تكتب القاصة السورية هذه الومضات أو الرؤى المكثفة الذي يمثل فيها المجاز حدثا تتداخل فيه الأزمنة والأماكن، وتتجلى الذات في صور متعددة. كما يمتزج إبصار المشاهد المأساوية بالبشارة بعهد أو لحظة مغايرة.

أشواق نهرية

شذرات قصصية

أثير محمد على

نزيف

في المشفى وخزتها رائحة نفاذة.. نقّلتْ خطواتها في ممرات مسيجة بأرفف العقاقير والحقن وضراعة القهر والاختناق، بينما صمت لزج يرين على المكان.

حاصرتها أرواح الذين ماتوا قبل الأوان، اقتربت من زجاج النافذة تمسح بنظرات مواربة أبعاد الرحيل. نبهها حضور دبق خلفها.. كانت جثة طفلة مسجاة على محفة الإسعاف تشدها من فستانها النازف.

* * *

مبتدأ وخبر

في حقل قمح سوري اقتنصت ضباع الفلاة طفلاً كان يضحك آن يكركرُ من خاصرته.

جرجروه بأنيابهم ففقد حذاءه.. قضقضوه ففقد خاصرته وأترابه في حقل قمح سوري.

* * *

مظاهرة سلمية

كان المساء ينشر غبشته الشاحبة حين أقفلَتْ الكتاب وأضاءت مصباح السرير. دست جسدها تحت اللحاف، وأصغت لأصداء مظاهرة بعيدة، قطعها شخير شاحنة آتية من أسفل الطريق. سرحت في سقف العزلة وسمرت حدقتها المتسعة في الجدار المجدور.. تلامحت عيناها شبحاً مكللاً بالبياض يترقرق بشفيف النور.. دنت ببصرها، كانت مرآة ذاكرتها منتصبة في يوم عرسها ببطنها المنتفخة في شهرها الثالث. تعالت أصوات المظاهرة مقتربة.. أوغلت بعيداً في السقف، سمعت بكاء طفل مقتول قبل أن يرى إثم النور.. ثقبتها التداعيات فحاولت أن تسكت الجنين.. تهدهده.. تغريه.. وتذيقه طعم جسدها المتوهج وهي تنضم للمتظاهرين.

* * *

مدينة الملاهي

لملمت أشلاء صور طفولة مغربلة بالرصاص ورافقتها إلى مدينة الملاهي. صعدت بها إلى ناعورة دوارة متشقلبة، ما انفكت تطوح بها وبمزق صورها مع تصاعد أدرنالين الريح وقصف الموسيقى... أطلقت صرختها وفحمة صوتها في سيمياء العتمة... رأت اكتمال الموتى والقمر وطفلة قتيلة تمسك ببجعة عزلتها البيضاء.

* * *

شهيد

مع الصباح خيمت سكينة قبرية على المكان الأول البلد.

سافرت ببصري في مرتسمات تجاعيد الموت الشاب الذي لم أره، أفزعتني تعابير الوجه وقد تسمرت عند أقاصي الحنين للحياة.

عينان مرتشحتان من الغواية وعذوبة الاختلاء بامرأة تتمدد فوق ريحان ليلة لاهثة..

مع المساء أوقدت مبخرتي الوثنية فعبقت غرفتي بالأجواء الجنائزية. وآن تسلقتني أحاسيس لون أخضر، سمعت وقع خطا، تنفلت من المقبرة الجماعية في ممري الطويل. أبصرته يفتح الباب وذراعيه الريحيتين، بينما الدموع تبلل الخدين، وهو يتقراني للعودة من النأي القصي إلى خشخشات الصوت.

* * *

حلم

أغلقتُ باب الدار خلفي..

لاحقت برودة المساء، ورائحة زيتونات في أوج حبلها.

سحبت شرشفاً أبيض ممزق الأطراف من ذاكرتي، وفرشته على نهر "الوادي الكبير"، فأبحر بأسراري إلى المحيط..

هناك أبعد من طريق السيارات العام زرعت خطوتين في السماء، وتسلقت بعيني سحابة عابرة في طريقها إلى الشرق من سلالم الجهات.

وعدت من دكان الوقت بساعة رملية وضعتها إلى جوار حلمي على تربيزة الانتظار.

* * *

مقهى "لعبة الحجلة" يفتح أبوابه يوم الجلجلة في اشبيلية

يطلّ المسيح المدمى من بوابة الكاتدرائية، ينعطف عن مئذنة الخيرالدا، ينؤ تحت عرفان مفجوع، بفم يطبق على شفتين متيبستين، وجبهة ضيقة مقروحة العينين.

يتبعه رهبان حفاة، وجمع غفير...

يرتعش يسوع الأندلسي بعبرات صمغية، يستعرض حدساً نبوياًً على وقع حفيف متأن..

يأتي من الزحمة، يمر على مقهى "لارايولا"، ويجالسني مائدة تقشّر سطح صنوبرها، ومعه أخون خبز الجسد الأبدي، وخمر الكوب القدسي، وأرافقه إلى لوحة للغريكو مسحورة بسلالات شهوانيّة:

في المزهرية زنبق جبلي، وإلى العمق من جسر البشارة الواصل إلى بلدي تنبت جفنات غار. أتمدد في مانيريزم إشاراته الشعرية، ألتصق بوجد الأرض، يمسح دم الشهداء المتخثر عن وجهي.. ويلحدني بالغد.

* * *

تحول

رجلي قال أن روحَ الخريفِ تتلبّسني..

أغمضتْ عيني، ودفعت باب الحانة المزدحمة برفقة لحظاتٍ تراكضت للعبور.

زوايا البهو الغميق كانت مديدة، وعلى مفارقها تعثّر الأثاث الخشبي وجثث الثوار والأغنيات الليلية.. استندت إلى جذع الشجرة المرسومة على الجدار.. بلّلني ندى الأوراق الطرية، تدحرجَتْ روحي وامتطت جوادها الأسود..

تركْتُ لبقايا البرودة الساهمة نبوءة انضاج الربيع بتعاطف يفترس آخر رشفات اليأس والخوف من الخوف.

* * *

الكل والجزء

الموت يلطو وراء الباب..

وأنا مشغولة بقرع أجراس كنيسة الغياب.

الظهيرة تشتعل..

وأنت تتشبث بعتبة المقام، تقلب بيدك مخطوطاً تتقرى فيه أسرار التفاصيل

أحملق بمصداقية مشهدية الغدِ بعد الصليب..

أترك حبال أجراسي وأوليك وجهي مدوراً كطفل معروق بعد اللعب

تأخذ رعشتي إلى كرامة قيامتك وقبة التاريخ، قبل أن يتغلغل الغروب فينا من جديد.

* * *

اسمه الموت

كان الزمن المخاطي قد تخثر في زنقات المشهد الضيقة، حينما حاصرتها أنفاس تنادت للحياة قبل أن تستسلم لرخاوة الشهادة.. أطبقت عينيها، مكثت رائحة الدفن الليلي في أنفها، واكتسحها ميل جارف للسير قدماً والبكاء..

* * *

عند الزاوية

عند الزاوية. يجادل نفسه:

آن  أظهر بجسدي إلى الساحة ستلتهمني نيران الشهادة..

وإن انتظرت سأشهد احتفال الحرية غداً..

معلق بين شهيد وشاهد... هو حبيبي.

* * *

أغنية

روحي تحفر كخلد في مطاوي البياض الكفيف..

الضباب يغرق وراء الشبابيك، ويتراكم أمام الباب. يزحف إلى طاولتي الواطئة وحافة كأسي.

تحضرني أغنية تصلح لنواميس استحمام الطيور في المنابع القصية، فأرسل صوتي بطعم النغم، وأترك أزهاري لأحبتي الموتى، وهم يستحيلون يماماً برياً يهدل فوق جوبات الامتداد.

روحي تحفر كخلد في مطاوي البياض الكفيف، وتحلم بأفكار تحط على كفي، تطيرني معها لسماء سابعة تصلح لذروة الموت وهو ينسفح في بنفسج الجسد ومدارج الحرية.

* * *

أمل

رغبت بحشرجات احتضار تطري مسافتي الزمانية مع الموت. حملت على كاهلي بيتاً أزرق ولغتي وصوت سكينة بلون الخواء.. خطوت للرحيل وجوب آفاق التيه، وتمنيت لو أصب البحر على الزمان وأشجار الجحيم.

اليوم، أتابع التيه وأمنية الأمس إلا أن حفيف سكينتي تلون بالأمل.

* * *

شهوة للمعنى

أرتدي قميصَ الغبار، وطوقَ ماءِ البحار، ووجهي الأخضر.

يتعرى عابر السبيل.. يهمس في أذني بتمتمات، منمنمات.. تَعلقُ في هواء الاستواء، ولا أميزها. تفعمني رائحة ذكورته، وأنفاسه الحرّى بوشمٍ ينغرزُ في اللحم، يلسعني.. ويلوب متورقاً بلا تأن ولا انتظار، من أسفل الفحيح حتى أبلسة الروح.

تضيع البرهة وراء رتاج الباب. وتأتي امرأة من تخوم المحار، ومرجان صبوة الزوال، ويختلط كل شيئ.

الرماد وفكرة الرماد.. المطر وأنشودة المطر..

واحتضانه لي

.. وقبل أن يتابع المسير، الزمان يستكين، ونحن نرفل توقاً لذكرى لا تعرف اليباس،

يا ليتها تكون

في مرافئ شهوتنا للمعنى..

* * *