإحاطة به، مما يجعل تلك المحاولة محفوفة بالحيرة، يؤدى كل سؤال فيها لسؤال جديد، مما يدفعنا لأن ننظر للفن المعاصر تلك النظرة القلقة التي تجبرنا على متابعة الشروط المتغيرة للفن وتجديد تحليلاتنا عنه دون انقطاع. فالفن المعاصر لم ينته بعد من جنوحه وإغرابه منصاعاً لتلك الفوضى التي تجتاح العالم الجديد، الذي انتزع الفنان انتزاعاً من مرسمه ليلقى به في قلب أتون من التغيرات والأزمات المتلاحقة. إن أصوات العالم تحيطه وتقتحم مرسمه الهادئ وتنزعه من عالمه الرائق الذي كان يجذبنا إليه، نرتاح لدقائق من وطأة الحياة، بل حدث العكس اجتذب الشارع الفنان وأرغمه أن يلعب لعبة الحياة وينصاع للشروط الجديدة للفن التي رفضت أن يكون الفنان ذلك الكائن الرومانسي المنعزل في غفلة عن الحياة بتوتراتها ومآسيها.
لقد تحطم الإطار الذي كان يعزل اللوحة عن عالم الحياة، فأصبحت اللوحة امتداداً للحياة، بل إن توجه الفنان المعاصر لفن الفيديو والفوتوغرافيا وفنون الأداء والأشكال الجديدة من الفن التي شكلت أغلبية المعروضات تعنى مزيداً من النهم للالتقاط السريع لحركة الحياة ورصد أزماتها بأسرع الوسائط الممكنة. والمعرض يقدم عدداً كبيراً من التجارب أتوقف عند البعض ممن أريد أن أشير من خلال تجاربهم لبعض المعايير الهامة التي لا يجب أن يفقدها الفن المعاصر وهو يواصل اعتراكه وفرض شروطه الجديدة. والمبدأ الأساسي الذي أرى ضرورة في ترسيخه هو أن التقنيات المعاصرة ليست لعبة في أيدي الحمقى بل هي أداة جديدة في يدي مبدع قادر أن يضئ بها تجربته، فالمشكلة المؤثرة في الفن التشكيلي المصري المعاصر بشكل خاص هي الاستخدام غير الناضج للتقنية، وربما يكون مرد ذلك للأسف هو أننا منذ هزيمة يونيو 1967 انتابنا الإحساس بتخلفنا التقني، الذي ما لبث أن شجع النزعة إلى عبادة التقنية، وقد أدى ذلك إلى ترقب دائم من جانبنا إزاء الغرب المتقدم تقنياً، خاصة في ظل تنامى النزعة التقنية على الصعيد العالمي، لكننا ننسى أن الغرب يجرب ويترك لينتقل لتجربة أخرى بينما ما زلنا نحن نحتفى باتجاهات في الفن غادرها الغرب من ستينات القرن الماضي. ومازال الكثير من الفنانين يعتبر عمله الفني حقلاً يستعرض فيه بشكل مجمع ومكثف كل ما يعرفه من إمكانيات للوسائط الجديدة، دون أن يصل لمرحلة الانتقاء المناسب، والتلخيص لصالح لغة التشكيل الأساسية. فالفن ليس أن تمارس بعض الاستعراضات التقنية بلا مبرر وبلا فكرة تحتاجها وتحتويها، وليس الفن أيضاً أن تلقى في وجه المشاهد بجملة هزلية أو فكرة ساذجة متناسياً أن الفن هو لغة شكل لا يجب أن نفرغها من أبجديتها الخاصة.
هل يمكننا أن نفرغ الموسيقى من أصواتها ونغماتها ونكتفى بطرقة عنيفة نبدأ في حشدها بأفكار كاذبة حول المفاهيمية في الموسيقى المعاصرة، ولماذا يتبنى الكثيرون فكرة الفن المفاهيم دون الأفكار الأخرى مختارين هذا الشكل المختزل من الفن والذي ساقته ظروف في ستينيات القرن الماضي تحارب تجارية الفن وقد تغيرت الأن تلك الظروف. ولماذا يتبنى أخرون أفكار ترشحهم لعروض دولية خاصة دون أن يعبأوا بأن يكون ذلك على حساب مسخ قيم دينية أو أخلاقية أو إنسانية. إنها تساؤلات لابد أن تفرض نفسها على من يتأمل ذلك المعرض. ومجموعة الفنانين العارضين للعمل ينتمون لأجيال مختلفة يجمع بينها خيط التجريب، والتجريبية في الفن إما تجريبية مسئولة، بمعنى أنها لا تقوم على مبدأ البحث عن الجديد والغريب وغير المتوقع دون هدف أو مضمون، أو تجريبية متعمدة لإحداث تأثيرات صادمة لتحريك ردود فعل المتلقي وتصعيدها، وقد حفل العرض بجميع أنواع التجريب على اختلاف منابعها وأهدافها. لكن بلا شك أن من القيم التي ينبغي أن ترسخ لها مثل هذه العروض أن التجريب هو جزء من العملية الإبداعية، التي لابد وأن تنطوي على معطى جديد ولاترتكن إلى مداخل مسبقة فالمغامرة هي جزء من الإبداع. كذلك فإن التجريب ليس وسيلة للعبث أو الإثارة أو إحداث للصدمة، وأن الانتماء إلى التيارات المعاصرة ذات النزعة التجريبية لا يعنى تقديم فناً خالياً من القيم، بل يعنى تقديم فن ينطوي على قيم جديدة.
وبالعودة لمعرض «ليه لأ» أتوقف عند بعض النماذج الدالة من الأعمال المعروضة فالمساحة لا تتسع لعرض جميع التجارب تفصيلياً، ويروقني أن أبدأ بالفنان الكبير رمزي مصطفى هذا المخضرم الشاب صاحب القلب الشجاع وأحد زعماء الحداثة التشكيلية المصرية رائد من رواد فن "البوب المصري"، جرئ لأبعد الحدود، مجرب وجسور، مَثل المعجم الشعبي البصرى الأساس الأول لإبداعاته في أعماله المتعددة الوسائط، والتي لا تحفل بنبل الخامة، ولموضوعاته مثل "احتفالات المولد" و"عروض المسرح" و"شعارات الذكر" و"المصور الفوتوغرافي" و"جهاز العروسة" و"اتفرج يا سلام" و"شقة رقم" و"نسن السكين" و"صندوق الدنيا" والحمام الشعبي" و"السبوع" وغيرها. يقيمها الفنان في مجسمات خشبية ملونة وبخامات متنوعة، مستحضراً بساطة وبدائيو تركيب العشش العشوائية والأبنية الشعبية وألوان حلوى المولد، متخذاً أحداث الحياة اليومية مادة لأعماله وكأنه يقيم مرسمه فوق سطح أحد بيوت حوارى مصر الشعبية المزدحمة، فتنفتح عينيه دائماً على حياة أهلها بتفاصيلها، فيصوغ منها بعد مرورها برؤيته الفنية دنيا شعبية يوفدها كاملة لقاعات العرض محاطة برسومها وورودها وأوراق زينتها وزخارفها وأضوائها وألوانها البهية، فتبدو لنا كأننا نراها لأول مرة، وحتى أعماله الصغيرة تبدو وكأنها قطعة فسيفساء غادرت هذا العالم لتستقر فوق جدران قاعة العرض. وفي عمله في معرض «ليه لأ» يطرح صيغة جادة وملفتة «انظر أمامك، عدوك أمامك» وهو يصِف مجموعة من الشخصيات الجالسة أمام مرآة تتوسط مسطحين طوليين كتب فوقهما هاتين العبارتين، في تحذير صريح من خطايا النفس ومن أن العدو الحقيقي والأول للإنسان قد يكون هو نفسه، وهو يخص بالذكر هؤلاء المستغرقين في أهوائهم الذاتية وفى تقديسهم لأنفسهم لحد يعوق رؤيتهم لمن حولهم، ولما حولهم، ويدعو للحوار على جميع المستويات كوسيلة لتجاوز الراهن وتخطيه لما هو أفضل وعدم التشبث بأمجاد الماضي على المستوى الخاص والعام.
«انظر أمامك، عدوك أمامك» لرمزي مصطفى
هذا من ناحية المضمون أما من ناحية الشكل فهو يحول عمله المركب لهيئة العرض المسرحي وهو الشكل الأنسب لعملية التلقين التي يوحى بها العمل، ويؤكد الفنان هذه المباشرة وعدم الالتباس في وضعه للعبارات في صورة مواجهة ولافتة بجوار المرآة التي تتوسط الشكل، لنجد أن العدو الأول الذي غالباً ما نغفل عنها هو الذات. وهو يضع الشخصيات جميعها بالأبيض والأسود موحدة ومتماثلة ربما مشيراً إلى توحد المشكلة، بينما يلون الشكل بمسطحات كبيرة بألوانه الفوسفورية الأثيرة.
ومرة أخرى وأمام المرآة أيضاً بدلالالتها العديدة، يضع أكرم المجدوب "موديل" لجسد امرأة تقف أمام مرآة تعكسها وهي ملثمة برداء أسود يغلف جسدها ورأسها بالكامل، وعلى الحائط المواجه تظهر مجموعة من الدوائر الكهربية التي صفها الفنان متجاورة ولونها بالأبيض، ليصنع حائطاً من المجسمات الدقيقة البارزة كثيفة التفاصيل، ويمكننا تحميلها بدلالات عديدة بالإضافة إلى تأثيرها الشكلي، و"الموديل" تقف أيضاً على مرآة أفقية ذات تأثيرات متماوجة ينعكس عليها الحائط النحت الأبيض بشكل يفقد هيئته الهندسية المنتظمة، فيأخذ شكل ضبابي مهتز ربما يرمز لانعكاس أفكارنا أو ذواتنا على الأخرين بصورة مضللة، وربما لا يقصد به الفنان سوى تأثيره الشكلي الذي يضفى عليه المشاهد ما يشاء. وقد ألقى الفنان فوق المرآة بقطعتين من القماش الأسود والأبيض بشكل عشوائي، كأنما يكثف مضمون عمله الذي يقوم على فكرة التناقض، تلك الفكرة الأزلية التي يبنى عليها كل مصافى الكون: الشكل والظل، الروح والقرين، المرأة والرجل، الداخل والخارج، الأنا والأخر، طاقة الين "الأسود" وطاقة اليانج "الأبيض"، الطاقتان المؤديتان لحدوث أي شيء في الحياة، الظلام والنور، السكون والحركة، البرودة والحرارة، القوة والضعف، الثبات والتغير، الأرض والسماء وثنائيات أخرى عديدة.
«أمام المرآة» لأكرم المجدوب
بينما يطرح محمد عبلة مقولة «الحقائق القديمة صالحة لإثارة الدهشة»، وهو يشير إلى هذه العبارة في إطار عرضه لمجموعة من أعماله من مراحل زمنية وفنية مختلفة، وأجدني معه في ذلك الافتراض، فالعمل الفني الأصيل لا يفقد بريقه بعد اللقاء الأول، بل يظل يثمر رؤى جديدة لكل من يتأمله، وهذا العرض الذي قدمه ليخرج بتلك الأعمال القديمة من أدراج مرسمه، ليضعها متراصة متجاورة تؤنس بعضها البعض، وتحمل بعداً إنسانية لافتاً، إذ أحياناً ما يتأمل الفنان أعماله وكأنه يتأمل عمره من خلالها، وهي لحظة تحمل الكثير من الشجن وأحياناً الأسى الذي يجعلنا كثيراً ما نتساءل هل نجحنا في اختيار الطريق، لكنى أظن أن محمد عبلة امتلك من الحرية ما يجعله لا يلتفت إلا إلى متعة التجريب، وإلى أن يهتم بالمغامرة دون أن يكترث بما حققته من نتائج وأن يكتفى بنشوة الاغتواء بالمحال، التي غنى لها الفيلسوف الساخر صلاح جاهين في رباعياته.
«الحقائق القديمة صالحة لإثارة الدهشة» لمحمد عبلة
وإلى نفس الغواية "غواية الفن" يذهب الفنان عادل السيوى ليتلقف باباً جديداً للكشف يفتحه له عالم الفخار، وقد شهدت لقائه الأول به في مشاركتي معه ضمن المصورين الذين تم دعوتهم للمشاركة في ملتقى الفخار الأخير في الوادي الجديد، بفكرة ناجحة من الفنان عبد الوهاب عبد المحسن، وكنت أراقب عن بعد تعامله الطفولي مع "الطينة" واستكشافه البريء لها بطزاجة عين طفل يمسك بقطعة من الطين، ليعرف سر التشكيل للمرة الأولىز كما اكتشفت قدرته على ملاحظة الأشياء دائماً بعين جديدة، كأنه لا يخضع لسلطة أي خبرة سابقة. وإذا كانت المرة الأولى في أي خبرة إنسانية يجتازها الإنسان، دائماً لا تنسى، تحتفظ مهما تقدمت السنوات ببهجتها الأولى، فإن الفنان يظل طيلة العمر يبحث عن جمال المرة الأولى، فهو دائماً مشدوهاً إلى عبقها، ينقب عنها في تشكيل جديد، في خامة جديدة، في فكر جديد، فالاحتفاظ بتلك الحالة من الدهشة هو إكسير الحياة للفنان، يجدد روحه ويمنحه القدرة على مواصلة حياة الإبداع. وفى المعرض يقدم عادل مجموعة من الأواني الفخارية "الكانوبية" وهي معروضة بإضاءة خاصة، وبشكل متحفى يعيد إلى الذهن وظيفتها الجنائزية وحضورها الطقسي. وهذه الأعمال تشكل خروجاً عن سياق تجربة عادل السيوى التي عرف بها كمصور مرموق إذ يقدم هذه الأواني، التي كانت تُعد لحفظ أحشاء الموتى، ويتخيل عادل أنها تكشف عما بداخلها، ويتحول شكل الآنية عنده إلى شكل إنساني يضم كالرحم أشكالاً إنسانية أخرى وأحياناً طيور، وأحياناً حيوانات، وهو يصور فوقها بالأبيض والأسود بأداءات حرة تعتمد على الشفافيات التي يتلمس من خلالها تشكل عناصره التي تتكشف من خلال التعامل الحر باللون الشفاف بتراكمه وتجمعه وتركيزه الذي يخلق مناطق الظل وخفوته وانسحابه الذي يشكل به مناطق الضوء، وهو في هذا الأداء لا يغادر منطقته التصويرية، لكنه يحاول تكشُفها مرة أخرى على جسم ثلاثي الأبعاد مستسلماً كما يقول للسير خلف هذه النداهة الساحرة.
«الأواني الفخارية الكانوبية» لعادل السيوي
ويقدم الفنان عبد الوهاب عبد المحسن عملاً مركباً بالإضافة لمجموعة من الأعمال الجرافيكية "طباعة بارزة من مسطح خشب على قماش مجهز" وتمتاز التجربة الجرافيكية للفنان عبد الوهاب عبد المحسن بقدرات تصويرية هائلة، فالأعماله حياة لونية خاصة امتازت بها كما أن لديه القدرة على تحميل الأشكال المجردة بمضامين انفعالية ووجدانية بفضل أدائه الحر واستجابته الواضحة لحالته العفوية اللحظية وقت ممارسة العمل. وتستدعى أعمال عبد الوهاب مقولة كاندينسكي التي مؤداها: "إن اللحظة الديناميكية تأتى مع نشوة انفعالين على الأقل سببهما وجود العناصر والالوان والخطوط والأصوات والحركات إلخ "التضاد"، والأمر أكثر تعقيداً في التصوبر عن الموسيقى، فالصوت في الموسيقى يمكن أن يكون قوياً أو ضعيفاً دون أن ترسم له حدود. أما اللون فهو يتطلب رسم تلك الحدود في مستوى اللوحة. والسؤال هو أهي الحدود التجريدية أم الحدود التي يفرضها الشيء؟ باعتقادي أن الحدود المسماة بالهندسية، توفر للون إمكانيات إحداث اهتزاز خالص وأكثر مما تعطيه حدود أي شيء. فالحدود الهندسية أو الحرة غير المرتبطة بالشيء تثير تماماً كاللون انفعالات أقل دقة من تلك التي يثيرها الشيء. انها أكثر حرية ومرونة.. أنها ببساطة تجريدية". وأعمال عبد الوهاب ترتكن لتلك الحرية التي تمنحها الأشكال المجردة عن الارتباط بوصف أشياء محددة، وفى أعماله المعروضة يضع هيئة ذات إطار خارجي داخل الإطار الأصلي للعمل، وتعتمل داخل هذا الإطار الداخلي الألوان والأشكال في طبقات ومستويات متراكبة من اللون، وهي مختلفة الكثافة والشفافية والملمس، وسرعان ما تتجاوز الأشكال ومساحات اللون الصغيرة حدود هذا الإطار أو الهيئة كأن هناك مجال مغناطيسي خارجي يشدها إليه، أو كأن هناك نطاقين متناقضين لتصارع الطاقة أحدهما داخل الإطار الداخلي المرسوم في العمل، والأخر خارجه ما يولد حالة من التوتر اليقظ والحيوية الفائقة للأعمال في انتماء مخلص للغة الشكل في تجلياتها المختلفة.
«طباعة بارزة من مسطح خشب على قماش مجهز» لعبدالوهاب عبدالمحسن
ومن مدخل الوجدان يقدم الفنان محمد فتحي أبو النجا تجربة فنية مثيرة للشجن وإعادة التفكر أيضاً، وإذا كان الوجدان هو الجانب العاطفي للخبرة، فإن أبو النجا يقدم من خلال تلك الخبرة عمله اللافت "القدم المقدس" الذي ارتحل فيه بالذاكرة إلى أيام طفولته عندما كان يذهب مع أمه لزيارة السيد البدوي بطنطا لأخذ البركة وطلب الهداية، وللوقوف أمام بصمة قدم النبي على حجر البازلت الأسود للاستغفار والتبرك والحديث بكل آلام النفس في طقس مصحوب بالرهبة وقوة التأثير، ثم يبدأ التشكك بذلك الأثر عند دراسته لمادة التشريح عندما التحق بكلية الفنون الجميلة، ويقطع هذا الشك قرأته لمقال ليوسف إدريس يناشد شيخ الأزهر ووزارة الأوقاف بإزالة هذا الحجر من المسجد، لأنه ليس بصمة لقدم النبي بل عمل لنحات بسيط صورها بخياله. هنا اهتز هذا الرمز وارتبكت الذكريات الطويلة المصاحبة له.
والحق أن الإنسان باحتياج فطري يبحث منذ بدء الخليق عن قوة أكبر منه تحتويه وتحميه وتنقذه من الخواء المرعب، الذي يحيطه ولايستطيع تفسيره ويكشف تاريخ الأسطورة عن ذلك، ويشير تاريخ الفكر الديني قبل الرسائل السماوية إلى هذا القلق الإنساني المبكر، الذي دفع الإنسان لمحاولة إيجاد مفردات مادية وسيطة، تحيله إلى فكرة الاتصال بالقوة الإلهية من خلال وسائط مختلفة ومدارج مختلفة تضيق وتتسع حسب درجة الوعي الإنساني. ويحول أبو النجا تلك الذكرى لعمل فنى مؤثر حيث يستخدم إمكانيات الفنان الخاصة فى الدخول والخروج المرن من الذكرة بما تمنحه من صور، وبما تحمله هذه الصور من انفعالات وتأثيرات تظل عالقة بالروح رغم مرور السنوات. وقد استطاع الفنان أن يحقق ما أطلق عليه ت. س. إليوت اسم "المعادل الموضوعي" في الفن على اعتبار أن العمل الفني هو صياغة فنية في قالب موضوعي يرتكز علي التعادل التام بين الحقائق الخارجية وصولاً إلى المنشأ العاطفي للصور الفنية. ويقدم عمل أبو النجا فيلم فيديو عن مولد السيد النبوي في لقطات مكثفة متلاحقة، كأنها ذاكرة حاضرة تعيد نفسها في ومضات بصرية وسمعية متلاحقة، كما يقدم مجموعة من الأعمال التصويرية يشكل "القدم المقدس" المفردة الأساسية فيها في تنويع مختلف، اعتمد على وضع شكل القدم في نسيج من تأثيرات شرقية في طبقات من الأداء، الذي يوحى بتراكم الزمن وأثره في طمس حدة الأشياء ويقينها، وذلك في أداء يتطابق تماماً مع الفكرة ويتوحد معها.
وفى نطاق هذه المنطقة من الانشغال الفكري تطرح مروة طلعت عملا متعدد الوسائط حول "ذاكرة شخصية للإسلام" تقدم فيها تجميع لزخم من الرؤى والصور والأصوات، التي تحكي من خلالها الإسلام الذي تعرفه وتعايشه. فهي تقدم فيلم فيديو تختلط فيه أصوات الآذان بالأدعية والابتهالات بصور من الشارع المصري الذي غلبت عليه مظهرياً فكرة التدين، التي انتقلت من حالة ذاتية روحانية إلى مجموعة من المظاهر والأداءات الشكلية يحصل الإنسان بواسطتها على "صك غفران المجتمع"، ولو اجتمعت تلك المظاهر على إيمان حقيقي كما طرحه الإسلام وجميع الديانات السماوية، لما كنا نرى تلك الحالة من المسخ الروحي والأخلاقي التي يشهدها المجتمع المعاصر. والفنانة مروة طلعت تمضى بهدوء ولكن بخطوات ثابتة في تجربة فنية ذات خصوصية، تألقت في مشاركاتها اللافتة في صالون الشباب وبعض المعارض الجماعية الهامة من خلال أعمالها المركبة واشتغالها على أسطح وخامات غير تقليدية، فهي ترسم بالخيط والإبرة تلك الأداة التي تناسب الطبيعة الأنثوية الصبورة والشغوفة بالتفاصيل، ومن خلالها تنسج على أقمشة وألحفة ما تريد أن ترسمه، وتستخدم تلك الأسطح في أعمالها طبقاً لطبيعة تركيب كل عمل. وفى هذا العمل تقدم مروة مزجاً بين تلك المسطحات من الألحفة التي تحولت لما يشبه "الريليف" بطريقة حياكتها المجسمة وقد كتبت فوقها أشعاراً في الحب الإلهي لرابعة العدوية في ثلاث دوائر كبيرة معلقة، وعلى يمينها ترسم وجهها على مسطح مستطيل من نفس الخامة ثم يستقر في قلب العمل مجسم مبسط مصنوع من "الجريد" لشكل مسجد وعلى الحائط المقابل تعرض مجموعة من الصور الفوتوغرافية القديمة لوالدها ووالدتها وقد حاكت فوقها قماش "الأوراجانزا" النصف شفاف وثبتته بغرز أعطت شكل الخيوط القصيرة المتقطعة حول الصور، وقامت بنسج خيوط تخصص بها مكان والديها في الصورة لتأكيد أهميتهما وتقديمهما عن غيرهما في الصور الجماعية، فأضفت بذلك حالة من الشاعرية على الصور القديمة التي بدورها تحمل شحنة عاطفية مرتبطة بالذاكرة الخاصة للفنانة. والمشاهد للعمل يشعر بالاستغراق فيه لأنه يشعر بألفة محببة تمنحها تلك الابتهالات التي تصاحبنا جميعاً في استقبالنا للصباح في كل يوم، خاصة في تلك الأيام التي كنا نصادق فيها المذياع ويشكل جزء من ذكرياتنا السمعية اليومية، كما يمنحنا صوت الآذان والقرآن بصوت المقرئين المصريين حنيناً جميلاً، يشعره كل مصري عندما يضطر للإقامة طويلاً في بلاد لا يسمع فيها الآذان. إن مروة تنقل حالة روحية ببساطة وشفافية تناسب طبيعتها الشخصية الهادئة، وتعكس أيضاً موقفاً إنسانياً من فكرة التدين، يناسب طبيعة الإنسان وبشريتهز فهي ترى أننا ندور في مدارات متداخلة نقترب في لحظات ونبتعد في لحظات أخرى من الله عز وجل، لكننا ندور دائما بحثاُ عن تلك اللحظة الصافية، لحظة الاتصال بالخالق لذلك قدمت مروة تلك الأشعار في الحب الإلهي في دوائر، لأنها الشكل الذي يوحى بالأبدية واللامتناهي، إنها محاولة صادقة من فنانة شابة لطرح حيرة ذاتية، في تشكيل بصري، يحاول أن يلتقي بالآخر على مساحة مشتركة من التساؤل.
أما أحمد فارس فيقدم مجموعة من الأعمال النحتية وعلى الرغم من بساطة الخامة التي يستخدمها "الصفيح"، إلا أنه استطاع أن يقدم منها تشكيلات نحتية استحضر فيها روح مزيج من الحضارات القديمة: أغطية التوابيت المصرية، وتماثيل بطلمية، وأيقونات قبطية، وتماثيل بدائية طوطمية، وقد قام الفنان بتلوينها ببساطة ولكن بحساسية مكنته من تأكيد حالة القِدم والتأكل وتعري الخامة، وقد ساهم في إنجاح هذه الأعمال طريقة الإخراج والعرض عندما تم تجهيز المكان بطلاء حوائطه بلون مناسب، واستحداث كُوات وخِزانات في الحائط، والاستفادة الذكية من عمارة المكان، فظهرت مجموعة الأعمال المقدمة في عرض وإضاءة متحفية، أكدت حالة التداعي الحضاري التي قدمها الفنان.
«تشكيلات نحتية» لأحمد فارس
ومن التجارب المقدمة في فن الخزف نجد عملاً مركباً للفنان أسامة حمزة الذي امتلك تلك الثنائية اللازمة للفنان المبدع: الفكر والمهارة، من هنا فقد طور تجربته الفنية ووصل بتعاملاته مع الخزف إلى حدود لم تكن مطروقة من قبل ليقدم من خلاله تنويعات عديدة مارس فيها بحرية وطلاقة طرح أشكال جديدة غيرت من مفهوم العمل الفني الخزفي بداية من الأعمال المركبة إلى التجهيز في الفراغ إلى الهيئات النحتية والمعمارية الملونة يشيد من خلالها أبنية فنية خاصة وجديدة من خلال الخزف، ويمثل عمله المقدم في المعرض نموذجاً جيداً لهذا التناول إذ يقدم تجهيزاً في الفراغ لتشكيلات خزفية فتتدلى من أعلى كرات خزفية غير منتظمة الشكل متعددة الألوان والأحجام تتخذ شكلاً عنقودياً وهي تتجمع في أسفل الخيط الذي يربطها وتخف ويقل عددها كلما اتجهنا لأعلى وكأنها تتخلص من كثافته وثقلها فتبدو وكأنها تتطاير.
وفي قلب العمل تستقر شرائح مربعة من وريقات خزفية يصفها الفنان متراصة فوق بعضها البعض على مجسم مستطيل يتوسط مساحة العرض، وفي الركن وعلى مجسم آخر يضع شكلين خزفيين كأوراق ملتفة رأسياً، وعلى الحائط يعلق الفنان مجموعة من المربعات الخزفية غير منتظمة الحواف، تبدو وكأنها رسائل من الخزف، لونت بألوان رائقة وشفافة، وشغلت بكثيف من الخطوط العشوائية المتقاطعة الناجمة عن حركة يد الفنان السريعة والمتلاحقة أثناء العمل. وفي هذه التجربة يؤكد الفنان حضور تقنية الخزف في أكثر أشكال الفن معاصرة وحرية.
عمل مركب للفنان أسامة حمزة
في حين يقدم ضياء الدين داوود عرضاً مركباً من مجموعة أواني فخارية يتجاوز فيه الشكل المعتاد للأنية، فهو يكسر مظهرها المتوقع بضغطه على أجزاء منها قبل تماسكها وجفافها، فيغير من مظهرها فتبدو وكأنها ارتطمت بشدة على الأرض قبل أن تجف فانبعجت أشكالها فاقدة صورتها المتوقعة الماثلة في الذهن كهيئة نحتية مستقرة وهو يضعها على جدار منخفض من الطوب النيء، ويعلق على الجدران صوراً فوتوغرافية لوجوه مجموعة من الفخارين مشيراً في لفتة إنسانية لأحلامهم وطموحاتهم في حرفتهم، التي منحوها أعمارهم فمنحتهم أسرارها. وفي تعامل ضياء مع مشروعه الفني في مجال الخزف دائماً ما يقدم عطاءات جديدة، ما يلبث أن يسترسل ورائها باحثاً عن طريق آخر جديد وهو يقدم مفهوماً جديداً لفن الخزف يمثل محصلة للمزج بين الاتجاهات الفنية المعاصرة والأساليب والتقنيات التاريخية، وهو يحدث تداخلاً وثيقاً بين الخزف وبين خامات أخرى تتوافق مع فكرة العمل، الذي يريد تقديمه.
عرض مركب لضياء الدين داود
ويقدم الفنان الشاب هاني راشد شخصيات مجسمة بالأبيض والأسود من الشارع المصري، بصخبه وازدحامه مصوراً مواقف من الشارع لجموع من البشر في حركة دائمة وقد غمرهم ضوء نهاري حاد، وظهر التنوع الكبير في مرتادي الشارع المصري وبدى وكأنه يقدم لقطات عشوائية من المدينة قلب المجتمع النابض بكل ما هو غريب ومتناقض وعشوائي، إنه ينثر تلك الشخصيات في الساحة الأمامية لمدخل قصر الفنون، ويكاد يختلط علينا الأمر ونحن نشاهدها من بعيد إذ تتداخل بحركتها الواضحة مع حركة رواد المكان وكأن شخصيات اللوحات قد خرجت من إطارها الأسر، لتندمج في واقعنا ترافقنا وتجاورنا في رحلة الحياة حتى نتوهم أنها شخصيات حقيقية وبلغة المسرح يسقط الحائط الرابع ليختلط الممثلون بالمشاهدين.
من الشارع المصري لهاني راشد
ومن النماذج الشابة التي أجادت قيادة الوسائط لصالح الفكرة الفنية. يقدم أيمن لطفى تجهيزاً في الفراغ يستفيد فيه من تجربته الفريدة في الفوتوغرافيا الفنية، ليصنع منها حوائط عمله المركب بالإضافة إلى المجسمات والأشياء السابقة التجهيز، ويعرض كذلك فيلماً مصاحباً يكثف فيه تلك الأفكار التي طرحها في جوانب عمله الكبير، في البداية ندخل إلى غرفة شَغل الفنان حوائطها بمساحات من الفوتوغرافيا التي تكشف عن تجهيز مسبق لا على مستوى الاحتراف العالي في التقنية الفوتوغرافيا، بل على مستوى تشكيل الصورة، ولاشك أن التجارب التي سبق للفنان تقديمها في مجال الفوتوغرافية فد أرفدت تجربته بخبرات جمالية خاصة استعان بها في "تجميع" و"تنظيم" أو "بناء" تلك الأشكال. يتوسط الحائط الرئيسي في القاعة التي يشغلها العمل "أداة فرم" عملاقة يخرج منها مزيج أخضر اللون يرمز للشباب أخضر العود، الذي يكون غالباً هو الضحية الأولى للحروب. وتستقر تلك الألة على مسطح أرضى تنتظم فوقه صور عشرات الجنود من جنسيات مختلفة، وهم مطموسي الوجوه، فلا يهم هويتهم الذاتية ففي الحروب يتحولون فقط إلى أعداد. ومن الواضح أن الفنان قد قام بنشاط ذهني يلاحق خبرته التقنية من أجل التعبير بلغة الألوان والأشكال عن ذلك "المعنى" الذي يريد أن ينقله إلينا، ولهذا فإنه قد استجاب لما شعر بأن لوحته تلزمه به في اختيار هذا اللون أو إيثار ذلك الموضوع الخاص، والمعنى الذي قدمه أيمن كان واضحاً: إنه يخيفنا من دبيب الحرب ووقع أقدامها القريبة، ويحذرنا بأن كلنا ضحايا ولا يستمتع بالحرب إلا الرؤوس المدبرة لها، والتي تعاملت معها كلعبة مثيرة غير عابئة حتى بالمقدس كما طرح في الفيلم المقدم. وفى الصور تظهر لنا أبواق الحروب وكأنها لعبة من ألعاب الأطفال تنادى على جنود كسالى مسلوبي الإرادة لا يتقدمهم قادة شجعان يبثون في قلوبهم الحماس، لإن القادة قد انشغلوا باللعب في أمان تحميهم عقولهم الشريرة، والنتيجة واحدة إنسان يتحول إلى رقم على قطعة معدنية هي التي تبقى منها بعد النهاية. والحقيقة أن الرغبة العارمة لدى الفنان في إحداث التأثير وإثارة انفعال المشاهد ورجه بعنف في هذا العمل، لها ما يبررها في حياتنا المعاصرة، حيث لم يعد هناك ما يجعلنا نتأثر فقد اصبحنا الأن نرى الأشلاء والانفجارات والانهيارات والأطفال الشهداء والكوارث والحصارات والإبادات الجماعية ونحن نتناول العشاء ونثرثر أمام التلفزيون، وما أن ينتهي العالم من أزمة حتى يقع في أزمة أبشع منها، حتى أصبحنا إما أن نصاب بالتبلد وإما أن نصاب بالشقاء الدائم ثمناً لاحتفاظنا بوعينا.
لقد امتلك أيمن لطفى ما أسماه فلاسفة الجمال بـ"الحالة التعبيرية للذهن" فالأفكار الجميلة لابد وأن تجد لها صوراً جميلة تنقلها من ميدان الانشغال الذهني إلى ميدان التعبير الجمالي. وهو يجمع بين الصورة الجميلة بمفهوم الفن وبين التقنية العالية وفى هذا تمثلاً حياً لأفكار فيلسوف الفن الفرنسي "ألان" الذي يرى أن الفنان إنما هو صانع قبل أن يكون فناناً، ومعنى هذا أن الفن ليس حلماً وتأملاً وتصورات فارغة، بل هو صناعة وتحقيق وتنفيذ. فالفنان هو ذلك الصانع الذي “يصطرع “مع المادة حتى تنعطف تحت إيقاع أفكاره، وهذا يتوافق مع المعيار الأهم في رؤيتى للقيمة في هذا المعرض وسط مأزق الفن المعاصر متعدد الوسائط.
النموذج الثاني الذي أتوقف عنده هو العمل المقدم من ريهام السعدني، هذه الفنانة الشابة التي تواصل بدأب وإخلاص لافت تنمية تجربتها في ثلاث مسارات متكافئة: فن التصوير وفن الجسد والتجهيز في الفراغ، متكئة في جميعهم إلى عالم الخيال: حقل الفن الأول فتضفى على عوالمها على اختلافها مسحة تعبيرية درامية. وهي من المعاصرين القلائل الذين يتعاملون مع الوجه الإنساني ويعيدون للجسد الإنساني بشكل عام مكانته في التصوير خاصة جسد المرأة لما له من مقومات تسهل وقوعه تحت سطوة الرمز جعلته يشهد حضوراً كبيراً على مدار خبرة الإنسان بالفن، إلا أن الإنسان في العصر الحديث عندما بدأ ينظر للعالم بوصفه ملاحظاً وفصل نفسه عن العالم المحيط به؛ لم يعد العالم رداء يلتف به، وإنما مشهداً يراقبه وبالتالي خرج منه، فخرج أيضاً من المشهد المصور وتراجع الشكل الإنساني وزاد اغترابه وانفصاله. من هنا فإن التجربة الفنية عند ريهام تعيد الإنسان وتنصت له من جديد وتحمله الكثير من المضامين والمعاني المهجورة. وإذا كان التعبير وفقاً لمقولة الفيلسوف سانتيانا هو: مجموعة من التأثيرات الانفعالية التي تضفى على المضمون الجمالي لأى عمل فنى دلالة وجدانية خاصة، تختلف باختلاف الذكريات والارتباطات التي تتولد في ذهن المتذوق لهذا العمل، فإن العمل الذي قدمته ريهام وتكامل فيه التصوير والتجهيز في الفراغ والصوت، هو أحد الأعمال التي تشكل نموذجاً لمرور التعبير والنزعة الوجدانية العاطفية لأكثر أشكال الفن معاصرة، ولقيادة الأدوات والوسائط لتحمل نفس الدفقة العاطفية الناتجة عن تعامل المصور المباشر مع مسطح اللوحة والنحات مع كتلة الحجر. وربما الذي أعطى للموضوع تلك القوة التعبيرية هو خروجه من قلب تجربة إنسانية مرت بها الفنانة وضعتها بين الوعى واللاوعى أثناء إجرائها إحدى العمليات الجراحية ونتج عن عدم خضوع جسدها بالكامل للتخدير رؤية مختلطة بين الواقع والخيال. وقد أوصلتها هذه التجربة لفكرة طفو الروح حول الجسد لترى أمور يصعب رؤيتها في حدود قدرات الإنسان المحدودة وفى ظروفه الحياتية العادية.
عمل مركب لريهام السعدني
تقودنا الفنانة للعمل من خلال ممرات أولى تعيد بها صياغة عمارة المكان بشكل يعطي الإحساس بعدم التوازن، وبأننا ندخل إلى تيه لانعرف نهايته وعلى الجوانب تستقر بعض الأعمال التصويرية، التي تحضر فيها المرأة بأحلامها وكوابيسها من زوايا رؤية غير مألوفة عالية أو منحرفة أو فجائية في حالات مختلفة تعيد فيها التعامل مع فضاء اللوحة بمرونة عالية، كأن الفراغ عندها قد اكتسب صفة زئبقية محيرة فهو يتمدد ويتسع ويصير خانقاً في مناظير بصرية غير متوقعة تستدعيها الحالة الدرامية للشخصيات المصورة. ثم نخرج من الممرات إلى فضاء مفتوح يستقر فيه قلبه سرير صمم بشكل إبداعي، كأنه منحوتة فنية. ويستقر فوق السرير مجسم لجسد مزدوج الأطراف مستسلم لعملية جراحية يقوم بها أطباء لا نراهم لكن نسمع أصواتهم وحواراتهم، التي تتعامل بقسوة مع هذا الجسد المستسلم بلا حول ولا قوة، والجسد غارق في أحلامه وهواجسه تهيئ له حالته اللاواعية صورة غرفة العمليات الباردة كأنها فردوس جميل والكشافات الساطعة كشجرة خيالية تملؤها الملائكة الحارسة، وتتدلى منها حبات البلور الشفافة المضيئة. والعمل بمجمله يحمل "قوة تعبيرية" وقابلية للإيحاء بحيث يكون في وسع صوره الخاصة أن تستثير في أذهاننا صوراً أخرى.
وفى النهاية لابد أن ندرك أننا نجتاز تلك المرحلة التي يتحول فيها الفن المعاصر إلى تقديم أشكال تعبر عن الحضارة المعاصرة التي تفتقر للطابع الإنساني وتربط الإنسان بسياق آلي تحركه التكنولوجيا ونظم المعلومات ؛ مما جعل من أهداف الفن المعاصر: الرغبة في تحرير العالم عن طريق تزويده بأشياء جديدة ومثيرة لاتمثل صورة لما هو معروف من قبل. ومن هنا أصبح الفنان يطالب المتذوق بأن يكون واعياً بأنه يتطلع إلى عمل فني يمثل لوناً من التحدي الصارخ لحياته النمطية ولمعرفته السابقة عن الفن ومفاهيمه المستقرة عن الجمال. وربما دفع هذا بعض الفنانين المشاركين للجنوح نحو الفكرة الغريب والمثيرة ليكون لها البطولة فيما قدموه من أعمال ومنهم أحمد العسقلاني في تشكيلاته المجسمة العملاقة التي تسد الطريق على الأخرين رغم هشاشتها وضعفها، وإيناس الصديق بعملها المعنون "ليس للبيع" الذي أثارت فيه قضية المرأة الشرقية بطريقة تولد الكثير من النفور والاشمئزاز، ومحمد جنزير في عمله "زلة لسان".
ومن الفنانين من استجاب للفن المفاهيمي مقدماً فكرته في إيجاز دون اهتمام بمادتها مثل الفنانين أحمد بدرى وأحمد فتحي وأحمد فولة ومنهم من قادته الأفكار لوضع الشكل في هيئات جديدة ومفتوحة لإضفاء قراءات من المشاهدين مثل أيمن السمري وجمال مليكة وحازم المشتاوي ونيفين فرغلي. ومنهم من أعلن عن تجربته بمضمون ولكنها فى الحقيقة محملة بمضامين أخرى يستكملها أي مشاهد واع مثل خالد حافظ ووائل شوقي وأمال قناوي وبعض الفنانين خرج بوسيطه الفني لسياق جديد مبدع وئام المصري في منحوتاتها الخطية.
وختاماً لابد أن أنوه أنى توقفت عند بعض الأعمال المعروضة وأنا أحاول الاقتداء بمقولة الناقد الألماني رومان إنجاردن «إذا فشلنا في الانتقال إلى الأفق الذي يتحدث منه العمل الفني سوف نخطئ فهم أهمية ما يريد أن يقوله العمل». ولابد أيضاً من الإشارة لأهمية فكرة العرض التي طرحها باستنارة الفنان محسن شعلان رئيس قطاع الفنون التشكيلية السابق وتلقفها بدأب وإخلاص وجدية منظم المعرض الفنان محمد طلعت الذي ساهم في إعادة بناء الثقة في جيل الشباب، حيث يمتلك وعياً كبيراً بإدارة المشروعات الفنية وتنظيم العروض ساهم في تشكيله دراسته العلمية واجتيازه لعدة دورات في هذا المجال في مصر والعديد من دول العالم وكذلك خبرته في تنسيق مثل هذه العروض بتجارب نجاح سابقة، بالإضافة إلى أنه يتعامل مع الأعمال المعروضة بروح فنان يحلم بالوصول بها لأقصى إمكانياتها وعطاءاتها، وبشهادة العديد من الفنانين الشباب المشاركين فقد ساهم طلعت بدور هام في تطوير أفكارهم بصورة تجاوزت طموحهم الشخصي عند بداية تناولهم لتلك الأفكار، بالإضافة إلى طريقة إخراج العرض وتقديمه بصورة تتغير وتتطور تبعاً لطبيعة كل تجربة بما يستلزمها من إعادة تهيئة للمكان والضوء فبدى عرض كل فنان كا لو كان معرض شخصي يقدم تجربته في أفضل الظروف المتاحة واضعاً في الحسبان الفلسفة العامة للعرض وعلاقة الأعمال ببعضها البعض.
إن عرض "ليه لأ" يطرح تساؤلاً يضاف إلى جملة الأسئلة التي يطرحها علينا الفن المعاصر ليتركها بلا إجابات. "إن أفق الحاضر في الواقع في حالة تََكَون مستمر". هذه المقولة الحقيقية لجادامر تجعلني أؤكد أن الناقد المعاصر لا يستطيع بسهولة أن يُقيم حالة إبداعية تواصل اعتراكها وتحولاتها ولم تصل للاستقرار بعد، إن حالة الإبداع التشكيلي اليوم تضئ كصور سريعة متلاحقة لا نستطيع أن نضعها في نسق مستقر لتقييمها بل يجهدنا تتابعها المستمر تماماً كما تجهدنا الحياة المعاصرة التي لا تترك لنا فرصة لالتقاط الأنفاس وربما لذلك قدم لنا الفن اليوم الحياة المعاصرة ككائن روبوتى ضخم يحطم بلا عقل كل ما هو ثمين ومقدس.