هنا قصيدة لشاعر سوري تمتلئ روحه بالرؤيا وتمسي كالقداس حيث تصل الى الإشراقة. ومعها يشكل فضاء طقوسيا آثيريا يشركنا في سفره الروحاني.

كالكأس المكسور

طالب همّاش

 

من دونِ رفيقٍ يشفقُ

وأنيسٍ يؤنسُ

أو تتزايلُ في عينيكَ ظلالُ جليسْ !

في صمتِ مصلاي  وتحتَ سكينةِ صومعتي

وأنا أتملاكَ بعينيَّ حزيناً يا أبتي القديسْ ! ..

أتملاكَ عشيّةَ سبتِ النورِ

تضوّأُ قنديلَ الدمعِ بجمرةِ عينيكَ

وتبدأُ قدّاسَ الحزنِ لروحِ الراهبِ

فالحزنُ قداديسْ !

أحسستُ بطهرانيّةِ روحكَ تغسلُ روحي بالغصاتْ ..

ودموعكَ تنزلُ من عينيَّ على صدري كالجمراتْ ..

وصلاتكَ في أسماعِ الليلِ نواقيسْ .

باكٍ مشطورَ القلبِ تطلّعتُ إليكَ

فأبصرتكَ أسيانَ

تذوبُ كشمعة نسكٍ قدّامَ العذراءِ

وحزنكَ ينحلُّ كخيطِ حليبٍ فوق إناء الفجر الشفّافٍ

ووجهكَ يثلجُ نورْ ..

أبصرتكَ سكرانَ حزيناً كالكأسِ المكسورْ !

وبصرتُ بعينِ العاشقِ ضوءَ هلالكَ في الأفقِ الأزرق

يرعشُ روحَ الراهبِ بالتقديسْ !

سبحانَ سماء الليلِ السكرى يا أبتي القدّيسْ

ساهمةً كالعذراءِ

تلقّمُ  ثدييها ليسوعِ الليلِ

ومن سرّتها ينبعُ ينبوعُ الموتِ

وتسرحُ أنهارُ الميلادِ

فتشربها الأنهارُ العطشى

والأطيافُ الروحانيّةُ تسبحُ في نهرِ اليخضورْ .

 

أبتاهُ أتبصرُ في الأيقونةِ نوراً أسودَ

يبكي قربَ بياض ِأخيهِ النورْ ؟

هل تبصرُ إمرأةً واقفةً قربَ الينبوع ِ الباكي

تنحلُّ حفيفاً وتذوبُ دموعْ   ؟ ..

أو راهبةً تبكي من فرطِ جمالِ الينبوعْ ؟

هل تبصرُ مريمَ في وحدتها الأزليّةِ

ترغي فوق الجسدِ الأبيضِ صابونَ النورْ ؟

أو قلباً بشريّاً يتلامعُ أحمرَ تحتَ مساءاتٍ من بلّورْ ؟

هل تبصرُ في عينيَّ هلالينِ رضيعينِ

ومغربَ شمس ٍثكلى

ونساءً ذابتْ في شكل شموعْ ؟!

هل تبصرُ قدّيساً يغسلُ عينيهِ من الدمعِ

ليبصرَ حزنَ أخيهِ القدّيسْ ؟!

ما أنبلَ حزنَ العابدِ يا أبتي ..

ما أصفى عين الرائي والجو فراديسْ !

ناظرةٌ أبداً عبرَ عيونِ النساكِ

إلى وجهِ يسوعَ المعكوسِ على صفحةِ ماءِ الليلِ

كطيفِ ضياء ٍ صافٍ ، صفوانْ !

وجهٍ منحوتٍ من صدرِ فتاةٍ أبيضَ

يتدلّى كالتفّاحة ِفي بئرِ الصبحِ السكرانْ !

يتكوّرُ كالقمرِ الباردِ في بردتهِ البيضاء ِ

ويقطرُ فوق نواظرنا تقطيرَ لعسل ِالظمآنْ !

هل تبصرُ شمسَ مغيبٍ تتلفّعُ باللونِ الدامعِ

وتميلُ على الأفقِ اليائسِ

كالقلبِ الحرّانْ؟

ما أجملَ أن تتراءى من شباكِ الليلِ الصامتِ

روحُ يسوعَ ترفرفُ كالقزحِ الأزرق ِ

تحتَ سماءٍ دامعةِ الصلبانْ !

تُسْقَاهُ عيونُ الزهّاد الظمآى

فتذوبُ الأبصارُ بماءِ الرؤيا

ويفوحُ أريجُ الزهرِ المسكرُ وعبيرُ الآسْ .

ما أجملَ أن تتدلّى ككؤوسِ الخمرِ

ثريّاتُ أساهُ على أفواهِ الناس! ..

فتظلُّ الأبصارُ سكارى 

تشربُ من رقراقِ النور ِ

سلافَ الكاسْ !

ما أجملَ أن يُسْكِرَ عينيكَ القمرُ الورديُّ وأنتَ تموتُ

ويسقيكَ الموتُ بكفّيهِ جمامَ الروحْ!

أيحينُ الموتُ فلا تبقى إلا التلويحة للأيدي ،

والدمعةُ في العينِ

وغصّاتٌ في القلبِ المجروحْ ؟

أيجيءُ الموتُ فلا يتركُ غيرَ هواءٍ مرٍّ في الأنفاسْ ؟

أهِ أباه ..

برغمِ الوحشةِ والشيخوخةِ

والميتةِ في القلبِ

تظلُّ صغار ُالحزنِ غراسْ !

فاذهلْ بصلاتكَ ما أصفاكَ وأنتَ تصلّي

بينَ الأيقوناتِ

وحولكَ تتلامسُ حلماتُ الأجراسْ !

 

التسبيحُ يصيخُ إليكَ

ويسمعُ موسيقاكَ الإنشادُ الإنجيليُّ الصافي

وتصاديكَ سواسيةً جوقاتُ تراتيلِ القدّاسْ  .

 

صلِّ لتبني الأرواحُ على أغصانكَ

أعشاشَ سكينتها

وتزقزقُ راهبةً بعذوبةٍ صوتِ العصفورْ !

صلِّ لنبصرَ حزنكَ مغروساً في أرضِ الصبحِ

كغصنِ النورْ !

فالظلمةُ ناعمةٌ

وسماءُ الصيفِ مآذنُ من بلّورْ  ..

صلِّ لأجلِ طلوعِ الشمسِ

المذبوحِ على حجرِ النور ْ !..

شمسٌ تولدُ من بين بشائرِ نهديها

وتحلّقُ أزواجُ طيورْ ..

صلِّ على صدرِ الأيقونةِ علَّ الألمَ الظاهرَ للناظرِ

كالحزنِ الطاهرِ

يرشحُ زيتاً في أعيننا

فنسمّيكَ على حيرتنا الأسقفَ والقسّيسْ  .

ناقوسُ الليلِ يدقُّ  وجيعاً

والدنيا نائمةٌ في حضنِ الفردوسِ

ومرآى الأقمارِ  فوانيسْ !

أَوَتَعْرِفُ من يبكي في أعماقي يا أبتي القدّيسْ ؟

أجدادٌ نهلوا من حزنِ الرهبانِ

وظلّوا خلفَ جدارِ الظلمةِ كالأغرابْ ؟

أم نسّاكٌ صلّوا الصبحَ وذابوا في التقديسْ ؟

أم جدّاتٌ يجدلنَ خيوطَ الليلِ على الأبوابْ ؟

 

بعد المغربِ غنّيتُ حزيناً

من وحشةِ ضيقْ !

رحلتْ أيّامُ العمرِ وغابَ الأحبابُ

وضاعوا في كلِّ طريقْ !

فقعدتُ بقلبٍ دامٍ أبكي حاجةَ روحي خلفَ البابْ .

. . أجمعُ غصّاتي بين يديّ

ودمعاتي في عينيْ

وأصبُّ الخمرةَ من قلبي في حُقِّ صديق ْ !

أوتعرفُ يا أبتاهُ لماذا نبكي كيتامى خلفَ البابْ ؟

ولماذا ينكبُّ عجوزٌ ليفتشَّ في التربةِ عن رممِ الأحبابْ ؟

ولماذا ندمي عالي ، وبكائي صعبُ التصديق ْ ؟

بصّرني يا أبتي لأراكْ !

إنَّ حفيدَ مراثيكَ النادمَ يتطلّعُ في عينيكَ فلا يلقاكْ !

لكأنَّ غياباً يتأمّلُ في أفقِ البحرِ بكاءَ الغيَّابْ .

ما أبلغَ يتمكَ في هذا الوقت

وساعاتُ أسايَ كساعاتِ أساكْ !

بصّرني يا أبتاه فقد كلّتْ عينايَ من التحديقْ !

لا تتركني من دونِ أنيسٍ يؤنسُ

أو عطفِ رفيقْ !..

مذروفاً كالدمعةِ في ماءِ الإبريقْ ...

أنخلُ في الريحِ رمادي كالبدويّْ ...

وأجرُّ على وترِ الحسرةِ قوسَ ربابٍ

فيحزُّ كسكّينِ الحزنِ شرايينَ يديْ  !

لا تتركني أنحلُّ بغصّاتي في ماءِ الليلِ الأعمى ..

بدمائي في آنيةِ الدمع ِ الملآى

وأدقُّ تعاسةَ روحي في جرنِ الندمِ الحجريّْ !

بصّرني زهراءَ الأفقِ الطهرانيّْ !

لتلوحَ لي الرؤيا

فعماي كقاعِ الئرِ عميق ْ .

 

لا قزحَ العذراءِ سقاني ألوان الطيفِ

ولا يتورّدُ ضوءُ غروبِ الشمس ِ

على وجناتِ صديق ْ !

لكن حين يذوبُ الليلُ

وينحلُّ الصبحُ الأبيضُ في كأسي

قدسيَّ الأسرارْ ..

 

لا أبصرُ غيرَ عيونٍ ذائبةٍ كالماءِ الأزرقِ  في الإبريقْ .

أو أسمعُ غيرَ ( عصافيرٍ ) تتنزّلُ من أغصانِ الجنّةِ كالأرواحِ

لتوقظَ بالتغريدِ قلوبَ الأزهارْ  .

ما أعذبَ أن تسمعَ وقتَ صلاتكَ

هذا الصوتَ الأندلسيَّ

على شجرِ الموسيقى يترقرقُ كالأوتارْ !

ما أجملَ أن تبصرَ فوق بساتينِ اللوزِ

هلالاً يسكرُ في الأسحارْ !

فتهدهدُ عينيكَ بإغماضةِ حبٍّ

وفؤادكَ  بالإغفاءةِ :

إهدأْ ، صلِّ ،ونَمْ !

فالدنيا  نائمةٌ في حضنِ الفردوس ِ

وقنديلُ الضوء الصافي

يتلألأُ ورديّاً من شبّاكِ الدارْ !

والأرضُ على ضفّةِ نهرِ الفجرِ

تمدُّ ذراعيها البيضاوينِ

لتغسلَ قرصَ الشمسِ بصابونةِ نهديها

وتشكّلَ من ماءِ اللذّةِ  أكوازاً  وكؤوساً وفوانيسْ  !

 

ما أسعدني في هذي الإشراقةِ يا أبتي القديسْ !

روحي سربُ حمامٍ والجو فراديسْ .