تأسيس فرع "الدراسات العربية والإسلامية" في جامعة آوتونوما
استقرت حياتي المهنية أخيراً مع بداية السبعينات في جامعة Autónoma de Madrid آوتونوما في مدريد. وفيها استطعت أن أركز جهودي واستمرارية مشروعي، وأحقق الكثير من غاياتي التجديدية، وأنجز الكثير من البرامج التي كنت فكرت بها منذ وقت بعيد سواء في الحقل التعليمي، أو في مجال البحث العلمي، أو ضمن إطار العمل الإداري للجامعة. وأستطيع أن أؤكد أنني في جامعة أوتونوما تصديت بشكل كامل لمهمة تأسيس "فرع الدراسات العربية والإسلامية" بمساعدة مجموعة من الأساتذة الشباب والشابات، وبعون بارز مقدم من قبل الطالبات والطلاب في هذا الفرع، كما لا أغفل عن ذكر دور المؤسسة الجامعية وإدارتها في تأسيس هذا الفرع آن كان رئيسها Gratiniano Nieto، ففي عهده تمكنت من تأسيس الفرع رغم اختلافي البين معه فيما يتعلق برؤية كل واحد فينا للدور المؤثر الذي يجب أن تلعبه الجامعة في المجتمع، وذلك أنه كان يعتقد بوجود هوة لا يمكن ردمها بين المؤسسة التعليمية من جهة والهيئة الاجتماعية من جهة أخرى، إلا أن الأمانة تحتم علي أن أشير لدعمه لتجربتي ومشروعي التأسيسي، فمنه تلقيت مساعدة كريمة لتجاوز الصعوبات، وكافة العثرات التي صادفتني لدى الإدارة الوزارية.
حسناً، مع تأسيس "فرع الدراسات العربية والإسلامية" في جامعة آوتونوما في مدريد أصبح الطريق أمامي ممهداً – كما قلت – كي أستنبت كافة الأفكار التجديدية التي آمنت بها، وأحقق كل المشاريع التي كنت مهدت لها خلال سنواتي المهنية السابقة، والتي شكلت منعطفاً تاريخياً واضحاً لا يمكن العودة به للوراء في البرنامج الدراسي في هذا الفرع. فلأول مرة في سيرة الجامعة الاسبانية يتم تأسيس فرع مستقل ومنفتح على الدراسات العربية الحديثة والإسلامية الشاملة، متخطياً بذلك الاقتصار السابق على الدراسات العربية الإسلامية الأندلسية، وأصبحت اللغة العربية التي تشكل جذع هذه الدراسة غير مقتصرة على الدراسة النظرية وعلى غائية الترجمة، بل على أساس أنها لغة عملية وحيوية وحية، كما وأدخلت لأول مرة مواد دراسية لم تلتزم باحتكار العالم القروسطي لها، بل تعالقت مع الحداثة العربية وراهن الواقع العربي كذلك، ففي هذا الفرع تمت متابعة تدريس المواد الكلاسيكية القديمة الخاصة بالعصر الأندلسي والدراسات الإسلامية حتى القرن الخامس عشر، إلى جانب المواد الجديدة الخاصة بالأدب العربي المعاصر، إضافة لمواد أخرى لم تكن معروفة سابقاً كتلك التي تعنى بجغرافيا وعلم اجتماع الفضاء العربي والإسلامي.
أعود للقول بأنني في هذا الفرع استطعت تحقيق مشروعي بشكل فعلي وبعمق، وقطيعتي مع ماضي دراسات الاستعراب لم تعنِ إشاحة الوجه بعيداً عنها، وإنما كانت بمثابة تمثّل لكل ما سبق للانطلاق من جديد في مرحلة تاريخية ذات إيقاع وتوجه مختلفين.
لنقل أن الفارق بين ماضي الدراسات وحاضرها ساعتئذ، جاء كالفارق بين دربين يلتقيان ولا يفترقان. وذلك لأنني أعتبر أن الجديد في الشيئ لا يكمن في الغرض بحد ذاته، وإنما في العين التي ترى هذه الغرض، بمعنى أن التجديد ليس في مادة الشيئ بل في النظرة للشيئ، وعليه يمكن للمرء أن يكون مجدداً في الدراسات القروسطية نفسها، وهذا ما يتطلب رؤيتها من منظار آخر لتقديم تفسير وتأويل لها بمنحى مجدد، يساعده في ذلك تطبيق نظرية نقدية مغايرة أو منهجية أخرى عند المقاربة، فالواحد منا ليس "حداثياً" أو "معاصراً" لأنه يدرس المواضيع الحديثة، بل لأنه يطبق معايير منهجية أو مساءلة أو قلق أو صراعات من زمنه، فالقديم والجديد ليس في المادة المدروسة بل في العقل الدارس لهذه المادة، والبصر الذي يوجه طريقة المعالجة، وجهة القلب التي تقترب من الموضوع.
موشورية الاستعراب وذاكرة لـ"مدارس الدراسات العربية"
بالطبع وكما أشرت، إن الدراسات العربية لم تتطور وتأخذ سيرورتها التاريخية داخل الجامعة فقط، وإنما خارجها أيضاً، ويمكن القول أنها كانت قد بدأت منذ المرحلة القروسطية لتتابع مسيرها حتى العصر الحديث. وعليه يجب التأكيد بأن الاستعراب الجامعي هو انعكاس واحد في موشورية انعكاسات الاستعراب المتعددة، رغم أنه الأقوى انعكاساً وتمثيلاً والأكثر وفرة من جهة أبحاثة ومواضيعه. ففي خارج الجامعة تحققت تنويعات وممارسات استعرابيّة كثيرة بلا أدنى شك، وفي معرض الحديث هنا آتي على ذكر مؤسسة هامة في تطور ونمو دراسات الاستعراب الاسباني غير الجامعي رغم ارتباطها الوثيق مع الجامعة، وتدعى Las escuelas de los estudios árabes "مدارس الدراسات العربية" والتي كانت تتبع في بداية الأمر لـ La junta de ampliación de estudios "مجلس توسيع الدراسات" لتضم فيما بعد إلى El consejo superior de investigaciones científicas "المجلس الأعلى للبحث العلمي".
بشكل عام، اقتصرت مدارس الدراسات العربية على فعل البحث رغم أنها من الناحية المؤسساتية لم تكن ملحقة بالجامعة، إلا أن معظم من عمل فيها جاء من مؤسسة التعليم الجامعي خاصة من بين الأساتذة. ومدرسة الدراسات العربية في كل من مدريد وغرناطة تأسست في عهد "الجمهورية الاسبانية الثانية" (1931-1936). ولم يأت تأسيسها بتأثير نظام سياسي معين وإنما جاء كاستجابة لحضور الاستعراب الاسباني منذ المرحلة القروسطية حتى حاضر الجمهورية حينئذ.
طه حسين يدشن «المعهد المصري للدراسات الإسلامية في مدريد»
عاشت اسبانيا الفرانكوية (1939-1975) لوقت طويل في حالة إقصاء من الأقطاب الدوليّة، فلم تكن حاضرة في أي تمثيل للمجتمع الدولي، ولكن مع عقد الأربعينات ومن ضمن الإطار الدولي ظهر لديها بشكل جزئي بعض الأصدقاء، بداية من بعض أنظمة أميركا اللاتينية إلى جانب بعض الأنظمة العربية. وحرص النظام الفرانكوي على خلق هذه العلاقات الاسبانية-العربية والتي نعتت في الخطاب الرسمي بـ"النموذجية" أو "الأخوية". بالتأكيد كانت هذه النعوت مصطنعة أكثر منها واقعيّة. ولكن أستطيع الجزم بأنه مع نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات شكل العالم العربي مرجعية للبحث وللتمحيص بالنسبة للنظام الفرانكوي. وضمن هذا السياق جاءت العلاقات الثقافية بثقل مناسب، وملائم لغايات بارزة تتمحور حول إمكانيات رعاية تقارب ما، وهو أمر سهل جداً بالنسبة لاسبانيا بسبب معطيات التاريخ وما هو عربي فيها، بغض النظر عن نتائج هذا التقارب، سواء كانت سلبية أو إيجابية أو منحرفة عن غايتها التي انطلقت منها.
ولا ننسى أنه في تلك السنوات كانت مصر تحمل راية الزعامة في العالم العربي، وعليه جاءت الجهود للتدشين مشروع مصري يعنى بالفعل الثقافي في اسبانيا، وكنتيجة لهذه الجهود تم تأسيس "المعهد المصري للدراسات الاسلامية في مدريد". إضافة لكل ذلك، تدخلت عوامل أخرى أهمها أن عرّابي هذا المشروع ينحدران من مستوى ثقافي مرموق، في كل من الثقافتين العربية والاسبانية، وأقصد هنا عميد الأدب العربي طه حسين والمستعرب الكبير اميليو غارثيا غوميث، ولابد أن الصداقة العميقة التي جمعت بينهما منذ زمن بعيد أثرت في تحقيق هذا المشروع، وفي تحفيز حكومة بلديهما لتقرير إنجازه. ولابد من القول أن "المعهد المصري للدراسات الاسلامية" عمل منذ تأسيسه حتى الآن كصلة وصل ليس بين اسبانيا ومصر فقط، وإنما مع عموم العالم العربي. وكان لمدة طويلة المؤسسة التمثيلية الوحيدة للثقافة العربية في العاصمة مدريد وبل وفي كل اسبانيا.
كيف تلقى الاستعراب الاسباني "الاستشراق" لادوارد سعيد؟ يستدعي سؤالاً آخر حول مؤثرات بحث اميريكو كاسترو (السابق عليه) في منهجية تفكيك التاريخ والهوية في الفضاء الاسباني
أشكر لك هذه السؤال، كما أشكر لك تركيزك على مؤثرات المنجز البحثي الاسباني Américo Castro لأمريكو كاسترو (1885-1972). قبل كل شيئ أتفق مع أهمية كتاب ادوارد سعيد (1935-2003) وشخصه الأكاديمي المرموق ومواقفه السياسية المعروفة. أما فيما يتعلق بتاريخ اسبانيا، وقبل الحديث عن ادوارد سعيد – كما تقولين – لابد أن أنطلق بكلامي من الباحث أمريكو كاسترو ومن الجدل الحاد الذي عرفه التاريخ الاسباني بينه وبين المؤرخ Claudio Sánchez-Albornoz (1893-1984) كلاوديو سانشث ألبرنوث فيما يتعلق بما عرف بـ El ser de España "ذات اسبانيا".
بمعنى أنه قبل أن الإجابة على سؤالك كيف استقبل الاستعراب الاسباني كتاب "الاستشراق" لادوارد سعيد؟، يجب أن نركز على سؤال آخر أكثر إلحاحاً، ألا وهو كيف استقبل الاستعراب الاسباني كتاب أمريكو كاسترو الذي يحمل عنوان España en su historia: cristianos, moros y judíos "اسبانيا في تاريخها، المسحيون والمسلمون واليهود" (المكسيك 1948) مع كل الأخذ بعين الاعتبار كافة التعديلات والطبعات الموسعة التي ظهرت على التوالي على هذا الكتاب.
حسناً النقاش الجدلي بالنسبة للاستعراب الاسباني في تاريخه الراهن يكمن في التعاطي مع المعالجات والتفسيرات والتأويلات التي قام بها أمريكو كاسترو لتاريخ اسبانيا وللعصر الأندلسي على وجه التحديد.
سابقاً قلت أن واحدة من أهم عوامل النقص التي وصل إليها الاستعراب التقليدي الاسباني مع انتصاف القرن العشرين يكمن في صغر طموحه التنظيري، وضيق أفق استعداده لتقديم إجابة على القلق الكبير للنقاش التأويلي، كذلك تنازله أو لنقل عدم ميله للدخول بعمق في قضايا جدليّة بارزة، كقضية ماهي ذات أو كينونة اسبانيا وهويتها على سبيل المثال. وكلامي هذا لا يعني التقليل من أهمية الاستعراب الاسباني ومنجزه الثقافي على الاطلاق، ويكفي هنا أن أشير للمرجعية الكبرى ممثلة بالمستعرب Miguel Asín Palacios ميغيل أسين بلاثيوس (1871-1944)، والذي يعتبر من قبل عدة من وجهات نظر صورة للمثقف الأبرز في عالم الاستعراب على الإطلاق بكل ما قدمه من أبحاث تنظيرية وثقافية.
ربما تدخل في سلب موقف الاستعراب وتجنبه الخوض في مثل هذه الجدالات الحساسة الكبيرة، أمر لا يمكن نفيه ألا وهو تلك الخشية الكامنة لدى المستعربين من تلقيبهم بـárabofilos أي "محبي ما هو عربي"، أو اتهامهم بلاعقلانية "حب الثقافة العربية"، وهي ثقافة التي لم تؤخذ بعين الاعتبار في ذاك الوقت. لذلك حاولوا عن وعي تفادي هذا الافتراض والتصنيف التنميطي باستمرار، فـ"محبّ العرب" من هذا المنظار يحاول باستمرار الدفاع عن العرب في كل لحظة وأي ظرف كان بغض النظر عن المحاكمة العقلية.
أعتقد أن أي رأي بحثي حول تاريخ اسبانيا مثل الذي قدمه أمريكو كاسترو، بكل توسيعاته المتلاحقة حول الواقع التاريخي لاسبانيا، لا يمكن أن يفهم بدون وجود نقيضه البحثي ممثلاً بدراسات كلاوديو سانشث البرنوث والتي ظهرت طبعتها الأولى في الأرجنتين كإجابة حملت عنوان España: un enigma histórico "اسبانيا أحجية تاريخية" خلال سنوات لاحقة قريبة من سنة إصدار "اسبانيا في تاريخها، المسحيون والمسلمون واليهود" لكاسترو. يشكل البحثان المذكوران منتج تأمل على درجة كبيرة من الأهمية، ومن قبل مهاجرين اسبانيين تصادف أنهما كانا أثناء لحظة الكتابة خارج اسبانيا. لنقل أنهما أنجزا بحثيهما في زمن كانا يعانيان فيه من المنفى الثقافي والعاطفي على حد سواء، وعليه ظهرت المراجعة التاريخية في بحثيهما في اللحظة التي كانت فيها اسبانيا مرئية ومتذكرة ومحسوسة من بعيد، على الطرف الآخر لما هو اسباني، أي من أمريكا اللاتينية.
لن أدخل في تفاصيل الجدل المتفجر حينها على موضوع مركزي دار عليه الشرح والتفسير الدلالي حول التاريخ والهوية الاسبانية، ولكني أؤكد على أنه الجدل العقلي الأكبر الذي عرفته اسبانيا في القرن العشرين.
ما الذي عناه ما هو عربي إسلامي في تاريخ اسبانيا والمجتمع الاسباني والمكون الثقافي الاسباني والهوية الاسبانية المحتملة؟!!
بالطبع هي واحدة من اهتماماتي وكرست لها دراسات متفرقة.
أذكر أنني حينما كنت في مصر اطلعت على خبر إصدار كتاب كلاوديو سانشث البرونوث، فكتبت حوله تعليقاً موسعاً في "مجلة الرابطة" الصادرة عن "المركز الثقافي الاسباني"، رغم أنني حتى ذلك الحين لم أكن قد حصلت على الكتاب بين يدي. أما أمريكو كاسترو فقد تعرفت عليه وقرأت كتابه المذكور بعد عودتي إلى اسبانيا من مصر، وأذكر ذهولي من مجمل أطروحته، واعتباراً من لحظة القراءة الأولى مارس الكتاب تأثيره علي، رغم أنني تحفظت وما زلت حول بعض الأفكار التي تناول بها الإسلام في الأندلس، أو الإسلام على وجه العموم لأنني رأيتها غير موفقة.
ولكني أعود وأشدد إلى أنني اعتبر بحث أمريكو كاسترو، البحث الأهم الذي عرفته بانوراما الثقافة الاسبانية في القرن العشرين.
وأعود للسؤال: كيف استقبل الاستعراب الاسباني بحث أمريكو كاسترو وكذلك الرد عليه من قبل سانشث البرونوث؟؟!!
حسناً، استقبل الكتاب بتهذيب ومجاملة لامبالية، تاركاً صدى جزئياً، واهتماماً محدوداً وأقل مما كان ينتظر أن يتبدى في عالم الاستعراب الاسباني.
بشكل من الأشكال، اعتبرت شخصيات الاستعراب المرموقة، للبرهة الأولى أن أطروحتي سانشث البرنوث وكاسترو، كمحاولة تأويلة لما هو اسباني، تقدم بهما شخصين لم يكن لهما معرفة كافية بالموضوع العربي الإسلامي. وأتذكر في معرض الحديث هنا الكثير من التعليقات في هذا المضمار، ومن بينها تعليق المستعرب الكبير اميليو غارثيا غوميث.
حاصله، بوضوح أقول أن ردة فعل الاستعراب الاسباني – حتى بمفكريه الكبار – كانت فاترة وغير منتظرة بجفوتها، وكما وصفتها سابقاً: مجاملة غير مبالية. وقد أدرك أمريكو كاسترو هذا الاستقبال فعذبه وآلمه، وتتوفر لدينا شواهد على ذلك من خلال مجموعة الرسائل التي تبادلها أمريكو كاسترو مع Juan Goytisolo (1931-) خوان غويتيسلو فيما بعد وذكر فيها هذا الأمر. وهنا أود أن أستثمر الفرصة للقول بأن بحث أمريكو كاسترو عرف في العالم العربي في وقت متأخر جداً، وحتى الآن مازال غير معروف على النحو الكافي. وعليه أقول أن اللامبالاة التي جوبه به عمل كاسترو البحثي في العالم العربي أوسع منها مقارنة مثيلتها لدى المستعربين الاسبان، وهو أمر محزن جداً.
ولم تظهر الترجمة العربية لكتاب أمريكو كاسترو «اسبانيا في تاريخها: المسيحيون، والمسلمون، واليهود» إلا مع عام 2002 في مصر، فقد صدرت من قبل المجلس الأعلى للثقافة وقام على الترجمة علي ابراهيم منوفي. وقبل الانتقال لوجهة أخرى في هذا اللقاء أود أن أنوه وبصراحة إلى أن الاستعراب الاسباني أخطأ في ردة فعله وتعامله مع بحث أمريكو كاسترو، وكان عليه أن يدخل حين صدور كتابه في الجدل حول أطروحته بعمق، وفي التقييم، وفرد الموضوع على بساط المساءلة. في كل الأحوال وحتى اليوم، إذا راقبنا تاريخ الاستعراب الاسباني نجد أنه لم يتناول بجدية أو بعمق معنى الأندلس التاريخيّة، وما الذي عناه العصر الأندلسي وكل ما هو عربي إسلامي بالنسبة لنسيج وبنية اسبانيا التاريخية والثقافية؟ كذلك بالنسبة للصياغة المفترضة والمحتملة للهوية الاسبانية. هو تساؤل لم يطرح بعمق من قبل الاستعراب على الاطلاق، باستثناء طروحات ظهرت منذ عدة سنوات بهيئة كتب مطبوعة، أراها من وجهة نظري معتوهة ومبالغة تقوم على الحس العدائي والنفي والسخرية من إمكانية وجود أي مؤثر. وأعتقد أنها لا تستحق أدنى تعليق عليها، فقط يمكن تفسير انبثاقها ضمن السياق الراهن، الذي يوضع فيه الإسلام بمواجهة الغرب على النحو الذي نراه عليه، وأود التأكيد أن هذه الإجابات فيها الكثير من الانفعال العاطفي والقليل القليل من البحث العقلي.
وفيما يتعلق بنفس الموضوع، قلت باستمرار وأعود لأكرر بأن الأندلس هي تاريخ مشترك يتقاسمه الاسبان والعرب، بمعنى أنه ينتمي لكم أنتم العرب، كما ينتمي لنا نحن الاسبان بلا أدنى شك. وأود القول أيضاً أن محاولة الوصول إلى تفاهم واقعي ومحترم ومخلص ويتوافق مع ما كان في التاريخ يجب أن تنزاح بعيداً عن كل نغمة سياسية مسيسة. وبالنسبة لي وضعت تأملاتي حول معنى الأندلس في تاريخ اسبانيا على أرضية عقلية وثقافية دون أن يغيب عن ذهني بداهةً أن الموضوع يتعلق بالسياسة أيضاً، ولكني أعتقد أنه يتحتم على كل من يمارس الفعل الثقافي إبعاده عن تحزبات التسيس، أما إدخاله في حقل السياسية فهو شأن لا يتعلق بنا بل بآخرين ولهم الحق فيما يرون طالما أنهم يحترمون الوجهة التاريخية والثقافية لموضوعهم.
بعد التزود بمعرفة كل محاولات التسيس لمقاربة موضوع الأندلس، تقع علينا نحن أهل الثقافة مهمة النقاش من وجهة النظر الثقافية. وأعتقد بأننا نضيف أهمية كبيرة على الحوار العربي الاسباني فيما لو أنجازنا مهمتنا على هذا النحو الواجب، أما إذا حدنا عن الطريق الثقافي فأننا لا نرتكب الخطأ فقط، وإنما نتراجع عن مسؤوليتنا لنسبب السوء الخطير. ويجب أن نستمر بالإلحاح على المؤسسات الخاصة لأجل قيام هذا الحوار وإن لم نفعل فسيتصدى له آخرون وبشكل مسيئ. من جانب آخر، لا يمكن لأهل الثقافة القبول بأن يكونوا رهائن الخطط المسيسة، بل علينا أن نعلّم بثبات لأهل السياسة إلى أين تقع حدود عملهم، كما ونخبرهم بالحدود التي نعمل ضمنها، بمعنى أن على السياسي احترام الفعل الثقافي كما على المثقف احترام الفعل السياسي.
صار لي فترة أكرر فيها سواء في العالم العربي أو الاسباني ومن خلال بعض اللقاءات الصحفية التي أجريت معي: "من فضلكم وحدوا جهودكم لعقد ملتقيات أو اجتماعات أو مؤتمرات، وعلى المستوى الذي ترغبون فيه، وبأي سياق ترونه مناسباً حول هذا الموضوع، وتعالوا لنتجادل ونتناقش معاً حول الأندلس، خاصة أن العام 2011 يصادف المئوية الثالثة عشرة لوصول الإسلام والدخول الرسمي للعنصر العربي إلى شبه الجزيرة الايبرية.
يجب أن نتهيأ لذكرى هذا الحدث ولمعناه، وإبراز العوامل البراقة الموضوعية والصريحة في المقاربات الدراسية حول ذلك الفعل الفريد، والنموذج الاستثنائي في "ما هو معنى الأندلس؟!!". وفي حال إحجامنا عن ذلك فإنني أعتقد أننا تقترف خطأ كبيراً. أقول ذلك وأنا لست بمتخصص في دراسات الأندلس ضمن الاستعراب، ولكني أعرف ما الذي تعنيه الأندلس. نعم، ظاهرة الأندلس انتهت في الزمن ولكنها لم تنته في الذاكرة ما زالت حية فيها. الأندلس وجدت ولكنها لم تهاجر وجودها، وبلا أدنى شك لا يمكن تفسير اسبانيا بدون الأندلس. علينا معاً، في الجانب العربي الاسباني، النقاش معاً حول هذا الأمر برفقة الطموح المعرفي وبحضور العقل والبصر والفؤاد العلمي أيضاً.
من جانبي كتبت حول أمريكو كاسترو ووظفت ما قدمه في سلسلة من المقالات الأدبية-التاريخية والدراسات الأكاديمية التي سطرتها خلال عدة عقود حول الأندلس التاريخية، والتي ظهرت منذ أشهر في كتاب جامع بمناسبة هذه الذكرى المئوية الثالثة عشرة لوصول الإسلام واللغة والثقافة العربية إلى شبه الجزيزة الايبرية، وبالتوافق أيضاً مع المئوية الرابعة لطرد الموريسكيين النهائي الذي راكم صدع الانهيار النهائي للأندلس التاريخية، والكتاب يحمل عنوان: Significado y símbolo de al-Andalus معنى ورمز الأندلس".
وصولاً إلى "الاستشراق" لادوارد سعيد
لكتاب "الاستشراق" لادوارد سعيد أهمية كبيرة جداً بلا أدنى شك. والأهمية لا تقتصر على الكتاب بل على شخصية ادوارد سعيد نفسه، والتي أضحت مثالاً نموذجياً بالنسبة للعرب، بأصوله العربية الفلسطينية، وكمهاجر يقيم في المنفى، ومثقف لا يتعلق فعله الثقافي والمعرفي بالفضاء العربي فقط وإنما الغربي الأميركي أيضاً، فهو أكاديمي مرموق تميز بمعرفته العميقة بالثقافة الغربية، وإضافة لحساسيته الموسيقية وهوايته لعزف البيانو. لكل ذلك تمثل صورته المثال النموذجي القابل للفهم والتقييم والاحترام، لا بأبعاد هذا المثال المادية فقط وإنما الرمزية أيضاً.
كتاب ادوارد سعيد يصيب الهدف تماماً، فقول أن الشرق هو اختراع قام به الغرب، هو قول غير قابل للنفي، كما لا يُشَك بأطروحة أن الغرب قام بخلق صور الشرق اعتباراً من تصنيفاته وذائقته ومصالحه، كذلك الأمر بالنسبة لتوصيفات الاستشراق – أو ما يدعى بالاستشراق – غير المتوافقة مع وجوه الواقع الذي تصفه.
وهنا أنتهز الفرصة للإشارة – خاصة لمن هو مطلع على ببليوجرافيا البحث – بأن ما قاله ادوارد سعيد في كتابه "الاستشراق" أشار إليه عدد من الدارسين الآخرين، رغم أنهم لم يطوروه ولم يتوسعوا به كما فعل ادوارد سعيد. وكانت ردة الفعل الغربية تجاههم تشابه ما واجهه استشراق سعيد من شجب وتنديد، ولكني أشدد على أن مثال ادوارد سعيد هو الأكثر بريقاً ونموذجية، ولكنه ليس الحالة المفردة ولا الوحيدة في هذا المجال على الإطلاق، وتشديدي هذا لا يعني التقليل بشكل من الأشكال من أهمية المنجز الفكري لادوارد سعيد في كتابه "الاستشراق"، بل هو محض مبرر لقوة التلقي الذي صادفه بين العرب ولدى كثير من أهل الغرب.
من جانب آخر خدم الغلو في التقييم في تنصيب شخص سعيد كـ"صنم مقدس" لدى البعض فيما يبدو. ويجب التوضيح بأن الميل للقول أن الأشياء خالية من العيوب والنقائص وإمكانية النقد هو أمر غير صائب، فكتاب ادوارد سعيد لديه نقاط ضعفه ونواقصه مثل أي فعل إنساني، وتركيزه على الثقافة الأنكلوسكسونية والفرنسية هي واحدة منها، بالطبع يمكن تبرير هذا الأمر بكون بريطانيا العظمى وفرنسا شكلتا معاً القوتين الاستعماريتين الأقوى. وبما أن كتاب "الاستشراق" إلى جانب كتب أخرى له كـ"الثقافة والامبريالية" هي اتهام وتبليغ عن الاستعمار، فإنه يمكن القبول بأن بحثه يتأسس على وجهات النظر في اللغة الانكليزية والفرنسية حول هذا الشرق المفترض أو غير الحقيقي.
ولكن لا يجب أن نغفل عن أن ادوارد سعيد نسي، أو لم يكن ضمن خطة بحثه، أو تنازل مدفوعاً بحجم المادة الواسع، أو لم يشأ أن يوسع البانوراما ويقاطعها مع نصوص استشراقيّة أخرى في ثقافات غربية أو متغربة عملت على تناول الشرق في أدبياتها، وهنا أشير إلى أنه أقصى الأدبيات الاسبانية بالكامل ولم يأت على ذكرها، وبإقصاء الجانب الاسباني في بحثه عمل على إقصاء مثال معياري هام هو الأندلس، كذلك أقصى الجانب الايطالي والروسي الهامين من بحثه. من هنا كيف يمكن الوصول إلى وجهة نظر مطلقة وشاملة، دون الأخذ بعين الاعتبار مختلف أشكال الاستعراب حول السؤال ما الذي عناه الشرق بالنسبة للغرب؟!! أو ما الذي يعنيه الشرق وما الذي يعنيه الغرب؟!! طالما أنهما واقعان مجازيان أو استعاريان.
الشرق والغرب أساساً هما مفردتان تشيران لمعنى جغرافي ذي بعد ثقافي، ولكننا جميعاً نشكل الشرق والغرب بآن واحد بمقتضى تموضعنا، فالشرق والغرب هما تصنيفان ذهنيان وعاطفيان ومتخيلان وسيكولوجيان أكثر من أي شيئ آخر. ولكن في بحث ادوار سعيد يلاحظ العوز لكل مواد الأدبيات حول الشرق المفترض في الثقافات الغربية أو القريبة من الغرب كالروسية كما نوهت. أمر شبيه بما حصل مع "الاستشراق لادرواد سعيد، نجده في كتب تطرقت لموضوع الحروب الصليبية، وتحديداً أشير هنا للدوي الكبير الذي استقبل به عمل أمين معلوف الأدبي التاريخي "الحروب الصليبية كما رآها العرب". حينها لم يتذكر أحد المستعرب الكبير Francesco Gabrieli (1904-1996) فرانشيسكو غابريلي الذي كان قد نشر قبل عمل أمين معلوف كتابه حول نفس الموضوع، أي الحروب الصليبية كما رآها العرب.
الانعطاف إلى عمل خوان غويتيسولو
لا أستطيع التوسع في تقديم وجهة نظر فيما يخص كتاب Cronicas sarracinas لخوان غويتيسولو، والذي نقله كاظم جهاد للعربية تحت عنوان "في الاستشراق الاسباني"، ولكنني أتعقد أنه من الواجب الاعتراف بقيمة هذه الدراسة، خاصة أن كاتبها جانب الصواب، وتصدى للدفاع عن عالم محكوم عليه مسبقاً بالإقصاء، ولم يكتف فقط بالدفاع عنه، وإنما عمل أيضاً على تقريبه من فضاء الغرب ومن حساسية الغربي خاصةً. والموضع الأهم في هذه الدراسة ليس في محض فعل التقريب، بل وبكيفية هذا التقريب أيضاً للحساسية المذكورة. لذلك نال التشجيع من وسائل الإعلام ومن الإدارة الإسبانية، وأعتقد أن خوان غويتيسولو في الطبعة الأولى من كتابه مرر فصل "نظرات على الاستعراب الاسباني" ولم يبالغ في إدراجه في حقل الاستشراق الشامل، ولكنه عمل على توضيح مواقفه ذات التأثير الايديولوجي، وقام باستثناء جهد بعض المستعربين وترك ملاحظة تطال شخصي وجهدي الأكاديمي في تأكيدي على أن اللغة العربية حية وقادرة على المشاركة في صياغة ثقافة تستجيب لمستلزمات العصر. ولكن قيل لي أن هذا التنويه اختفى من الطبعات اللاحقة. في حقيقة الأمر لا أدري إن كان هذا حقيقي أم لا، وهو أمر لا يعنني، وأشكر له ما أورد ذكره بحقي في طبعة الكتاب الأولى.
في كل الأحوال ومنذ عدة سنوات يمكننا القول أن السياق الاسباني يشهد إلى جانب "صيد العربي أو المسلم" "صيد المستعرب" أيضاً، على شاكلة "مكارثي وصيد الساحرات"، وذلك بوجود أشخاص يكرسون كتاباتهم حول الاستعراب والمستعربين بدون أن يكون لهم معرفة واسعة للموضوع الذي يتناولونه. أعتقد أن هناك أغنية تقول: إذا صادفت عربياً اقتله.. أو – كما يخيل لي – أن الأغنية تقول بما معناه: "إذا صادفت عربياً وأفعى فاقتل العربي واترك الأفعى". لا بد من القول أن كره العرب وكره المستعرب منتشرة في زمننا، وهو أمر يمكن فهم مصدره من وجهة نظري، خاصة أنه وباسم الإسلام قد نفذت أعمال مرعبة، ولم يستثن هذا الاجرام الكثير من المسلمين نفسهم. وكمثال عليه أذكر أن ما حصل في 11 أيلول وانهيار برجي التجارة العالمي سبب بمقتل حوالي 600 مسلم، ولم تكلف أية جهة عنايتها للإشارة والتذكير بهؤلاء الضحايا.
كمستعرب أدرك كل هذا الذي يحدث حولنا، أما بالنسبة لموقفي من ملاحقة هذه الكتابات، فإنها لا تقلقني وأدير وجهي عنها، خاصة أنها تتأسس على التعميمات وشمولية إطلاق حكم قيمة، ولم أقدم على الرد إلا في الحال الذي ذُكِرت بشكل صريح فيها، حينها نعم قمت بالرد وسأقوم به مستقبلاً في مثل هذه الحالة.
فلك الشرق وشرقنة اسبانيا
تعرضت اسبانيا باستمرار من منظور الاستشراق لأن تكون غرضاً غرائبياً، ونحن الاسبان نعرف تماماً معنى شرقنة اسبانيا حين علقت على مشجب لاعقلانية الوله والشغف وأقصيت مما هو عقلاني. ويمكن أن أقول أن اسبانيا المشرقنة حوصرت لتكون فضاء للمتعة والترفيه، والحيز الذي يمكن أن ترتكب فيه كافة المبالغات الحسية والانفعالية، والفضاء الذي ينعتق فيه فيض من الممارسات غير المعتادة في الفضاء الغربي، إضافة لكل ما تقولين حول الاستشراق الذي شرقن اسبانيا في كتلة ضخمة من الكليشيهات والصور النمطية والتصنيفات الجوهرانيّة الغرائبيّة بفعل تاريخها الملوث بالعرب، وعنف مصارعة الثيران التدميرية، وشهوانية صورة كارمن الرمزية، وأفريقيا التي تمتد جنوباً من جبال البيرنيه.. إلخ والتي تصب بمجملها في الحسية الشهوانيّة اللاعقلانية لما هو اسباني مقابل عقلانية ما هو أوربي غربي.
الحديث يطول حول هذا الموضوع، والمسائلة التي تطرح نفسها هنا عن كيفية إزالة الرؤية التنميطيّة ونزعة تناول الكليشيهات كحقائق.. كيف يمكن الحد من فعل اختصار الآخر بصورة جوهرانيّة؟؟ وكيف توقف ممارسة هذا الاختصار؟؟ كيف نستطيع؟؟ أمام أشخاص يفكرون على هذا النحو لا بد من أن نقول شيئاً بسيطاً للغاية هو أن الكائن البشري هو نفسه في كل مكان، بالطبع هناك اختلافات ثقافية، ولكن الكائن البشري يستحق الاحترام في أي مكان يوجد فيه، هو كائن ليس لديه الحق فقط في العقل بل لديه العقل، واعتباراً من الاعتراف بالمساواة بين البشر فكروا حضراتكم قليلاً وحاولوا أن تثمنوا حقوق الكائن البشري.
رؤيتي تميل نحو الاندماج، فأنا إنسان أسعى لبعد اندماجي Integrador مع الآخرين، ولكني حين أقول أنني كذلك أفهم على أن رؤيتي أصوليّة Integrista. حاولت دائماً البحث عن دمج الكائن البشري اعتباراً من فرديته وخصوصيته التي أحترمها – لأنني أطلب احترام فرديتي – في التعدد. وفي معرض الحديث هنا أذكر قولاً لشاعر اغريقي: "إننا نسافر في نفس القارب". صحيح أننا نصادف يخوتاً للسفر، بنفس الوقت الذي نصادف فيه زوارق المهاجرين والبؤس، ولكن ستأتي لحظة ندرك فيها أننا نستقل ذات القارب، وعلينا أن نجدف معاً في نفس الاتجاه، وتقع على كاهل كل واحد منا مهمة مختلفة، فنحن لسنا مجهزين للقيام بنفس المهمة.
الحلم وتداعيات أحلام ثلاث
في حقيقة الأمر أنا حلمت أن أكون ثلاثة أشياء لم أمتلك الجاهزية ولا القدرة عليها: حلمي الأكبر كان أن أكون مدير فرقة سينفونية، والثاني مصارع ثيران والثالث أن أكون شاعراً. ولكني أعتقد أن مجاز فعلي في الاستعراب يقارب هذا الحلم بشكل من الأشكال حين حاولت أن أوفق بين أدوات مختلفة لوضعها في سياق متوافق، وأعتقد معك أن إدارة الأوركسترا تعلم الديموقراطية، فكل أداة لها دورها ولحظة أدائها، وتلك الأداة التي تقوم بالفعل هي الأهم في لحظة معينة إلى أن تفسح المجال لأداة أخرى للتقدم بفعلها .. في حقيقية الأمر أنا واحد من معجبي الموسيقى السينفونية، وأعتقد أنها من أهم الإنجازات الإبداعية المرموقة التي قدمها الغرب، ويمكنه الاعتزاز بتراثها. وفتنني باستمرار التأمل في إبداع كتابة الألحان، وكثيراً ما سألت نفسي كيف يكون دماغ بتهوفن أو موتزارت .. يا للروعة التي تقوم بتنظيم عالم الأصوات.. هو شيئ خارق تماماً يتشارك فيه الذهن والإحساس والصوت.
وقد نقلت أفكاري هذه إلى الشعر وهو ما جعلني أتلمس عظمة الشعر، فلكتابة الموسيقى يجب أن تكون لدى المرء معرفة واسعة، وأدوات يعرف كيف يتعامل معها، الأمر نفسه يسري على الشعر ولكنه يتميز عنه بأن أدته وحيدة: الكلمة.
وتحضر مصارعة الثيران على هامش همهمات الأحلام
أكدت باستمرار على أنني أقبل بكافة البيانات وفحوى الكلام ضد مصارعة الثيران، وأشارك مناهضي الظاهرة الرأي بقساوة ووحشية المصارعة، كما كثير من الفظاعات التي ترتكب بحق الكائنات الحيوانية، ومن ضمنها الكائن البشري، طالما أننا ننتمي لنوع الحيوان، وهذه الفظاعات لا يتم التبليغ عنها ولا إدانتها من قبل من الجماعات المناهضة لمصارعة الثيران. عندما أتحدث عن مصارعة الثيران، وأنا واقع في حب هذه التظاهرة، فإني لا أراها من خلال ما يظهر منها على السطح، ولكن في تلك الأبعاد المتنوعة والمتعددة الأنثروبيولوجية، والأسطورية، والرمزية، والسيكولوجية، والخاصة بالتحليل النفسي، والشبقيّة، والإبداعية، وجماليات الثور، وجماليات فعل المصارعة، والتنويعات الثقافية عليها.. رغم توقعي لاستهجان البعض بوصف هذه الظاهرة بالثقافية.
أعترف بأن فضاء مصارعة الثيران يتصف بالقسوة والعنف بلا أدنى شك، ومن الجلي أن الثور يعاني ويتعذب، ولكني بذات الوقت أقول أيضاً بأنها تحدي، وكل شخص يعرف شيء عن المصارعة يدرك ما احتلته المصارعة في تاريخ الإنسانية منذ ما قبل التاريخ، ويعي أن المواجهة بين الإنسان والثور لها أبعاد أعمق تغور في الانثربيولوجيا وطقوس الشعيرة. ومن هذا العمق يمكن إدراك وتبرير ذلك الجاذب الذي مارسته مصارعة الثيران من فتنة على شعراء كبار، ورسامين وفنانين ومبدعين عظام. وأتفق مع ما تشيرين إليه من تعدد التفسيرات الظاهراتيّة لها، كأن يُرى الموت متجلياً في الثور، أو أن يمثل الثور قطباً ذكرياً في حين أن المصارع هو القطب الأنثوي والعكس صحيح أيضاً.. إلى ما هنالك من التفسيرات التي تصب في لعبة الهيمنة.. كما أتفق مع ما تقولين من تفسير بأنه العشق الذي يرى تعبيره الأكمل بالوصول للموت أو القتل، وبأن تاناتوس وايروس يتجليان بوضوح في ظاهرة مصارعة الثور.
منذ أيام طالعتني صورة في الجريدة لمصارعة ثيران في إحدى الضياع، صورة ساكنة صامتة ولكن المتلقي يستطيع أن يرى الحركة .. حركة جسد El matador "الماتادور/ المصارع" ، والذي لا يكتفي بالفعل في يده وبـ El capote بل بكامل حس الجسد .. كل هذه الأمور لا تمكن تعليمها .. يجب أن يراها المرء وأن يلتقطها بالمشاهدة. (ملاحظة: El capote قطعة قماش نصف دائرية خاصة بالمصارعة تكون بلون الفوشيا من جهة وصفراء من الجهة الثانية حين المصارعة باليدين. أما La moleta فهي قطعة القماش بلون أحمر من الوجهين ويصارع بها الماتادور بيد واحدة).
سأقص نادرة حول الأبعاد الممكنة للظاهرة الثورية (من الثور) كالشبقيّة وأبعاد التحليل النفسي للماتادور: منذ سنوات كان هناك مصارع مشهور اسمه Santiago Martin Sánchez “El Viti” (1938-) سانتياغو مارتين المعروف بـ "البيتي" من مدينة سالامنكا، كان قد حقق انتصارات هائلة في اشبيلية ومدريد. في إحدى المرات ذهب إلى استديو في الإذاعة لإجراء لقاء معه عبر أثير الراديو، وسألوه حول أشياء كثيرة، إلى أن وجه له المذيع السؤال التالي: حسناً يا سانتياغو هل صحيح ما يقوله البعض حول بعض النظريات التي تُدخِل المصارعة في التحليل النفسي، وتقول بأن المصارع قد يصل إلى عشق الثور كما يعشق امرأة.
حينئذ، سانتياغو مارتين البيتي – وهو رجل جدي لا يضحك أبداً – التزم الصمت ولم يتفوه ببنت شفة. مع سيادة الصمت كرر المذيع سؤاله: هل تعتقد أن المصارع يستطيع أن يصل لعشق الثور كما يعشق امرأة..
حينها قطع سانتياغو مصارع الثيران صمته بقوله: ...وأكثر!!
ولم يضف.
هذ ما قاله مصارع ثيران لا محلل نفسي.
حضرت الكثير من مصارعات الثيران خاصة في مدريد، ولكني انقطعت عن الحضور منذ فترة لابأس بها، فقد تغيرت احتفالياتها كثيراً، لم تعد كما عهدتها سابقاً. ورغم أنني لم أحضر مصارعات ثيران في اشبيلية، إلا أنني أحرص عند وجودي فيها أن أزور ساحة مصارعة الثيران في الصباح، في الحين الذي لا تدور في فضائها أية لعبة، أتنزه في مدرجاتها وممراتها وأزور متحفها فقط. في حقيقية الأمر لم أحضر فيها أية مصارعة وأعتقد أنني لن أفعل، لأنني لا أستطيع الجزم فيما لو كنت أقدر على السيطرة على انفعالي.
وقبل أن ننتقل لحديث أخر أود القول بأن عالم مصارعة الثيران تتدخل في علاقتي مع أبنائي عامة، وبناتي على وجه التحديد. فمن عالم مصارعة الثيران لجأت لمنطق "بندق الأمان" في تربية أبنائي. فكما تعرفين في كل مجموعة هناك مصارع الثيران/ الماتادور يرافقه الى الساحة معاونين على الحصان، وثلاثة مصارعين على الأقدام من حملة رماح الوخز الصغيرة، من بين هؤلاء الثلاثة هناك الأول الذي يمكن أن نسميه بندق الثقة أو الأمان، وتعود هذه التسمية لأنه الأكثر قرباً من المعلم/ الماتادور، فهو الذي يعتمد عليه الماتادور ويمنحه ثقته. وهو الأقرب والذي يفهم أكثر من الآخرين أوامر المعلم، وهو الأكثر انتباهاً لأرض الصراع وحركة الثور وردود فعله على حراك الماتادور، وهو الجاهز باستمرار على مساعدته بأقصى سرعة ممكنه وإزاحته عن موقع الخطر.
حسناً مع أولادي أردت باستمرار أن أكون بندق الأمان. وانسحبت إلى موقع خلفي في حياتهم، دون أن أغيب عنهم وعن ادراكي لصعاب الحياة. المشكلة أن هذا الانسحاب يولد الإحساس لدى الأخر أنك بعيد عنه أو أنك أهملت التصريح بالحضور إلى جانبه.. هو سلاح ذو حدين، فالأشخاص ذوي الحساسية يرغبون دائماً أن تظهر لهم مشاعرك، لذلك أظن أن بناتي في بعض الحالات فكرن أنني لا أمنحهن الحنان الكافي والذي يجب أن أمنحه لهن. أو بأنني أقل قرباً منهن، أو منهم لأن أولادي الذكور فكروا بنفس الشيئ في حالات معينة. هو ما أفهموني إياه من طبيعة تعاملي معهم. ولكنها وجهة نظري بالحياة وكيفية التعامل في العلاقات الإنسانية دون فقدان الاحترام والذي هو شرط أساسي في هذه العلاقة. فكل الأشخاص الذين أحببتهم تركت لهم حقل الحرية واسعاً أمامهم. فالطرف الآخر، ولنقل ابنتي، تعرف لم تفعل ما تفعل.
ووصل بنا المطاف إلى الشعر العربي
من الجلي أنني حافظت وأحافظ على وشائج علاقتي من الشعر العربي، وهو أمر يكمن تأويله، فالشعر شدني نحوه باستمرار، فوقعت في حبه وما زالت. وأرى إليه على أنه الجنس الأدبي الأرقى والأسمى تقريباً. بالنسبة لي الشعر هو محاولة لتفسير الحياة، ووجد اهتمامي تعيينه في الشعر العربي، لأن الاستعراب هو مهنتي، ولكني أعود وأشدد على أنني قرأت وأقرأ الشعر عامة إلى جانب الأبحاث والدراسات المختلفة، ففي هذين الحقلين تركزت قراءتي وفيهما أجد متعتي الأدبية، وهنا أنوه إلى أنني قارئ سيئ للفنون السردية، ولعل هذا الأمر قد يفاجأ البعض، ولكني أبوح بأن الرواية تثير فيّ الملل، وكلما بدأت بقراءة عمل سردي فإنني أتركه جانباً بعد مرور نصف ساعة. حسناً، كما قلت أنا قارئ سيئ للأجناس السردية العربية والاسبانية أو غيرها على حد سواء.
فيما مضى كنت قارئاً جيداً لرواية خاصة في مرحلة الشباب، ولكني مع مرور الوقت أخذت أهجرها شيئاً فشيئاً، لنقل أن الرواية لا تحفزني بذات الطريقة التي يحفزني بها الشعر. بهذا المعنى قد يقال أنني لست من زمني، طالما أن الجنس الروائي يعتبر جنس هذه الأزمنة المعاصرة. كثيرون هم من يدافعون عن أطروحة أن الزمن الراهن لا يمكن أن يفهم دون الرواية. سابقاً شكلت هذه الحجة مشكلة ما بالنسبة لي، ولكني الآن تجاوزت هذه الصراعات واحتمالات اعاقتها لي. روابطي مع الشعر العربي أضعها ضمن إطار الشعر عامة، فكما قلت سابقاً أرى فيه محاولة لتفسير الحياة والوجود. ويجب الانتباه إلى أنني أقول أنه "محاولة تفسير" ولا أقول "إنه تفسير"، لأنني ببساطة أعتقد بانعدام قابلية تفسير الوجود والحياة في نهاية الأمر.
الحياة هي الشيئ الوحيد الذي نملكه، وأرى أنه من المناسب على الأقل أن نحاول أن نشرح لماذا نحن هنا؟ وما هي مهمتنا؟ إلى ما هنالك من مساءلة. لكل ذلك أرى أن الشعر هي درب نافع، ومفتاح سؤال عصي على المقارنة.
ما الذي يدفعني للاعتقاد بعظمة الشعر؟؟!
بكلمات موجزة سأبسط رأي، وإن لم أحط بكل شيئ، فعلى الأقل سألمح وأوعز للجواب كما لو أنني أترك قبساً نور نحيل في العتمة.
الرواية تحتاج الكثير من الكلمات والكثير من الصفحات، أما في القصيدة أو بيت الشعر فإن مسيرة محاولة فك شيفرة الوجود يكفيها القليل من الكلمات للمعنى الكبير.
أعتقد أن الفيلسوف الألماني هيدغر هو من قال بأن الشعر هو "الكلمة صريحة في الزمن"، والشاعر الاسباني أنطونيو ماتشادو أشار لشيئ شبيه بهذا القول: "الكلمة جوهرية في الزمن". والزمن هو الواقع الذي يحيط بنا ويضغط علينا، وأداة تفسيرنا هي الكلمة، وإذا كانت هذه الكلمة قادرة على فهم هذا الكائن، ولا تقتصر على أبعاده اليومية لحفظ النوع والمعيش، فإن قدرتها تتوسع.
والسؤال الذي أطرحه في أي من الأجناس الإبداعية الأخرى – بغض النظر عن الموسيقى لأنها مختلفة وأشرنا لها سابقاً – يمكن أن نصادف تركيباً موجزاً ودقيقاً ومتوهجاً ومليئاً بالأبعاد كالشعر؟
في بيت شعر للشاعر الاسباني الكبير Vicente Aleixandre (1898-1984) بيثنته اليكسندره يصف الكائن البشري فيقول:
Relámpago que brilla entre dos sombras
"برق يتوهج بين ظلين"
هو بيت شعر يقدم تفسيراً كاملاً للوجود الإنساني، أو على الأقل يترك علامة توعز بالإجابة ويترك الباب مفتوحاً على التقصي في سر الحياة وفتنتها.
في الشعر العربي يستطيع المرء أن يصادف هذا القدرة على التحري، حول مساءلة معنى الوجود بوفرة وخصوبة كبيرة. ومن جهتي دائماً ما تمردت على نظرية منتشرة بشكل واسع في الغرب وبين المستعربين أيضاً حول شعرية الشعر العربي على أنه مليء بالاستعارات والمجازات البراقة، ولكنه شعر يفتقر للأفكار، وبأن ما هو مهم في الشعر العربي هو الرداء الخارجي، أي الصياغة الشكلية على حساب العمق الفكري والتأمل الشعوري.
لا أدري كيف يمكن الاعتقاد بهذا الشيئ حول شعر شعراء ينضم إليهم منتج شخصيات مستنيرة في المرحلة الكلاسيكية من مثل شعر أبو العتاهية أو أبو شعر العلاء المعري المليء بالأفكار؟!! أو حتى شعر أبو نواس نفسه حيث تظهر العناية بالصيغة بالتوازي مع الأفكار حول أحجية وسحر الوجود؟!!
إلى جانب ذلك كثيرون يستغلون عمق شعر أبو العلاء المعري لرفضه كشاعر.. حقاً لا أفهم تقييمهم هذا!!
حاججت دائماً، وأحاجج باستمرار، بأن الشعر العربي هو كذلك شعر أفكار وعمق، هو شعر تحضر فيه محاولات تقديم الرؤى حول الوجود والممات، وقد تصل في بعضها للإلحاد أو الهرطقة من وجهة نظر معينة تتكئ على الإسلام باعتباره تفسيراً للحياة والموت معاً، إلا أنه تفسير مغلق وجازم؛ أمر لا يقبله الشعر أبداً، لأن الجمالية الشعريّه تميل للانفتاح على تعدد واحتمالات التأويل المختلفة باستمرار.
بلا أدنى شك للغة في الشعر العربي أهمية أساسية، وهنا يجب الانتباه إلى أن اللغة هي أيضاً أفكار، وليست حكراً على الصور والمصطلحات والصوت الشعري فقط، واجتماع الانفعالات والمفاهيم الشعورية يعمق الشعر باتجاه تفسير أحجية الوجود، وفي هذا المجال أتفق مع أدونيس وسأترك هنا له قول مثل بالنسبة لي علامة هامة لأتابع البحث والتقصي، أعتقد أنه كتبها في مقدمة مجلد كتابه "ديوان الشعر العربي" وهو عبارة عن أنطولوجيا شعرية: "في كل قصيدة عربية قصيدة ثانية هي اللغة". وأرى صحة ما يشير إليه. بمعنى أن اللغة ليست محض هيئة خارجية أو بريق بل هي فكرة للتأمل.. فكرة غنية غير منتهية ولا محدودة.
وأتفق مع ما تقولين كأنها كلمة حبلى بالفكرة، ولا بد لها أن تلد في فرص متعددة، فالكلمة ليس لها ولادة واحدة وهي خصبة على مدار زمن طويل وشروط تاريخية مختلفة.
تعلمت أن اللغة العربية هي ماكينة استعارات غنية وهائلة، وفي هذا المجال هناك قليل من اللغات يمكن أن تضاهيها أو تقارنها في ذلك. وهي ماكنة استعارات لأن خصائص مادتها اللسانية والصوتية واللفظية هي ما تتيح لها هذا. أعرف أنه في كل اللغات تحوي على الـ Polisemia أي أنها متعدد المعاني، حيث يكون للفظ وللمصطلح الواحد معاني متعددة ضمن السياق أو خارجه، ولكن أود أن أقول إلى أن اللغة العربية استثنائية بتعددها وقد يصل التعدد إلى تضاد في المعاني.
أعتقد أنه في محاضرة لأمين الريحاني، أو لمثقف عربي آخر غاب عن ذهني اسمه، حين سُئِل حول هذه الخاصية في اللغة العربية، استعان بمثاله بألفاظ معانيها مختلفة رغم تقارب صوتياتها: (روح، راح، ريح) والاختلاف الواضح في المعنى يتولد من التقارب الصوتي، ومن العمق غير المرئي في المعنى. ومن هذا المثال لنقس على اللغة العربية التي لا يمكن أن تنفذ مواردها هذه، وهذه إحدى جمالياتها بامتياز، وهي جماليات بالشكل وعمق المحتوى على حد سواء، ولا ننسى أن الشكل والمضمون يشكلان وحدة اندماجية واحدة ولا يمكن الفصل بينهما. وهذا الاندماج غير محدد بل ويسمح للمتلقي أن يتقدم بتفسيره الخاص، أو على الأقل محاولة ذلك. وهنا المتلقي هو عضو مشارك وناشط فاعل غير سلبي في تقديم التفسير. فاللغة تفجر القدرة على تقديم المعاني لدى المتلقي ولا تقبل بأن تستنقع قدرته هذه. وهي صفة اللغات جميعها بالطبع، ولكن ما يميز اللغة العربية كما قلت هو قدرتها العظيمة على تعددية المعاني.
لكل ذلك توجه اهتمامي بالمقام الأول على الشعر العربي ضمن عنايتي العامة بالشعر.
العالم الشعري العربي هو فضاء فسيح، وقد أصابتني الدهشة لدى لقائي مع عرب لا يدركون رحابة شعر ثقافتهم، وهنا لا أشير لأسماء المبدعين الكبار المشهورة وإنما إلى الأسماء الأخرى. وهنا أقول أن معرفتي بالشعر والشعراء العرب تعود بمرجعيتها للكتب التي قرأتها إضافة لاستفادتي من الحوار مع أدباء ومبدعي الثقافة العربية.
ولكي أضع مثال على غنى هذه الثروة الشعرية: فيما لو أن أحدنا تنبه إلى أن المصطلحين الأساسيين للتعبير عن هذا الجنس الأدبي هما (شِعر) و(نظم)، مباشرة يحضر إلى ذهنه مسارين متباينين لتفسر الظاهرة الشعرية والفعل الشعري، وفيما لو استقصى أكثر في محيط معنى هذين المصطلحين، فإنه يرى أن الجذر الذي ينحدر منه (شعر) يعني شيئاً معيناً، كذلك جذر (نظم) الذي يعني شيئاً محدداً أيضاً ولكن ليست له علاقة بالجذر الآخر ظاهرياً. حينها يقف المرء لقول هنا يوجد لغم مزروع يتجلى بهذا الغنى المفهوماتي بامتياز. وعليه يجب البحث عن الآليات التي تشرح هذا الغنى في المعاني التي تتنوع وتتعدد ظاهرياً وكأن لا علاقة فيما بينهما إلا أنها متداخلة ومتعالقة.
واعتباراً من ذلك وبالعودة إلى أصل لفظ (الشعر) واشتقاقه الاغريقي واللاتيني في الثقافة الغربية نرى أنه يرتبط بفكرة الـ(فعل) والـ(خلق)، لتقدم امكانية أخرى لتفسير الممارسة الشعرية.
من جانب آخر، تتكئ بعض الجهات الأكاديمية العربية في تدريسها للشعر على عبارة الجاحظ المشهورة "إن الشعر هو فضيلة العرب"، وبأنهم – أي العرب – يجاوزون المعقول طائلين الكمال في الشعر وفي الحب. من جهتي أفهم هذا كمزحة متبجحة أو كمبالغة مطلقة من قبل الجاحظ.. فيا لمصيبة أن يكون المرء كاملاً في شيئ ما، فبالكمال ينتهي كل شيئ، وما يهم هو أن لا نقبض على الكمال أبداً، وأن يتواجد باستمرار حيز لإمكانية من اللاكمال أمامنا.
البياتي قال لي مرة بأن الجهاز التنفس بالنسبة للعرب هو الشعر، فأنت تعيش لأنك تتنفس، وفي الإطار العربي الشعر هو أمر ضروري لأجل التنفس، خاصة حينما تكون هناك صعوبات في التنفس في الحياة اليومية، وأعتقد أن مارسيل خليفة قال "نحتاج الحرية كما الهواء الذي نتنفس"، وبمعنى متوازي تفهم عبارة "نحتاج الشعر كالهواء الذي نتنفس"، فالشعر هو تنفس في فضاء العرب خاصة حين يُضيق الخناق.
سرية ممارسة شعرية توثق الأنا
وللإجابة على سؤالك فيما لو مارست كتابة الشعر، أقول أنني الآن أكتب القليل من الشعر ولكني كتبت خلال سنوات طويلة من فتوتي، ولكن معظم ما كتبته من شعر لم ينشر ولن ينشر أبداً، وهو قرار خاص اتخذته لنفسي. أما عن أول محاولة لكتابة الشعر فكانت كما الجميع مع سن المراهقة في لحظة مفرقية هامة في الوجود الإنساني، ألا وهي لحظة الوقوع في الحب. لا ننسى أن أهم موضوعان عالجهما الشعر في كل مكان ولدى معظم الشعراء هما الحب والموت. وتبدأ كتابة الشعر حين تبدأ مشاعر الحب، وكما أن الشعر غير محدد فإن الحب كذلك لا يمكن تحديده في معاني، وتبقى بلا جدوى كل محاولات التفسير القطعية والجازمة، فالحب لا حدود له.. الحب هو ديمومة وتبدل وتغير بذات الوقت كما كل عمل إبداعي إنساني.
أما بالنسبة للنشر فقد نشرت القليل من أشعاري التي حملت توقيعي. أذكر أنني نشرت في مجلة كانت تصدر في إقليم قشتالة ثلاثة قصائد بعنوان "متذكراً الأندلس"، كنت كتبتها حين أقمت لوقت قصير في ضيعة Simancas التابعة لمدينة Valladolid "بلد الوليد"، أثناء تحضيري لبحث في أرشيفها التاريخي. كذلك نشرت في مجلة محدودة التوزيع كانت تصدر في بلدتي Jodar خودر، وكانت عبارة عن Soleares وهي ضرب من قصائد موجزة مكتوبة بصيغة غناء الفلامنكو الشعبي المرتبط بغناء الـ cante jondo. وفيها حاولت أن أستدعي مسرح طفولتي المبكرة، واستحضر أمي الراحلة روسا وأخي الميت وأحي ذكرة أبي في هذا القالب الغنائي.
أما أشعاري الأخرى فلابد أن تكون منتشرة هنا في أركان مختلفة من بيتي، وأعتقد أنني أنا نفسي لا أستطيع معرفة موضعها!! لابد أن تكون هناك في مكان ما.. حسناً بهذا المعنى أقول أنني مارست عادة كتابة الشعر السرية.. وتعقيباً على تعليقك أقول أني لم أحتج لقارئ لشعري، وحتى أنني لست قارئ شعري تماماً، فقط أكتب لأنني بحاجة لأكتب، بهذا المعنى بقيت بمعزل عن الشؤون المتعلقة بالإبداع والنقد والنشر والتوزيع. نهايته أنا لست بمبدع، أعتقد أنني أعرف نفسي بشكل جيد، وبهذا التصريح أجانب الموضوعية في شخصي حين أحلل نفسي أو الآخرين أو الأشياء التي هي خارج الإطار المتعلق بي، فعندما وضعت نفسي في مقام الموضوع لا الذات استنتجت أنني لا أمتلك القدرات الإبداعية، وهذا لا يزعجني على الإطلاق، فكل واحد هو نفسه، وقيمته بقيمته التي يستحقها، وبهذا المعنى فإن الرياضة مناسبة وخير مثال على هذه الفكرة، تحديداً رياضة ألعاب القوى، حين أحدهم يمتلك القدرة على ركض المسافات الطويلة ولكنه غير مناسب للمسافات القصيرة، وآخر جاهزيته موجهة نحو القفز لا نحو رمي القرص.. الخ. وفي معرض الحديث هنا أنتهز الفرصة للقول أن هذه الرياضة تعجبني إلى حد كبير، فمن بين أشياء عدة أرى فيها وضوح هذه الفكرة، إضافة لما تعرضه من محاولة الاستثمار الأقصى لقدرة كل فرد في حقل معين يستطيع أن يتميز فيه. بالتوازي مع هذه الفكرة أعود لأقول أنني أعرف أنني لا أملك القدرة الإبداعية، ولكني رأيت منذ وقت بعيد أن كتابتي للشعر هي استجابة لحاجة غير مهتمة بالقيمة، ولكنها ربما تنفع كشهادة شخصية، رغم معرفتي بأن شهادتي الشخصية لن تثير اهتمام إلا قلة من الناس، أو حتى لا أحد. ببساطة ستبقى أشعاري هناك مخزنة.
لم أكتب أشعاري بالعربية على الإطلاق فأنا monolingüe "أحادي اللغة"، أي أنني أعبر عن نفسي دون صعوبة بلغة واحدة فقط. طبعاً أفهم لغات أخرى إلى جانب العربية وأحادث فيها وأجيدها بطلاقة كالفرنسية والايطالية التي أعشقها، ولكن اللغة ليست للتواصل فقط، بل لإعادة التحقق وللتفكير بها، وفي هذا المجال تحضر لغتي الاسبانية وتغيب اللغات الأخرى، فكما يقول كثير من أهل الإبداع: "وطن الشاعر هو اللغة".. حسناً وطني هو لغتي.. لغتي الاسبانية. ولا يمكن لي بأي معنى من المعاني القدرة على الإبداع بأية لغة ليست لغتي.
رأي حول الجدل الدائر في فلك سؤال قصيدة النثر
بداية أود أن أؤكد إلى أنني أميل بشكل كامل نحو شرعية قصيدة النثر، أو النثرية الشعرية. هو جدل طرح في ماضي ثقافات أخرى وتم تجاوزه تماماً، بمعنى أن هذا التساؤل ليس حكراً على الثقافة العربية. بالنسبة للثقافة الاسبانية أخذ السؤال حيزه الجدلي منذ عقود طويلة وانتهى للتأكيد بأن قصيدة النثر ليس فيها أي شيئ محرم أو غير شرعي أو غير ممكن. إضافة لأنه لابد من القول بأن أهم الشعراء الذين يمارسون كتابة قصيدة النثر كانوا شعراء كلاسيكيين كبار، كذلك الأمر بالنسبة للشعراء الذين يكتبون النثرية الشعرية المنزاحة عن معيارية الايقاع والقافية هم شعراء ممتازون لقصائد الـSonetos السونيتات على سبيل المثال. وأعتقد أن هذا النقاش ليس له معنى الآن في إطار الثقافات الغربية، وأرى أنه يمكن إدراك ثقل هذا النقاش ضمن الثقافة العربية بالمشابهة مع الفكرة التي تشير إلى أن هناك فقهاء العقيدة للدين، كذلك يوجد فقهاء عقيدة للشعر، ولا يخفى على أحد أن فقهاء العقيدة خطرون وربما كان فقهاء عقيدة اللغة أخطر منهم.
من وجهة نظري لا أرى أن الشعر يخلق بقوالب ثابتة لا تتغير... أرفض هذا التوجه، فكل شيئ في الشعر قابل للتغيير طالما أنه يحافظ على جوهره الأول أو عناصره الأساسية، وما عدا ذلك فهو متبدل. فالوجود في العيش ليست أكثر من تجربة للموافقة بين الديمومة والتغيير أو على حد تعبير أدونيس "الثابت والمتحول". بالنسبة لي ليس له أي معنى الشك في حق قصيدة النثر بالوجود، النقاش حول تحريمها أو تحليلها. وفاجأني موقف الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي، والذي أكن له الاحترام الكبير، فأنا من معجبي شعره وفعل خلقه الجميل، وكنت ترجمت له منذ زمن بعيد قصائد متعددة، أعود لأقول فاجأني موقفه طالما أنه مارس كتابة شعر التفعيلة أو ما يعرف بالشعر الحر، وتجاوز المعيارية الشعرية باقتراحات جمالية مرموقة. بصراحة فاجأني موقفه وتكذيبه لفعل الخروج عن القياس بخلق جمال آخر.
أرى أن الجدل الذي دار ويدور حول قصيدة النثر ليس له فحوى، وإن استمر الحال على هذا النحو فإن ذلك سيكون لأسباب تأتي من خارج جدل الشعرية، ربما منها قضايا الأيديولوجيا بأسوأ معانيها، فقصيدة النثر هو واحدة من أشكال وطرق التعبير الشعري لا أكثر ولا أقل، ولكن يجب التأكيد بأن ما كل ما يوصف بأنه قصيدة نثر يصل حقاً لمرتبة قصيدة النثر الإبداعية، على نفس النحو ما كل شعر جانب معيارية العروض يعتبر شعراً ابداعياً، وهنا تحضر ضرورة الآليات النقدية للقيام بفعل التقييم وفرز الغث من الثمين في هذا الكم الهائل من المنتج الذي يدعي قصيدة النثر.
غبطة على تنويعات اللغة الاسبانية
تفرحني زياتي لبلدان أميركا اللاتينية وفضاءاتها الساحرة المتباينة، وعلى نحو خاص تأخذني التنويعات اللفظية للغة الاسبانية. وكي أستمر في علاقتي اللغوية هذه أحافظ دائماً في مدريد على ارتياد السينما لمشاهدة أفلام من أميركا اللاتينية من الأرجنتين، كوبا، بيرو... إلخ، ولا أخفي عليك أنني في بعض الحالات أجد صعوبة في فهم اللغة التي ينطق بها في بعض من هذه الأفلام. ولكن يكفيني مجرد سماع تنويعات أخرى في نطق لغتي، أو تنويعات أخرى على وطني اللغوي حتى ينتابني الشعور بحبور فريد. أذكر أنني حضرت فيلم حول الثورة الكوبية، يا إلهي ما الذي أقوله عن طريقة كلام الكوبيين أو المتكوبنين؟؟!! هي الغبطة بحد ذاتها. هي نفس لغتي لكن معزوفة على آلة موسيقية مختلفة عن آلتي التي أعزف عليها، وكأنها تجليات بإيقاع وتنويعات ورنيم انفعالي آخر، كأنها تجليات ببسحر أو حتى انحطاط آخر مختلف عما أعتدت عليه، كل تلك الرحابة فتحت وتفتح أمامي آفاقاً لم أكن أعرفها وتنتمي للغتي.
هناك كثير من الآراء التي تتفق على أن أفضل لغة اسبانية هي تلك المنطوقة في كولومبيا، وبالفعل فإن أهل كولومبيا يتعاملون من اللغة بدقة وبغنى مدهش في توليد المفردات، وفي أحيان حالات كثيرة أفضل منا نحن الاسبان، حتى أنني أكاد أقول أن الناطقين بالاسبانية الذي يقومون على تقويض اللغة هم الاسبان. أما إذا قاربت هذا الموضوع في الداخل الاسباني فإني أشدد على تعدد اللهجات، فعلى سبيل المثال بالسفر تتفتح أفاق جديدة للغة في إقليم الاندلس، ولا اقول ذلك لأنني من أهل هذا الإقليم، بل لأن أندلوثيا لديها تنويعات غنية ونغمات ودقائق ولهجات متلونة مذهلة ضمن الاسبانية. حتى أنه يمكن القول أن مدارس اللغة في الأندلس تتنوع هي الأخرى فبين Sevilla اشبيلية وCádiz قاديش نصادف تنويعين لغويين على للاسبانية وآليتين ذهنيتين للنطق باللغة متباينتين.
عامة ما يتم التمييز في الدراسات الأكاديمية الكلاسيكية بين مدرستين لغويتين أساسيتين في اسبانيا، وهما مدرسة Burgos بورغوس ومدرسة Toledo طليطلة، دون أن ننسى ثقل Sevilla اشبيلية لأن اللغوي الاسباني الأول هو من هذه المدينة، وهناك بعض الدارسين يعتبرون أن الاسبانية الكلاسيكية الأكثر نقاء هي لغة Valladolid بلد الوليد، ولكني أؤكد على أن هذا الاعتبار ليس مطلقاً لأنه يمكن أن يصادف المرء fonemas وحدات صوتية ولفظية وتركيب كلام لا علاقة له باللغة الكلاسيكية. في كل الأحوال أسوأ لغة منطوقة في اسبانيا هي لغة مدريد.
من كل ما مرّ ذكره أفضل أن يطلق على اللغة اسم الاسبانية لا القشتالية، لأننا جميعاً اسبان ومتحدرين من مهاجرين وسكان أميركا اللاتينية الأصليين شاركنا في توالد الاسبانية وخصوبتها ولا نزال على الزمن. بمعنى أن من قام ببلورة هذه اللغة لم يكن أهل إقليم قشتالة سواء جغرافياً أم تاريخياً، لذلك أنا من المدافعين عن تعبير "اللغة الاسبانية".
حول ترجمة الأدب والشعر كفعل إبداع
في بداية الأمر كثير من الأشخاص لا يتفقون مع هذا القول أن ترجمة الأدب والشعر هو فعل إبداعي. وذلك لأن لديهم فكرتهم التي تتمحور على أن الترجمة تخون الأصل أو "المنتج الشرعي".
ما هي وجهة نظري؟؟!
بشأن الترجمة عامة والأدبية على نحو خاص، فإنني سأبدأ حديثي حول الترجمة كاسم قبل أن أتناول نعتها بالأدبية. فمعنى الترجمة عامة، وكما بالعربية أيضاً، ليس حكراً على فعل (نقلَ) حصراً، وإنما يتوسع المعنى ليطال فعل (فسَّرَ) كذلك. ويمكن القول أن تبسيط المعنى إلى (نقلَ) فقط سيجعل أمر الترجمة سهلاً جداً، وبمثابة نقل غرض من هنا وتحريكه إلى هناك، ولكن الأمر لا يشبه نقلاً مادياً تماماً، لأنه نقل يتم بكافة الوجوه والمعاني التحويلية.
من زاوية أخرى، إن مالك ومسؤول وسيد ورب العمل الذي يترجم هو الخالق أو المؤلف، والنص ينتمي له، ولكن المسؤول عن نقل هذا النص من مجراه ومن ترعته إلى عالم لغوي آخر هو المترجم. ولا أتفق مع تشبيهك للمترجم بالـ Demiurgo لأنني أراه في موقع نصف إله أمام الخالق، وأنا أفكر بالترجمة على أنها مسؤولية مشتركة يتقاسمها كل من المؤلف والخالق. لنقل أنه المسؤول المساعد، أو المسؤول عن الأبعاد الجديدة التي يقتنيها النص.
من البداية أؤكد على أن النص ليس محدداً أو مشفراً أو نهائياً أو ختامياً، وعليه فإن الترجمة هي إمكانية لتوسيع هذا النص، والبحث عن بعد أو معنى أو هواء أو أفق جديد له، وأستعر تعبيرك هنا بأن: "النص يطير في سموات أخرى". فالنص كان معتاداً على الطيران في سماء أولى والآن يطير في سماء أخرى، والمسؤول عن هذا الطيران هو المترجم. من جانب آخر لا يمكن للمترجم أن يخون النص، ويجب أن يحاذر في هذه الناحية، ويلتزم إبراز البعد الجديد الذي يحتويه النص دون التورط في عملية خيانة تأتي من خارج بنتيه. لنقل أنها هي قراءة موازية يقدمها المترجم لذات النص.
سأقص عليك حكاية جرت معي وهي من تجربتي الخاصة في الترجمة. منذ عدة سنوات نشرت أنطولوجيا لنزار قباني عنونتها بـ: Tu, amor وهي عبارة عن ترجمة اسبانية لنثرات شعرية قصيرة مأخوذة من عدة دواوين. منذ البداية اقترحت على نفسي ترجمة الأشعار بنسخة اسبانية مقفاة وموقعة، واستثمار أن الأشعار المقطعية القصيرة قد تسمح بتحويلها إلى قالب شعري اسباني. بالطبع ذلك سيكون صعباً ومعقداً بل ومستحيلاً في حال طول القصائد.
عندما انتهيت من الترجمة وبالعودة للقراءة عدة مرات، فاجأني ما أوحى لي بأنني قرأت ترجمة أخرى لبعض المقاطع، ولكن كيف؟؟!
كنت نسيت تماماً أنني ترجمت بعضاً من هذه الأشعار من قبل، ولكني لم ألتزم في ترجمتها القالب الشعري الاسباني. وحينما كان علي التكيف مع القالب الاسباني الذي فرضته على نفسي في الترجمة الثانية ظهر لدي النص الشعري ذاته ولكن بأبعاد مختلفة، وبقبسات من أنوار متباينة، خاصة حين فضلت اختيار كلمة على أخرى كي تنسجم مع القالب الشعري الاسباني.
الشعر هو كالوجه، إذا رأيته جبهياً فلديك بعد ما، وإذا نظرت إليه في جانباً بوضعية البرفيل فلديك بعد آخر، وإذا نظرت له بثلاث أرباع البرفيل فلديك بعد أخر، وإذا نظرت إليه من الأعلى فلديك بعد آخر، وإذا نظرت إليه من الأسفل فلديك بعد آخر وهكذا.. وكلها أبعاد لذات الوجه. وإذا وضعت للوجه الحد الأدنى من لون فإنه سيختلف أيضاً بينما مادة الوجه مازالت هي نفسها.
وأعتقد أن الترجمة يجب أن تبتعد على الترجمة الحرفية تماماً، حينها نعم تتم خيانة النص. وهنا أود أن أشير إلى أنني رأيت أن كثير من الترجمات للأدب العربي الحديث، وعلى نحو خاص إلى اللغة الاسبانية مثقلة بترجمة حرفية تحطم النص وتشوه وجهه رغم أنها ترجمة لنفس النص. ولا أريد أن أذكر اسم أي مترجم يقوم بهذا.
المترجم يجب أن يكون واثقاً، يمتلك حساً عالياً من المسؤولية وقدرات خاصة على فعل إعادة الخلق، بالاشتراك مع المؤلف دون أن يتورط في الخيانة والإخلال بالنص. بهذا المعنى المترجم يمتلك هوامش حرية أضيق مما لدى الخالق، ويجب أن يكون على وعي بذلك، وأن يحاول أن يخرج كل ما يحتويه النص من إمكانيات وقيم وفضائل، ويحاذر تشويهها.
ضمن هذا السياق أريد أن أسرد أمراً يتعلق بجربتي الشخصية، ويعود إلى اليوم الذي كنت أحضر فيه لترجمة الأنطولوجيا الشعرية الأولى Los poemas amorosos árabes "قصائد حب عربية". حينها كان يرافقني نزار قباني، وكنت أقرأ أمامه ترجمة كل قصيدة، وأراجع معه ترجمتي بيتاً بيتاً، وكلمة كلمة. أذكر أنه كان يقول لي ابتعد عن هاجس التزام الحرفيّة، فما يهمني قبل أي شيئ هو أن نصي المترجم للاسبانية يستطيع أن يكون له مستوى جمالي، وموسيقيّة، ومقدرة على جذب القارئ بنفس مقدرة النص العربي الأصلي. وكان يلح علي مرة إثر مرة على هذا الأمر. وفي الأحيان التي كنت أجتهد في بذل كل ما يمكن لأجانب الحرفية في الترجمة، كان نزار يقول لي ولكن أليس هناك من إمكانية أخرى لقول هذه الشعرية بالاسبانية. فعلى سبيل المثال وفيما لو افترضنا أن النص الأصلي يشير إلى Flor (زهرة)، كان يقول لي ألا يوجد في الاسبانية إمكانية للإشارة للزهرة بكلمة أخرى تعبر عنها ومعادلة لها شعرياً، وتكون موسقتها أفضل وتحمي إيقاع الشعر. هنا لابد من الوعي بأن النص العربي الأصلي له إيقاعه المميز والذي لا يمكن نقله إلى الاسبانية، بل يجب التنقيب عن الايقاع المعادل في الشعرية الاسبانية، أو البحث عن الايقاع المتولد من كلمات بالاسبانية. أي إنجاز قالب شعري معادل ومناسب للقالب للأصلي بحيث يكون لك مؤثر متماثل.
في حقيقة الأمر أقرأ في الوقت الراهن الكثير من الترجمات للشعر العربي المعاصر، الذي انتشرت مودته في السنوات الأخيرة، وألاحظ مع كل الاحترام لكل المترجمين والمترجمات، أن احتمال إعادة الخلق الإيقاعي والصوتي والايحاء الموجود في النص الأصلي العربي غير معتنى بعكسه في كثير من النصوص المترجمة. وهو أمر يقلقني بشكل كبير. وهنا يجب أن أقول أنني طوال حياتي المهنية كمترجم قمت بترجمة ما راق لي وأعجبني من الشعر، إضافة لذلك الشعر الذي يتميز بقدرة تمثيلية للأدب العربي، لأنني أعتقد أنني سنأقل هذا النص بمسؤولية إلى إطار ثقافة أخرى وقارئ آخر. وأعتقد أن هذه الناحية هامة جداً خاصة مع الكم الهائل من الترجمات لنصوص لا ترتق لتمثيل الثقافة العربية فضلاً عن غثاثتها وبخس قيمتها، وتلعب العلاقات التي لا تمت للأدبية النصية بصلة، كالصلات الشخصية والمحاباة بين الشاعر أو الشاعرة من جهة وبين المترجم من جهة أخرى، دورها كي ترى الترجمة النور في الثقافة الاسبانية. ومن وجهة نظري أن الترجمة تمارس العهر بهذا المعنى، وتبتعد عن مسؤوليتها الأدبية والأخلاقية وكما قلت سابقاً الجمال والأخلاق لا يمكن الفصل بينهما، سواء في العملية الابداعية أو الترجمة. وعلى المترجم أن يكون واعياً إلى أن هوامش حريته أكثر ضيقاً من حرية المبدع، دون أن يفقدها بالمطلق بل عليه أن يستثمر المتاح منها بالحد الأقصى.
أيام مع نزار قباني
نزار قباني (1923-1998) ليس صديقي فقط، بل هو أخي الكبير، ووصفي له على هذا النحو لا يقصد المنحى التقليدي العربي للعبارة، حين القول لأي كان بأنه "أخي" وبأننا جميعاً "إخوة"، بل أقصد المعنى العميق للكلمة.
حسناً، لمَ أقول أن نزار هو أخي؟؟!
لأن هذا هو الاحساس الذي تخلق بيني وبينه منذ بداية تعارفنا وعلى طوال الزمن الذي تواشجت فيه صلتنا. كان نزار يكبرني بحوالي عشرة سنوات، الأمر الذي سهّل من تولد علاقة أخوية بيننا بسوية احترام متساوية، ففارق العمر أعاق عن إحساسي به كابن أو أب لي ليتوجه نحو إحساس الأخ الأصغر إلى أخيه الأكبر.
أمور أخرى لعبت في طبيعة العلاق بيننا، ألا وهي ما يتميز به شخص نزار من عطف ومودة وإحساس دافئ مع من يحيط به، فقد تعامل معي بحنية ومحبة خالصة، فمنذ البداية شعرت بذلك بعمق، مما ساعد على تتدفق أواصر علاقة أخوتنا بسهولة، ولا أريد أن أفيض في الروابط التي جمعتني مع نزار قباني، فقد أشار لها في كتاب يحمل عنوان "قصتي مع الشعر"، وفيه تحدث عن مرحلة إقامته في اسبانيا، والتي نعتها بالمرحلة الوردية، وتطرق في حديثه لعلاقتنا وللخطوات التمهيدية التي كنا نقوم بها لإصدار ترجمة أشعاره للاسبانية وتحديداً لـPoemas amorosos árabes.
وصل نزار إلى اسبانيا لأول مرة سنة 1955، وكانت إقامته فيها قصيرة ولكنها تركت أثراً في نفسه فكتب نصوصاً قصيرة حملت عنوان "المذكرات الأندلسية"، وقمت بترجمتها لاحقاً. أما إقامته الأطول فكانت حينما استلم منصب مستشار في السفارة السورية في مدريد.
وقع نزار في غرام اسبانيا..
أقام خلال سنواته الاسبانية في مدريد، وسافر كثيراً إلى مختلف الجهات الاسبانية خاصة إلى إقليم الأندلس. وأحس عموم اسبانيا في الغور الأعمق من نفسه. أحب جغرافية اسبانيا والحياة الاسبانية، والطعام الاسباني وأذكر واحدة من أطباقه المفضلة كان Calamares con su tinta "الكلمار مع حبره" حتى أنه كان زبون لبعض المطاعم الشعبية، كان ينفعل حين سماع الغيتار أو حين يشاهد رقص راقصة فلامنكو، أقول كل ذلك ولكني أؤكد على أن نزار كان فوق نمطية الاهتمامات السياحية، وأعتقد أنه علاقته مع اسبانيا كانت علاقة اكتشاف، إلى جانب بلاد كثيرة أخرى كالصين وانكلترا وفرنسا، أعود للقول أنه اكتشف اسبانيا واكتشف اندلوثيا والبعد القديم لاسبانيا إلى جانب البعد الحديث. بعمق هجس بالأندلس ولكنه لم يحصر نفسه بها، بل ولج إلى وجوه اسبانيا الأخرى.
أما ذلك الذي لم يتفاعل معه في اسبانيا بحسه فقد حاول أن يعرفه. كان إنساناً عاطفياً منفتحاً ومن السهل أن يتعامل معه أي إنسان.
وأعتقد أن تلك الأحاسيس الاسبانية القوية التي خبرها، رافقته باستمرار حتى نهاية حياته، حتى أنها ظهرت في قصائد أخيرة له، وقد ترجمت له قصيدة كتبها في لندن قبل وفاته بقليل تحمل عنوان "الأندلسي الأخير". وأثناء ترجمتها توقفت طويلاً أمام العنوان. هل أترجمه بـEl último andalusí أو El último andaluz؟. ولا زال الشك لم يبارحني. هي قصيدة حول (القبل) و(الآن) حول ما هو محلي وما هو كوني.
متأكد أنه عاش حباً كبيراً في اسبانيا، لنقل أنني عرفت بطريقة ما بطلة هذا العشق، وهي سيدة اسبانية كانت تعيش في مدريد وشبكتها بنزار علاقة حميمة، ولكني وعدتها أن لا يباح بأمر هويتها من جهتي ولا عن طريقي، وحافظت على وعدي إلى الآن وسأستمر. في كل الأحوال قصة العشق هذه لم تكن القصة الوحيدة في حياة نزار كما يعرف الجميع، وحتى في اسبانيا كانت لديه قصص عابرة ولكن وكما يبدو كان حبه للسيدة المدريدية كان حباً كبيراً. وهنا أود أن أنوه إلى أنني ضد التناول الذي يحصر نزار قباني في شخص دون جوان، فمن وجه نظري لم يكن فيه ذلك الدون جوان، ولكنه كان رجلاً تنجذب إليه النساء بلا أدنى شك، وأتعقد أن النساء كنّ يهتمنّ بالتقرب إليه أكثر، مما اهتمامه هو للتقرب منهن. في كل الأحوال نزار كان شاعراً مرموقاً. وهذه المحاولات من قبل البعض لاختصاره في شاعر "الحب الوردي"، كما قال لي هو نفسه، يعكس الجهل في منجزه الشعري ببساطة كما أنه بخس من قيمته الأدبية.
اهتم نزار قباني بالشعر الاسباني، وهنا يطرح السؤال التالي: إلى أي حدّ كان يعرف اللغة الاسبانية؟
أنا كنت أتحدث إليه بالعربية باستمرار، الأمر الذي ظننت معه أن معرفته بالاسبانية كانت متواضعة، لاحقاً أخذت قناعتي تتغير لأنه كان يظهر معرفة أوسع بكثير مما ظننت، لدرجة أنني اطلعت على أشياء مكتوبة بالاسبانية من قبله. وهو ما أدهشني.
بلا أدنى شك كان على معرفة واطلاع على الشعر الاسباني، وكان يقرأ الشعر الاسباني بشكل لابأس به، ولكن معرفته لم تكن تسمح له بالترجمة إلى العربية، إضافة إلى أنه لم يكن على علم عميق بالأدب الاسباني، ولجأ لطرق أخرى للإحساس باسبانيا.
هناك مقطع نثري لنزار مكتوب خلال فترة لاحقة على إقامته في اسبانيا يتناول فيه العلاقة مع ما هو عربي فيها. يقول بما معناه: "كل عربي لا يسافر إلى اسبانيا، هو طالب راسب في مادة اللغة، ومطرود من قسم التاريخ". في كل الأحوال لابد من الإشارة أن عشق نزار للحياة كقصيدة لا يمكن أن نختصره بما هو اسباني، بل يطال كل الأمكنة التي زارها وتفاعل معها، بكل ما تحتويه من حيوات وتواريخ وكائن بشري.
وقبل أن أنهي كلامي عن نزار، أشير إلى أنني دائماً ما كررت القول بأنه من العار أن هذا البلد/ اسبانيا لم يخصص الاحتفاء الرسمي الواجب الذي يستحقه نزار لشخصه الإنساني والشعري. وفي العديد من المرات حاولت أن أكون الوسيط في هذه المسألة لدى الإدارة الاسبانية، ولكني لم أوفق ولم أصادف تلك الحساسية التي تعينني على أن تحقق الاحتفاء الواجب نحوه. بالطبع نظمت فعاليات غير رسمية على شرفه في أماكن مختلفة في اسبانيا وشاركنا فيها نحن الاسبان الذين كنا على صلة وعلاقة صداقة معه.
المقهى الاسباني وعبد الوهاب البياتي
يختلف عبد الوهاب البياتي عن نزار قباني، فنمط شخصية كل واحد فيهما متباينة عن نمط الآخر تماماً. أما البياتي أو أبو علي كما كان يدعى من قبل البعض، بدا لي بأنه يستبطن داخليته على العكس من القباني الذي كان منفتحاً بعرض داخليته للعالم الخارجي. وهنا لا أعني أن البياتي كان منغلقاً، وإنما أشير فقط إلى أن الولوج إلى دخيلته كان أصعب، وعلى المرء أن يديم لفترة أطول عمق الصداقة معه حتى يفتح ما بداخله. البياتي أحب اسبانيا بعمق أيضاً، ولكن حبه لاسبانيا كان مشروطاً بأيديولوجيته السياسية ومعارضته المطلقة للفاشية. الأمر الذي حدّ من وجه نظره وأحاسيسه تجاه اسبانيا.
أقام البياتي في اسبانيا خلال السبعينات على ما أذكر، وهو أيضاً كما نزار قباني كان لديه وضع دبلوماسي أو شبه دبلوماسي، ولكن فعله في الشؤون أو البرامج الدبلوماسية – على العكس من نزار قباني – لم يكن له أي ثقل، لنقل أنه كان في "منفى ذهبي" في اسبانيا. صحيح أنه كان أقل دفئاً وبوحاً وانفتاحاً من نزار، إلا أنه أحب اسبانيا على طريقته، وبذل جهداً كما أرى في المحافظة على العلاقة مع اسبانيا ومع ما هو اسباني. إضافة لأن درجة المعرفة التي حصل عليها من اللغة الاسبانية كانت أقل من مثيلتها التي استطاع نزار قباني اتقانها. كان البياتي يحب ارتياد المقاهي ويميل للفضاء المغلق، بينما لم يكن القباني رجل مقهى بل رجل فضاءات مفتوحة، كالتنزه في حديقة الريتيرو وسط مدريد القريبة من السفارة السورية، أو على طول الباسيو دي لا كاستيانا خاصة حين سكن في شارع خوان رامون خيمينث. وأعتقد أن تفضيلات الفضاءات هذه تعكس بشكل من الأشكال كيفية رؤية الحياة والسلوك لدى كل منهما. لعل ظروف عمل نزار قباني في السفارة واندماجه في علاقاتها مع المجتمع الراقي الاسباني وحفلات الكوكتيل والإعلام.. سهّل له أن ينخرط في الحياة الاسبانية أكثر من البياتي.
بعد رحيل البياتي وبمناسبة مرور أربعين يوماً على وفاته، أقامت دائرة الفنون الجميلة في مدريد حفل تأبين له، ولم يكن له طابع حكومي رسمي، وقد نظمناه نحن الأشخاص الذين كانوا بشكل من الأشكال على علاقة وطيدة مع البياتي أثناء إقامته في اسبانيا، وكنت واحداً من المشاركين إلى جانب الأكاديمي Federico Arbós (1946-) فدريكو أربوس، وهو أكثر من ترجم أشعار للبياتي إلى اللغة الاسبانية. ومن بين المشاركين يحضرني اسم ابنتي المستعربة روسا مارتينث ليو، والمستعربة كارمن رويث برابو، وهن ممن ساهمن في فعل ترجمة قصائد للبياتي كذلك.
ويحضر أدونيس برحابة نظر
أشدد على أن أدونيس هو واحد من الشخصيات الثقافية والابداعية الأكثر ثقلاً في البانوراما العربية المعاصرة. فأدونيس ليس شاعراً مرموقاً فقط، بل هو مثقف كبير أيضاً. أدونيس ليس كاتب شعر بديع وإنما هو كاتب نثر بارع أيضاً، كما أغلب الشعراء العظماء على حد رأي شاعر اسباني هو Jorge Guillén (1893-1984) خورخي غيين حين قال: "إذا أردت أن ترى عظمة شاعر ما، فاقرأ نثره". وهو أمر نراه في بعض ما كتب نزار قباني من نثر، والكثير مما كتبه محمود درويش، أما في حالة أدونيس فيرى بوضوح تام.
وأعتقد أن أدونيس منذ وقت لابأس به هو واحد من أهم ممثلي الثقافة العربية المعاصرة. لعل ما ساعده في ذلك هو ذلك البعد الطامح للكونية في شعره، والتي نصادفه لدى مبدعين كبار في الثقافة العربية المعاصرة، إلا أنه في حالة أدونيس أكثر وضوحاً وجودة بشكل يفوق كونية شعراء أخرين. في أدونيس نصادف اللقاء بين الثقافات، وبين ما يمكن أن يدعى على نحو نمطي بالشرقي وبالغربي، الأمر الذي فتح آفاقاً أوسع لشعره وأعماقاً أكثر بعداً. وما يمكن أن يلاحظ في أدونيس أيضاً، هو تلك الرغبة بتغيير الأشياء، وبهذا المعنى يمكم القول بأن رسالة أدونيس هي رسالة أكثر ثورية من شعراء آخرين. وما هو واضح أن كثير من أفكار أدونيس – إلى ما قبل الحراك الثوري في البلاد العربية – كانت تسير ضد التيار المسيطر على العالم العربي الإسلامي. وهذا ما يجعل منجزه الشعري هام وتمثيلي. أدونيس لديه قدرات أخرى للتعبير ترافق شعره أيضاً، ألا وهي ممارسته للرسم. بالمجمل أدونيس هو شهادة جمالية وإبداعية ذات أبعاد كبيرة ومعانٍ رحبة.
وأعتقد أن ظاهرة أدونيس الشعرية بالمجمل لم تفسر بما يكفي حتى الآن، فهو يحتاج لتفسير أكبر، ودراسات أكثر مما قدم حتى الآن. إلى جانب كل ذلك أقول أن له حجر زاوية في الفضائح التي تتفجر في الثقافة العربية، للحد الذي يجعل له معجبين وكذلك مناوئين. في كل الأحوال أعتقد أن على الثقافة العربية أن تتباهى بامتلاكها شخصية شعرية كأدونيس. أما فيما يتعلق بصلته مع اسبانيا، فأقول أنها تقدم تنويعاً مفارقاً أيضاً، وذلك لأن آفاق اهتمامات أدونيس رحبة جداً بلا أدنى شك. وما هو اسباني يشكل واحدة من وجوه هذا الاهتمام.
قامة محمود درويش في الذاكرة
قبل أي شيئ أود القول أن علاقتي الشخصية مع محمود درويش كانت أقل توطداً من علاقتي مع القباني والبياتي وأدونيس، رغم أننا تبادلنا الحديث في فرص مختلقة، وتصادفنا في العديد من الأماكن. وأود أن انتهز الفرصة هنا للقول بأن أول كتاب ظهر في لغة غربية حول ما كان يعرف بـ"شعراء المقاومة"، أو "شعر المقاومة"، هو الكتاب الذي حضرنا له أنا والأستاذ محمود صبح في مدريد ليصدر عام 1978-1979 على ما أذكر. وبداهة حضر محمود درويش بمقام مميز ضمن مجموعة شعراء المقاومة.
أما لو سئلت عن مكانة محمود درويش في الثقافة العربية المعاصرة، فإنني أقول أنه شاعر بأبعاد ثلاث: بعد فلسطيني، وعربي، وكوني. لذلك وفي أحيان كثيرة يمكن أن يتم تناول شعر محمود درويش بمقتضى درجات التوافق بين هذه الأبعاد الثلاث، أو بمقتضى البعد الذي يسيطر فيه بعدٌ على بعدٍ آخر. درويش هو المثال الواضح لشاعر ثلاثي الأبعاد تطلق من بعد وحيد. بمعنى أنه يكون أحادي البعد – تحديداًً عند الفلسطيني – ليتقدم ويوسع آفاقه ممتلكاً أبعاداً أخرى. وفي النهاية أعتقد أن هذه الأبعاد الثلاث تتداخل ضمن سياق جدلي باستمرار، بمعنى أن شعر درويش من هذا المنظار تسيطر عليه حالة الصراع والجدل بين أبعاد شعرتيه الثلاث على حساب الاندماج والاتفاق فيما بينها. ويمكن فهم ذلك بالنسبة لشاعر فلسطيني حيث تسود في شعريته ديمومة الصراع على حساب مفتاح الحلّ. وأعتقد أن هذا ما يميز شعر محمود درويش عامة. من الواضح أن محمود درويش يجتهد كثيراً على القصيدة، حتى أنه يميل كما يبدو من قصائده إلى محاولة الوصول للكمال داخل القصيدة، وربما بقي غير راضٍ كلياً عن المحصلة.
كل من هذه الشخصيات الشعرية: القباني، البياتي، أدونيس، ودرويش، تستحق أن تنال جائزة نوبل للآداب بلا أدنى شك، ربما كان الأمر أصعب في حالة البياتي. في كل الأحوال قدم الشعراء الذين سردت ذكرياتي وانطباعاتي عنهم صفحات مشرقة في مشهدية الثقافة العربية المعاصرة، وبوجوه عدة في البانوراما الثقافة العالمية.
في شعر درويش يحضر ما هو أندلسي واسباني أيضاً، ففي شعره نصادف الحنين إلى قرطبة. وأنوه إلى أن الكثير مما هو اسباني، في شعر جميع هؤلاء الشعراء، يحضر بسمات مؤسطرة، وخير مثال على ذلك حضور صورة Federico García Lorca (1898-1936) فيدريكو غارثيا لوركا... فلوركا كان بالنسبة للشعراء العرب رفيق الروح وسميرها.
من جانب آخر لا أرى أن محمود درويش قارب الموضوع الأندلسي بالكثافة والقدر الذي قاربه فيها نزار قباني. ولكن تظهر الأندلس التي يبحث عنها والتي يتنازل عنها، وكأنه يقول يكفي مناداة للماضي والحنين إليه، فلا يمكن للعرب المعصرين أن يداوموا على العيش في هذا الحنين الأبدي، لذلك فهو يتنازل عنه.
في كل الأحوال اسبانيا والأندلس هما موضعان خصبان في الحضور لدى الشعراء وكتاب النثر والمؤرخين ... وعندما يتم الحديث عن الشعراء العرب في الثقافة العربية المعاصرة، ترتكب خطيئة كبيرة وهي نسيان سعدي يوسف.
سعدي يوسف وتوق التيه
سعدي يوسف شاعر مرموق بامتياز، وهو كذلك منذ خطواته الشعرية الأولى ومازال. شاعر يذكر بشكل أقل مما يستحق، وربما كان لطريقة تعامله الشخصي أثر في ذلك، فهو رجل يلتزم الجانب، ويعيش عالمه الداخلي باستبطان كبير. ومثل شعراء كبار آخرين ممن ينتمون لمعنى المنفى والرحيل والتيه، ينتمي لأولئك الأدباء العرب الذين أنتجوا في المنفى أعمالاً عظيمة.
المنفى بكل أشكاله وتمظهراته الجبرية والاختيارية فيه اقتلاع وفقدان للجذور، وفيما لو رأينا مسار حياة هؤلاء الشعراء: القباني، البياتي، أدونيس، درويش، يوسف ضمن ترتيب تاريخي، فإننا نجد ميلاً جارفاً لتطوير الاقتلاع على نحو إرادي لدى سعدي يوسف، وهو موضوع هام للدراسة دون نسيان سياقاته الشاعر المختلفة في سيرورة حياته وشعرتيه.
بالمقابل نزار قباني كان الشاعر الأقل ميلاً لتطوير المنفى والاقتلاع من بين الشعراء المذكورين أعلاه، فهو متجذر بما له بشكل أكثر مما يمكن أن يظهر في التجربة التي صادفته في حياته. أقول أنه كان العربي الأكثر عروبة، ثقافياً ومن ناحية الأحاسيس، وربما كان لسوريته أثر في هذا، فما هو عربي يحضر بإلحاح في شعره وباستمرار.
في كل الأحوال واقع الأدب العربي لا ينتهي بهذه الشخصيات، وحصرت كلامي عنهم لمعرفة جمعتني بهم، إضافة لعلاقتهم مع اسبانيا. ولا أنسى أن أقول أنني اعتبر بدر شاكر السياب من كبار الشعراء العرب في الأدب العربي الحديث، فعنده نستطيع أن نتلمس نوى الحداثة لكل الشعر العربي. وهنا في صالون بيتي الكبير أحتفظ بتمثال له، وهو عبارة عن نحت لرأسه أهدتني اياه ابنتي المستعربة روسا ايسابيل ليو، وهو لنحات من جذور سورية يقيم في غرناطة اسمه عاصم الباشا.
إعدام لوركا وأسطرة الشاعر
من المؤكد أن فدريكو غارثيا لوركا لا ينفصل عن مصيره التراجيدي، ولكن قيمته كشاعر هي فوق هذا المصير. وحتى داخل اسبانيا رافق هذا الفعل الإجرامي – الذي لا يمكن تبريره بأي شكل من الأشكال – لوركا باستمرار. درست بشكل جيد حضور لوركا في العالم العربي وعلى نحو خاص في الأعمال الأدبية العربية، وأود منذ البداية أن أشير إلى أن هناك شخصيتين مرموقتين اسبانيتين فقط تحافظان على وجودهما في الثقافة العربية المعاصرة، وما زالتا تتمتعان بمؤثر كبير: فدريكو غارثيا لوركا وPablo Picasso (1881-1973) بابلو بيكاسو. فحين يطالع المرء الصحافة العربية يلاحظ أن الموضوعين الاسبانيين، الذين يظهران بين الحين والأخر ومنذ عقود، يتعلقان بهاتين الشخصيتين. بالفعل يمثل لوركا لكبار الشعراء العرب "الملاك الحارس"، فأغلب الشعراء الذين قرأتُ لهم كتبوا عن لوركا أو رثوه في نصوصهم منذ بدر شاكر السياب، إلى البياتي، وصلاح عبد الصبور، ومحمود درويش، إضافة لكثير من الايعازات الموجودة في شعر القباني... الخ جميعهم تأثروا بلوركا سواء بمنجزه الشعري أو بشخصه أو بمصيره. بالطبع الدراسات النقدية تأثرت وتناولت شعرية لوركا ومصيره التراجيدي في نصوصها، ولكن الكثير لم يطلع على منجز لوركا من خلال النص الأصلي مباشرة، ولكن من خلال ترجمات له من الانكليزية أو الفرنسية إلى العربية. والترجمات الأولى من الاسبانية مباشرة يعود الفضل فيها لدارسي الأدب الاسباني من مصر ومن المغرب.
يظهر لوركا في الادب العربي كـ"خيط نور" أو كـ"حامل مشعل الحرية"، أو "المجدد" أو "الملاك الحارس" إلى ما غيرها من صفات أسطورية وُهبِت للوركا في الثقافة العربية وفي ثقافات أخرى أيضاً، ولكنها على الأغلب كانت أكثر قوة في حال الثقافة العربية، حيث يحضر لوركا كما لو أنه الوحي الشعري، الملاك الحارس، مورث الشعرية، ناقل الحرية، مناضل في سبيل الثورة .. بمعنى أنه تم النظر إلى لوركا بشكل أساسي من منظور أيديولوجي يساري. إلى جانب هذه الأبعاد التي أعطيت للوركا، فإن شخصه يحضر بمبالغة كبيرة. فلوركا قبل أي شيئ هو شاعر كبير، وكما أي شاعر كبير هو شخص مدافع عن الحرية، ومدافع عن مبادئ الحرية وعن الكائن البشري. والقول بأن لوركا كان شخصية بارزة، ورمز من رموز اليسار السياسي، هو غير حقيقي طبعاً، فهو لم يكن على هذه الشاكلة في واقع الأمر.
في الثقافة المعاصرة، أخذ لوركا بالظهور اعتباراً من واقع مادي وإنساني مؤسطر، حتى أن يعض النقاد أو الشعراء العرب عبر عن مبالغته في الأسطرة حين اعتبر أن لوركا هو "الشاعر العربي الأخير في اسبانيا". أمر يثير الضحك رغم مبرر الإعجاب به من قبلهم والذي يصل للوقوع في حب الشخصية. لوركا كان ينتمي لجيل الـ27، الجيل الأدبي الأهم للثقافة الاسبانية المعاصرة. جيل حوى شعراء كبار إلى جانب لوركا، أذكر منهم شاعر أندلسي آخر هو Luis Cernuda (1902-1963) لويس ثرنودا والذي يقدم رؤية شعرية لما هو أندلسي ليس لها علاقة لا من قريب ولا من بعيد بلوركا، فهو يترك في قصائده حساسية شعرية أطلسية أكثر مما هي متوسطية كما هو الحال لدى لوركا خاصة في مسرحه الذي يتوافق مع تراث ميثولوجي قديم إضافة لحضور لإسبانيا الأعماق فيه. كذلك أذكر من جيل الـ27 الكبار هذا Rafael Alberti (1902-1999) رفائيل ألبرتي، وVicente Aleixandre (1898-1984) بيثنتي ألكسندري .. كانت لحظة زمنية هائلة ليس للشعر فقط وللثقافة الاسبانية بشكل عام، وترافق هذا تاريخياً الجمهورية الاسبانية الثانية.
هؤلاء الشعراء لم يحضروا كما ينتظر في الدراسات والترجمات العربية كما هو الحال مع لوركا، ربما لأن مصير أي واحد منهم لم يكن كمصير لوركا الذي شهره وتحول ليأخذ بعداً رمزياً وأسطورياً. استثني من كلامي هذا الشاعر رفائيل البريتي، فقد ترجمت كثير من قصائده للعربية، وبشكل أقل الكسندري وإن كانت ترجمته التي اطلعت عليها جيدة جداً، أما ثرنودا فهو الأقل شهرة وعناية من قبل المترجمين العرب، إضافة لشعراء وأدباء أخرين من نفس الجيل.
أتفق معكِ فيما تشرين له من أن لوركا في ديوانه: Divan del tamarit (1936)، ترك احتفاءه بالشعراء العرب في غرناطة في قصائد سماها: «casidas» y «gacelas» وكان قدم لطبعته الأولى التي لم تر النور المستعرب اميليو غارثيا غوميث. بالطبع الديوان يتوافق مع مناخ المرحلة، ولا ننسى أن لوركا هو غرناطي، وكما كل غرناطي هو غارق في ظروف وبيئة يتنفس بها ما هو عربي بعمق. يكفي أن يدخل الغرناطي وبأي ساعة إلى قصر الحمراء فوق التل، حتى يحس أنه يلج فضاء سحرياً، فالبئر العربي والاحساس بما هو عربي (كما في أماكن أخرى من اسبانيا) ما زال يبلغ عن روحه القديمة. والشاعر له حساسية فريدة في التقاط هذا التبليغ لذلك جاء ديوان لوركا المذكور كحوار مع هذا الإرث الثقافي. وأعتقد أنه في جزء من بعض أعماله أشار لما معناه أن ما هو عربي يتعايش في بصره وبصيرته، وهناك صورة للوركا وهو بالرداء العربي تشبه صور للورنس العربي. ولكن يجب أن ننتبه إلى أن حوار لوركا مع ما هو عربي هو أمر طبيعي لأنه حوار مع الأنا.
معرفة الآخر.. تعارف ثقافتين
وبشكل عام أقول أن الثقافة الاسبانية غير معروفة كفاية في العالم العربي حتى الآن، والعكس صحيح أيضاً، وهو ما يطرح السؤال حول صحة وجود علاقات ثقافية عربية-اسبانية!! أو أنها محاولة لإقامة علاقة بين الثقافتين والتقريب بينهما!! أم أنه ترقيع لا أكثر!!.. الواقع يقول بأن ما هو موجود لدى كل ثقافة هو نسخة باهتة عن الثقافة الأخرى وليس كما يجب أن تكون. يتعلق الأمر بأقسام الدراسات والأبحاث الخاصة بثقافة كل بلد في البلد الآخر، والدور الذي تقوم به في هذا المجال، في كل الأحوال أحس بأن الدراسات الاسبانية في العالم العربي قد أخذت بالنمو منذ عدة عقود حتى أنها وصلت لأوج معتبر. إلى كل ذلك تلعب الأسباب الحيوية والإنسانية دورها في العلاقات الثقافية، كما أن هناك الواقع البهي والذي يدعى أمريكا اللاتينية، فاللغة الاسبانية لم يكن لها أن تصل للأبعاد العالمية التي وصلت لها، فيما لو كانت لغة مقتصرة على اسبانيا.
أميركا اللاتينية هي من يدفع لحضور اللغة الاسبانية، وهي التي تحض على أن يكون للغة الاسبانية مكانتها العالمية، وقد تعين ذلك في الحراك الأدبي المعروف بـ El boom latinoamericano "البوم الأميركي لاتيني" والذي انبثق بين 1960 و1970 بانتشار سرديات الواقعية السحرية في العالم أجمع، ونذكر في هذا المجال الاهتمام الثقافي العربي الهائل بأدب وشخصيات مثل Gabriel García Márquez (1927-) غابريل غارثيا ماركيز من كولومبيا وJulio Cortázar (1914-1984) خوليو كورتاثار من الأرجنتين وCarlos Fuentes (1928-) كارلوس فوينتس من المكسيك وMario Vargas Llosa (1936-) ماريو بارغاس يوسا من البيرو من بين آخرين. كذلك الأمر بالنسبة للحقل الشعري فبابلو نيرودا من تشيلي ترجمت له أعماله الكاملة تقريباً، وهو شخصية محبوبة جداً في الثقافة العربية كما هو الحال مع لوركا. ولكني لا أود أن أعمم أن هذه المعرفة والحب بشخصيات مثل لوركا ونيرودا تجتاح القطاعات الشعبية من الناس كما يتبادر للذهن، بل أعتقد أن هذه المعرفة محصورة بنخبة مثقفة وبالأشخاص المهتمين بالشأن الثقافي بمختلف درجاتهم، أكثر منه لدى الفرد السائر في الشارع والذي يحتمل جداً أنه لا يستطيع الإجابة على من هو لوركا أو نيرودا، خاصة أن مستوى الأمية في الفضاء العربي يصل نسبة عالية.
الكتب التي لم أكتبها وأرغب بأن أحققها أو تحققها الأجيال الجديدة
أجيال الاستعراب الجديدة تقوم بتحقيق ما يحلو لها هذه الأيام.
لم أحاول في أي من الأيام أن أجبر أو أؤثر على أي مستعرب للقيام بأي بحث أو دراسة، صحيح أنني تركت أمام البعض مؤشرات دلاليّة على أهمية موضوع ما، كما حاولت أن يكون دوري كموجه ومحفز لدى البعض لا أكثر، ولكني بالمجمل ابتعدت كلياً عن فرض الأعمال والأبحاث على الآخرين. أعترف أن مساري في الاستعراب واجه انعطافاً حاداً في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، واعتباراً مما دعي بأزمة الخليج العربي فإن رؤيتي للعالم العربي، وتفسيري للأحداث التي تجري فيه، دخلت مرحلة جديدة مختلفة عما قبلها. منذ ذلك الوقت أحببت أن أقوم بتوضيح رؤيتي في مشروع لم أحققه بالكامل حتى الآن، إلا أن أفكاري في هذا المجال تبدأ بالظهور في كتبي الأخيرة التي تركتها للتفكير بالتاريخ والعالم العربي مع الاقتراب من الألفية الثالثة. وكتابي ما قبل الأخير Pretensiones occidentales y carencias árabes «تطلعات غربية وعوز عربي»، يعكس آرائي في هذا المجال. كذلك كتابي El rito del Islam (1997) "تحدي الاسلام". وجميعها محاولات بحثية للتعامل مع مفاتيح التأويل والشرح للقارئ، وهي المفاتيح الأساسية للأزمة العربية ما قبل الحراك الثوري الأخير.. أزمة طويلة الأمد لم تجد لها حلول أو مخرج ضمن سياقها ذاك، وكانت كسرداب معتم طويل كما قال أدونيس. وهنا لم أقصد بحديثي الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية فقط وإنما الأزمة الثقافية العميقة. هذه الدراسات كانت كمحاولة للإجابة عن الـ "لماذا؟" والـ"كيف" وتفسيرها في سياق الزمان والمكان، وقبل أي شيئ محاولة إجراء تحقيق يستطيع أن يرى المستقبل القريب.
أطمح لكتابة عمل أستطيع التعامل فيه بعمق وكثافة مع ثنائيات (الذهنية والإحساس) أو (العقل والشغف)، أي القيام بكتابة تبتعد عن التشابك مع الراهن والتي تنتهي بنهايته.. كتابة تطمح لأن تستعصي على الزمن.. وأعتقد أنني لن أستطيعها.
هناك موضوع آخر أحب أن أتعرض له وأبحث فيه، وهو التخطيط لدراسة موسعة حول ما الذي يمكن أن تعنيه الأندلس التاريخية في الهوية المحتملة الاسبانية؟؟!!
حول السلفيّة والأصوليّة
واحدة من أهدافي الأساسية في الاستعراب كانت العمل على إقامة الصلات وقنوات تفاهم وتنويعات على الحوار بين ضفتين تدعيان نمطياً العالم الغربي والعالم الشرقي. وكذلك عدم اقتصار فضاء العالم الغربي على أميركا الشمالية وأوربا، بل على أمريكا اللاتينية أيضاً. فالجسر يجب أن يصل إلى هذه الأخيرة هي الطريق نحو المستقبل. من المستغرب أن كثيرين ممن يخوضون في التأمل حول مصطلحات "السلفيّة" و"الأصولية"، والتي انتشرت معالجتها كمودة خلال هذه الأيام، يبتعدون عن ذكر مرجعيات المصطلح في الثقافة الغربية، والتي تبدو للوهلة الأولى وكأنها قضية لسانيّة، ولكنها تغوص أعمق من ذلك. على سيبل المثال: Integrismo وFundamentalismo مصطلحين ولدا في البيئية المسيحية واحد في الولايات المتحدة والآخر في أوربا حوالي القرن التاسع عشر. في هذا السياق ينبثق السؤال: كيف يمكن ترجمة كلمة Integrismo بالاسبانية إلى اللغة العربية؟ ليس لها مقابل مباشر كما هو الحال مع لفظة Fundamentalismo والتي نعثر لها على مقابل في لفظة "الأصوليّة" المشتقة من الجذر المفرد "أصل" وجمعه "أصول" فالأصوليون هم Los fundamentalistas. رغم ذلك من الصعب ترجمة Integrismo، قد يقول قائل بـ"السلفيّة" تجاوزاً، ولكنها كلمة تعود لجذر مختلف. بمعنى أنها مصطلح يرجع لواقع غربي متباين ويتم استخدامها لوصف ظاهرة موجودة في الواقع العربي.
من وجهة نظري ليس هناك "أصوليّة" أو "سلفيّة" إسلامية واحدة بل هناك أصوليات متعددة عربية إسلامية. فالظواهر الأصولية توحّد من وجهة نظر الغرب وينظر إليها على أنها واحدة ومتجانسة، وهو أمر لا يعكس الواقع. وبالتالي فإن كل ظاهرة لها أسبابها وطرق علاج وتعامل مختلف على الأخرى.
ولكن الخطورة تكمن عند الحديث مع الجمهور الغربي حول أصوليات مفردة، فهو لا يستجيب لهذا الحديث لاعتقاده بأنها ظاهرة مجملة وواحدة بالمطلق وثابتة.
كل واحد مطلع على هذه الظواهر في العالم العربي الإسلامي المعاصر يعرف أن تنظيم القاعدة ظاهرة حديثة جداً. أما التنويعات المختلفة للسلفية والأصولية فقد نمت في إطار الحداثة في القرن التاسع عشر، والذي نرى ما يقابله بالعودة التاريخية الأعمق إلى القرون الوسطى في الفكر العربي الإسلامي الكلاسيكي.
هذا يقودنا للقول بأن الغربي عندما ينظر للفضاء العربي، يبدأ على نحو مباشر بممارسة ما يمكن أن أسميه بالاختزال، بمعنى أنه يوحد كل ما هو متنوع ومتعدد ومتباين ويضع الكل في نفس الكيس. وبدلاً من التركز على الصور المتنوعة لهذا الواقع، أي تقديم الواقع كما هو، يعمد لتقديم صورة وحيدة موحدة. وممارسة الاختزال هذه هي الطريق المباشر للتبسيطية، كما أنه الطريق الذي يعيق عن رؤية الحقائق. أما أوج التبسيطية فيصل إلى الرؤية التقسيمية إلى محورين واحد للشر وآخر للخير، وهو الأوج الأخطر لأنه يدخل على المعادلة أحكام قيمة، حين يمسك طرف بالقرار حول مصير الآخر القيمي، بتطبيق اختلافات ذات طبيعة أخلاقية. التبسيطية والاختزالية قادت إلى الاتكاء على مشجب وحش كبير يختصر الأصولية والسلفية في تنظيم القاعدة الحديث العهد.
شيئ أخر يحدث أيضاً في الغرب وهو الاستخدام الاستخفافي لمصطلحات تتعلق بالثقافة العربية الإسلامية، دون معرفة حقيقية بمعناها مثل الحديث عن "الجهاد" و"الحركات الجهادية"، أو "السلفيّة" و"الحركات السلفية" وتوضع كلها لتخلط في نفس الصرة لاستخلاص أصوليّة واحدة موحدة. ففي العالم الغربي لم تقدم دراسات مورفولوجية لكل واحدة من هذه الظواهر. وحتى أن فعل وردود أفعال من قبيل "المقاوم"، و"المخرب"، و"الناشط"، "المتمرد"... تستوي حسب التوجه السياسي، والمثال عليها قضية العراق والقضية الفلسطينية ولبنان، وهي البلدان التي أدعوها ببلاد الألم، وأتمنى أن لا أدعو بذلك بلاد أخرى، مع أن الاحتمال قائم.
ما الذي يعنيه الدين؟؟ أو ما الذي يمكن أن يعنيه في التركيب الاجتماعي للجماعة وللفرد؟؟
التنويعات الدينية والسلفية تقدم وجهات نظر مختلفة حول هذا الموضع، بعضها مرفوض تماماً لأنها تقوم باستخدام العنف والرعب، بينما وجهات نظر أخرى لا تلجأ لهذا الطريق وتقتصر على مواجهات غير عنيفة.
عندما أتحدث عن الدين أحاول أن أكون واضحاً دائماً، وأبوح بما أفكر به، حتى لا يدعوني أحد بالمخادع، يستطيع أن يستمع لي ويؤول وجهة نظري بشكل صحيح.
بداية أعترف أنني لست رجلاً مؤمناً، أو دينياً، وكوني كذلك يتعلق بحياتي وظروفي وتجربتي الشخصية لا أكثر ولا أقل، وحتى أن حياتي لم تكن بإيقاع موحد في شأن الإيمان وانعدام الإيمان، ولكن ما يهم هنا هو أن فحوى حياتي لا يمكن تطبيقه على الآخرين. وانطلاقاً من ذلك أقول بأن ما لا أؤمن به، هناك من يؤمن به سواء من المتدينين أو من المؤمنين.
كما أنني أريد أن أترك اعتراف آخر، هو أنني أعتقد بأنه لا يمكن تفسير وجود الكائن البشري والتاريخ البشري دون الأخذ بعين الاعتبار دور الدين وفعله عبر التجليات والتمظهرات المختلفة من الروحانية إلى المادية، لأن ذلك يبدو كما لو كان نفي للواقع والتاريخ والروابط الجمعية وفردية الكائن البشري، فالفعل الديني رافق الإنسان منذ جذور وجوده.
من كل ما سبق، الإسلام بالنسبة لي يستحق احتراماً مطلقاً، ولا أختزله إلى محض دين رغم أنه ولد كدين، وأؤكد على أنه حضارة وثقافة أيضاً، وهنا أوليت عناية خاصة للحضارة الإسلامية أو للإسلام الناقل للحضارة، والتي يشكل البعد الديني جزءا أو عنصراً منها، ولكنه ليس العنصر الوحيد في هذه الحضارة، كما أنه ليس الجزء التي يمكن أن ألجأ إليه لتفسري هذه الحضارة دون غيره من المكونات الحضارية والثقافية الأخرى.
كذلك أعتقد أنني اعتباراً من اللغة، فإن لفظة "الإسلام" و"المسلم" تأخذ معاناها من الجذر اللغوي ومن معنى المصطلح، والتي تتعالق مع أفكار "الأمان" و"الحماية" و"السلام" و"السلامة"، ولا يقتصر على "الاستسلام" والخضوع أمام الإرادة الإلهية دون أساس، كما هو منتشر في التفسير المسيحي لـ"الإسلام". وأعتقد أن المسلم يخضع للقدرة الالهية لأنه يعتقد بأنها تضمن له "الحماية" "والسلام" و"السلامة"، بمعنى أن هناك مصلحة شخصية، أو ما يمكن أن نسميه تجاوزاً أنانية. وكأن إسلام الفرد أشبه ما يكون بـ"عطية"، ولكنها تعطى مقابل كفالة، بمعنى أنها ليست فعلاً سخياً بالمطلق من قبل الفرد رغم عدم الوعي بذلك مباشرة.
أحترم الإسلام بكل تنوعاته وأبعاده كافة، كما أي فعل ديني عقيدي آخر. كذلك كل أبعاده غير المقتصرة على ما هو ديني أي تلك المتعلقة بالحضارة، كذلك احترم المؤمن المسلم والمؤمنة المسلمة. وكما فعل الكاتب البرتغالي المرموق Muigel Torga (1907-1995) ميغيل تورغا – الذي أعتقد أنه غير معروف كما يستحق خاصة في العالم العربي حتى الآن – أميز بين الدين كإحساس والدين كمؤسسة. بحيث أتفهم الدين كإحساس وأتشارك التضامن معه رغم أنني لا أمارس فرائضه. بينما أرى أن الدين كمؤسسة موضوع قابل للنقاش أو الجدل أو النقد أو الرفض أو الاعتراض عليه أو إصلاحه.. لأنه فعل إنساني، وكما كل فعل إنساني هو زمني. المسلمون الذين تحدثت إليهم قالوا لي بأنه ليس للدين الإسلامي مؤسسة كما هو في الدين المسيحي.
صحيح أنه ما من كنيسة شبيه في الإسلام بالكنيسة المسيحية، ولكن هناك مؤسسات إسلامية وإدارة دينية إسلامية وربما يمكن القول عناصر شبه مؤسساتية تقترب من معنى الاكليروس. وهنا لا أريد الدخول في تفاصيل نقاش إسلامي بين السياقات الإسلامية المختلفة كالشيعة والسنة أو غيرها.
الاسلام والعلمانية
من جانب آخر وفيما يتعلق بالإسلام والعلمانية، فإنني أعتقد بصحة من يرى بأن المجتمعات الإسلامية تفارق بتجربتها التجربة التاريخية للمجتمعات المسيحية، والتي كانت عرفت حركة مدنية معارضة للمؤسسة الدينية. وطالما أن هذه المجتمعات الإسلامية لا تعرف مؤسسة عيانيّة دينية قوية تتدخل في الحياة السياسية على الشكل الذي حصل في البيئية المسيحية، وتحديداً مع الفاتيكان، لذلك لا يمكن حصول حركة مدنية علمانية في المجتمعات الإسلامية كما حصل في الفضاء المسيحي. لذلك فالحديث عن وجود تاريخ للعلمانية في العالم العربي الإسلامي ليس له من جدوى، واللغة تبرهن عليه. كيف يعبر عن El laicismo باللغة العربية؟ حسناً، تستخدم لفظة العلمانية. ولكن "العلمانية" تشتق من "العالم" بمعنى Lo secular وعليه فإنني أعتقد أن الانخراط في النقاش بأن العلمانية لها تاريخ أو لا في المجتمع العربي الإسلامي، هو بمثابة تزييف للواقع والتفاف على الموضوع.
وبرأيي فإن القضية الحقيقية تكمن في طرح سؤال العلمانية على المجتمعات العربية الإسلامية: هل تقبل أم ترفض ظواهر التحول العلماني؟ هل ترغب في التكيف فيه مع الرؤية الدنيوية والتاريخية والشرط الزمني للدولة؟ هل ترضى بشكل نهائي عن عدم وجود حقائق لازمنية مطلقة ولا أبدية في العقد الاجتماعي؟ ومن وجهة نظري هذه هي القضية الأساسية التي يجب أن تطرح بقوة في العالم العربي، طبعاً أعرف أنها طرحت منذ زمن لابأس به وأعتقد أن المفكر السوري صادق جلال العظم في دراساته الفلسفية النقدية والمنطقية، خاصة كتابه "نقد التفكير الديني"، واجه القضية بشكل واضح، وأذكر أنه أجاب على سؤال وجه له في إحدى المقابلات حول قابلية تقبل الإسلام للعلمانية والحداثة.. فكانت إجابته تنم عن تفكير عميق وجذري وصريح بوجوب القيام بذلك في المؤسسة العربية الإسلامية، بمعنى أنه يجب القبول بإطار خاص للدولة مفارق عن الإطار الخاص بالمؤسسة الدينية. وأعتقد أن الكثير من المثقفين والشخصيات العربية حاولت التصدي لهذه المهمة في التاريخ العربي الحديث لإدراج عناصر وعوامل علمانية في رؤية التنظيم السياسي والاجتماعي، ومن جهتي أتفق معهم في جهدهم هذا مع الاحترام الواجب والتفكير بأنه ما من ضرورة كي تكون تجربة كل مجتمع نسخة مماثلة للآخر فيما يتعلق بتوقيت برنامج التحول العلماني أو مكانه. كما يجب أن يكون المشروع العلماني موضوع ومخطط له من داخل البلاد العربية، أما في الحال الذي يكون فيه مقحماً بوصفة خارجية فإنه سيكون مزيفاً ولمنفعة المصالح الخارجية لا تحترم المصالح الداخلية.
وكل ذلك يجب أن يترافق مع تحولات سياسية وتغيير حقيقي نحو الحرية تترافق بتحول مجتمعي كامل، وهنا يبرز دور النخبة المثقفة والطبقة السياسية التغييرية. ويجب الانتباه إلى أن فقدان الحرية في البلدان العربية لعب دوراً حاسماً في انبثاق وبعث التيارات السلفية والأصولية، والتي ينظر إليها من قبل البعض على أنها قناة للتحرر من القهر والظلم طالما أنها تحمل رسالة خلاصيّة. كذلك فإن لغروب الخطاب القومي العروبي المترافق مع الفساد والديكتاتورية مهد الطريق لصعود الحركات الأصولية السلفية، واقع لم يشأ الغرب الاعتراف به. وهنا أود أن أترك ملاحظة بأن الفساد ليس حكراً على الفضاء الديكتاتوري، وذلك لأن الفضاء الذي يتمتع بحيز واسع من الحرية قد يزدهر فيه الفساد أيضاً، ولذلك حديث آخر يختلف عن حديثنا هنا.
دفاعاً عن الحرية والكرامة.. القضية الفلسطينية
مثلت القضية الفلسطينية المثال الأوضح لعجز العالم العربي، رغم أن الحق بجانبه. ويظهر هذا متمثلاً في أبعاد فردية وجمعية على حد سواء.
والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا أدافع عن فلسطين؟؟
الإجابة بسيطة. لأنني أدافع عن الحرية، فعلى مدار حياتي بذلت كل ما بوسعي للدفاع عنها وعن الكرامة. والكفاح في سبيل فلسطين بالنسبة لي هو كفاح في سيبل الحرية والكرامة الإنسانية. ومن وجوه عدة يمثل وضع الفلسطينيين أقصى حالات الاعتداء على الحرية والكرامة. بالطبع فلسطين هي قريبة مني أيضاً لكوني مستعرب، فهي تمثل لي الفضاء أو المشهد الذي أستطيع أن أساهم فيه بتحقيق دفاعي عن الحرية.
هنا يكمن إصراري لإحقاق الحق في سبيل هذه القضية خارج إطار الارتباطات واللعبة السياسية التي وجدنا أنفسنا محاطين بها خاصة خلال السنوات الأخيرة.
الكيان الاسرائيلي يتلاعب على الشعور بالذنب لدى أهل الغرب الذين أرادوا التكفير وتسديد قرض عقدة الذنب التاريخية. والسؤال: لماذا هذا الذنب المصطنع لدى أهل الغرب يجب أن يكون مدفوعاً من قبل مجتمع وأناس آخرين لا يمتنون بصلة لمشكلتهم؟؟
إنه عدوان أخلاقي تماماً، وخرق لقيم وحقوق الإنسان.. لكل ذلك دافعت وأدافع عن القضية الفلسطينية على هامش اللعبة السياسية.
الأمر نفسه أستطيع أن أقوله حينما دافعت عن لبنان حينما أعتدي عليه. وتجلى موقفي بنفس هذا المعنى الواضح والثابت المضاد للحرب على العراق. وقد كتبت الكثير حول تلك الظروف.
من منظار آخر، يجب القول بأن من يراقب العالم الحالي عامة، والظروف الخاصة بالعالم العربي وعلى نحو معين في الشرق الأوسط، يجب أن يقتنع بأمر هام بأنه لا يمكن القيام بشيئ فيما يتعلق بحل للقضية الفلسطينية دون تدخل إدارة الولايات المتحدة الأميركية، والتي تمتلك القدرة على هذا الأمر، دون أن نغفل عن حقيقية أن قسم من العالم العربي متأمرك تماماً.
وأؤكد بأن الإدارة الأميركية قررت منذ وقت بعيد بأن يكون لها في منطقة الشرق الأوسط حضور أميركي مكفول لمصالحها، ولا يمكن التنازل عنه بأي شكل من الأشكال. وهذا الشرق الأوسط يمتد في الذهنية السياسية الأميركية إلى آسيا الوسطى (الشرق الأدنى، إيران، باكستان، أفغانستان، وبعض الجمهوريات السوفيتية السابقة.. إلخ). بمعنى أنا أرادت أن تبني رأساً لجسر يؤمن حضورها في هذه المنطقة الواسعة من العالم، وهنا تتدخل فكرة التي ما انفكت تُطرح في دهاليز هذه الإدارة: ما الذي سيتكون عليه صين المستقبل؟؟!
من هنا فإن الحضور الأميركي الثابت والدائم، والمتجذرة أكثر فأكثر في هذه المنطقة، لا ينفصل عن وجود اسرائيل.
أما فيما يتعلق بالمؤسسات والمراكز الأكاديمية الأميركية والتي بدأت تفتح فروعاً لها مؤخراً في بعض البلاد العربية فأعتقد أن الفكرة جيدة من حيث مبدأ نشر العلم والمعرفة، ولكن الشكوك تطال كيفية عملها وغاياتها غير المعلنة. وهنا المسؤولية لا تقع على من يصدر مثل هذه المؤسسات، بل أيضاً على من يستوردها.
تصور مستقبلي للغة العربية
أعتقد أن اللغة العربية ستواجه مصيراً مشابهاً لمصير اللغة اللاتينية، حين تشظّت بنيتها إلى لغات جديدة عدة. أعتقد بظهور لغات نيو-عربية، أي لغات عربية جديدة، ستنبثق من العربية الفصحى كما انبثقت اللغات التي تعود للعائلة اللاتينية، وسيقتصر استخدام الفصحى على المجال الديني والأكاديمي الضيق.
إلى جانب ذلك أشير إلى أن الموضوع اللغوي يتعلق بالتيار الأصولي والسلفي، الذي يعتبر أن الدين والعقيدة والنص المقدس هي الضامن لوحدة واستمرار وتعالي اللغة العربية. ولدعاة هذا التيار أقول كما قال أدونيس بأن قضية تطور اللغة هي من تطور التفكير والإرادة الحرة والمساواة الإنسانية، وعندما أشير للمساواة فإنني أود التنبيه إلى قضية المرأة وكافة الأقليات وكل الجماعات المختلفة التي تعاني التهميش أو التمييز أو الاهمال في المجتمع العربي كالأطفال وأصحاب الاحتياجات الخاصة والمثليين والإثنيات والقوميات المتنوعة على سبيل المثال. بالطبع لا يمكن أن تكون الحلول جاهزة ولا مطلقة، ولكن من الضروري أن يكون هناك إرادة قوية على البحث وتحقيق إصلاح عميق في بينة اللغة والمجتمع العربي.