ينام، في العادة، في غرفة المكتبة، وهي عادة ليست بالقديمة الراسخة، فلم تكن عنده غرفة مكتبة قبل ستة أشهر، إنما كانت المكتبة تنام معه حيث ينام، وتأكل حيث يأكل، ولم يكن ذلك غريباً عليه فقد تنفست حياته في غرفة متوسطة في بيت أهله ترتفع خزانة الكتب فيها إلى جانب خزانة الملابس، أعلى منها وأوسع، وهما تحيطان بسريره الحديد قصير الأرجل الذي يبدو غارقاً في قاع الغرفة، كان يُحسّه غارقاً بالفعل حينما يستلقي عليه ويرى الكتب تتراصف على يمينه في ثبات، عناوينها لا تبين، حتى تبدأ حركتها في ضوء النافذة الخفيف فيُغمض عينيه ويُسلم نفسه للنوم، في نومه يعرف أنها أمامه، تنتظر أن ينهض ليخطو في رائحة البمبر التي تملأ الغرفة كل صباح، يفتح الشبّاك ويرى من خلال سلك المعدن الصدئ شجرة البمبر القريبة عالية، عريضة الأوراق.
إذا كانت الحياة تُقاس بالغرف، فهذه الغرفة ـ بلا شك ـ غرفة حياته، وإذا كانت الحياة تُقاس بالأشجار، فهذه الشجرة شجرة حياته، معها عاش الرائحة وهي تمرّ من نهار إلى نهار، وتعبر مثل خيط شفيف من فصل إلى فصل. وفي الغرفة تذوّق طعوماً لا تُعدّ، بقيت لذاذاتها على لسانه، حتى اجتمعت مع الوقت في لذة وحيدة حارقة.
مع انتقاله من بيت الأهل بدأ يفتقد الطعم، يشتاق لحرقته، ويعلم أنه لم يكن طعماً عابراً يمكن أن يتلاشى أو يذوب؛ يُطلُّ من نافذة شقته في الطابق الثالث، يرى الزوارق البعيدة على النهر تعلو وتهبط مثل أعواد من القش، ويفكر باللحظة التي غاب الطعم فيها.
في تلك الأيام خطفت في ذهنه فكرة مع أصوات الصيادين التي كانت تصله متقطعة واهية: ليس الإنسان ذاكرة أو رغبة أو حلماً، إنما هو طعم يتكثف بعد أن تنكسر الذاكرة وتخبو الرغبة وينطفئ الحلم، طعم خالص له وحده ولا يُدركه سواه.
قبل أشهر انتقل من الشقة ليسكن في منزل قرب شركة نفط الجنوب، أبرز ما فيه حديقة جانبية متربة بشجرة سدر متشابكة الأغصان، تجوّل مع زوجته في المنزل الفارغ، دخلا إلى المطبخ وصعدا السُلّم، فتحا باب السطح، ودخلا إلى الغرف، كانت تسبقه بخطوات وهي تواصل حديثها عن المنزل كأنها سكنته من قبل، قادته الغرف، غرفة بعد غرفة، للشعور بالضيق، التقطت زوجته شعوره فانحرفت بحديثها لمحاسن الغرف الضيّقة، حدّثته بما لم يكن يعرف من محاسن الشتاء ومحاسن الصيف، غرف يكفي كلاً منها مصباح واحد صغير لتصير عربة قطار، نظيفة مرتبة.
كانت هي من اقترح أن تكون للمكتبة غرفة منفردة تتنفس الكتب فيها بعيداً عن روائح النوم أو روائح الطعام، في تلك اللحظة، مع حديثها عن العربة النظيفة، قرر أن يعود للنوم في غرفة المكتبة.
كانت تواصل حديثها وكان يُنصت لها، هزّ رأسه وهو يرى عينيها تلتمعان ووافق على الانتقال، ليس من أجل المحاسن التي لم يكن يعرفها، ولا من أجل الغرف التي تتبدّل في رمشة عين، مصباح واحد صغير وتتحوّل من حال إلى حال، كان يفكر بالحديقة القديمة وبشجرتها العالية، متسائلاً عن الطعم، الطعم الذي لم يفتقده أحد سواه.