مع فجر الثورات العربية وتغييره لرؤية القضية الفلسطينية تقدم (الكلمة) هنا قراءة لعمل فلسطيني آخر هو أحدثها يكشف عن اشتباك استعادة فلسطين بإعادة قراءة آليات ضياعها، ومسؤولية الانظمة العربية، التي تتساقط مع الثورة، عن هذا الضياع. فهي أنظمة متخاذلة كما تكشف لنا الروائية الفلسطينية المرموقة وعملية.

سحر خليفة وغصّة الواقع الأليم

في روايتها الأخيرة «حبّي الأوّل»

نبيه القاسم

«إن المعرفة بالواقع هي الصورة الحقيقيّة للواقع، أي للإنسان، إذ لا واقع في عدسة تنأى عن الواقع وتنحرف عنه»(1) .

هكذا قالت سحر خليفة التي رافقت – بإبداعاتها الروائية- نضالات شعبها الفلسطيني منذ الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية في الخامس من حزيران 1967، وهي التي ووجهت بكثير من الاتّهامات وحتى الرفض لمواقفها الصّلبة، وجرأتها في توجيه سهام الانتقاد باتّجاه الكثيرين.

السؤال الدّائم ورحلة الاسترجاع:
لكنّ سحر نفسها، وبعد انقضاء العمر الجميل، وانحسار الأمل بتحقيق الحلم البعيد، وجدت نفسَها، كآلاف غيرها، تسأل: كيف حصل ذلك؟ لماذا؟ إلامَ نظلّ؟ وإلى أين نسير؟
وكانت رحلتها الاسترجاعيّة نحو الماضي للبحث والتنقيب والوقوف على حقائق الواقع الذي كان، رغم ما في رحلة الاسترجاع هذه من مفاجآت أليمة، محزنة، مُفجّرة للغضب. بدأت رحلة الاسترجاع بروايتها (أصل وفصل)، وأعادتنا لتلك السنوات وأحداثها، وأهمها انفجار ثورة 1936 ومَقْتل رمزها الشيخ عزّالدين القسّام، وانتهاء الثورة، وانقسام الزعماء في مواقفهم تجاه الثورة، واستمرار النضال، بينما أصرّ الكثير من الشباب على مُتابعة القتال، رغم دخول البلاد وسكانها في أجواء الحرب العالمية الثانية، حيث كانت بريطانيا المنتدبة على فلسطين طرفا أساسيّا فيها. وقفت بنا سحر خليفة في روايتها (أصل وفصل) عند عام 1939 لتعود في روايتها هذه (حبّي الأوّل)(2)، لتُتابع السّرد وتصل إلى عام 1948، عام النكبة وضياع البلاد.
«أعود اليوم لدار العيلة لأقومَ بإصلاح ما تصدّع ونَخرَه السوس، وأجعل من الدار، دار العيلة، مكانا يُسْكَن، شيئا يُذكر وله تاريخ، ما عُدتُ أطيق جوّ الغربة والطيّارات والمطارات والبَدْء من جديد في كلّ مكان أذهبُ إليه. هناك عمّان، قبلها بيروت، ثمّ لندن، ثمّ باريس وواشنطن، ثمّ المغرب، وأخيرا جئتُ إلى الضفّة. شيء مُزعج أن تحسّ أنّك طَرد آدميّ مُتنقّل في كلّ مطار. ما أن تستقرّ في مكان ما حتى تنتقل إلى آخر، وإلى آخر بلا نهاية، وبلا تحديد.»(ص9).

هكذا تبدأ سحر خليفة، على لسان راوية القصة، بتصوير حالة الفلسطيني المرفوض في كلّ مكان، مطرود من كلّ مطار، غريب لن يدخل، «برسونا نون جراتا»، كما وصفه الشاعر سميح القاسم. وتوضّح أنّ عودتها سببُها أنّها «في هذه الدار وُلدتُ أنا، وأمي وداد وستي زكيّة. أنا كنتُ هنا منذ التاريخ» (ص10). وتشرح ما حلّ بالدار وأهلها «على هذه الدار مرّت أجيال، ومرّ احتلال وعواصف وزلزال رهيب جعل مدينتَنا مقلوبة، رأسها لتحت وأرجلها لفوق، وحولها دمار وشظايا وغبار كثيف. وكذا الاحتلال، مثل الزلزال.»(ص10) وتتساءل بألم: «في هذا الجوّ، مَن كان هنا؟ ستّي وأنا، وخالي وخالي، وخالي الآخر في السعوديّة، وأمي وداد. مَن ظلّ هنا؟ لم يبق أحد إلاّ سافر، هاجر، ولّى، أضحى ذكرى. وأنا أعود بعد كلّ السنين لأصلح ما اهترأ وتصدّع بعد الزلزال، وقبل الزلزال، وأعيد إلى الدار بعض الرّونق، وأزيل الغبار.»(ص11)

راوية الحكاية:
وراوية القصة هي نضال ابنة وداد بنت زكية، وشقيقة أمين ووحيد القحطان، الشخصيّات التي عرفناها في رواية (أصل وفصل). ونضال الراوية هي التي عرّفتنا على نفسها في (أصل وفصل) بقولها «ولدتني وداد، لكن أمي الفعلية كانت ستّي، أمي كانت شبه طفلة، بعد أن تُرضعَني تُلقي بي في حجر الأم وتهرع لتعود للمستشفى ودرس التمريض. ومع الأيام بدأتْ تستوعبُ ما تسمعُ من كلام وأفكار، وتتقبّلها بحماس، بأنّ الجيل القديم سيتغيّر إذا غيّرناه، وأنّ التقليد سيتغيّر إذا كسرناه، وأنّ الثورة تعني التغيير، وأنّ التغيير يبدأ بالنفس، فواظبَتْ على تغيير تلك النفس، نفسها هي، ولم تشملني، كانت مشغولة بما تحلمُ وبما تعملُ وتكسير القيود. وكنتُ أنا ضمن القيود فكسَرَتْني، وكانت تُحسّ أنّي امتدادٌ لماضيها وقيود الزواج فنبذتني.»(3)

وكانت النكبة عام 1948 ليلفظها وطنُها، ويتنكّر لها الشقيقُ والأهلُ والغريب، وتذرو بها الرياح فترميها في مختلف العواصم المُتباعدة. كانت نضال قد عاهدت نفسَها، وقد نُكبَتْ بفقدان الوطن والأهل، أنْ تعيش بلا ذكريات وبلا أحزان، أن تنسى ما هي اليوم وما كانت بالأمس وتعيش فقط من أجل الفن، أن تعيش لإحساسها وترسم لوحات خرافيّة فيها ألوان مُشرقة وعيون خضراء وعسلية.(ص134). وتمرّ سنون التشتّت والغربة والضياع، وتُقرّر، وقد شارفت على السبعين من عمرها، أن تعود للوطن والبيت، رغم حراب جنود المحتل، لتُرمّم بيت العيلة، وتُعيد لحياتها بعضَ الاستقرار والطمأنينة والرّاحة.

أساليب السّرد:
اتّبعت سحر خليفة في روايتها هذه أسلوب التوزيع ما بين ثلاثة أزمنة: الماضي المَسحوب من الذاكرة البعيدة، الماضي المُسَجّل على الأوراق، والحاضر المُخفّف من عبءِ الماضي، والشاهد على ما أوصلتنا إليه أعمال وخيانات الذين تاجروا بالبلد والشعب. وكان لتيّار الوعي حضور كثيف في العديد من المشاهد كتلك التي تستعيد فيها الماضي وتستحضر الأمكنة والأزمنة والناس الذين كانوا، خاصة في وقوفها أمام لوحاتها التي رسمتها بعيدا عن الوطن، وعادت تحملها وتعمل على ترتيبها في بيت العائلة الذي تقوم بترميمه، وإعادة الحياة إليه. فيختلط في ذهنها الحاضر بالماضي، والرغبة في الانطلاق للمستقبل المرجو، كما رأيناها في ساعة سماعها لكلمات ياسمين عن الرجل الطويل الذي وقف أمام الدار وقال إنه كان يوما من رُوّادها، فقفزت بها الذكريات إلى البعيد البعيد لتستعيد فتاها ربيع الذي أحبته، وتعود لتعيش الساعات التي قضتها برفقته. والحالة نفسها أصابتها وهي تنظر إلى سعد الصغير الذي خبأته ياسمين في الخزانة، عند مُلاحقة جُند الاحتلال له. واعتمدت سحر أيضا أسلوب الكتابة التوثيق في نقلها لبعض الحوارات التي دارت في اللقاءات بين عبد القادر الحسيني، والزعماء والقادة العرب في دمشق، كما أرفقت الوثيقة والصورة، وحافظت على لغتها البسيطة القريبة من اللغة العاديّة القريبة للقارئ التي كتبت بها الجزء الأول من الرواية (أصل وفصل)، مع ازدياد المشاهد التي طغت الشاعرية والإيقاعيّة والجمالية على لغتها، مشاهد عاشتها في الماضي البعيد مع حبيبها الأوّل أيام المراهقة ربيع، ومشاهد حضرتها مع خاليها وحيد وأمين وحسنا، في مواقف الانكسار والتّوحّد والشعور بالهزيمة والضياع. ومثل المشهد الذي تنقل فيه ما دار من حديث بين وداد وأخيها أمين حول حبّه لليزا  وحبّها هي لعبد القادر الحسيني
.

عودة للماضي والحبّ الأوّل:
تعود بذاكرتها الاسترجاعية نحو الماضي البعيد أيام طفولتها وحياتها مع جدّتها في بيت العائلة في نابلس لتستكمل صورة العمل العشوائي غير المنظم للعمل العربي السياسي والعسكري ضد الاستيطان اليهودي في البلاد الذي أسهبت في وصفه في رواية (أصل وفصل)، تستعيد شريط حياتها في عملية استرجاع للماضي البعيد، لتلك السنوات التي تلت مقتل عزّ الدين القسّام، واستمرار الشباب في نضالهم ضدّ المحتل الانكليزي الغريب، وضدّ عمليات الاستيطان التي يقوم بها المهاجرون اليهود، بدعم من المحتل. تسترجع أحداث الرحلة التي قامت بها مع ستّها زكيّة لموقع الثوّار، حيث يتواجد خالها وحيد، مُتابع دربَ القسّام وحامل لواء قيادة الثورة، ولقاءها بالفتى ربيع مُرافق خالها وابنه المُتَبنّى، وكيف خفق قلبُها الصغير له. «رأيتُ عينيه مثل قمرين أخضرين في وجه شبيه بوجوه البنات، أملس، أمرد، إلاّ من زغب فوق الفم، كان جميلا، طويلا نحيلا ومُثيرا فبدأتُ أحسّ بشيء يطفح داخل صدري كفوّار ماء، ماء ساخن، دفّاق، يُرسل موجات تلو موجات ترتفع وتصل حتى رأسي، ووجهي يصيرُ كرغيف خبز خرج من النار.» (ص36). وتتابع شريط الماضي واستعادة المشاعر التي أحسّتها وهي برفقة ربيع وجدّتها في طريقهم للقاء خالها وحيد، «الولد الشاب طيّر عقلي، استولى عليّ، ما عدتُ أرى إلاّ خياله ولا أسمع سوى رنّة صوته.»(ص45) لم يطل هذا اللقاء بسبب تحرّكات مُريبة لجُند الانكليز، وقرار وحيد بعودتهم السريعة للبيت.

وتستعيد أحداث اليوم الذي فاجأهم فيه خالها وحيد، عندما دخل برفقة ربيع ليُعلن لهم "أنّ الثورة بدأت تنهار، وكيف جلس وخالها أمين يتبادلان الحديث حول الأوضاع. وزيارتها لخالها وحيد في قرية زواتا برفقة جدّتها ولقاءها بربيع، وما سمعت وشاهدت خلال زيارتها من أحداث المُواجهات بين الثّوّار وجُند الإنكليز وسيطرة اليهود على الأرض وعجز أصحاب الأرض عن المواجهة، والاكتفاء بالشكوى والنّدب. وتتذكر زيارتها وجدّتها لقرية صانور التي استقرّ فيها وحيد وتزوّج من حسنا وتحوّل ليُصبح فلاحا يعمل في أرضه. وتتذكرُ آخر لقاءاتها مع ربيع والحالة الحزينة التي كان عليها بسبب تدهور الأوضاع وانهيارات الثوّار، قال لها معترفا : «انحلّت الثورة من الداخل، وما عاد بإمكاننا أن نتجمّع. كل فرد منّا بات يبحثُ عن مخرج لخلاصه. وأمثالي الآن بلا مخرج. لا مال ولا أرض ولا عمل ولا مستقبل. فماذا لديّ لأعطيك؟ لا شيء لديّ أعدك به، لأقول بصدق انتظريني، كوني لي وانتظريني. وها أنا أقول لا تنتظري لأنّي سأهجّ من هذه الأرض، وأبحث عن أرض تؤويني. أبحث عن عمل، أبحث عن خيط يهديني لأنّي الآن بلا حياة ولا مستقبل. أنا لا شيء، مجرّد لا شيء.»(ص108) وتتذكّر كيف قبّل يدها يستسمحها، ووضع رأسه في حضنها وبكى عليها وعلى نفسه، وكيف بكى وبكى وهي بكت أيضا، وأقسمت أنها لن تنساه طوال حياتها، وستظلّ وفيّة على عهدها ما ظلّ نفَس في صدرها، وستظلّ له، وستنتظره، ولن تكون لرجل غيره»(ص108) وكيف قبّل يديها مرات عديدة وقبّل جبينها وسألها وهو يُفارق: لن تنسيني؟ وكيف ضمّت يديها إلى صدرها وقالت كصلاة قدسيّة: كيف أنساك؟ أنتَ ربيعي!» (ص 109).

وتقف نضال مع الماضي البعيد وهي تسال نفسها: «الآن، وأنا أتذكّر تلك الأيام، وأتذكّر ذاك الوداع وذاك الموقف، أقول لنفسي كم ضاع العمر بلا ثمرة! كم خفق القلبُ بلا إحساس! لو ظلّ ربيع هل كنتُ أمرّ بتلك الخيبات؟ هل كنتُ أضيع بهذا العالم بحثا عن بديل لربيعي؟ لكن ربيع لا يُستبدل ولا يتجدّد، مرّة في العمر، فقط مرّة. هو حبّ الصبا وربيع القلب وحلم التغيير»(ص110). وتتذكّر ما حدث من مُواجهات مع المستوطنين اليهود المدعومين من جند الإنكليز، واستيلاء اليهود على الأرض، والمواجهة الحاسمة التي كان من أثرها انفضاض شمل العائلة، فوحيد وزوجته حسنا انضما للثورة بقيادة عبد القادر الحسيني، وكان ربيع قد سبقهما، نضال وجدّتها عادتا لتقيما في بيت العائلة في نابلس، وأمين تابع عمله الصحافي يتتبع أخبار الثوّار والثورة. تتوقف استرجاعات نضال عند هذه الأحداث الأخيرة التي شهدتها، وهي على يقين الآن وهي في السبعين من عمرها، وقد عادت إلى بيت العائلة لترميمه تحت قيد الاحتلال الإسرائيلي للوطن، أنْ لا أحلام تنتظر تحقيقها، ولا أفراد عائلة يمكن أن يقفوا إلى جانبها، ولا أصدقاء ومعارف تبني معهم حياة جديدة. فكل الذي عرفت وعاشت كان ماضيا وانتهى.

عودة ربيع حبّها الأوّل وقد ضاع العمر الجميل:
لكن في هذا الماضي السحيق كان ما يبعث الأمل ويشدّ الذاكرة ويرسم البسمة على الشفاة، ويعود لينبثق ويتجدد مع كلمات جارة نضال ياسمين التي قصّت عليها ما حدث للفتى الذي هرب إليهم من جند الاحتلال وخبأته في خزانتها، وأسهبت في الحديث عنه بكل العواطف، ممّا أثار حبّ معرفة المَزيد لدى نضال وذكّرها بفتاها ربيع الذي أحبته، ولكنه غاب عنها وانقطعت أخباره. هكذا يتداخل الماضي بالحاضر وتتقابل الصور بعضها ببعض، وينتصب الوهم البعيد مُتجسّدا في كلمات ياسمين جارتها، عن ذلك الرجل الطويل النحيف ذي العيون الخضراء والشعر الأبيض ويحكي بلهجة قرويّة، الذي صادفته أمام الدار وأخبرها أنه يعرف الدار من داخلها، لأنه كان كفرد فيها وابن العيلة، وكيف وقف بالباب عدّة دقائق وهزّ رأسه عدّة هزّات وقال: يا خسارة الدار، يا خسارة الدار وأهل الدار. ول يا زمن!»(ص168) فأيقظت أحاسيس نضال من مكامنها، وأعادت إليها ذاك الحبيب البعيد، ربيع الذي عشقت وفقدت كلّ أثر له بعد ضياع الوطن وتشتّت الأهل. وهل كان ربيع إلاّ حلما، رحلة قصيرة، صورة جميلة، مراهقة آفلة مَنسيّة، راحت، ضاعت، طواها النسيان"(ص169).

وبينما كانت تتنقل بين زوايا بيتها المهجورة وتُعيد الأدوات لأماكنها، بعد أنْ تركها العمال حين سماعهم دويّ الانفجار وإعلان مَنْع التجوّل، سمعت طرقا على البوابة الحديدية. وفوجئت بالرجل الذي رأته يقف أمام البوابة، كان رجلا غريبا بسَكسوكة، كبيرا بالسن، شعره أبيض، بنظارات طبيّة، وقميص أمريكي بكاروهات وجينز أزرق لونه باهت. وقف يُحدّق في وجهها بنظرة غريبة، وقال بصوت مألوف: تغيّرتِ كثيرا يا نضال! فسارعت لتقول: إذن أنت ربيع!

وبعد لحظات ارتباك وحيرة دعته للدخول. أخبرها أنه «كان في طريقه إليها ليسلّم عليها حين سمع بالانفجار وبدأ التجار يُغلقون الدكاكين والناس يتطايرون كالعصافير. وجد نفسه محشورا في المدينة، فالطريق أُغلقت والسيّارات أوقفت ولم يجد أمامه إلا أن يُكمل طريقه إليها حتى تفرج وتنفتح الطريق.» (ص212-213) فقالت معلّقة: «إنّ الإغلاق قد يستمرّ عدة أيام، وهذا يعني أنّه سينام في هذه الدار طوال أيّام وليال."(ص213). وسالت نفسَها: ماذا سيقول الناس عنها، وماذا سيقول الجيران! رجل غريب في داري في هذا الزقاق؟ غير ممكن.»(ص213) وخلال جلوسهما في الحديقة كان يحدّثها عن نفسه وهي تتأمّله وتفكر، كم تغيّرنا واختلف ربيع! أهذا ربيع حفيد أم نايف بائعة اللبن والخبيزة وابن خالي بالروح ووريث الحسيني وسعادة؟ كنت قد سمعتُ من خالي أنّهما حين ذهبا للقدس بعد صانور التقيا بربيع في مقرّ قيادة الثورة عند الحسيني بقرية بير زيت. كان قد التحق بالحسيني وقوّاته وظلّ معه حتى استشهاده في القسطل، وبعد القسطل ذهب مع أمين إلى سعادة.(ص215). «وبعد هرب سعادة إلى دمشق بدأ رجال الأمن يطاردون أعضاء حزبه فالتجأ ربيع إلى السفارة الكندية، وهناك تعرّف على موظفة كانت تزورهم في مركز الحزب و هربت معه إلى كندا وهناك تزوجا وأنجبا»(ص258)

أخبرها ربيع أنه بعد هروبه إلى لبنان مع خالها أمين بدأ حياته رجل مطابع، تعلّم صف الحروف في جريدة الزوبعة الشهيرة في ذاك الوقت. صف الحروف تطوّر منذ ذاك الزمن، ومع تطوّره تطوّر هو من صفّ الحروف باليد حتى الإنترتايب والمونوتايب والزينكوغراف والأوفست ثم الطباعة الالكترونية والكمبيوتر. وهو الآن لديه في الإمارات شركة ضخمة للكمبيوتر، وآلات النسخ والتصوير والطباعة، يستوردها من كوريا واليابان والهند وألمانيا والبرازيل. يستورد كمبيوترات وبرامج ويُتابع الثورة التقنيّة في كلّ مكان في العالم.«وهو الآن رجل أعمال ومبرمج. زوجته ماتت منذ سنوات بسرطان الثدي. وقد تقاعد وأبناؤه يديرون أعماله.»(ص215). وروت نضال لربيع ما آلت إليه حياتها بعد النكبة وتشتت الأهل والشعب وضياع البلاد قالت: "بعدما ماتت ستي، وأمي اختفت ألحقني خالي بمدرسة الراهبات، وهناك اكتشفن موهبتي فدبرن لي بعثة فنيّة إلى روما، ومن هناك بدأت حياتي كفنانة وعشتُ حياتي بالطول والعرض. تزوّجتُ وطُلقت ثم تزوجت ثم تمرّدت ثم أحببت ثاني مرّة وثالث مرّة وعاشر مرّة،  ثمّ قرّرتُ ألا شيء يستحقّ انشغال القلب إلا فنّي ورسوماتي، وها أنا أعود إلى داري حتى أرمم ما آل إليّ من آل قحطان."(ص216).

أيام الحصار أجبرت ربيع أن يبقى مع نضال في بيت العائلة، حيث كانت تتركه في الليل لينام وحيدا، وتنام هي عند صديقتها وجارتها ياسمين. هذه الأيام كانت مناسبة لاطلاع ربيع على مذكرات أمين خال نضال وترتيب أوراقها. ومن خلال هذه المذكرات التي قرأتها نضال بتشجيع من ربيع، تعرّفنا على ما ألمّ بفلسطين بعد مَقتل عز الدين القسّام وانهيار ثورة عام 1936 وتشتت الثوار في مناطق مختلفة من البلاد. وبالتحديد تُطلعنا على تفاصيل الحرب المقدسة التي أعلنها عبد القادر الحسيني ضد الاحتلال الانكليزي، وضد الاستيطان اليهودي في منطقة القدس. ويُسجّل أمين في مذكراته تفاصيل أحداث تلك السنوات وما لاقاه عبد القادر الحسيني من لامبالاة الزعماء العرب وحتى زعماء فلسطين، ورفضهم مدّ يد المساعدة له وتزويده بالسلاح عندما ذهب إليهم في الشام، وقابلهم وبيّن لهم خطورة الوضع وأهمية توفّر السلاح. لكن الرفض والسخرية والاتّهام كان ردّ الزعماء العرب على عبد القادر الحسيني، مما جعله يعود منكسرا يائسا واعيا لما قد تؤول إليه حالة البلاد. وكان الذي توقّع، فقد استطاعت القوّات اليهودية المدعومة من جُند الاحتلال الانكليزي أن توسّع سيطرتها على مساحات كبيرة من البلاد، وأن تحسم الحرب بعد استشهاد عبد القادر الحسيني يوم 7 نيسان 1948 في القسطل، حيث قامت بهجوم كبير وكاسح احتلت على أثره كل المنطقة القريبة من القدس. وكانت مقدمة لسقوط كل البلاد فيما بعد.

الواقع تحت حراب الاحتلال الإسرائيلي:
أرادت نضال، بطلة سحر خليفة، أن تؤكّد منذ البداية أن عودتها للبيت والوطن كان عن إدراك وإصرار ورغبة في التحدّي والبقاء والاستمرارية في الوجود. «أجد نفسي الآن بلا صاحب وبلا مأوى. بقيتُ مثل السيف فردا. إن كان الأهل رحلوا مثلي، وأنا رحلتُ مثل الباقين، مَن ظلّ هنا؟ ما ظلّ هنا سوى هذي الدار. لهذا عدتُ ، هنا من جديد، لأجعل من الدار، دار العيلة، بيتي الأول هو بيتي الأخير، جاليري، متحف، صور ورسوم وبراويز، مثل المعرض.»(ص15) وتمحور اهتمام نضال بما حدث في الماضي، وذكر هذه الأحداث التي جرت، وقصّة الناس الذين كانوا يعيشون فيها، لم يصرفها عن نقل صور ومشاهد لما كان يجري.

اهتمت سحر أن تنقل للقارئ على لسان ياسمين، جارة نضال، صورا عن حالة البلاد والناس تحت الاحتلال الإسرائيلي. «كانت تحكي عن الحواجز والإغلاق، والفقر والهمّ وإسرائيل. دار أبو حمدان نسفوها، ابن البقّال مرمي في السجن من عشر سنوات، بنت المعتوق اعتقلوها مع جوقة شباب معهم ديناميت، نسفوا دار أبوها ونسفوها، يعني حبسوها عشر سنين.»(ص63). وتروي ياسمين ما حدث «الليلة اشتباك عند الجامع. دخلوا الزقاق بالجرّافة وبعدين لحقتها المركابا. المركابا يا جارتنا أعلى من الدار. عمرك شفتيها المركابا؟ المركابا لمّا تمرق أشوف الجندي رأسه براسي، رأسه أعلى من العليّة، يعني المركابا يا جارتنا أطول من الدار، أطول وأعرض، وتهدّ الدار. عمرك شفتيها المركابا؟»(ص76). وكيف أنّ الشباب كانوا في حالة ثورة دائمة ضد جند الاحتلال، مما كان يستدعي فرض الحصار ومنع التجوّل على فترات متقاربة.

ونقلت على لسان ياسمين بعض مشاهد من أيام الانتفاضة وكيف كان الشباب يُقاتلون المحتل، ويواجهون العملاء والوشاة من بين أبناء شعبهم. «دارك أنتِ. كانت مهجورة ومفتوحة. شباب الانتفاضة كسروا الشبابيك ونزعوا الحديد ودخلوها. نزلوا في القبو يناموا هناك، ويحاكموا هناك، ويُعذّبوا هناك. بأوّل انتفاضة كنّا نبعث لهم بيض وجبنة، ومرّات صينيّة مقلوبة ومرّات كفتة. لكن بعدين لمّا صاروا يحاكموا فيها خفنا منهم. صرنا ما نقرّب عليهم ولا نتجرأ نحكي معهم، لكن نسمع، نسمع صياح، نسمع كرابيج ومسبّات، ونسمع الجيش يقتحم الدار. اقتحموا داركم ثلاث مرّات. أمي خوّيفة ومريضة، ستّ كبيرة، خايفة على حالها وعلى دارها، خايفة من السلطة ومن حماس، وخايفة من اليهود ومن العملاء»(ص64-65).

مُلامسة الزّمن في الرواية:
تحدّد زمن الرواية في عشر سنوات من سنة 1939-1948 وهي السنوات التي شهدت فيها البلاد حدّة النزاع والصراع ما بين العرب واليهود، على مَن منهما يكون صاحب البلاد وسيّدها. لكن سحر بمزاوجتها بين الماضي والحاضر، واستحضار شخصية ياسمين، امتدت بزمان الأحداث إلى السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين، لكنها اقتصرت على نقل صور متفرقة ومشاهد من حياة الناس، تحديدا في مدينة نابلس، تحت نير الحكم الإسرائيلي. ورغم أنّ الزمن كامن في وعي كلّ إنسان وفي خبرته، إلا أنّه لم يُشكل  أيّة قيمة لدى الإنسان العربي في كل مراحل مواجهته للقوى الاستعمارية الانكليزية أو للمستوطنين والمقاتلين اليهود. وكان تصرّفه على الغالب وكأنه يملك الزمن كله، فلا قيمة للساعات والأيام والسنوات، كما بَدا ذلك واضحا في رواية (أصل وفصل). وإذا كنّا نرى تغيّرا ما في التعامل مع الزمن في رواية (حبّي الأوّل)، إلا أن الزمن ظلّ ثانويّا ومُهمّشا بالنسبة لمجموع الناس، وخاصة أصحاب الوجاهة والسيادة والزعماء، فعندما وصل عبد القادر الحسيني ورفاقه لمقابلة القائد العام في دمشق ليشرح له ولباقي الزعماء الحالة التي عليها الوضع في فلسطين، كان الموعد المُحدّد للمقابلة الساعة التاسعة والنصف صباحا، لكن البوّاب أخبرهم عندما وصلوا ولم يجدوا أحدا، أن السكرتير يحضر في التاسعة والنصف ومدير المكتب في الساعة العاشرة والقائد العام في الساعة الثانية عشرة.(ص289) والمواجهة في فلسطين على أشدها، والزعماء والوجهاء يقضون وقتهم في مقاهي دمشق، وحتى في اجتماعهم مع عبد القادر لسماع تصوّره عن الواقع الراهن، وطلبه منهم الإسراع في تقديم السلاح للمقاتلين في أسرع وقت، وإلا ضاعت الفرص وضاعت البلاد، لم يهتموا لما يسمعونه، وأخذوا يضيّعون الوقت في جَدل عقيم، وحوار بعيد عن الهدف مما أغضب عبد القادر الحسيني وجعله ينسحب من اللقاء.(ص291-318) وهذا التصرف رأيناه في المواجهات بين المستوطنين اليهود، وأهالي القرى العربية، ورجال الثورة، فبينما يُعدّ المستوطن نفسه ويجهزها للحظة الحسم والمواجهة، نجد العربي والثوري يُشغل وقته بالقصص والجَدل والتسويف. والأمثلة التي تُقدمها الرواية عديدة في جزأيها:(أصل وفصل) و(حبّي الأوّل).

وقد شكّل الزمن بالنسبة لنضال، راوية القصة، حقيقة صعبة وظلّها المُلازم في كل ساعات يومها، يُذكّرها بالماضي الذي كان ولن يعود، ويُعيدها لمشاغل الحاضر الضاغط، ويدفع بها لتفكر في الغد الآتي. وإذا كانت نضال قد قرّرت في لحظة في الماضي، وعاهدت نفسها، أن تعيش بلا ذكريات وبلا أحزان وأن تنسى ما هي عليه اليوم وما كانته بالأمس، وأن تعيش فقط من أجل الفن ولإحساسها، وأن ترسم لوحات خرافيّة فيها ألوان مشرقة وعيون خضراء وعسليّة(ص134)، فقد كانت هذه اللوحات الفنيّة التي رسمتها هي الباعث للزمن الذي كان، والمحركة فيها الأحاسيس بالماضي، والآخذة بها في رحلة لاوعي إلى الماضي البعيد البعيد. فأخَذ الزمن يتداخل في وجدانها ما بين الحاضر والماضي وهي تقف أمام لوحاتها في بيتها الذي عادت إليه، وهي تُقارب السبعين من عمرها.

سحرُ المكان وتمدّدُه في الرواية:
وأمّا المكان فقد امتد على مواقع عديدة في فلسطين، خاصة في مناطق الضفة الغربية ومنطقة القدس. وقد شكل المكان قيمة واضحة ومهمة في الكثير من المشاهد، خاصة تلك التي كانت في القرى المختلفة حيث نجد التركيز على الوصف التفصيلي للمكان والنباتات والناس الذين يعيشون فيه. «خالي في القرى هناك بين الثوار في رؤوس الجبال بين الصخور والمغر والشوك وشجر الصبّار. وأنا وستي نذهب مشيا لأن الجبال بلا شوارع ولا سيارات ولا حتى حمير»(ص17) و«أم نايف تلك بيّاعة لبن وتين وفقّوس. في موسم الصيف تأتي بالعنب والتين والفقّوس ولبن وزبدة. وفي فصل الشتاء تأتي بالحلبة والفريكة وعدس وبرغل. وفي الربيع خبيزة وشومر وميرميّة وسلال عكّوب غير معكّب.»(ص18) و «خرجنا مع الفجر وكانت المدينة ما زالت تصحو من النوم ببطء وخشوع. الشوارع خالية إلا منّا، والسوق العتيق بلا زبائن، وبعض التجار يعلقون بضائعهم أو يكنسون أمام المحال ويشطفون الأرض بماء أسود فنضطر للقفز وفَحج الخطوات.»(ص20) و«دخلنا القرية مع آذان الظهر، ورأينا الرجال يتّجهون نحو مسجد صغير وسط البلد. وسط البلد هو شارع ضيّق فيه إسفلت، شبه إسفلت، مليء بالحفر والتراب والقشّ وبَعر الغنم، ويُحيط به خرفيش الربيع والخبّيزة، وعلى الجانبين دكاكين صغيرة وفقيرة أمام حواكير لدور من اللبن والتبن تختفي بين الخوخ والتين والمشمش، وخلفها حقول العدس والفول والبندورة.» (ص24)

ولا يقتصر المكان على النقل الفوتوغرافي وإنما يكشف عن الذكريات البعيدة، ويكون مرآة أفراح وأحزان، ولا يكون ساكنا وثابتا بل هو متحرك ومتغيّر. فنضال عندما تمسك بلوحة «حرش الصنوبر» كانت قد رسمتها من سنوات بعيدة، يدور بها خيالها وتجعلها ذاكرتها تغوص وتتوغّل في ذاك الحرش، قبل أن توغل في الذكرى، والحبّ البعيد، حبّها الأوّل. فقد التقت في ذاك الحرش وهي في بداية مراهقتها بحبّها الأول، بربيع الذي كان يكبرها قليلا.(ص32-33) كذلك تنقلها لوحة «صانور ومرج الزنبق» إلى البعيد وتُعيدها إلى رحلتها وستها إلى بلدة صانور، واللقاء بربيع فتنتعش مشاعرها من جديد، وتعود لتعيش لحظات الحب المتدفق. «أنظر إلى عينيه الخضراوين، وأرى حقول القمح والبابونج، رائحة الزعتر والطيّون، عطر الميرميّة والريحان، غيوم الصنوبر واللزّاب وأعشاش الدوري والشنار تختبئ عميقا بين الغيوم» (ص97). كذلك أعادتها لوحة رسمتها للشهباء ومهرتها للماضي، وتؤكد أن صورة خالها فوق الشهباء ومهرتها تركض خلفه. صورة لبطولة ما اكتملت، لكن الوقت لن يمحوها، ولا ذاكرتها، ولا عشب نبت على الجدران"(ص111).

لقد استطاعت سحر خليفة أن تجعل من المكان في روايتها هذه مكوّنا من المكوّنات النصيّة الأخرى، حيث يؤسس مع الزمن والشخصيّات والوصف والحدث علاقات متبادلة. وأهميّته في تشكيل النصّ الروائي أنّه يُشكّل المساحة التي تجري فيها الأحداث، وتزداد أهميّته بعد أن تتشابك علاقاته مع الشخصيّات والمواقف والزمن. كما ونجحت سحر خليفة في إضفاء وإسقاط الحالات النفسيّة للشخصيّة على المكان، بحيث أصبح المكان جزءا من طبيعة الشخصية وأحوالها ومشاعرها، كما رأينا في رحلات نضال إلى قرى زواتا وصانور، وفي علاقتها العاطفية وإسقاطاتها النفسية على كل مكان في بيت العائلة وما يُثيره من ذكريات وأحاسيس وانفعالات. فعندما تعود بعد سنوات القطيعة الطويلة إلى دار العائلة في نابلس وتتنقل بين أجزاء الدار المهجورة، يعود الماضي بكل ما كان، ليحيا من جديد وينتفض قويا، فتتحرك الأمكنة وتهتز تستعيد رونقها ويحضر أهل الدار وتدبّ الحياة من جديد. وهذا البيت نفسه لا ينحصر دوره في كونه بيت آل قحطان العريق الذي تعود إليه نضال لترمم ما تهدّم منه وتُعيد إليه الحياة، وإنما كان ملجأ الثوّار ومركز قيادتهم ، والسجن الذي حبسوا فيه العملاء والخونة، والمحكمة التي حاكموا فيها وأصدروا قراراتهم. كما ومثّل صمود الوطن والأهل ضد كل محتل غريب. ونكاد نجد قدسية المكان ورمزيته ومركزيته في صنع الحدث أو دافعا للحدث أو مكونا للإنسان ومُقررا مصيره في معظم أجزاء الرواية. ولا ننسى أن الصراع الحادّ والشديد والمستمر بكل شراسته بين الفلسطينيين والمستوطنين اليهود يدور حول المكان، ومَنْ مِنَ الطرفين صاحب الأحقيّة فيه وسيكون صاحبه؟

شخصيّات مستمرّة في دورها:
لم أتوسّع في تناولي للشخصيات في الجزء الأوّل من الرواية (أصل وفصل)، والسبب أنّ هذه الشخصيات لم ينته دورها وإنما استمر عملها في الجزء الثاني (حبي الأوّل). «وكما أنّ المكان لا يأخذ أهميّته بغير الإنسان، والإنسان لا يتحقّق وجوده إلا من خلال المكان، والزمان ملازم للمكان، فإنّ هذا الثالوث معا هو التشكيل الأساسي لكل عمل روائي متكامل.»(4) فالزمان والمكان، كذلك الشخصية تُشكل عنصرا مهما في البناء الروائي. فستّي زكيّة الشخصية النسائية المركزية في (أصل وفصل) التي أمسكت بزمام الأمور واعتنت بعائلتها، وعملت وتعبت في سبيل تربية أفراد أسرتها، وظلّت ترعاهم وتوحّد بينهم خاصة في مواقف الخلاف والتنافر، وكانت صاحبة الرؤيا والاستشراف للآتي البعيد والتنبؤ بما ستؤول إليه أوضاع البلاد من ضياع وتشريد لأهلها، لم تغب في (حبي الأوّل) وإنّما استمرت في دورها ومركزيتها من خلال استعادة حفيدتها نضال لذكرياتها، ورحلاتها مع جدّتها زكية لزيارة خالها وحيد في الأماكن التي يتواجد فيها مع الثوّار في قرى زواتا وصانور وغيرها، وفي إبراز دورها المهم والاحترام الذي تحظى به عند كل رجال الثورة كما برز في المواجهة الحادّة التي كادت تصل إلى حدّ القتال وإطلاق النار بين الثوّار، «بحضرة الحجة أنا ابن ناس ومؤدّب. أنا بحضرة الستّ الوالدة لطيف ومؤدّب.»(126) هكذا يقول الزيبق أحد رجال الثورة المشهورين المخيفين، بعد أن كان يبغي القتال وتأدّب بحضرتها. فقد نجحت ستي زكية أن تحافظ على مركزيتها وأهميتها في تشكّل وتطوّر الأحداث منذ اللحظة التي توفي فيها زوجها وحملت عبء تربية أبنائها حتى يومها الأخير.

ومثلها كانت ابنتها وداد التي عرفنا في (أصل وفصل) في سيرتها الطويلة، فتاة خجولة، تُزوّج من ابن خالها وتلاقي الأمرين منه، ومن إهماله لها وخيانتها مع الفتيات اليهوديات، ثم ما حدث لها من تغيّرات جذرية بعد هربها إلى القدس، ومرافقتها لليزا في مختلف المواقف الوطنية، ثم عودتها للبيت وإصرارها على العمل، ودراسة التمريض حتى ولو أدّى بها ذلك إلى إهمال ابنتها نضال، وتركها في عهدة أمها لتتولى تربيتها. وتعود بنا نضال في (حبي الأوّل) لتكشف لنا الكثير من سيرة والدتها وداد. كيف أصرّت على متابعة دراستها في دورة التمريض، وثم العمل في المستشفى ومداواة الجرحى. وكيف تطوّرت فكريا وثقافيا، وأصبحت تملك رؤيا ثورية نضالية. ثم تكشف لنا، من خلال مذكرات خالها أمين، أن والدتها وداد عالجت القائد عبد القادر الحسيني واعتنت به مدّة نزوله المستشفى، وأنها وقعت في حبّه، وعانت الكثير من هذا الحب الصامت. كذلك تذكر ليزا الفتاة المسيحية التي كانت المؤثرة الأولى على وداد، ومن ثم كانت معشوقة خالها أمين، ومدى الشخصيّة القويّة التي ملكتها، وفرضتها على أمين، وكل مَن عرفها.

وسردت لنا تفاصيل من حياة خالها أمين مستعيدة بعضها من ذاكرتها البعيدة، وناقلة البقية من مذكرات أمين نفسه، وكيف أن خالها أمين ظل في عمله الصحافي ومتمسكا بمواقفه المبدئية الناقدة رغم ما أوصلته إلى مُواجهات وصدامات حادّة مع شقيقه وحيد. وأن أمين هام بحب ليزا، وكان عبدها المطيع، يعشق كلّ ما يمتّ لها. وكيف أنّ أمين بعد فشل ثورة وحيد ورجاله في القرى، انضم إلى عبد القادر الحسيني، وأصبح مرافقه الملازم في كل تحرّكاته، حتى اللحظات الأخيرة وسقوط عبد القادر شهيدا في القسطل وأمين إلى جانبه. وبعد استشهاد الحسيني ذهب أمين إلى لبنان ليلحق بليزا وبأنطوان سعادة الذي وعد بتحرير القدس.(ص383).

وعرفنا من خلال ذكريات نضال وما سجله خالها أمين في مذكراته ما حدث لخالها وحيد بعد استشهاد عز الدين القسّام، وفشل ثورته عام 1936. كيف أنّ وحيد استلم قيادة الثورة وتابع القتال ضد المحتل الإنكليزي وضدّ المستوطنين اليهود، ولكنه نقل ثورته من شمال فلسطين إلى قرى منطقة نابلس. وأنه أصبح القائد المُطاع والمحبوب حتى آلت به تطوّرات الأحداث السياسية وخيانات القيادات العربية ودعم الإنكليز لليهود أن يُعلن فشل الثورة وانتهاء القتال، وتحوّل ليكون مزارعا عاديا، وتزوج من حسنا المناضلة القوية، ومن ثم انضم للقائد عبد القادر الحسيني وقاتل معه حتى استشهاد الحسيني في القسطل، أمّا وحيد نفسه فقد قُتل في دير ياسين. المشترك بين هذه الشخصيات كلّها أنها كانت مركزيّة، ولها دورها المهم في صنع الأحداث وتطوّرها، وكانت دائمة التطوّر في تكوّن وبلورة واستقلال شخصيتها ورؤيتها النضالية والسياسية والفكرية.

نضال راوية القصة في (حبي الأوّل) عرفناها في (أصل وفصل) في مراحل تكوّنها جنينا ينتظره مستقبل غير واضح المعالم. وها هي تعود إلينا فنّانة تحمل لوحاتها، تقترب من السبعين من عمرها، لتُرمّم بيت العائلة وتموت في الوطن بعد عناء الشتات والغربة. وهي تروي لنا ما خفي عنّا في السنوات الأولى بعد استشهاد القسّام، وتفجّر الثورة في قرى منطقة نابلس بقيادة خالها وحيد. تروي لنا قصّة رحلاتها مع جدتها "ستي زكية" إلى مواقع الثوّار حيث خالها وحيد، وقصة حبّها لربيع الصغير مرافق خالها وساعده الأيمن، وما حدث في كل المنطقة من أحداث وتغيّرات. وما آلت إليه أحوالها بعد إدخالها للدير في القدس ومن ثم مغادرتها الوطن وعودتها إليه بعد الغياب الطويل، وتعرّفها على جارتها ياسمين، ومن ثم مقابلتها وحياتها مع ربيع الذي أحبته في سنوات مراهقتها، ربيع العائد من الماضي البعيد شيخا هرما يملك المال ولكنه يفتقد للجسد القوي والأمل الكبير والرؤيا البعيدة.

شخصيّات حملت الراية وتابعت الطريق:
عبد القادر الحسيني قائد منطقة القدس وشهيد فلسطين الذي سقط في القسطل يوم 7 نيسان عام 1948. وقد لعب دورا مركزيا في مواجهة الإنكليز والقوات اليهودية، ومثّل النموذج الأسمى للرجل القائد المخلص المتفاني في سبيل شعبه ووطنه. وقد استحضرته سحر خليفة، كما استحضرت غيره من القادة المناضلين لتؤكّد مصداقيّة ما سعت إليه، وما حصلت عليه بالوثائق المثبتة، ويجيب على السؤال الضائع منذ ستة عقود وأكثر: مَن أضاع فلسطين وكيف؟ وقد اعتمدت المراجع الكثيرة من وثائق ومذكرات وشهادات وصور، أثبت بعضها في الهوامش وضمن الرواية.
ربيع حبيب نضال شخصيّة جديدة عرفناها في (حبي الأوّل) فتى في بداية حياته، ترك والده وعاش مع جدته ثم التحق بالثورة وكان الإبن المُتَبنّى لقائدها وحيد القحطان وريث الشهيد عز الدين القسّام. ربيع كان اليد اليمنى المخلصة للقائد وحيد وظلّ في رفقته حتى انهيار الثورة وتشتّت رجالها فتركه لينضم إلى عبد القادر الحسيني ويكون مع أمين القحطان أقرب المقربين حتى استشهاد عبد القادر في القسطل، فترك ربيع البلاد إلى لبنان، ومن ثم عرفنا مما رواه لنضال بعد التقائهما، أنه سافر إلى كندا وتزوّج من فتاة كندية ماتت بسرطان الثدي،  وعاد إلى البلاد رجلا ثريا وقد تعدّى السبعين من عمره ليعيش فيها هادئا مطمئنا بعد أن أوكل لأبنائه إدارة أعماله. وقد مثّل ربيع شريحة الشباب الثوري الذي آمن بالعمل الثوري ومقاومة المحتل ولكنه أصيب بخيبة الأمل من الزعماء والقادة والوجهاء وخياناتهم التي أدّت إلى فشل الثورات وضياع البلاد وتشتت الشعب.

دور المرأة البارز:
شكّلت المرأة دورا بارزا ومهمّا في كل مهمّة قامت بها، وقد فاقت الرجل في الكثير من المهمّات والمواقف النضالية. فالنساء في (أصل وفصل) خرجن في المظاهرات، وواجهن الحاكم الإنكليزي، وعملن على مساعدة الثوّار والعناية بالمصابين منهم، وساهمن في الثورة الاجتماعية والفكرية وتبلور المجتمع الفلسطيني الحضاري. وقد كانت وداد القحطان النموذج المثالي للمرأة الرافضة واقع الظلم الذي فرض عليها، والتي ثارت وتمردّت وخرجت لتعلن ثورتها وتعمل على خلق واقع جديد لها ولكل أبناء مجتمعها بالخروج على العادات والتقاليد ورفض هيمنة الرجل وحكمه، فتعلمت وعملت وشاركت في كل نضالات أبناء شعبها.
ومثل وداد كانت حسنا المرأة المناضلة ذات الشخصية القوية التي اختارت وحيد سيّد الرجال وقائد الثورة، ليكون زوجا لها بعد استشهاد زوجها المناضل. حسنا التي وقفت إلى جانب وحيد تتحدّى مختار القرية وتُعيب مواقفه المُتخاذلة أمام استشراس المستوطنين اليهود في الاستيلاء على الأرض. والتي لم تخف سطوة وقسوة وعنف الزيبق الذي فاجأ الجميع في بيت المزرعة في صانور ودخل عليهم مهددا حيث فاجأته بوضع البندقية في ظهره وتهديده بالموت إذا تمادى في غيّه. "فجأة رأينا حسنا تسدّ باب المطبخ فحجبت النور بثوبها الأسود وضخامتها، وبندقيّة بيدها موجّهة إلى ظهر الزيبق. وبدون كلام، غرست الفوّهة في ظهره فجمد مكانه وحملق عينيه ثم ابتسم بسمة خبيثة وقال متسائلا : حسنا؟ أكيد حسنا؟ أكيد حسنا.عفارم عليك! (ص130-131).

وكانت ياسمين جارة نضال في نابلس الشخصيّة التي سحبت الزمن إلى السنوات الأولى من القرن الواحد والعشرين، ورغم أن هدف الكاتبة التمحور في السنوات التي سبقت يوم النكبة عام 1948 وفي الأحداث التي جرت ما بين أحداث 1939 و1948 وكشف المستور عمّا جرى من مؤامرات على الشعب الفلسطيني، وتعرية القادة والزعماء والوجهاء الذين خانوا فلسطين وشعبها، وتركوا الشعب يواجه أبشع جريمة، وهي ضياع الوطن والتشريد، إلا أن ياسمين بحيويتها وحبّ استطلاعها وفرض صداقتها على نضال كانت التي نقلت أحداث السنوات التي عاشها ويعيشها الشعب الفلسطيني تحت الحكم الإسرائيلي، فذكرت الكثير من المواقف النضالية للشباب ضدّ جند الاحتلال، خاصة زمن الانتفاضة الأولى، وكشفت الكثير من ممارسات جند الاحتلال غير الإنسانية، كما أنها أعطتنا صورة عن التحوّلات الاجتماعية والفكرية وحتى السياسية في المجتمع الفلسطيني تحت الحكم الإسرائيلي. ورغم أنّ ياسمين كانت قد تزوّجت وطلّقها زوجها لأنها عاقر، وعادت لتعيش مع أمها لم تفقد الحيويّة والطرافة وحبّ الدعابة، وأضفت على المَشاهد التي شاركت فيها جو المَرح والضحك بتعليقاتها وحركاتها التي كانت تُثير الآخرين وتخرجهم من همومهم الذاتية والعامّة ليضحكوا ويفكروا بما يُفرحهم ويُطيل البسمة على شفاههم، " واستدارت بكلّيتها لصديقها الصغير الذي كان يُضحكها ويسلّيها ويسألها عن أخبار خزانتها وعن الراديو وهي تضحك، وأنا أضحك، وأمّها ترمقها بامتعاض خفيف لأنّها تشعر أنّ ابنتها ليست راكزة وثقيلة وتضحك بخفّة ورعونة كالمهفوفات، لكن يا سمين لم تأبه لنظرات الأمّ وهزّات الرأس وظلّت تضحك."(ص222)

مَن قتل عبد القادر الحسيني؟:
مَن قتل البطل، أهمُ اليهود أم هي الشام وزعماء القدس؟
بهذه الحدّة ونغمة الاتّهام القوية تُوجّه سحر خليفة سؤالها الدائم القاسي: مَن قتل عبد القادر الحسيني؟ وهذا يعني مَن قتل الحلم والقضية والبلد والشعب، وكل ما حارب من أجله عبد القادر الحسيني واستشهد في القسطل؟ وبهذا السؤال المتّهم تصل سحر خليفة إلى الجواب على السؤال الذي طرحته مع انطلاقتها لكشف المستور والمخبّأ وأسرار ومؤامرات وخيانات كانت السبب في وقوع النكبة وتشريد الشعب الفلسطيني عام 1948. فهؤلاء الزعماء والوجهاء والقادة الذين رفضوا مَدّ يدِ العَون لعز الدين القسّام ورجاله في ثورتهم ضد جند الإنكليز والمستوطنين اليهود في ثورة 1936،  تخلوا عن وحيد القحطان ورجاله عام 1939، وعادوا وكرروا موقفهم مع عبد القادر الحسيني عام 1948، ولهذا لم يجد الثوار أمامهم من مخرج إلا الدخول في معارك غير متكافئة كانت نتائجها معروفة سلفا. «إنّ الثورة عادت لتكرر الأخطاء نفسها. خالي أمين كتب، وآخرون كتبوا وقالوا إنّ ما حدث في ثورة 1929 أعيد ثانية في ثورة 1936 وها هو يُعاد في نهاية1939.»(102)

وبمرارة ساخنة يقول أمين لأخيه وحيد حين طلب منه وحيد أن يتوسّط لدى وجهاء القدس للحصول على سلاح، ويطلب مساعدتهم: «ما زلنا نغني الموال نفسه ضع يديك بماء بارد. هؤلاء الوجهاء والزعماء لا يعبأون بك ولا برجالك ولا بالثورة. أنت تظن أن رجالك يتصرفون بهذا الشكل لأنهم فقراء وأشقياء وبلا تعليم؟ لو أنك هناك وسمعت الزعماء والوجهاء لكفرت بكل شيء حتى بنفسك(ص114) وكانت فجيعة عبد القادر عندما اكتشف أنّ القائد العام للمعركة، المكلف من قبل زعماء العرب، لا يعرف قراءة الخارطة، ولا يعرف تحديد موقع مدينة القدس أو حيفا أو يافا أو عكا أو نابلس، ويسأل بغباء: «يافا على البحر؟ وهي ميناء؟ وتل أبيب؟ وميناء حيفا؟ ولكن القدس ليست على البحر وليست ميناء، فلماذا لا تحاصرون تل أبيب بدل القدس؟»(ص294). وبينما كان عبد القادر يشرح للقادة والزعماء، كانوا يرشفون القهوة والشاي والزهورات ببطء وجمود، لأنهم- كما عرفنا وكما هو واضح- ملتزمون بعهد قطعوه لبريطانيا بألا يُعطونا سلاحا ولا ذخائر، ولا يُدرّبونا على حَمْل السلاح، وألا يعترفوا بالجهاد المقدّس وقائدنا.»(ص297).

ويُسجّل أمين في مذكراته مَحضر الجلسة، «وقال لهم عبد القادر وقد يئس من تجاوبهم وتلبيتهم طلبه: "هذه فلسطين العربية بين أيديكم، والشعب العربي يُناديكم لأنكم الزعماء والقادة، ومَصير الأمّة بمختلف أقطارها أمانة في أعناقكم.»(ص300) وكيف صُدم عبد القادر من كلام القائد العام: «أنا يا عبد القادر قلت لك إنّي غير متحمّس لحصار المستعمرات وأفضّل حصار تل أبيب حتى نقضي على رأس الأفعى ونُحقّق نصرا تاريخيّا ونمحقهم.»(ص300) وعاد عبد القادر ليطالبهم بالسلاح وقال: «أستحلفكم بالله، أناشدكم. القدس أمانة في اعناقكم أنقذوها.»(ص302) وطار صواب عبد القادر وأمين وربيع وهم لا يصدقون ما يقوله القائد العام، وقد نفذ صبره ولم يعد يريد سماع عبد القادر: «ولماذا كلّ هذا الاهتمام بالقدس؟ أنا لا أفهم! لو كانت على البحر لاستحقّت، لكنها ليست على البحر. لو كانت على البحر لساعدناك وأعطيناك، لكنها ليست على البحر ولا هي مرفأ.»(ص302). ولم يعد عبد القادر يحتمل وقد بلغته أخبار سقوط القسطل، وهو يرى صفاقة القائد العام بحمق ورعونة، وهو يقوم بحركات بهلوانية برفع يد وإنزال يد، ويقبض على الهواء بقبضته، ويقول ضاحكا: هذه دبابات، خذها، تفضّل. وهذه مدافع، خذها حبيبي، خذها، تفضّل. تريد سلاحا؟ ما فيه سلاح. تريد مالا؟ ما عندنا مال. نحن نعرف شغلنا ونعرف الحقائق ولدينا ما يكفي من المعلومات.»(ص316)(5) فردّ عليه بغضب: «ما هذا الهراء؟ ما هذا العبث بمصير الناس والأوطان؟ ألا تخجلون؟»(ص317) وجنّ جنون عبد القادر من تعليقات وجواب القادة والزعماء العرب: «خلاص ماكو، ماكو مدفعيّة، ماكو سلاح وماكو مال وماكو قنابل.»(ص318) وقال موجها اتّهاماته وسهامه لهم: «سيسجّل التاريخ أنّكم السبب في ضياع القدس وبقيّة فلسطين، أنتم المسؤولون عمّا سيحلّ بنا وبكم. أنتم متآمرون مع بريطانيا. أنا سأموت ولن أستسلم. سأحتل القسطل بلحمي ودمي ولحم رجالي ولن أستسلم، وسيسجّل التاريخ ما فعلتم. أنتم متآمرون. أنتم خونة.» (ص318). ويذكر أمين القحطان في مذكراته أنّ عبد القادر "خرج من الباب وصفقه بعنف فاهتزّ البناء، ومشى أمامنا كأنّه يركض، ولحقناه نحن حتى خرجنا ووقفنا على الرصيف تحت السماء ونحن نلهث. وبعد دقائق من الصمت والوجوم والتّنفّس، سمعناه يقول: اسمعوا يا رفاق. هذه بداية النهاية، ليس أمامنا إلا التالي: إمّا أن ننتحر هنا في الشام، أو نذهب إلى بغداد ونختفي فيها، أو نعود إلى فلسطين ونموت هناك، ماذا ترون؟ وقبل أن يسمع إجابتنا، سمعناه يقول: نذهب إلى فلسطين ونموت هناك.»(ص318). وهذا ما حدث،

فقد عاد عبد القادر الحسيني وأمين وربيع إلى القدس وبدأ يُعدُّ رجاله القلائل لمعركة استعادة القسطل، ورغم تحذيرات أمين وغير أمين لعبد القادر بالنتائج الوخيمة للمعركة لعدم التكافؤ ما بين العرب واليهود، إلا أنه أصرّ على خوض المعركة التي كانت نتائجها استشهاد عبد القادر والعديد من الرجال وسقوط القسطل وبعدها دير ياسين ومعظم أراضي فلسطين وتشريد الشعب الفلسطيني. ولم يعد سؤال سحر خليفة: مَن قتل عبد القادر؟ بالسؤال الصعب، فجوابه واضح ولا لبس فيه، فالذي قتل عبد القادر الحسيني هم الذين ضيّعوا فلسطين وشرّدوا شعبها. والمُضحك المُبكي أنّهم يبنون أمجادَهم ويُثبّتون مقاعدَ حكمهم بشعاراتهم الصاخبة التي يُعلنونها وقسمهم بتحرير فلسطين.

بداية الرواية ونهايتها:
لقد حقّقت سحر خليفة في روايتها هذه، بجزأيها "أصل وفصل و (حبّي الأوّل)، ما أرادت تحقيقه بكشف كل أسرار الجريمة التي كان ضحيتها شعبها الفلسطيني بضياع الوطن وتشريد الشعب. لكن سحر التي بدأت (أصل وفصل) بتصوير مأساة أسرة وحيد وأمين القحطان واستشراف النكبة التي ستحل بكل الوطن وأبنائه، أرادت أن تنهي الجزء الثاني (حبي الأوّل) بومضة أمل وإشراقة مستقبل مرجو وفرحة قد تكون من نصيب الشعب الذي صبر ولا يزال، فقد أنهت الرواية بمشهد دخول ربيع ومعه «سَيل عرمرَم من الزوّار، كبار وصغار، نساء ورجال، وأطفال رضّع وحوامل. قدّمهم لي، الأكبر فالأصغر فالرُّضّع: هذان التوأمان، توأما حسنا.هذان وحيد وعبد القادر، وهؤلاء، كل هؤلاء، أبناء وحيد وعيلة قحطان. هؤلاء أولاد وحيد وأحفاده، وأولاد عبد القادر وأحفاده، وعديّ ونضال.»(ص391) «وبكت نضال من الفرحة والتأثّر ولم تعدّ. كانوا اكثر من أيّ عدد.»(ص391).
وبهذه النهاية تقول لنا سحر: ليَقْتُلوا ويُشَرّدوا ويَعتقلوا، فشعبُنا باق، وحلمُه لا يخبو. وليذهبْ كلّ الخَوَنة والعُملاء والسماسرة الذين ضيّعوا الوطن، وسبّبوا في تشريد الشعب إلى الجحيم.

 

هوامش:
 (1) من كلمتها في مؤتمر الإبداع الروائي الذي عقد في القاهرة يوم 16شباط 2008
(2) دار الآداب 2010
(3) أصل وفصل ص361/363
(4) نبيه القاسم، الفن الروائي عند عبد الرحمن منيف (دار الهدى للطباعة والنشر كريم 2001م.ض كفر قرع ). ص31
(5) كلمات الحوار في معظمها حرفيّة، أوردها أمين سرّ الجهاد المقدّس قاسم الريماوي في: مخطوط عبد القادر الحسيني 1950، كما تشير الكاتبة في الهوامش.