هموم يومية ينوء بها راوي القاص المغربي تفضي به إلى أن يعايش تفاصيله اليومية كهلاوس أشبه بالمتاهات لا يعرف كيف الخروج منها، ولا تضع كتابة هذه القصة حدا لهمومه أو متاهاته بل تزيدها وتفتح الباب للمزيد من المعاناة.

القصة الخفية

عبد الواحد الزفري

مثقلا بهموم اليومي غادرت بيتي، أجر ورائي أذيال خيبتي: فواتير ماء قد تأخرت تسويتها، لأن مستحقاتي الوظيفية لم يتم تسريحها، كهرباء يهددونني بقطع تياره ، والشهر لا زال على أبوابه، ثلاجتي المسكينة "تموت جوعا"، أطفالي بلا مرخ زغب الحواصل لا ماء ولا دواء...باختصار لم يتبق بالبيت لا زيت ولا خبز، ولم يعد لدرص (ابن الفأرة)  ما ينقي به ضرسه ولا أي سبب لزيارتي، ومع ذلك عن الناس كنت أخفي حالي. في هكذا أمور كنت مشغول البال، عندما تركت مقبرتي - أقصد بيتي -. في " إلى طريقي في العمل الطويل"، أقصد " في طريقي  إلى طويل العمل " والله لم أعد أعرف كيف أركب هذه الجملة: هل الطريق هو الطويل؟ أم العمل هو...؟ أم أن العمل هو الطريق؟ أو ربما هي كل لا يريح البدن...ا؟. المهم، قابلني شخص محترم، وبكل أدب سألني:

- صباح الخير، كم الساعة يا أستاذ؟                                           

وبما أنني - وكباقي الأساتذة – يعجبني سماع هذه التسمية التي تذكرنا بوجاهة ونخوة العلماء ( أيام العز بالأندلس )، أجبته بأدب  أقنعه بألا أدب يعلو على أدبي:

- صباح الفل والياسمين، الساعة يا سيدي ومولاي الشريف، تشير بعقربها الصغير إلى السابعة، وبالكبير – كبرنا الله على طاعته – نحو النصف (ابتسمت في وجهه) أي السابعة والنصف.

تابعت مشواري في المليون خطوة الذي لا أعرف من أين تبتدئ خطوته الأولى، ذهبت لتناول صحن فول - الذي قهر معدتي، وجعلها أرطب من الحرير- ، فإذا بي أجدني وجها لوجه مع الذي سألني كم الساعة، يصب لي صحني، ويناولني قطعة خبز، نعلت الشيطان، بكفي مسحت جفني، تأملته، قلت له:

- ألست الذي – قبل قليل – سألتني ...؟.

قاطعني بسرعة خاطفة:

- السؤال لغير الله مذلة، لست أنا من...ا.

ثم رمقني بجحوظ، وعلق على باب المطعم لافتة كتب عليها " الطلق ممنوع والرزق على الله ". أديت ثمن طبق فولي الحار، وانصرفت والوسواس يغلي في دماغي، نحوه التفت ثانية لأتبين إن كان بلباس المخلوق الآخر، لكن لا وجه للشبه  بينهما، فملابس الأول لم تكن بيضاء ولا ملطخة بالزيوت. قلت في جهري إنه صداع الرأس، عاد هذه المرة ليدمرني بقنابل "هلوساته" البصرية. قصدت الصيدلية لشراء دواء مهدئ لأعصابي التي أعرف أنها لا ولن تهدأ، وقد تزيد تشنجا مع حلول الشهر. طالبت الصيدلي بالدواء، وجدته نفس الشخص، في وجهه صحت:

- أتريد أن تجنني يا هذا؟.

أجابني، ما بك يا سيدي؟ ما الذي أزعجك؟.

في وجهه صحت ثانية:

ألست الذي...؟ والذي...؟.

بكل هدوء رد عليّ:

- أظن أن الدواء الذي طلبته، لن يجدي في حالتك هذه، أنصحك باستشارة الطبيب، يا سيدي.

خفت أن يبلغ عني مستشفى المجانين، فهرولت إلى الخارج، ولأول مرة في حياتي استوقفت سيارة الأجرة، لست أدري كيف فعلت ذلك، وليت أني ما استوقفتها: ألقيت بجسدي بداخلها وقلت للسائق:

- آخر مدرسة، على اليسار.

انطلق بسيارته، وبعد قليل استدار نحوي محييا:

- صباح الخير، كم الساعة يا أستاذ؟

رفعت أنفي تقززا، وضجرا،  وبوجه عابس أجبته:

- والله يا سيدي، لست أدري إن كان صباحي سيكون خيرا، فالعربون بان من أوله.

 ولما هممت بقص الحكاية عليه، وجدته من نفس فصيلة الشخص الأول، وكأنه مستنسخ مثل العنزة "دولي".

هذه المرة لم أصرخ ولم أرغ وما أزبدت، تركته يسوق سيارته ويسقوني إلى مدرستي كي أستأذن المدير في رخصة، إذ ما عاد الأمر يقبل التأجيل، زيارة الطبيب أصبحت ضرورة ملحة لا مناص منها، وإلا سينهار البيت على من فيه. وصلت إلى مدرستي، فاوضت السائق على أجرته، ولما دخلت إدارتها وجدت المدير بالمرحاض يغني مع أمعائه مواويل، ويكتب ما لن يراه أحد ولو في منامه. انتظرته حتى يكمل كتابة مراسلته التي لن تبعث لأية مصلحة. ولما استبدل لمؤخرته كرسي المرحاض بكرسي مكتبه، وجدته وقد تحول إلى صنف الشخوص التي لها وجه واحد، في التو أغمي عليّ، لم أدر إلا برائحة عطر تتسرب داخل أنفي، ويد شخص تمتد نحوي، من خلال موج الجنون تنتشلني، وفي الأخير، وبعد أن تورمت خدي من كثرة الصفع، سمعته يقول لي:

- كلنا واحد ... كلنا واحد... لقد شاركت معنا في "القصة الخفية"...، وقصتك قد كتبت، هل تسمح بنشرها؟ أم لا؟.

أخذت نفسا عميقا كي أسترجع روحا كانت على وشك أن تروح، ثم أجبته:

- ما عادت قصتي لوحدي، انشروها أو أحرقوها؟.

 

للإخبار فقط:

لما أنهيت كتابة هذه القصة، شممت رائحة طعامي وقد احترق، فإن شئتم ارثوني فيه على "الإيمايل" التالي:

zefriabdou@hotmail.com