تسعى دراسة الباحث العراقي للتنظير لعملية الترافد بين الأجناس والأنواع وتأثيرها على آليات تلقي تلك النصوص الجديدة. وتفكك كيفية تشكل أستراتيجيات تلقيها من خلال حضور الأطياف الغائبة للمثيرات المعرفية التي تركت آثارها في جسـد النص بصورة تساهم في تعرفنا على كينونتنا عِبر اكتشاف كينونة الآخر/ النص.

الترافد بين الأجناس والأنواع

كتابة المغامرة أم مغامرة الكتابة في المدونة العراقية الجديدة؟

محمد علي النصراوي

إذا كان بالإمكان التداخل بين الأجناس والأنواع الأدبية، فأن هذا يعني ثمة مولود جديد يطرح نفسه في الساحة الأدبية كـ(النص الجامع أو النص المفتوح)، بوصفه بديلاً إجناسياً موحداً، وإذا كان هذا هو البديل النصي المقترح. الذي لا تسوره أية خصائص مميزة تنتمي إلى أي جنس أو نوع أدبي، فأنه يظل محكوماً تحت الإشكالية التواترية القائمة بين الوعي/ والمعرفة. وإذا كان هذا هكذا، فإنَّ جامع النص – أو النص المفتوح يمثل منجزاً إبداعياً يُعَبر عن حساسية مابعد الحداثة، بمعنى: عندما يرفض هذا النص الانتماء إلى المؤسسة التجنيسية المهيمنة والتي تبلورت عبر تاريخ طويل منذ أرسطو وحتى الآن بحدود تجنيسية ثابتة والتي تعطي لكل جنس حدوده الشكلية التي تفصله عن غيره – فإنَّ جامع النص - أو النص المفتوح يقوم بخلخلة الحدود أو الأطر الثابتة، ومثل هذا النص يمكن أنْ يُقرأ على أنه شعر وقصة في آن معاً، فالتنافذ الأجناسي يستقطب خصائص وصفات عائدة إلى أنواع أدبية مختلفة إضافة إلى استخدامه الفنون البصرية كالرسم والنحت والسينما، كفن اللصق أو الكولاج أو التقطيع السينمي للوحدات والانتقال الفجائي من وحدة سردية إلى أخرى، مما أدى إلى التشظي والانشطار ليس على مستوى نسق النص وحده بل أمتدَّ هذا إلى كسر سياق الجملة الواحدة. وهذا ما جعل ردود أفعال معاكسة عند القارئ، على أنَّ ثمة شفرات مزروعة في ثنايا النص وما على القارئ إلاّ فك هذا اللغز وحل طلاسمه المعرفية. وبهذا نقول إنَّ النص يكون معبأً بجهاز معرفي مشفر يمثل لنا البنية الذهنية التكوينية، لعقل المنشئ أو الكاتب، أي أنَّ النص بمقدار ما يُصعِّد من الشأن الذاتي للمؤلف فإنه في حساسية مابعد الحداثة يُصعِّد من شأن الاختلاف نفسه مقارنة بالأشكال التجنيسية الأدبية الأخرى.

فكتابة المغامرة تبحث عن نص حرٍ ومتفردٍ واستثنائي وغير قابل للانضواء تحت أية خيمة تجنيسية مهيمنة. وهكذا فإنَّ محاولة التأسيس هي الكشف عن ملامح إجناسية موحدة بين تلك النصوص تكسر بها طوق السائد والمألوف، وإنَّ رفض النص للمؤسسة التجنيسية المهيمنة السائدة - يؤكد انتماءه إلى نفسه بِعَدَّهِ نسقاً حراً غير قابل للتأطير، لذا فإنَّ هذه الإشكالية في عدم إعطاء خصائص مميزة للنص الجامع - أو النص المفتوح – أو رواية نص - أو الكتابة بأفق جديد هي التي جعلت الكُتَاب يبحثون عن طرق استراتيجية في التعبير، فاللاممكن يُعَدُّ ضمن المنطق الجدلي/ المعرفي ممكناً.

يمكننا الآن أنْ نقول أنَّ هذا المولود الجديد هو عبارة عن (أركيولوجيا معرفية) – طبقات متراكبة مع بعضها بعضـاً. ولكن كيف نخترق هذا النص وكيف نكشف عن الجهاز المعرفي المشفر في داخله؟ كي نتمكن من حل طلاسمه المعرفية – هذا اللغز المدفون فيه. وإذا كان النص محكوماً بالتجربة الأدبية والجمالية والذي يسعى دائماً إلى ابتكار آليات تقنية/ فنية على مستوى الأداء الجمالي، وإذا كان هذا المولود الجديد يُصعِّد من الشأن الذاتي للمؤلف بوصفه خالقاً ومبتكراً لنص حرٍ ومتفرد، كيف إذن للقارئ أو متلقي هذا النص من استيعاب هذه الآليات الجمالية؟ بحيث يكون متفهماً ومـدركاً للتجربة الأدبية بصيغتها الأنطولوجية الشاملة. هذه الإشكالية التواترية القائمة بين الوعي/ والمعرفة، أدت بي إلى طرح مفهوم (المنطقة المقدّسة) لمعاينة النص واختراقه من الداخل، وقد قمنا بربط المؤلف بصفته خالقاً من جهة والقارئ/ المتلقي من جهة أخرى في تحقيق هذه المنطقة وذلك بتعريفها الآتي:

هي ذلك المجال الشبحي/ المخلّق، الناتج من تداخل أو تقاطع نص القارئ المتشكل ذهنياً مع نص المنشئ، ومن جرّاء هذا اللقاء التفاعلي بينهما تنبثق (الرؤيا) التي توحي لنا ثمة شبح ما ترك آثاره لنا، والذي يتم حضوره في لحظة من لحظات التفعيل القرائي له بوصفه (بنية افتراضية/ مخلقة)، فإنَّ استدعاء هذا الشبح/ الجسد الغائب، ما هو إلاّ طريقة من طرق استحضار شبح (المنطقة المقدّسة). من هذا المنطلق جاء مفهومنا لـ(المنطقة المقدَسة) ليعزز هوية النص وإسنادها بوساطة البنية الداخلية له، منطلقاً من الجذر المثيولوجي للمكان المخلق داخل الأثر الأدبي، فإذا كان المنشئ قد جعل المعنى مغيباً داخل النص، كيف يمكننا اكتشافه والتكهن به؟ هذه الإشكالية، هي التي جعلتني أفكر في اجتراح منظومة إجرائية للدخول إلى النص الأدبي لاستبيان طيف (المنطقة المقدّسة). لكي نتمكن بوساطتها من الحفر وسط النص واختراقه، على أنَّ ذاتاً – فاعلة/ أنا - المؤلف، تقف خلف هذا المعنى، وعليه فإنَّ تحقيق هذا المعنى عن طريق التفعيل القرائي بين نص المنشئ والقارئ – ما هو إلاّ البحث عن مركز النواة الفكرية (لعالم النص) أو (نص العالم).

وقد قمنا بوضع صيغة أو مفهوم (المثير) – وإنَّ هذا (المثير) يتميز عن العلامة أو الإشارة عند العالم اللغوي دي سوسير أو مفهوم الإشارة عند جاك دريدا – هو أنَّ هذا (المثير) يحتوي إضافة إلى الدال والمدلول أو الصورة الصوتية (السمعية) واستحضار مفهومها في حالة المنطوق اللفظي للكلام – يحتوي على الكيان الشبحي او الوحدة الطيفية التي تكمن في الوجه الثاني من عملة (المثير)، وذلك لأن هذا الكيان الطيفي هو الذي يعطي للمثير انزياحه المعرفي، بعَدِّ المنشئ أو الكاتب هو بالذات مَنْ أقام بتخليقه أو صناعته داخل النظام النصي. أي بمعنى إنَّ (المثير) يختلف عن الإشارة – لأن الإشارة جزء من النظام اللغوي العام، وهو نظام عشوائي يكون ملكاً مشاعاً لكل الناس، ولهذا فاللغة أصبحت عرفاً اجتماعيا متداولاً بين الجميع – ولكن (المثير) ليس كالعلامة اللغوية فهو ليس ملكاً للجميع، لأنَّ المنـشئ او الكاتب هو مَنْ جاء به خصيصاً داخل نظام النص وليس اعتباطيا.

فهل يمكن الحديث الآن عن نظام داخلي (للمثير)؟ من هذا المنطلق نقول إن (المثير) الذي قام الكاتب بتخليقه، أو صناعته داخل نظام النص، لا يمثل العلامة الاعتباطية، التداوليـة، عندما تكون خارج نظام النص، أو كما كانت تقع ضمن النظام العشوائي العام للغة، كما وضع معاييرها دي سـوسير في محاضـراته (في علم اللغة العام)، فعندما يُصنّع هذا (المثير) داخل النظام النصي، ارتأينا أن نقسمه إلى ثلاثة أنواع وهي:
(1) المثير الموضوعي: وهو يمثل (الدال) عند فردينان دي سوسير، فهو هنا يشير إلى موضوعه أو مفهومه أو مضمونه المباشـر، ذلك الشيء الحاضر على أرض الواقـع، أي كما نشـير إلى كلمة (الحصان)،عندما يكون الحصـان نفسـه على أرض الواقـع، بمعنى آخر إن دال (المثير) يقترن بالشيء المشار أليه.
(2) المثير المعرفي: هو المثير الذي يحتوي على إحالات أو امتدادات معرفية. أي إننا هنا نقوم بالكشف عن الانزياح المعرفي للمثير، بهذه الصفة يصبح (المثير) محمولاً يتسم بانزلاقات معرفية خارج نصية، فانزياحه هذا يجعله قلقاً غير ثابت، ومستمراً بإعطائه قراءات متعددة للـ(مثير)، بهذه الصـفة يُعـدّ المثير (هامشـاً) أو (ملحقاً) يتم الانطلاق منه للوصول إلى التمركز العقلي للوغـوس الخطاب المدوّن لنص (المنطقة المقدّسة)، والعملية تتجلى لنا عموماً في البحث عن السياقات الأكثر أولية وهي هنا تتمثل في النبش بذاكـرة هذا المثير، وإخراجه من دائرة تعيينه المباشر الذي اعتدنا عليه. فإذا أخذنا على سبيل المثال كلمة (كيس)، التي وردت في قصة (العبيد) للقاص لؤي حمزة عباس، يبدو لنا أن (الكيس) هو مثير موضوعي، أي أنه يشير إلى ذلك الشيء المؤرضن على أرض الواقع كما يتخيله أي قارئ، ولكن عندما نقوم بتلبيـس هـذا (المثير – الكيـس) محمولات دلالية مثل: الجوف/ القبو/ المقبرة، فأن هذا (المثير – الموضوعي) يتعدى مفهومه المباشر وذلك بانزلاقاته الدلالية التي تتسم بالأتساع، والصـور الموجودة في داخلـه، تتحول إلى تاريخ حقب مختلفة من الزمن، عندئذ يمكننا أن نقرأ (الكيس)، على أنه (مقبرة التاريخ). أي أن هذا الكيـس يمثل لنا الوعاء المكاني للسان التاريخ. إن الشيء الـذي جعلنـا نقـرأ (المثير) بهذا الشكل، هو ان كتابة النـص، هي جهد فردي تقوم على التنظيم الذاتي للبنية المفترضة/ المخلقة داخلها. نحن هنا لا نؤكد مضـمون (المثير)، بقدر ما نؤكد الجزء المادي للمثير، أي على نقشـه في المـكان، هذا يعني إن دال المثير يتحـول إلى (أثر) لذلك الشيء الغائب، الشـيء الحقيقي الموجود على أرض الواقع.

(3) الجين المعرفي: هو مثير معرفي مهجن جاء نتيجة فتح سجله المعرفي مع مواد أوليـة خارج نصــية، يقوم هذا المثير باستدعائها من خـارج المتن والتلاقح معها فكرياً، إن هذه المواد الأولية الخارج نصـية، هي عبارة عن نصوص (تراثية أو صوفية أو مثيولوجية) تسهم في بلورة، وتشكيل هذا (الجين المعرفي). كما في الجين (نهر النسيان) الوارد في نص (بوّابة النسيان الأبدي) للقاص عباس عبد جاسم، تكون قراءتنا السيميائية له كالآتي: أولاً: إن كلمة (نهر) هي مثير موضوعي، لأنها تشير إلى أي نهر يمكن للقارئ العزيز أن يتخيله، ثانياً: إذا قلنا (نهر النسيان) فليس هناك نهر في العالم يسمى بهذا الأسم، فكلمة (النسيان) تسحب (المثير الموضوعي – النــهر) وتجعـله (مثـيراً معـرفياً)، ثالثاً: إن المثير المعرفي (نهر النسيان) قد فتح سجله باستدعاء (مثير معرفي) آخر من خارج المتن السردي، ألا وهو (عين الحياة) المذكورة في كتاب (بدائع الزهور في وقائع الدهـور) لمحمد بن أحـمد بن اياس الحنفي، وهي العين التي كان يبحث عنها ذو القرنين، للحصول على الخلود المطلق، إن هذا الاستدعاء الإيحائي لمرجعية (عين الحياة) والذي تم التلاقح معه فكرياً ومعرفياً – قد سحب (نهر النسيان) وجعله (جيناً معرفياً)، ذا حمولة دلالية عميقة توحي بقدسـية الكاتب الذاتية. وعليه فأن هذا (الجين المعرفي) أصبح جزءاً من البُنى الذهنية التكوينية لعقل الكاتب. أو قد يتعالق تناصياً مع ملحمة (كلكامش)، عندما يذهب هذا للبحث عن نبتة الخـلود. وهكـذا فإن (المنطقة المقدّسة) تتشكل من خلال حضور هذه الأطياف الغائبة للمثيرات المعرفية الشبحية التي تركت آثارها في جسـد النص، فحضور هذا الشبح هو استدعاء (رؤيا) هذه المنطقة، وعليه فأن هذه (الرؤيا) لا يمكنها أن تتشكل إلاّ من خلال كــشفنا للـ(مثيرات المعرفية) التي أخذت مواقعها في أنساق تلك المنطقة.

إذن ما هو المنظور الفلسفي للـ(منطقة المقدّسة)؟
وهل يمكن تحقيق وجودها الأنطولوجي كـ(دزاين) خاص بها؟
وهل تُعَدُّ هذه المنطقة مكان الاختلاف الذي يتخارج مع نفسه؟
إذن كيف يمكننا قراءة (المنطقة المقدّسة) ككائن يمتلك كينونته؟
فإذا كان ثمة مدلول متعال يتمثل بـ(الواحد) في الأفلاطونية الجديدة. والواحد (UN) يوحي لدى أفلوطين بـ(مبدأ الخير)، وهو ما يوضع فوق الكينونة والعقل ذاته - أي بمعنى أن هـذا الواحد يتجاوز كل وجود وكل تفكـير محدد، فهو إذن (مبدأ التفكـير) فإذا كان الكائن والفكر متعددين، وإذا كان هـذا التعدد يفترض وجود (وحدة)، إذن ينبغي وجود مبدأ يقع خارج أي تعددية قبل الكينونة والفكر. وإذا كانت مناقشتنا تدور هنا حول وجود دلالة أو دلالات معينة في نص ما. وإذا كان النص في جوهره الأسـمى هو (دلالة)، فأن كل الدلالات المنبعثة منه هي دلالات جزئية عائدة إلى ذلك (الواحد). لكن هذا (الواحد) يتحرك، بصفته مبدأً للتناقض الكوني للنص، ويمكن أن يُعدّ بؤرة تنتهي عندها كل المتناقضات، فهو الكل والعدم في آن معاً.

وإذا كانت ثمة (منطقة مقدّسة) يراد تحديدها، بصفتها ذلك الكل (الواحد)، فأن هذه (المنطقة) تُعدّ بؤرة للتناقضات الحاصلة في حيثيات النص. فيتم تأجيلها باستمرار إلى أن يتم إثباتها كـ(أصل) غائب يمثل ذلك (الواحد)، التي تحقق (هوية) النص وذلك باختلافها مع الآخر، وهي كما وصفناها سابقاً، تُعدّ آثاراً لبصمات شبحية متناثرة في رمال النص، فكيف بنا ونحن نسير كي نتتبع تلك الآثار/ (المثيرات المعرفية) في تحقيق تلك الكينونة المتعالية للنص. في الوقت الذي أصبحت فيه تلك الكينونة (هامشاً) منكتباً ومضافاً إلى النص، وربما يحل محله، أو يسد نقصاً فيه. فأن تلك الذات/ الهامش/ الملحق فرشـت أجنحتها كخيمة، تمثل ذلك (الواحد)، والتي تضم في داخلها كل تناقضات نص العالم أو عالم النص. أي بمعنى أن ذلك (الواحد) الذي يعزز لنا مبدأ التناقض داخل يوتوبيات خيالية، قد شكل لنا (المنطقة المقدّسة) التي تتحرك عِبر (مثيراتها المعرفية)، المنبثة أو المتشظية أو المجـزأة في عالم تلك (المنطقة)، هكذا إذن نتعرف على كينونتنا عِبر انغماسنا في اكتشاف كينونة الآخر.

ولما كان نص (المنطقة المقدسة) هو عبارة عن مجال شبحي/ مُخلّق، يتكون من أنساق المثيرات المترابطة مع بعضها – فهو يمثل وسطاً لحقيقة تكشف معينة. وبما أنَّ هذه المنطقة تمثل النص الجامع أو النص المفتوح أو ما يسمى برواية نص – فهي منطقة افتراضية، ما هي إلاَ وسطاً أو حيزاً أو فضاءً يمثل مكان الاختلاف مع نفسه. وعندما يستحضر ذلك (الأثر) كشبحٍ/ أو طيفٍ لهذه المنطقة، هذا يعني استحضار مكان (الاختلاف) الذي تحتويه، أي بتميَزه أو لا تميَزه عن باقي الأمكنة والفضاءات الأخرى، فهو إذن مكان الابتكار والتجدد، والحقل التجريبي الذي يتم من خلاله إنتاج المعنى أو انكشافه، وذلك عن طريق التكهن لتلك (المثيرات) المتموقعة داخل النسق السميولوجي لتلك السلسلة الأفقية الدالة له. أي أنَّ ذلك الاختلاف يتموضع في المابين حيث يحدث فعل التأويل، بهذا المعنى فأنَّ هذه المنطقة تمثل لنا فضاءً إفتراضياً/ وهميا/ ًشبحياً يؤسس مكان الاختلاف الذي يقع بين الأونطك (أي الموجود كما هو معطى) وبين الأونطولوجي (أي ما يجعل الموجود موجداً بالنسبة إلى تركيبه الأساس).

والآن نسأل أنفسنا: هل يمكن أنْ نَعُد ذلك (الوسط الشبحي)، أو الحيز أو الفضاء الذي يكوّن هذه المنطقة دزاين Dasein خاصاً بها؟ وإذا كان ذلك ممكناً – فإننا نطرح سؤالنا الآخر: هل أنَّ الدزاين الخاص بهذه المنطقة يقع في مكان المابين؟ نقـول: نعم، هو هنا يمثل مكان الاختلاف ومنطقة التكشف، ورفع الحجب عن المستور، و(المنطقة المقدسة) بهذا المعنى يمكنها أنْ تؤسس نفسها، وذلك لاستجابتها لنداء كينونتها، بكونها كائناً أو وجوداً مستقلاً بنفسه وقائماً بذاته. فالدزاين هنا، هو وجود وانقذاف في العالم يعطي نمطاً مميزاً عن باقي الأنماط أو الأشكال الأخرى. فحقيقة هذه المنطقة، هي حدثٌ وتكشفٌ، وإزالة الحجب وإظهار المخفي في المقول، ذلك المسكوت عنه، أو اللامفكر فيه، وإخراجه من تحت الركام، بواسطة الحفر والتنقيب عن (مثيرات) جديدة تسهم في تدعيم الحقيقة الغائبة.

هذه المنطقة تُعًدُّ هنا حدثاً ذا أهمية عظيمة، وهو حدوث كائن يتخارج مع نفسه، والفضاء الشبحي لهذه المنطقة غير ساكن أو مستقر، وهذا اللا استقرار يتكرر مع تعدد مراحل النص/ الكائن/ الدزاين، أن صفة القلق واللاثبوت يجعل من هذه المنطقة تنتقل من الهوية إلى الاختلاف حينما تشكل انجذاباً خارج نفسها، إذن هي مكان الخصوصية واختلافها عن نفسها في آن معاً. إنَّ هذا الاختلاف يُعَدُّ مرتبة عالية يسعى أليها جامع النص – أو النص المفتوح - أو نص (المنطقة المقدسة) كي تتعرف على كينونتها (هويتها).

خلاصة القول:
لا يخفى على القارئ المتتبع، إنَّ هذا المولود الجديد أو ما يسمى بـ(جامع النص أو النص الجامع) أو ما يسمى بـ(النص المفتوح) ليس غريباً علينا إذ نلاحظ امتداد جذوره في تراثنا العربي الإنساني مثل (رسالة الغفران) لأبي العلاء المعري، و(البخلاء) للجاحظ، إذ يختلط فيهما الشعر بالسرديات بالأساطير بالحكايات الشفاهية، بالمحاورات الفلسفية والسفر عبر العالم الآخر، ووصف الجنة والنار، وكل هذه الأساليب تتداخل مع بعضها بالتنافذ الاجناسي والرؤيوي. إلاّ أنَّ الحقبة التسعينية من القرن الماضي جاءت بمحاولات جادة ورصينة متشربة هذا التراث بعمق على صياغة جهازها المعرفي، وكما أكد الناقد العراقي باقر جاسم محمد في أحدى مقالاته الرائعة: «نرى كُتّاب هذه الحقبة جعلوا من الكتابة قضيتهم اتجاه الحياة والكون وذلك لتأكيد إيمانهم المطلق بما يكتبون، لذا جاءت محاولاتهم التجريبية لتواجه إحباطات كثيرة، لكنهم ظلوا على رهانهم وهم يواجهون شـتى الصعوبات، وكان من أشدها سلطة الرقابة والنشر.»

ومن بين هذه المحاولات الجادة نص (بصرياثا) لمحمد خضير وهو عبارة عن أطياف ليوتوبيات متعددة، محاولاً في نصه هذا أن يرمم ذاكرة المكان، فإنَّ نص (بصرياثا) يمكن أن نعدَّهُ البؤرة المكانية المتشظية والمجزأة في أرجاء النص، فهي إذن يوتوبيا المكان المُخلّق.
وهناك أيضاً (جماعة وثيقة مدى) المتمثلة بكتابات القاص فيصل إبراهيم كاظم وخاصة في مجموعته القصصية (أستشعارات نهايات القلب) ومحاولته الجادة في مخطوطته – رواية نص (مواسم القطران) التي استثمر فيها الجذر المثيولوجي للمكان المخلق كالمثيرين المعرفيين (سدة الهشيم) و(تل اسمر) اللذان يُعَدّان (بنيةً افتراضيةً/ مخلقة). فجاءت كتابتها تخرج من الذات إلى الذات بصيغتها الأنطولوجية الشاملة، وبطبقات معرفية متراكبة مع بعضها بعضاً.
وهناك إيضاً محاولات القاص والروائي (عباس خلف علي) في مشروعه التجريبي (مدينة الزعفران) الذي أستخدم في كتابتها نوعاً من التناصات على مستوى التشاكل الرؤيوي مع واقعة (غدير دم/ حصار المدينة) من أجل أنَّ تقوم المدينة بدفع الجزية إلى الوالي العثماني وكان هذا في (8) ذي الحجة من عام 1258هـ. لقد عمل القاص على تذويب هذه الواقعة وأمتصاصـها داخل نسيجه القصصي من أجل خلق كتل سردية منفصلة، وبرؤى متعددة، فكان هذا المشروع عبارة عن تتبع شـبح معالم مدينة الزعفران.

وكذلك في محاولته الأخيرة في رواية نص (كور بابل) الذي أقام بنسف الخصائص المميزة للمؤسسة التجنيسية وخلخلتها من الداخل. إنَّ (كور بابل) يمكن أن نعدّها كتابة المغامرة أو مغامرة الكتابة بأفق جديد في المدونة العراقية الجديدة، في تجربته هذه راح جسد النص ينمو ويتوالد عِبرَ أركيولوجيا معرفية، عززت الجهاز المعرفي للـ(أنا) حتى تحولت إلى هامش/ أو ملحق ينضاف إلى النص، فانبثقت الذات وهي تكتب يوتوبيا المكان عِبرَ أرتحالاته المتعددة في الزمن. مُخلّقاً من خلالها يوتوبيا مدينة طمرت تحت طبقات الكاتب المعرفية. من هذا المنطلق يمكننا أن نقول أنَّ (كور بابل) رفضت الإنضواء تحت أية خيمة تجنيسية مهيمنة، لذا فهي تعدُّ نسقاً حراً قائماً على استلهام الحلم وانبثاقه من داخل النص.

إنَّ كتابات القاص والروائي عباس خلف علي لو أردنا تفحصها عن كثب، لتبيّن لنا إنها محاولات تدخل في مجال حفرياته المعرفية التي كونت جهازه المعرفي الخاص، تستهدف تكوين نسق إشاري خاص به. والقاص أقام بتوظيف الأساطير والحكايات الشفاهية والنصوص الفلسفية والتماهي معها، كل هذا جعل من القاص أن يقدم نصه بصفته حفيرة، وإنَّ النص لديه ما هو إلاَ وثيقة نفسه.

وهناك أيضاً تجربتنا الشخصية في كتابة المغامرة التي شكلتُ من خلالها رواية نص (كتاب الهامش)، في هذا النص كثرت الهوامش وتعددت المراكز، حتى راح يسجل أكثر من موقف ازاء ما يحدث من صراع دائر، ما أدى بـ(الذات/ الهامش) أن تطرح تساؤلاتها المربكة، لاختراق السياج الميتافيزيقي الآمن. والحفر تحت أسسه لإظهار المسكوت عنه، أو اللامفكر فيه، من هذا المنطلق أصبح نص (كتاب الهامش) الحفيرة، أو الوثيقة وهي تكتب نفسها لتحقيق (الدزاين) الخاص بها، بعدّه حقيقة تكشف وهو يقذف بنفسه في وجه العالم، (كتاب الهامش) هذا المولود الجديد راحت تلاحقه تساؤلات (لوسيفر) حامل الضياء الأول في السماء في أطلاق لعناته .. فمن هو إذن يمتلك مفتاح بئر الهواية ليفتح به (سجل المصائر) حتى تحين ساعة الأبدية.

وهناك أيضاً محاولة الشاعر رعد عبد القادر في نصه (جوائز السنة الكبيسة) الذي استثمر فيه جملة من التقنيات، وذلك بوضع أجزاء النص داخل أشكال هندسية واستثمار الحروف على شكل طلاسم سحرية وكانت النتيجة إنَّ رعد عبد القادر قدم نصه هذا بصفته فارماكون(*)/ الكتابة/ الخطاب المدوّن – بعَدِّه ظاهرة معرفية، وكانت لنا تجاربنا التطبيقية في الكشف عن طيف (المنطقة المقدّسة) في اغلب هذه المحاولات. وأخيراً نقول هل اكتمل هذا المولود الجديد بصفاته ومميزاته وشكله وأسمه في الساحة الأدبية؟ نقول إنَّ النص أو ما يسمى بـ(جامع النص) أو (النص المفتوح) أو رواية نص أو كتابة المغامرة – لم تكتمل ولادته بعد، إذ ما زالت إشكالية ولادته قائمة برفده صفات وخصائص إضافية – فهو إذن في حالة مخاض وصيرورة وابتكار متجدد ما دامت هناك إشكالية قائمة على تحديد شكله وجنسه.

 

(*) الفارماكون = هي كلمة لاتينية ترجمة إلى العربية على إنها (عقار) أو (دواء)، وهكذا فالفارماكون بقدر ما يعطي الشـــــفاء فأنه في الوقت نفسه يعطي النقيض. وقد طرح سقراط هذا المصــــطلح بعَدِّ النص هو عبارة عن فارماكون (عقار أو دواء) يقـــــدم إلـــى الآخر بوصفه خطاباً مدوناً/ معرفياً.